الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة 5 الفهرس
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 5
الفهرس
مقدّمة 7
المقدّمة 9
تمهيد في البراهين على تجرد النفس الناطقة، و بيان أنّ النفس ذات أطوار و شئون 10
الباب الأوّل: من الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة على الإطلاق 13
الباب الثاني: من الحجج البالغة على تجرّد القوة الخياليّة اي المدرك للصور المتخيّلة لا بدّ أن يكون مجرّدا 17
الف) الحجة الأولى على تجرّد القوّة الخياليّة 19
ب) الحجة الثانية على تجرّد الخيال 31
ج) الحجة الثالثة على تجرّد الخيال هي: 34
د) الحجة الرابعة على تجرّد الخيال: 45
الباب الثالث: من الحجج البالغة على تجرّد القوّة العاقلة 49
الف) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا: 51
ب) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا: 53
ج) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا: 55
د) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا 56
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 6
ه) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا 57
و) و من الأدلّة على تجرّد النفس النّاطقة تجرّدا تامّا عقليّا 58
ز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا 64
ح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا 70
ط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا 82
ى) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا 143
يا) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ هذا هو البرهان الثالث من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية: 158
يب) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ و هو البرهان 161
يج) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان 163
يد) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان 181
يه) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان السابع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية. 223
يو) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان الثامن من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانيّة. 236
يز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان التاسع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية: 252
يح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا: 263
يط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا: 264
الباب الرابع: من الحجج البالغة على أنّ للنفس الناطقة مقام فوق التجرّد العقلي 267
الباب الخامس: في التبرّك بالتمسّك بطائفة من آيات و روايات في تجرّد النفس الناطقة و فوق تجرّدها العقلي 275
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 7
[مقدمات التحقيق]
مقدّمة [المؤلف]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين قال سبحانه: «إليه يصعد الكلم الطيّب و العمل الصّالح يرفعه»؛ و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من مات و ميراثه الدّفاتر و المحابر وجبت له الجنّة»؛ و قال الوصيّ الإمام علي المرتضى عليه السّلام في الحثّ على معرفة النفس: «نال الفوز الاكبر من ظفر بمعرفة النفس».
ثمّ قد وفّقنا اللّه سبحانه بتصنيف عدة كتب قيّمة و رسائل نفيسة بالفارسية و العربيّة في معرفة النفس منها هذا السفر العظيم المسمّى ب
«الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة»
نهدى جزيل شكرنا المتواتر إلى ساحة أصدقائي العالمين المكرّمين في مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي الذين قد بذلوا سعيهم المشكور في طبع كثير من مصنّفاتي و نشرها بأحسن أسلوب مرغوب و أتمّ وجه مطلوب- جزاهم اللّه عن الإسلام و المسلمين خير جزاء العلماء العالمين- قوله سبحانه: «إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا».
قم- حسن حسن زاده الآملي 21 صفر 1422 ه ق- 25/ 2/ 1380 ه ش
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 9
المقدّمة [للكتاب]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه المتعالي عن التجريد و التنزيه، و المتنزه عن التخليط و التشبيه. و الصلاة و السلام على سفرائه أولى النفوس المكتفية، الكاملين في القوتين النظرية و العملية، و المكمّلين عقول الخلائق و أخلاقهم بالمعارف العقلية و المحاسن الخلقية. سيما على خاتمهم المخاطب بقوله (عز شأنه): أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ و قوله (علت كلمته): إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و على عترته المعصومين الهادين، و على جميع عباد الله الصالحين.
و بعد، فيقول العبد الآمل ربّه الغني المغني، الحسن بن عبد الله الطبرى الآملي- المدعوّ ب حسن زاده آملي-: هذه بضاعتنا المزجاة في تحقيق طائفة من البراهين القاطعة على أنّ النفس الناطقة الإنسانية جوهر غير مخالط للمادة، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام و العقل، روحاني النسج و السوس، لا يفسد بفساد بدنه العنصرى، بل باق ببقائه الأبدي، و سمّيناها الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة.
و لا يخفى على من لم يهمل نفسه و لم ينسها أنّ أفضل المعارف هو معرفة الإنسان نفسه فإنّ معرفتها هي إحدى الطرق بل كلها لإثبات الواجب بذاته على ما تحقّق في محله، و إنّ الإيقان بالمعاد المفضي إلى تحصيل السعادة الأبدية معلّق باثباتها.
و من أخلد إلى الأرض يتوهم بفطانته البتراء أنّ المادة هي الأصل، و أنّ الإنسان هو هذه البنية المحسوسة و الجثّة الملموسة فقط؛ فإذا تلاشت و اضمحلّت لم يبق منه شيء، فينكر الأصل الأصيل الذي هو فوق الطبيعة و وراءها، و لا يعلم أنّ جوهر الإنسان ليس من الجواهر المركبة الممنوّة بالكون و الفساد.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 10
ففي هذه الصحيفة المكرّمة حجج بالغة ناطقة على بقاء النفس من مآثر السلف الصالح.
و قد بذلنا جهدنا بتصحيح عبارات الحجج أوّلا، ثمّ التحقيق و التنقيب في بيان كلّ واحدة منها ثانيا؛ لعلّها توقظ من أخذت الفطانة بيده فأراد أن يفحص عن معرفة ذاته و تحصيل سعادته لبقائه الأبدى. و الله سبحانه وليّ التوفيق و بيده أزمّة التحقيق.
و اعلم أنّ هاهنا أدلّة تدلّ على أنّ النفس غير الجسمية و المزاج، و أخرى على أنّها جوهر، و لمّا كانت العينان: الخامسة و السادسة من كتابنا عيون مسائل النفس و شرحها سرح العيون في هذين الأمرين، فالصواب أن نكتفى بهما و لم نتعرض بهما في هذا الكتاب.
و قد بيّنا في سائر مسفوراتنا أنّ المباحث الأصيلة عن النفس بنظر ستة، و إن كنّا بنظر آخر أنهيناه إلى عشرين مبحثا، بل في عيون مسائل النفس إلى ستّ و ستين عينا، على أنّ بعض العيون يتضمن مسائل في معرفة النفس. و أمّا الستة الأولى فأنّ النفس ذات وحدة شخصية؛ و أنّها تغاير بدنها تغايرا لا تباين وحدتها الشخصية؛ و أنّ لها تجرّدا مثاليا برزخيا؛ و أنّ لها تجردا تامّا عقليا؛ و أنّ لها فوق مقام تجرّدها العقلي؛ و أنّ هذا الشخص الواحد إنسان طبيعي و إنسان مثالي و إنسان عقلي و إنسان لاهوتي. و هذه الصحيفة النورية المكرّمة ناظرة إلى تجرّدها الإطلاقي و المثالي و العقلي و فوق مقام تجرّدها في أبواب، و ناطقة بشر ذمة من أدلّتها النقلية تبرّكا في باب واحد و هو آخر الأبواب. و اللّه سبحانه مفتّح الأبواب و اليه المرجع و المآب.
تمهيد في البراهين على تجرد النفس الناطقة، و بيان أنّ النفس ذات أطوار و شئون
أدلّة تجرّد النفس الناطقة الإنسانية على ما حصّلناها من الصحف القيمة النورية بعضها عقلية و بعضها نقلية.
أمّا النقلية فسيأتي نقل طائفة منها بعد الفراغ عن العقلية.
و أمّا العقلية فبعضها ناظر إلى أنّها جوهر غير جسم على الإطلاق.
و بعضها ناظر إلى تجرّدها البرزخي. و هي أدلّة قد اعتبر فيها الأشكال و الأشباح و المقادير و نظائرها، لكن تلك الأشباح و الأشكال و المقادير و نحوها عارية عن التجدّد الماديّ و التصرّم الطبيعي العيني الخارجي، و عالية عن الإمكان الاستعدادي و الجهات العنصرية؛
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 11
لأنّها فوق هذه النشأة و وراءها. و الأشباح المثالية هي من المجرّدات و المفارقات بالحكم البتيّ من ألسنة الحجج البالغة الآتية على ذلك؛ و المقارن هو الجسم و الجسماني الطبيعيان، و هو قابل للإشارة فله الوضع. و لا تنافي بين كون تلك الأشباح البرزخيّة أي الأجسام المثالية ذات أشكال و مقادير، و بين كونها من المفارقات. و قد توصف المفارقات بالعقلية تمييزا عن المفارقات المثالية. فتبصّر.
و بعضها ناظر إلى تجرّدها التام العقلي. و هي أدلّة اعتبر فيها إدراك الحقائق البسيطة الكلّية.
و إطلاق التامّ عليه أنّما هو بالنسبة إلى التجرّد الأوّل البرزخي.
و بعضها ناظر إلى فوق تجرّدها العقلي، بمعنى أن ليس للنفس الإنسانية مقام معلوم في الهويّة، و لا لها درجة معيّنة في الوجود. و بعبارة أخرى ليس لها حدّ تقف إليه و مقام تنتهى إليه. و يعبّرون عن هذا المعنى أيضا بأنّها ليس لها وحدة عدديّة، بل لها وحدة حقّة حقيقيّة ظلّية.
و ببيان آخر: أنّ النفس لمّا كانت ذات أطوار و شئون فتارة يبحث عنها في مقامها الطبيعي و أحكامها العنصرية من حيث إنّ البدن مرتبتها النازلة؛ و تارة يبحث عنها من حيث تجرّدها الإطلاقى أي أنّها غير جسم على الإطلاق؛ و تارة يبحث عنها في مقامها الخيالى و أحكامها البرزخية و المثالية أي يبحث عن تجرّدها البرزخى؛ و تارة يبحث عنها في مقامها العقلانى، و من أحكامها في هذا المقام تجرّدها العقلى؛ و تارة يبحث عنها في مقامها الذي هو فوق التجرّد العقلانى، و من أحكامها في هذا المقام أنّ النفس لا تقف في حدّ.
و تلك الأدلّة قد يكون مفاد بعضها قريبا من الآخر كأنّهما دليل واحد بتقريرين؛ أو أنّ أحدهما مستفاد من الآخر و مستنبط منه يمكن جمعهما في تقرير واحد. ثمّ من تلك الأدلّة القريبة المضامين يفيد بعضها تجرّد النفس تجرّدا برزخيا مثاليا، و بعضها تجرّدا تاما عقليا بإضافة بعض القيود و الاعتبارات في دليل ذلك، و إضافة بعض آخر في دليل هذا؛ و سنشير إلى طائفة منها في تضاعيف نقل الأدلّة و بيانها. و أمّا الأدلّة على تجردها فهي ما نتلوها عليك على الترتيب المذكور أعنى ادلّة تجرّدها على الإطلاق، ثمّ تجرّدها البرزخى ثمّ تجرّدها التام العقلى، ثمّ فوق تجرّدها العقلى، ثمّ نقل الأدلّة النقلية:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 13
الباب الأوّل: من الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة على الإطلاق
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 15
أمّا الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة على الإطلاق فخمسة منها هي ما نأتي بها أوّلا من كتاب الفصل الآتي ذكره. و نعنى بذلك الإطلاق أنّ الدليل يثبت كونها جوهرا غير جسم فقط، و أما أنّ ذلك الجوهر له درجات من التجرّد: التجرّد البرزخى، و التجرّد العقليّ، و التجرّد الذي فوق التجرّد العقلى؛ فعلى عهدة البراهين الأخرى التي سيأتي نقلها و بيانها.
و تلك الأدلّة الخمسة على التجرّد الإطلاقى ننقلها من كتاب الفصل بين الروح و النفس تأليف الفيلسوف قسطا بن لوقا، حيث قال بعد إثبات كون النفس جوهرا ما هذا لفظه:
و إذ قد بيّنّا أنّ النفس جوهر، فلنبيّن أنّ النفس لا جسم، فنقول:
1. إنّ كل جسم كيفياته محسوسة، و كيفيات النفس غير محسوسة، فهي لا جسم.
و كيفيات النفس الفضائل و الرذائل، و الفضائل و الرذائل غير محسوسة، فاذن النفس لا جسم.
2. و أيضا فإنّ كل جسم لا يخلو أن يقع تحت الحواس إما كلّها و إما بعضها، و النفس لا تقع تحت الحواس لا كلّها و لا بعضها، فإذن النفس لا جسم.
3. و أيضا كل جسم إمّا أن يكون متنفّسا أو غير متنفّس، فإن كانت النفس جسما فهي إمّا متنفسة و إمّا غير متنفّسة؛ فلا يمكن أن تكون النفس غير متنفسة إن كانت جسما لأنه يقع محال، و ذلك أنّ النفس تكون لا نفس. و إن قلنا أنّها حيوان أي متنفسة رجع القول علينا في نفس النفس أجسم هي أم لا جسم؟ فيترقّى ذلك دائما بلا نهاية، فإذن ليست النفس جسما.
4. و أيضا إن كانت النفس جسما لطيفا فليس يخلو ذلك الجسم من أن يكون إمّا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 16
روحا لطيفة تنتشر في البدن كلّه، و إما نارا. فإن كانت كذلك فلا يخلو تلك النار و الروح من أن يكون لهما نوع خاصّى و قوة خاصيّة، و ذلك أنّه إن لم يكن لهما نوع خاصّى و قوة خاصيّة لكان إذن كلّ نار روحا، أو كلّ روح نفسا. و إن كان لهما نوع خاصّى فذلك النوع هو النفس.
5. و أيضا إن كانت النفس جسما لا يخلو جسم أن يكون إما بسيطا و إما مركّبا: فإن كانت جسما بسيطا فهي لا محالة نار أو ماء أو أرض أو هواء. و إن كانت النفس أحد هذه الأركان مجردا أعني بلا قوة و لا نوع خاصّي يفارق به ما شاركه في جنسه، فإنّ كل ما هو من جنسه نفس، فإن كانت النفس نارا كان كل نار نفسا، و إن كانت هواء كان كل هواء نفسا، و كذلك في باقي الأركان؛ فإن كان كذلك فكل جسم يحوى ذلك الأسطقس فهو متنفّس أعني أنه ذو نفس. فإن كان الهواء هو النفس كانت الرية و العروق الضوارب و الزق المنفوخ حيوانا. و إن كانت النفس ماء كانت الآنية المملوة حيوانا، و هذا من القول شنع قبيح. و إن كانت النفس جسما مركبا فالبدن إذن نفس، فإذن النفس لا جسم. انتهى.
تبصرة: كتاب الفصل بين الروح و النفس و قوى النفس و مائية النفس تأليف الفيلسوف قسطا بن لوقا اليوناني معاصر الكندى و ثابت بن قرّة، قد صحّحناه و صدّرناه بمقدّمة، ثمّ ادرجناه في كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس تجده في آخر شرح العين الحادية عشرة في الفرق بين الروح البخارى و الروح الانسانى؛ و الفيلسوف قسطا أراد أيضا في ذلك الكتاب المستطاب الفصل أي الفرق بين الروح البخارى و النفس الناطقة الانسانيّة.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 17
الباب الثاني: من الحجج البالغة على تجرّد القوة الخياليّة اي المدرك للصور المتخيّلة لا بدّ أن يكون مجرّدا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 19
الف) الحجة الأولى على تجرّد القوّة الخياليّة
و هي التي عوّل عليها أفلاطون الإلهي و قرّرها بعض أهل التحقيق من الإسلاميين:
أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج كبحر من زيبق و جبل من ياقوت، و نميز بين هذه الصور الخيالية و بين غيرها فهذه الصور أمور وجودية و كيف لا يكون كذلك و نحن إذا تخيّلنا زيدا ثمّ شاهدناه حكمنا أن بين الصورتين المحسوسة و المتخيّلة فرقا البتة، و لو لا أنّ تلك الصور موجودة لم يكن الأمر كذلك، و محلّ هذه الصورة يمتنع أن يكون شيئا جسمانيا أي من هذا العالم المادي فان جملة بدننا بالنسبة إلى الصور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف تنطبع الصور العظيمة على المقدار الصغير؟.
و ليس يمكن أن يقال: إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا و بعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا، و لا أيضا آلة لنفوسنا في أفعالها و إلّا لتألمت نفوسنا بتفرقها و تقطّعها، و لكان شعورنا بتغيرات الهواء كشعورنا بتغيرات أبداننا فبان أنّ محلّ هذه الصور أمر غير جسمانى و ذلك هو النفس الناطقة فثبت أنّ النفس الناطقة مجردة. انتهى تقرير الحجة التي عوّل عليها افلاطن.
و أقول:
هذه الحجة أتى بها الفخر الرازى في الفصل الأوّل من الباب الخامس من المباحث المشرقية و هو الدليل العاشر فيه على تجرّد النفس و قال و هو الذي عوّل عليه أفلاطن و قرّره بعض أهل التحقيق من المتأخرين (ج 2، ص 373، ط حيدرآباد).
و نقلها كذلك أيضا بعده صدر المتألّهين في الفصل السادس من الطرف الثانى من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» من الأسفار و هي الحجة الثانية فيه في أنّ المدرك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 20
للصور المتخيلة أيضا لا بدّ أن يكون مجرّدا عن هذا العالم. (ج 1، ص 317، ط 1).
و مراد صاحب الأسفار في هذا الفصل هو تجرّد النفس المثالى البرزخى الخيالى و هو التجرّد غير التام بالنسبة إلى تجرّدها التام العقلى.
و اعلم أنّ الخيال يطلق على الحسّ المشترك، و على خزانته و على المتصرفة و المراد هاهنا هو الأوسط و الأخير منها كما نصّ به في نفس الأسفار حيث قال في الثانى من الباب العاشر:
اعلم أنّ سعادة كلّ قوة بنيل ما هو مقتضى ذاتها من غير عائق و حصول كمالها من غير آفة و لا شك أنّ كمال كلّ شيء ما هو من باب نوعه و جنسه فكمال الشهوة هو حصول مشتهاها، و كمال القوة الغضبيّة هو الغلبة و الانتقام- إلى قوله:- و للخيال تصوّر المستحسنات و هي إما مثل المحسوسات المرتفعات إلى الخيال، أو حكايات المعقولة المتنزلة إليه و يمكن ارادة الحس المشترك أيضا، لأنّ المتصرفة تصوّر مثل المحسوسات في لوح الحسّ المشترك أيضا. على أنّ تلك القوى من شئون النفس و التجرّد الخيالى يوجب تجرّد المتصرفة و الحس المشترك أيضا فافهم و تبصّر.
و قال صدر المتألهين بعد نقل الحجة المذكورة بالتقرير المذكور ما هذا لفظه:
و هي حجة برهانية قوية على ما نريده. لكن القوم زعموا أنّ هذه الحجة لبيان إثبات أنّ النفس من المفارقات العقلية، و ذلك غير ثابت بمثل هذه الحجّة و نظائرها. و لم أر في شيء من زبر الفلاسفة ما يدلّ على تحقيق هذا المطلب، و القول بتجرّد الخيال و الفرق بين تجرّدها عن هذا العالم و بين تجرّد العقل و المعقول عنها و عن هذا العالم جميعا، و هذه من جملة ما آتانى اللّه و هدانى ربّى إليه أشكره كثيرا على هذه النعمة العظيمة و نحمده عليها.
أقول: قوله قدّس سرّه: «و هي حجة برهانية قوية على ما نريد»، يعنى بقوله ما نريده تجرّد القوة الخيالية.
قوله: «و ذلك غير ثابت بمثل هذه الحجة»، إنّما قال بمثل هذه الحجة لأنّ الحجة مأخوذة فيها صور الأشياء، و المعقولات مجرّدة عن الصور بذلك المعنى، فلا تصلح
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 21
أمثال هذه الحجة إلّا لإثبات التجرّد البرزخى المثالى للخيال فقط فتبصّر.
قوله: «و لم أر في شيء من زبر الفلاسفة» إلخ. هذا كلام الناطق بالصواب كما أنّ زبره النورية سيّما الحكمة المتعالية المشتهرة ب- الأسفار و هي بالنسبة إلى سائر كتبه أمّ الكتاب فاض من قلمه الشريف، أصدق شاهد على قوله ذلك. و أنت ترى أنّ الفخر نقله في المباحث في عداد الأدلّة على تجرّد النفس من غير تفصيل في التجرّد بل زعم هو و غيره من الباحثين في الفلسفة الرائجة أنّ هذه الحجة لبيان إثبات أنّ النفس من المفارقات العقلية، و لذلك الزعم اعترض على هذه الحجة بما أتى به صاحب الأسفار ثمّ أجاب عنه بما هو مذكور في الأسفار بعد نقل الحجة و نحن أعرضنا عن الإتيان بأكثر الاعتراضات الموردة على الحجج على تجرّد النفس لما كنّا بصدد نقل الأدلّة و الايماء إلى حقائق لعلّ المتدبّر فيها يقدر على جواب الاعتراضات الواردة عليها؛ على أنّا نذكر مآخذ النقل مع جميع مشخّصاتها و بذلك يسهل الخطب على الفاحص الباحث. نعم نذكر بعضا منها مع جوابه إذا رأينا فيه مزيد فائدة و زيادة تبصرة في المقام.
قوله: و بين تجرّد العقل و المعقول عنها، أي عن الصور الخيالية.
و اعلم أن الفخر الرازى كان في العلم قائلا بالإضافة و منشأ القول بذلك اضطرابه في فهم الحجج على تجرّد النفس، و قصوره عن النيل بمسألة العلم. و عدّ بعض الاعتراضات إشكالا قويا جدّا حتى قال: و لم يظهر لى بعد عنه جواب يمكننى أذكره لزعمه أن الاعتراض مؤيد له في القول بالاضافة. فنذكر نموذجا من ذلك و هو ما أتى به من اعتراض و بعده من اضطراب في الجواب بعد نقله الحجة المذكورة بالتقرير المتقدم في المباحث فقال:
فإن قيل:
هذه الصور الخيالية لا بدّ و أن يكون لها امتداد في الجهات و ذهاب في الأقطار و إلّا لم تكن صورا خيالية، فإذا تخيلنا مربعا فلا بدّ و أن يتميز جانب من ذلك المربع من جانب آخر و إلّا لم يكن مربعا و ذلك أنّما يكون إذا كان له شكل و وضع مخصوص فإذا حلّ هذا الشكل في النفس فإمّا أن تصير النفس مشكّلة بهذا الشكل حتى تصير
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 22
النفس مربعة، و إمّا أن لا تصير كذلك فإن صارت مربعة مثلا فهي غير مجرّدة بل هي جسمانية، و إن لم تصر مربعة فصورة المربع غير موجودة فيها لأنّه لا فرق بين أن يقال إنها ليست مربعة و بين أن يقال صورة المربع غير موجودة فيها. فهذا الإشكال قوى جدا و لم يظهر لى بعد عنه جواب يمكننى أن أظهره في كتابى هذا.
أقول: لعلّ صاحب المباحث لمّا كان قائلا في العلم بالإضافة و كان هذا القول أعنى الاعتراض المذكور مؤيدا له، قال: إنّه قوى كأنّه أخبر بذلك رصانة رأيه في العلم بأنّه إضافة، مع أنّه لا يخفى على ذوى الألباب ركاكة رأي الإضافة في العلم.
قال المحقق الطوسى في شرح الفصل السابع من النمط الثالث من الإشارات في البحث عن ماهية الإدراك ما هذا لفظه:
و اعلم انّ العلماء اختلفوا في ماهية الإدراك اختلافا عظيما و طوّلوا الكلام فيها لا لخفائها بل لشدة وضوحها فمنهم من جعل الإضافة العارضة للمدرك إلى المدرك نفس الإدراك ليندفع عنه بعض الشكوك الموردة على كون الإدراك صورة و غفل عن استدعاء الإضافة ثبوت المتضائفين فلزمه أن لا يكون ما ليس بموجود في الخارج مدركا، و أن لا يكون إدراك ما جهلا البتة لأنّ الجهل هو كون الصورة الذهنية للحقيقة الخارجية غير مطابقة إياها (ص 77، ط شيخ رضا).
يعنى المحقق في قوله: «فمنهم من جعل الإضافة نفس الإدراك»، الفخر الرازى و يعبّر عنه في شرح الإشارات بالفاضل الشارح. ثمّ نقل بعد نقل اختلاف الآراء في العلم أي الادراك بعض اعتراضات هذا الفاضل.
منها قوله:
فمن اعتراضات الفاضل الشارح في هذا الموضع أنّ الصورة الذهنية إن لم تكن مطابقة للخارج كانت جهلا، و إن كانت مطابقة فلا بدّ من أمر في الخارج و حينئذ لم لا يجوز أن يكون الإدراك حالة نسبية بين المدرك و بينه.
ثمّ نقل بعض اعتراضاته الأخر و أجاب عنها. و صدر المتألهين في عدّة مواضع من الأسفار تصدّى لدفع و هم الفخر في كون العلم إضافيا.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 23
منها في الفصل الحادى عشر من الطرف الأوّل من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» فقال فيه.
و العجب من هذا المسمّى بالإمام كيف زلّت قدمه في باب العلم حتى صار الشيء الذي به كمال كل حيّ و فضيلة كل ذى فضل و النور الذي يهتدى به الإنسان إلى مبدئه و معاده عنده من أضعف الأعراض و أنقص الموجودات التي لا استقلال لها في الوجود، إلخ (ج 1، ط 1، ص 288).
و منها في الفصل الثالث من الطرف المذكور حيث قال: «و أما المذهب الثالث و هو كون العلم إضافة ما بين العالم و المعلوم من غير أن يكون هناك حالة أخرى وراءها فهو أيضا باطل» إلخ. ثمّ أتى بكلام المحقق الطوسى في شرحه على الموضع المذكور آنفا من الإشارات في الرّد على زعم الفخر في الإدراك فقال: «و اعلم انّ القائل بكون العلم إضافة» إلخ. (ج 1، ط 1، ص 272).
و منها في الفصل الرابع من القسم الثالث من الجواهر و الأعراض من الأسفار في البحث عن حقيقية الألم و اللذة حيث قال: قال فخر المناظرين اللذّة و الألم- إلى قول صاحب الأسفار-:
و أما العلم و الإدراك مطلقا فليس كما زعمه هذا التحرير عبارة عن إضافة محضة بين العالم و المعلوم من غير حاجة إلى وجود صورة إلخ. (ج 2، ط 1، ص 39). و منها في الحجة الخامسة في تجرّد النفس في الفصل الأوّل من الباب السادس من نفس الأسفار (ج 4، ط 1، ص 71).
أقول: و ذهب الفخر في الفصل الأوّل من الباب الخامس من الفن الثانى من المباحث المشرقية في بيان تجرّد النفس الإنسانية إلى أنّ العلم ليس بإضافة بل صفة حقيقية حيث قال:
و أما العلم فقد بيّنا أنّ حقيقته ليست مجرّد إضافة فقط بل إنّما يتم بحصول صورة مساوية لماهية المعلوم فيكون العلم صفة حقيقية. إلخ (ج 2، ص 351، ط حيدرآباد الدكن هند).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 24
و كم له من نظير في مثل هذا التلوّن.
و لنرجع إلى البحث عن حول الحجة المذكورة في التجرّد البرزخى فنقول: إنّ صدر المتألهين بعد نقل اعتراض الفخر على الحجة و عدّه قويا بلا جواب، أجابه على مبناه القويم الرصين في الحكمة المتعالية بقوله:
أقول في جوابه إنّ حضور الصورة العلمية للشيء العالم لا يلزم أن يكون بالحلول فيه بل بأحد أنحاء ثلاثة: إمّا بالعينية كما في علم النفس بذاتها، أو بالحلول فيه كما في علم النفس بصفاتها و كما هو المشهور في حصول المعقولات للجوهر العاقل، أو بالمعلولية كما في علم الله بالممكنات بصورها المفصّلة فعلم النفس بالصور الخيالية من قبيل القسم الثالث.
ثمّ أفاد قدّس سرّه بقوله:
و بهذا يندفع إشكالات الوجود الذهنى من لزوم كون النفس حارة باردة مستديرة مربعة و غير ذلك، فإنّهم ذكروا الإشكال بأنّ النفس إذا تصوّرت الكروية فإن وجدت الكروية فيها لزم أن تصير النفس كروية لأنّه لا فرق في نظر العقل بين أن يقال إنّ هذا الشيء كرة، و بين أن يقال فيه صورة الكرة.
و وجه الاندفاع أن تمثل صورة الكرة و غيرها للنفس كتمثل الأشياء التي شاهدنا في المرآة فإنّ تمثل تلك الصور المشاهدة لأجل المرآة ليس بانطباعها فيه، و لا بوجودها في الهواء، و ليست هي عين الصورة المادية لأنّا قد برهنّا على أنّ الصور المادية ليس من شأنها أن تكون مدركة لا بالفعل و لا بالقوة فهي إذن صور معلقة غير منطبعة لا في النفس و لا في شيء آخر من المواد الخارجيّة. انتهى.
أقول: قد أطلق الصور المعلّقة هاهنا على الصور المثالية البرزخية المتصلة، و كثيرا تطلق على الصور المثالية البرزخية المنفصلة. و المعلّقة في قبال الصور الكلية النورية بالمثل الإلهية السائرة على الألسنة بالمثل الأفلاطونية لأنّ افلاطون الإلهي كان شديد العناية بإثباتها و الحق معه، كما استوفينا البحث عن المثل الإلهية و المثل المعلقة في رسالتنا المصنفة في المثل.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 25
وهم و رجم:
ثمّ اعلم أنّ دأب صدر المتألهين في الأسفار في كل مسألة حكمية هو أنّه يأتى أولا بأقوال الحكماء فيها و على وتيرتهم يأخذ في البحث عنها، ثمّ يأتى برأيه الشريف السامى في أثناء المباحث و خلالها و تضاعيفها و هو العمدة في مصنفاتها النورية، سيما في أمّ الكتاب من مؤلفاته أعنى به الحكمة المتعالية المشتهرة ب الأسفار. و لا يخفى على رجل البحث و التنقيب و فحل التدقيق و التحقيق أنّ الغرض الأهم من تصنيف الكتاب هو الإتيان بأمر جديد و تأسيس أصل قويم فيه إن كان صاحب الكتاب حريا بذلك و إلّا فأيّ فائدة في نقل آراء و أقوال من أوراق إلى أوراق أخرى؟
و صاحب الأسفار قدّس سرّه قد يذكر مصدر الأخذ و قائل الرأى و قد يترك لأنّ ما هو الأهم عنده إيقاظ الطالب و إرشاده إلى ما هو الحق المحقق في ذلك و ما أتى به من الحقائق لا توجد في الصحف الحكمية الرائجة إلّا في الزبر العرفانية الأصلية كالفتوحات المكّية و فصوص الحكم و مصباح الأنس على نحو الإشارات و الواردات من غير إقامة البرهان عليه و كانوا يقولون إنّ هذه الواردات فوق طور العقل و هو صرّح في الأسفار بأنّ ما كان عندهم فوق طور العقل فقد أقمنا البراهين العقلية عليها.
و قد أفاد في طريقته المثلى هذه أنّ البرهان لا يخالف الوجدان و الشهود و العرفان، كما أفاد في قوله الآخر أنّ البرهان و العرفان لا يخالفان القرآن حيث قال في أوّل الفصل الثانى من الباب السادس من نفس الأسفار في مسألة تجرّد النفس:
إنّ الشرع و العقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحكميات، و حاشى الشريعة الحقة الآلهية أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية، و تبّا لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب و السنّة (ج 4، ط 1، ص 75).
على أنّ صاحب الرأى إذا كان ممن يليق أن يصرّح باسمه يذكره و تأليفه مع تبجيل و تجليل كما هو الظاهر على المتدرب في الأسفار. مثلا في الفصل الخامس من الفن الخامس من الجواهر و الأعراض في البحث عن الحركة في الجوهر قال:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 26
فصل في نبذ من كلام ائمة الكشف و الشهود من أهل هذه الملة البيضاء في تجدّد الطبيعة الجرميّة الذي هو ملاك الأمر في دثور العالم و زواله، إلى قوله: و أمّا كلام أهل التصوف و المكاشفين فقد قال المحقق المكاشف محيى الدين العربى في بعض أبواب الفتوحات المكية. إلخ (ج 2، ط 1، ص 176). و كم له من نظير.
ثمّ عدم الإتيان باسم الشخص و مؤلفه في متن العبارة لا يدلّ على عدم الإتيان به مطلقا و ذلك لأنّه يمكن أن أتى به في هامش الكتاب و الناسخ لم يأت به في نسخته، أو أسقطوه في أثناء الطبع، و الشاهد على ذلك انّ كتاب الوافي لتلميذه الفيض (رضوان الله تعالى عليه) قد طبع بدون ذكر انتقال الرواية من أيّ باب من الكتب الأربعة إلى ذلك الباب من الوافي و انّ ذكر مآخذ النقل على نحو الإجمال برموز كا، يه، يب، صا؛ أي الكافي و كتاب من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار، و عندنا من بعض أقسام الوافي نسخة مخطوطة ذكر في هامشها أيضا الأبواب التي نقل الحديث منها و الوافي المطبوع خال عنها، فعدم ذكر الأشخاص و مؤلفاتهم في أثناء عبارة الكتاب لا يدلّ على عدم ذكرهم مطلقا. على أنّ صاحب الأسفار قد يوصف القائل بصفة يعلم الخواص من هو بذلك الوصف مثلا في الحجة التاسعة من حجج تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا من نفس الأسفار نقل كلام صاحب المباحث و لم يصرّح باسمه بل قال:
و هذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطن بتجرّد الخيال، يعنى به الفخر، و قال بعد أسطر: الإدراك لا يخلو إمّا أن يكون هو الصورة الحاصلة من الشيء، أو الإضافة التي بين المدرك و المدرك كما هو مذهب هذا القائل (ج 4، ط 1، ص 74). و الفخر كان في العلم قائلا بالإضافة.
و بعد ذلك كلّه أن تحقيقاته النورية العرشية منقولة من أىّ كتاب؟ و ليس ذلك إلا كما يقول هو قدّس سرّه في عدة مواضع من الأسفار يخبر على ما أفاضه الوهّاب على الإطلاق و أتى به في كتابه المستطاب كقوله في آخر الفصل الثانى من الباب العاشر من نفس الأسفار.
فإنّى أعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 27
الوجود أمورا تقصر الأفهام الذكية عن دركها و لم يوجد مثلها في زبر المتقدمين و المتأخرين من الحكماء و العلماء للّه الحمد و له الشكر.
و قال المتأله السبزوارى في تعليقته عليه:
قوله: «فانّى اعلم من المشتغلين- ا ه-» أراد نفسه الشريفة و الحق معه و تحقيقاته الأنيقة أعدل شاهد على ما أفاده (شكر اللّه مساعيه). انتهى.
و أقول وجه أنّه أراد نفسه الشريفة ظاهر من قوله: «لله الحمد و له الشكر» و إلّا فلا معنى للحمد و الشكر (ج 4، ط 1، ص 130).
و كقوله بعد نقل تقرير الحجة المذكورة: «و لم أر في شيء من زبر الفلاسفة-، إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا (ج 1، ص 317، ط 1).
و كقوله في تعليقة منه على الفصل السابع من الطرف الأوّل من المسلك الخامس من الأسفار في اتحاد العقل و العاقل و المعقول ما هذا لفظه:
كنت حين تسويدى هذا المقام بكهك من قرى قم فجئت زائرا لبنت موسى بن جعفر عليه السّلام منها و كان يوم جمعة فانكشف لى هذا الأمر بعون الله تعالى.
أقول: هذه الإفاضة و البارقة كانت ضحوة يوم الجمعة سابع جمادى الأولى لعام سبع و ثلاثين بعد الألف من الهجرة النبوية و قد مضى من عمره المبارك السلام ثمان و خمسون سنة قمرية. و هي تعليقة على قوله في الفصل المذكور:
و بسط أنوار الإفاضة فأفاض علينا في ساعة تسويدى هذا الفصل من خزائن علمه علما جديدا و فتح على قلوبنا من أبواب رحمته فتحا مبينا، إلخ.
و قد حرّرنا تفصيل ذلك في الدرس الخامس من كتابنا دروس اتحاد العاقل بالمعقول (ط 1، ص 106- 110).
و هكذا نظائر أقواله المذكورة في عدة مواضع أخرى من الأسفار. و لو لم يتفوّه هو قدّس سرّه بها لكان أعلام العلماء و أساطين الحكماء الذين جاءوا بعده قالوا بها في حقه كما قالوا.
و كان معلّم العصر استاذنا العلم الآية العلامة الميرزا ابو الحسن الشعرانى (قدّس سرّه الشريف و جزاه الله تعالى عنا خير جزاء المعلّمين) يصفه باللطف الإلهي. و كان يقول
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 28
حينما أخذ الناس في التوغل في المادة و التعلّق بالطبيعة و الإخلاد إلى الأرض، جعل هذا اللطف الإلهي في قبالهم ليذكّرهم أيام اللّه و أحوالهم في الآخرة و الأولى و يحثّهم إلى الاغتذاء من مأدبة الله القرآن الكريم و التأدب بآدابه.
و كذا كان استاذنا العلم الآية العلامة السيد محمد حسين الطباطبائى صاحب الميزان قدّس سرّه العزيز يقول: هذه الحقائق النورية مما علّمنا صدر المتألهين (رضوان الله تعالى عليه).
و كذلك استاذنا العلم الآية الميرزا السيد ابو الحسن الرفيعى القزوينى قدّس اللّه سرّه الشريف يصف الأسفار بالسهل الممتنع. و كان يقول في مسألة أنّ الغذاء معدّ النفس لأن تصنع بدنها بإذن بارئها من كتاب نفس الأسفار. «أنظر إلى عظمة هذا البطل العلمى في الدورة الإسلامية». و هو (رضوان الله تعالى عليه) ألّف وجيزة في تفسير كريمة (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) من أوّل سورة يونس من القرآن العظيم و جعلناها تبرّكا النكتة الرابعة و العشرين و خمسمائة من كتابنا ألف نكتة و نكتة، و نقلنا كلامه الشريف في آخرها حيث قال:
و من أراد تفصيل تحقيق هذه المعانى و رام مخ الحكمة و لبّ المعرفة في مراتب كتابه سبحانه و كلامه فليرجع إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة في العلم الإلهي و مفاتيح الغيب لصدر أعاظم الحكماء و المتألهين العارف الشامخ المحقق الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازى (قدّس الله عقله و نوّر روحه) بشرط الأخذ من أستاذ ماهر حاذق خبير، و إياك أن تغرّ بفهمك الساتر و تطالع كتاب الأسفار هيهات هيهات ففيه خبايا رموز كنوز قلّ من يهتدى إلى مغزاها و يدرك فحواها إلا الألمعى الناقد المستوقد المؤيد بنور اللّه العظيم. انتهى كلامه الرفيع (ج 1، ط 1، ص 292).
و الأعلام الثلاثة المذكورة كانوا من أعاظم الحكماء المتألهين الراسخين في الحكمة المتعالية في عصرنا هذا (أفاض الله سبحانه من بركات أنفاسهم الشريفة علينا).
ثمّ انّ مثل صاحب الأسفار إذا أراد نقل قول من الحكمة الذائعة المشائية ينقله من مثل المباحث المشرقية لأنّ المباحث تحرير شفاء الشيخ على تلخيص، و الغرض أيضا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 29
إراءة قول المشاء سواء كان من المباحث أو غيره لكنه ينقل منه كثيرا. و قد يذكر كتابه و يسميه و قد لا يعتنى بذلك و ليس هذا مما يوجب الإزراء و الشين على مثل صدر المتألهين. و مثل الفخر الرازي و الغزالي يجب أن يباهى بفهم كلماته العرشية و آرائه الرصينة و قد رأيت بعض عباراته في صاحب المباحث. و كذا قال في الأسفار في الغزالى ما هذا لفظه:
و بعض من تصدّى لخصومة أهل الحق بالمعارضة و الجدال و التشبّه بأهل الحال بمجرّد القيل و القال كمن تصدّى لمقابلة الأبطال و مقاتلة الرجال بمجرّد حمل الأثقال و آلات القتال، قال في تأليف سمّاه تهافت الفلاسفة إلخ (ج 1، ص 55، ط 1).
و أقول أيضا قد وفّقنا الله سبحانه بالتحقيق في مسائل الأسفار و الخوض فيها و التعليقة عليها و تصحيح عباراتها بالعرض و المقابلة على عدّة نسخ مخطوطة بعضها كتبت بعد ثمانى عشرة سنة من رحلة صدر المتألهين، و كذا على عدّة نسخ مطبوعة مصححة و محشاة من مشايخ العلوم العقلية، طول تدريسنا إياه في الحوزة العلمية مدينة قم، حيث كانت دورة واحدة من تدريسه في أربع عشرة سنة و قد كان بدء التدريس و يوم الشروع من تلك الدورة التاسع و العشرين من رجب الأصبّ من شهور إحدى و تسعين و ثلاثمائة سنة بعد الألف من الهجرة (29/ 6/ 1350 ه. ش)، و كان ختم التدريس الليلة الثلاثاء السابعة من شهر الله المبارك من شهور خمس و أربعمائة سنة بعد الألف من الهجرة (7/ 3/ 1364 ه. ش).
و في هذا الأمد من الدورة الأولى صحّحنا الأسفار من البدء إلى الختم و كذلك أوضحنا مطالبها بتعليقات موضحة و حواشى مبيّنة من أوّله إلى آخره، و تفحّصنا عن ذكر المآخذ و المصادر التي ذكرت في الأسفار، أو لم يذكر و و وجدنا أكثرها بطول البحث و الفحص، و شرعنا بتأليف كتاب في ذكر الاقوال المنقولة في الأسفار، و ذكر مصادرها و منابعها و قد طبع طائفة منها باسم العرفان و الحكمة المتعالية، و نسأل الله سبحانه التوفيق في إتمامه. و كلّما غصنا و خضنا في الأسفار زدنا فيه تحيّرا.
و غرضنا من هذه المقالة التي كأنّها خارجة عن موضوع الكتاب، أنّ بعض من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 30
عاصرناه بمجرّد أن رأي نقل طائفة من أقوال الأسفار من كتب و رسائل أخرى، خرج عن زيّه و أساء الأدب بساحة صدر المتألهين بلسان بذىّ حيث أكثر ألفاظه الموهنة في تأدية رأيه الفائل قائلا مع ترعّد و تبرّق ب:
أنّ الأسفار متخذ من كتب عديدة و صاحب الأسفار من عمله هذا قد اشتبه الأمر على الناس و أوقعهم في الشبهة و الالتباس في سنين كثيرة؛ و قال: و لم يلتفت إلى عمله هذا السبزوارى المحشي للأسفار و لا استاذه المولى إسماعيل الأصفهانى بل و لا توجّه إليه الآخوند المولى على النوري و لا أحد ممن جاء بعد المولى الصدراء الشيرازى إلّا أنا.
ثمّ أهان هذا البعض بألفاظ ركيكة هؤلاء المشايخ الكبار، نعوذ باللّه من طغيان القلم و هفوات اللسان و إساءة الأدب بأعاظم العلم و الإيقان المرزوقين من مأدبة القرآن الفرقان.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 31
ب) الحجة الثانية على تجرّد الخيال
أنّ الصورة الخيالية كصورة شكل مربع محيط بدائرة قطرها يساوى قطر الفلك الأعظم، فهذه الصورة الشكلية إمّا أن تكون بالقياس إلى ما هي شكله في الموجودات الخارجية كأنّها شكل منزوع عن موجود خارجى و ليس كذلك؛ أو يكون شكلا في مادة دماغية حاملة لها و المادة الدماغية مشتغلة بشكل صغير المقدار غير هذا الشكل، و المادة الواحدة لا يجوز أن يشتغل في آن واحد بمقدار صغير في غاية الصغر و بمقدار عظيم في غاية الكبر، و لا يشكل أيضا بشكلين متباينين دفعة واحدة.
و أيضا شكل الدماغ طبيعي، و كذا مقداره مقدار طبيعى له و هذا الشكل الذي كلامنا فيه قد يحصل بالإرادة النفسانية على أي مقدار نريد و كذا غيره من الصور و الأشكال.
و أيضا ربما يزداد المقدار المشكل الحاضر في الخيال و ينبسط في تماديه إلى حيث يشاء النفس و كل جسم طبيعى لا يمكن أن ينمو و يزداد إلا بإضافة مادة من الخارج إليه فظهر أنه المقدار المشكل المتخيل ليس مقدارا لمادة دماغية و لا لغيره من الأجسام الخارجية فبقى أن تكون نسبة القوّة الدرّاكة إليه غير نسبة القوّة الحاملة لما يحلّها و لا نسبة ذى وضع بذى وضع آخر.
بل نقول من رأس إنّ تلك القوة لا محالة لها علاقة إلى ذلك الشكل فتلك العلاقة إمّا وضعية كالمجاورة و المحاذاة و ما يجرى مجراها كما بين الأجسام الخارجية؛ و إمّا غير وضعيّة، و القسم الأوّل محال لأنّ ذلك الشكل غير واقع فوق الإنسان و لا تحته و لا في يمينه أو يساره و لا قدّامه أو خلفه فبقى القسم الثانى، و قد علمت أنّها ليست
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 32
بالقابلية بأن يكون المتخيل المشكل صورة لتلك القوة كما مرّ، و لا بالمقبولية بأن تكون القوّة صورة له لا ستحالة كون المدرك بالقوّة صورة لما هو مدرك بالفعل فبقى أن تكون العلاقة بينهما بالفاعلية و المفعولية فكون المقدار المشكل فاعلا للقوّة الدرّاكة غير صحيح لما ثبت أنّ المقادير ليست عللا فاعلية لأمر مباين.
و أيضا هذه القوّة باقية فينا و تلك الصورة و أشباهها قد تزال و تسترجع.
فبقى أنّ القوّة الخيالية فاعلة إياها أو واسطة أو شريكة، فهي لو كانت قوة مادية لكان تأثيرها بمشاركة الوضع و كل ما تأثيره بمشاركته فلا يؤثر إلّا فيما له أو لمحلّه وضع بالقياس إليه فالنار لا تسخن إلّا لما يجاورها في جهة منها، و الشمس لا تضيء إلا لما يقابلها في جهة منها، و الصورة الخيالية غير واقعة في جهة من جهات هذا العالم.
و أيضا هي ممّا يحدث دفعة و القوّة الجسمانية لا يمكن أن يكون لها نسبة إلى نفس صورة شيء تحدث تلك الصورة بسببها قبل وجودها لأنّ النسبة إلى ما لم يوجد بعد غير ممكنة، و قد برهن على أنّ المؤثر الجسماني لا بدّ و أن يكون له تلك النسبة حاصلة قبل وجود أثره قبلية زمانية أو ذاتية فلا بدّ و أن يكون له تلك النسبة الوضعية بالقياس إلى مادة الأثر قبل حصول الأثر كمثال النار و الشمس في تأثيرهما، فلو كان للقوّة الخيالية وضع لكان ذلك الوضع حاصلا قبل حصول تلك الصور الخيالية الحادثة بالقياس إلى مادتها، و قد ثبت أنّ تلك الصور لا مادة لها فالمؤثر في تلك الصور لا يمكن أن يكون قوة جسمانية مادية بوجه من وجوه التأثير فإذا لم تكن علاقة القوّة الخيالية إلى تلك الصورة وضعية جسمانية، و لا هي عديمة العلاقة إليها فهي لا محالة مبدأ غير جسماني لها فتكون مجرّدة عن المادة و علائقها هذا ما أردناه.
و تلخيصه: أنّ الصورة الخيالية غير ذات وضع و كل ما لا وضع له لا يمكن حصوله في ذى وضع فهي غير حاصلة في قوّة جسمانية لا بوجه القبول و لا بوجه الفعل و لا بوجه المباينة الوضعية فالمدرك لها قوّة مجرّدة و هي ليست القوّة العاقلة لأنّ مدركات العقل غير منقسمة لأنّها كلية.
و أيضا العقل متحد بالمعقولات عند صيرورته عقلا بالفعل، و ما يدرك المعقول من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 33
حيث كونه مدركا له غير مدرك للمتخيل فإذن القوّة المدركة للصور المتخيّلة قوّة أخرى دون العقل فيثبت كون الخيال قوّة مجرّدة.
أقول: هذه الحجة هي الحجة الأولى من حجج تجرّد الخيال في الأسفار (ج 1، ط 1، ص 316). و قد حررناها في الدرس الثانى و السبعين من كتابنا الفارسى دروس معرفت نفس تحرير إيضاح و تبيين بالفارسية (ص 211- 217، ط 1) فلا نعيده هاهنا.
قوله: «و قد علمت أنّها ليست بالقابلية- إلى قوله لتلك القوّة كما مرّ». يعنى أنّ العلاقة ليست بالقابلية كما مرّ في صدر هذه الحجة من أنّ المادة الواحدة لا يجوز أن يشتغل في آن واحد بمقدار صغير- إلى قوله: «دفعة واحدة».
قوله: «و قد برهن على أنّ المؤثر الجسمانى إلخ». قد برهن ذلك في الفصل السادس و الثلاثين من المرحلة السادسة من أنّ القوى الجسمانية لا تفعل ما تفعل إلّا بمشاركة الوضع إلخ (ج 1، ط 1، ص 204).
و الفرق بين هذه الحجة و بين الحجة الأولى أنّ محطّ النظر في الأولى الامتياز؛ و بعبارة أخرى الملاك في الحجة الأولى هو التمييز بين الصور الخيالية المتعددة التي لا وجود لها في الخارج، بخلاف الثانية فإنّ ملاك البحث فيها هو الصورة الخيالية الواحدة التي لا تحقق لها في الخارج ثمّ إجراء البرهان على سبيل تشقيق السؤال فيها، و إن كانت الحجتان في كثير من الأحكام متشاركتين و متشابهتين.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 34
ج) الحجة الثالثة على تجرّد الخيال هي:
أنّا حكمنا بأنّ السواد يضادّ البياض، و الحاكم بين الشيئين لا بدّ و أن يحضراه، فقد برهنّا على أنّه لا بدّ من حصول السواد و البياض في الذهن أو للذهن، و البديهة حاكمة بامتناع اجتماعهما في الأجسام و الموادّ، فإذن المحلّ الذي حضرا فيه وجبا أن لا يكون جسما و لا جسمانيا، و المدرك لمثل هذه الصور الجزئية التي تمتنع عن الكلية و الاشتراك بين الكثيرين لا يكون عقلا بل خيالا فثبت أنّ القوّة الخيالية مجرّدة عن المواد كلّها. (الأسفار، ج 1، ط 1، ص 318).
أقول: هذه الحجة هي الحجة الثالثة من الفصل المذكور من الأسفار أيضا على تجرّد الخيال. و قد حرّرناها إجمالا في الدرس السبعين من دروس معرفت نفس بالفارسية (ص 207، ط 1)؛ و قد أتى بها الفخر في المباحث و هو الدليل الحادى عشر منه على تجرّد النفس الإنسانية على نحو الإطلاق (ج 2، ص 375). و أما التفصيل و التبيين بكونها من أدلة تجرّد الخيال على مبنى الحكمة المتعالية فمن مزايا الأسفار، و لذا كانت عبارة الأسفار ذات إضافات و إشارات عرشية و عبارة المباحث عارية عنها.
على أنّ المباحث أتى بها على ما ذهب إليه الجمهور من كون الخيال محلا للصور لأنّهم ذهبوا إلى أنّ التخيّل بقوّة جسمانية و قد استدلوا بها بأمور ثلاثة أتى بها في المباحث (ج 2، ص 339، ط 1) و سنشير في المباحث الآتية إلى مآخذ البحث عنها و كلام القوم فيها. و حيث إنّ صاحب الأسفار قائل بأنّ الخيال ليس محلا لها أضاف في الحجة بعد قوله في الذهن: قوله أو للذهن؛ و عبارة المباحث عارية عن الشق الثانى أعنى أو للذهن و وجهه ظاهر على العارف بمعارف الحكمة المتعالية حيث إنّ الأوّل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 35
على القيام الحلولى، و الثانى على القيام الصدورى.
ثمّ انّ صاحب المباحث بعد نقل الدليل المذكور أتى ببعض الاعتراضات عليه على مذهب الجمهور، و صاحب الأسفار بعد الإتيان بها أتى بدقائق أخرى على مبنى الحكمة المتعالية، و قد أومأ بتزييف ما عليه الجمهور على ما نحكى عبارته الشريفة و هي ما يلى:
لا يقال: التضاد بين السواد و البياض لذاتيهما فأين حصلا فلا بدّ و أن يتضادّا.
فنقول: انّه من المحتمل أن يكون تضادّهما في المحالّ التي تنفعل عن كل منهما و تتأثر فإنّ الجسم إذا حلّ فيه السواد يتغيّر و تترتّب عليه آثار مخصوصة كقبض الإبصار و نحوه، و إذا حلّ فيه البياض يتغيّر و تترتب عليه آثار تخالف تلك الآثار؛ و أما المحل الإدراكى فلا ينفعل عنهما مثل هذه الانفعالات و الاستحالات و كل منهما يطرأ و يزول و يجتمع معا و يفترق معا و هو كما كان.
هذا إن كان الخيال محلا لهما و أما على ما حققناه من أنّ حصول تلك الصور له هو بعينه حصولها عنه لأنّ نسبته إليهما بالفاعلية لا بالقبول الانفعالى، و لو كان هناك قابليّة هي عين الفاعلية كما في علوم المفارقات، و بالجملة شرط التضاد بينهما هو الموضوع الانفعالي المادّي لا غير فلا استحالة في اجتماعهما لمحلّ غير مادّي أو لجوهر فاعلي.
و ليس لقائل أن يقول: إنّا إذا تصوّرنا السواد و البياض و الحرارة و البرودة فلا تنطبع هي أنفسها بل تنطبع صور هذه الأمور و مثلها فقط فلهذا لا يلزم أن تكون حارّة باردة عند انطباع هذه الأمور.
لأنّا نقول هذه الأمور التي سمّيتموها بأنّها صور السواد و البياض و غيرهما هل لها حقيقة السواد و البياض أم لا؟ فإن كانت لها حقيقتهما و قد انطبع في النفس صور تلك الأمور التي هي بالحقيقة سواد و بياض و حرارة و برودة و استدارة و استقامة فيجب عند ذلك أن تصير النفس حارة و باردة، سوداء و بيضاء، مستقيمة و مستديرة فتكون جسما؛ و إن لم تكن لتلك الصور التي تصوّرناها حقيقة السواد و البياض و الحرارة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 36
و البرودة لم يكن إدراك الأشياء عبارة عن انطباع ماهية المدرك في المدرك.
و أيضا نحن نعلم بالوجدان عند تخيّلنا و مشاهدتنا لتلك الأمور أنا نشاهد السواد و البياض و الحرارة بعينها كما أحسسناها في الخارج. فالتحقيق كما بيّنّاه أنّ نسبة النفس إليها نسبة الفاعلية و الإيجاد، و هذه النسبة أشد و آكد من نسبة المحل المنفعل لأنّ نسبة الفاعلية بالوجوب و نسبة القابلية بالإمكان، و الوجوب آكد من الإمكان في باب النسبة. انتهى.
أقول: قوله «و أمّا على ما حققناه من أنّ حصول تلك الصور له إلخ» هذا هو جوابه التحقيقى في قبال الجواب الاحتمالى الذي أتى به الفخر في المباحث أولا بقوله: «من المحتمل أن يكون تضادهما في المحالّ إلخ». و قد مضى تحقيقه في الوجود الذهنى حيث قال في أوّل الفصل الأوّل من المنهج الثالث:
كل صورة صادرة عن الفاعل فلها حصول له. بل حصولها في نفسها نفس حصولها لفاعلها، و ليس من شرط حصول شيء لشيء أن يكون حالّا فيه وصفا له بل ربما يكون الشيء حاصلا لشيء من دون قيامه به بنحو الحلول و الوصفية كما أنّ صور جميع الموجودات حاصلة للباري حصولا أشدّ من حصولها لنفسها أو لقابلها. (ج 1، ط 1، ص 65).
مزيد فائدة: عبارة الأسفار في هذه الحجة هي عبارة الفخر في المباحث و قد دريت أنّها الدليل الحادى عشر منه في بيان أنّ النفس الإنسانية ليست بجسم و لا منطبعة في جسم. و الفرق بين ما في المباحث و بين ما في الأسفار أنّ صاحب الأسفار أضاف إليها قيودا حتى خصّصها بتجرّدها المثالى أعنى تجرّدها الخيالى البرزخى، و صاحب المباحث جعلها حجة على تجرّدها العقلى. و انما غرضنا الآن نقل ما في المباحث فإنّه يوجب للمحقق زيادة استبصار في تحقيق البحث.
قال: الدليل الحادى عشر و هو أنا إذا حكمنا بأنّ السواد يضاد البياض فقد برهنا على أنّه لا بدّ من حصول السواد و البياض في الذهن، و البداهة حاكمة بامتناع اجتماعهما في الأجسام و الجسمانيات، فإذا المحلّ الذي حضرا فيه وجب أن لا يكون جسما
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 37
و لا جسمانيا.
فإن قيل: التضاد بين السواد و البياض لذاتيهما فأين حصلا فلا بدّ و أن يتضادّا. فنقول: انّه من المحتمل أن يكون تضادّهما أنّما يتحقق في بعض المحالّ دون البعض فيكون من شرط المحل الّذي يظهر عليه التضاد أن يكون جسما، و عند ما لا يكون المحلّ جسما لا يتحقق شرط التضاد فلا يتحقق التضاد.
و لقائل أن يقول: الشك المذكور متوجه هاهنا أيضا، و هو أنّ النفس إذا تصورت الكريّة فان وجدت الكرّية فيها لزم أن تصير النفس كرة لأنّه لا فرق في العقل بين أن يقال هذا الشيء كرة، و بين أن يقال صورة الكرة؛ و كذلك القول في السواد و البياض و الحرارة و البرودة.
و ليس لأحد أن يقول إنّ انطباع صورة الكرة في النفس كانطباعها في المرآة حين ما تشاهد الكرة في المرآة لأنّا بيّنا أنّ الأشياء التي شاهدناها في المرآة ليس ذلك لأجل انطباع صورها فيها.
و ليس لأحد أن يقول: إنّا إذا تصورنا السواد و البياض و الحرارة و البرودة فلا ينطبع السواد و البياض و الحرارة و البرودة في النفس بل تنطبع فيها صور هذه الأمور و مثلها فقط فلهذا لا يلزم أن تكون النفس حارة باردة عند انطباع هذه الأمور فيها.
لأنّا نقول: هذه الأمور التي سميتموها صور السواد و البياض و مثلها هل لها حقيقة السواد و البياض أم لا؟ فإن كانت لها حقيقة السواد و البياض فمثال السواد و البياض و صورتهما أيضا سواد و بياض فقد انطبع في النفس سواد و بياض و حرارة و برودة و استدارة و استقامة فيجب أن تكون النفس سوداء بيضاء حارة بارة مستديرة مستقيمة فتكون حينئذ جسما؛ و إن لم تكن لصور السواد و البياض و الاستدارة و الاستقامة و مثلها حقيقة السواد و البياض و الاستقامة و الاستدارة لم يكن إدراك الأشياء عبارة عن انطباع ماهية المدرك في المدرك. فهذا الشك لا بدّ و أن يحتال في حلّه إن فسر الإدراك بالانطباع، أو اعتبر فيه الانطباع كيف كان و لولاه لكانت هاتان الحجتان قويتين جدّا. انتهى.
أقول: «قوله الشك المذكور متوجّه هاهنا أيضا» يريد بذلك الشك ما تقدّم في تقرير الدليل الذي عوّل عليه أفلاطون في تجرّد النفس الناطقة، و هو الدليل العاشر من المباحث، و الحجة الثانية من الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا مثاليا، و الحجة الاولى في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 38
كتابنا هذا على هذا التجرّد، كما أنّهما المراد من قوله: «و لو لاه لكان هاتان الحجتان قويتين جدّا». و قد تقدّم ما يجب أن يقرر. و أنت بعد معرفة ما تقدّم هان عليك جواب الشّك المذكور.
تبصرة: أصل هذه الحجة في الحقيقة هي الحجة الثالثة التي أتى بها الشيخ الأجل ابن سينا في الحجج العشر على تجرّد النفس تجرّدا عقليا لأنّ ما فرض من المتضادين فيهما هما الصورتان المعقولتان، فسياق الحجة فيهما واحد فإذا أخذ فيها المتقابلات على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال، و إذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرّد العقلى. قال الشيخ:
لو كانت الصورة المعقولة تحتلّ جسما من الأجسام و تلابسه لامتنع إدراك المتضادّين بادراك واحد معا لأن صورتى الضدين هكذا. و بالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا و لكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا فانه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحلّ معه صورة المقابل الثاني إذ علم المتقابلات يكون معا فتبيّن أن هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى و ذلك ما أردنا أن نبيّن (ص 8، ط حيدرآباد الدكن).
أقول: لفظة «هكذا» في العبارة المنقولة إمّا زيدت في النسخة المطبوعة، و كان الأصل غير مقروّة بإصابة خرم أو ماء أو آفة أخرى فأضاف المصحّح تلك اللفظة و ترك في تجاهها قريبا من نصف سطر بياض؛ و لعلّ عبارة الأصل كانت هكذا: لأنّ صورتى الضدّين المعقولين لا تحلّان جسما معا و بالجملة المتقابلات إلخ؛ أو أنّ العبارة لو تركت بصورتها لكانت تماما و لا حاجة إلى ذلك التقدير فكانت العبارة هكذا: «لأنّ صورتى الضدين و بالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا» و لا دغدغة فيها؛ أو أنّ لفظة «هكذا» من عبارة الشيخ بلا توهم سقط، فحينئذ كان معناها: لأنّ صورتى الضدّين هكذا أي امتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا ثمّ عمّم الحكم بأنّ ذلك الامتناع لا يختص بالضدين، فقال: «و بالجملة المتقابلات سواء كانت ضدين أو غيرهما لا تحل في جسم معا». و الأخير هو الصواب.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 39
بيان الحجة: أنّ الأضداد بل المتقابلات لا تحلّ جسما و لا تلابسه معا؛ و إن يحلّ متقابل في طرف من جسم و متقابل آخر في طرف آخر منه صدق أيضا أنّ المتقابلين لم يحلّا جسما واحدا أي محلّا واحدا فان محلّ هذا مخالف لمحلّ هذا، و أما جوهر النفس الناطقة فاذا أدرك أي علم و تعقل الصورتين المعقولتين المتقابلتين أدركهما معا فهو جوهر غير جسمانى. فعلى هذا السياق نقول في تقرير الحجة: لو كانت الصورة المعقولة تحلّ جسما و تلابسه أي لو كانت النفس جسما لامتنع إدراك المتضادين معا بإدراك واحد لأنّ صورتى المعقولتين المتقابلتين، و بالجملة المتقابلات مطلقا لا تحل في جسم معا، و لكن حلولها في جسم يصحّ من حيث إنّه يقبل الانقسام و كل قسم مخالف لقسم آخر، فيصح أن يكون كل قسم من أقسامه محلّ صورة متقابلة لصورة أخرى؛ و أمّا جوهر النفس فإنّه مهما حلّ فيه صورة إحدى المعقولتين المتقابلتين وجب ضرورة أن تحلّ معها صورة الأخرى لأنّ جوهر النفس يقضى بأنّهما متقابلتين و القضاء فرع على حضور المقضى عليهما معا، أي حكمه ذلك متفرع على علمه بالمتقابلات معا فتبين أنّ هذا الجوهر الحاكم القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى.
الحجة المذكورة نقلها أبو البركات في الفصل الثالث عشر من الجزء السادس من المعتبر قال:
احتجّوا بأنّ النفس جوهر غير جسماني .... و بأنّ النفس الناطقة التي هي محلّ المعقولات لو كانت قوة جسمانية لحلّت معقولاتها الجسم الذي هو محلّها فامتنع عليها إدراك المتضادين و جمعهما في التصوّر معا، و نفس الإنسان تعقل المتضادين معا و تقيس أحدهما إلى الآخر و تحكم عليهما و فيهما بما يلزمهما معا من الإضافة و الضدية و المناسبة و المباينة التي لا تلزم أحدهما دون الآخر لكن بالآخر و معه و عنه فليست من القوى الجسمانية. (ج 2، ص 357، ط حيدرآباد الدكن).
ثمّ اعترض عليها في الفصل التالى في تأمل حجج التجرّد و تتبّعها بقوله:
و أما القائلة بأنّ النفس العاقلة لو كانت قوّة جسمانية لحلّت معقولاتها الجسم الذي
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 40
هو محلّها فامتنع عليها إدراك المتقابلات و الأضداد معا، فلا بأس بها فإنّ الأجسام و ما يحلّها من الأضداد و المتقابلات لا يجتمع في الموضوع الواحد منها الضدّان معا و النفس تجمع صورتيهما فتحكم فيهما و عليهما و تقيس إحداهما إلى الأخرى فما حلّت عندها في اجتماعها معا جسما. فإن اعترض فيها معترض فقال: إنّ الخاصية في ذلك أنّما هي في الصور الحالة لا في المحلّ فإنّ هذه الصور غير تلك بالنوع و الماهية بل هي غيرها و تلك موجودة طبيعية في موضوعها و على طباعها، و هذه موجودة في محلّها لا على طباع تلك و خواصّ أفعالها فإنّ تلك تحرق نارها و يجمد ثلجها و هذه لا تحرق و لا تجمد فكما ارتفع عنها خواص الأفعال ارتفع عنها لوازم التضاد كان هذا الاعتراض مؤثرا فيها إلى ما يعضدها غيرها فتكون الحجة تلك لا هذه. (ج 2، ص 360).
ثمّ اعتمد عليها و صوّبها في الفصل التالى بقوله:
و الحجة القائلة بإدراك الضدّين معا نعم الحجة لكنّها لا تبرئ تلك القوى الأخرى التي ذكروها، بل حكمها في ذلك لو كانت حكم النفس فيما ذكرنا فمتصور الضدين و حافظهما و ذاكرهما ليس من عالم الطبيعة فما هو جسم و لا عرض في الجسم حتى يتميز لهم نفس هي جوهر غير جسمانى مع القوى الجسمانية الأخرى. (ج 2، ص 367).
أقول: الاعتراض المذكور في المعتبر هو نحو ما في حكمة العين للكاتبى و سترى بعض الإشارات منّا في ذلك و تذعن أنّ الحجة قوية جدّا، و هي دالّة على تجرّد النفس بأنحائه الثلاثة من التجرّد الخيالى و العقلي و فوق التجرّد العقلي. ثمّ إنّ الحجة المذكورة هو الوجه الرابع من وجوه تجرّد النفس الناطقة في حكمة العين، قال الكاتبي:
«الرابع أنّ القوّة العاقلة تدرك السواد و البياض معا فتكون مجرّدة و الإلزام اجتماع الضدين في جسم واحد» انتهى (ص 143، ط 1).
أقول: يعنى بالجسم الواحد النفس الناطقة التي هي محل السواد و البياض معا، أي لو كان النفس جسما للزم اجتماع الضدين في ذلك الجسم الواحد. قال العلامة الحلّي
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 41
في الشرح (إيضاح المقاصد):
أقول هذا برهان آخر يدلّ على تجرّد النفس. و تقريره أنّ القوّة العقلية تدرك الضدّين معا كالسواد و البياض، فلو كانت جسمانية لزم اجتماع الضدّين في جسم واحد، و قد بيّنا أنّ التعقل يستدعى الحصول في العاقل، و اجتماع الضدّين في جسم واحد محال، و إلا لم يكونا ضدّين فوجب القول بتجرّد العاقل و هو النفس. انتهى.
ثمّ اعترض الكاتبى على الدليل بقوله:
و أمّا الرابع؛ فلا نسلّم لزوم اجتماع الضدين في جسم واحد، و إنّما يلزم ذلك أن لو كانت صورة السواد و مثاله مضادا لصورة البياض و مثاله، و هو ممنوع؛ بل المضادة بين السواد و البياض بعينهما لا بين مثاليهما؛ سلّمناه لكن لا نسلّم استحالة اجتماعهما في جسم واحد فإنّه يجوز أن يجتمع الضدّان في جسم واحد، بل المستحيل اجتماعهما في محل واحد لا في جسم واحد فإنّه يجوز أن يجتمع الضدّان في جسم واحد بأن يكون أحدهما حاصلا في بعض أجزاء الجسم و الآخر حاصلا في البعض الآخر و حينئذ يكون محل أحدهما غير محل الآخر.
و قال الشارح العلامة: تقرير الاعتراض على الوجه الرابع أن نقول:
الصورة المعقولة من السواد و البياض الحاصلة في الذهن أنّما هي مثال السواد و البياض و شبحهما لا نفسهما و إذا كان كذلك فيمتنع التضادّ بينهما، و إن كان التضادّ واقعا في المنسوبين إليهما، و إذا كان كذلك جاز اجتماعهما في القوّة الجسمانية العاقلة؛ سلّمنا وقوع التضادّ بين الصورتين لكن نمنع اجتماعهما في محل واحد لو كانت القوّة العقلية جسمانية و إنّما يلزم ذلك لو حلّا محلا واحدا و لا يلزم من اجتماعهما في جسم واحد اجتماعهما في محل واحد فإنّ الجسم منقسم فجاز أن تحصل صورة السواد في جزء منه و صورة البياض في جزء آخر. انتهى.
و أقول: قد تحقق في الحكمة المتعالية أنّ الضدّين الخارجيين و الذهنيين و إن كانا بحسب نحوى الوجود متفاوتين و لكن ماهيّتيهما محفوظتين فيهما ايفاء لحق العلم فإنّه الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل، ثمّ إذا انحلّت صورتا المتضادّين في محلين من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 42
جسم واحد فكأنّهما حلّتا في الجسمين فإنّ ملاك امتناع الاجتماع هو اجتماعهما في محل واحد جسمانى، و النفس إذا استحضرت الصورتين بالانتزاع أو الانشاء و الانتشاء لتقضى عليهما بالتضادّ و نحوه فهما حاضرتان معا عندها بلا تفرقة و بينونة، و المنازع مكابر مقتضى عقله.
تبصرة: المحقق الطوسى في تجريد الاعتقاد ذكر سبعة أوجه في تجرّد النفس، و سابعها قوله «و هي جوهر مجرّد ... لحصول الضدّ» (ط 7، ص 281 بتصحيح الراقم و تعليقاته عليه) فما يخطر لنا في معنى قوله هذا هو أنّ المراد من حصول الضدّ هو اجتماع الضدّين على هذا الوجه الذي كلامنا فيه في هذه الحجة؛ و أما الشارح العلّامة فحمل قوله هذا على وجه آخر حيث قال.
و تقريره أنّ القوة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها و كثرتها تضعف و تكلّ لأنّها تنفعل عنها، و لهذا فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا و القوى النفسانيّة بالضدّ من ذلك، فإنّ عند تكثر التعقّلات تقوى و تزداد، فالحاصل عند تكثر التعقلات تقوى و تزداد، فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانية عند كثرة الأفعال، فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمة اللّه:
و لحصول الضدّ.
تبصرة أخرى: قد أشرنا آنفا إلى أنّ هذه الحجة التي نبحث عنها دالّة على تجرّد النفس بأنحائه الثلاثة، أمّا على نحوى تجرّد الخيال و العاقلة فقد أفاد المتأله السبزوارى في منظومته المسماة ب- غرر الفوائد في فنّ الحكمة و قد جعل الحجة الدليل التاسع منها، بقوله:
و التاسع قولنا: لها أي للنفس حاصل بلا تزاحم و تمانع كل الصور. بيانه: أنّ النفس مجمع كلّ صور الموجودات و مزدحم المتقابلات ففي مقام العاقلة مجمع الصور الكليّة و المجرّدات، و في مقام الخيال معترك صور السماوات و الأرضين و الجبال و البلدان و الأشخاص و بالجملة صور جميع المحسوسات و مثل المتقدّرات، كل ذلك بهيئاتها و مقاديرها بلا تدافع بين متقابلاتها؛ بل مورد للصور الغير الإدراكية من الميول
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 43
المتضادة و الأهواء المتخالفة، و لا شيء من الجسم و الجسمانى كذلك؛ و هذا الدليل يثبت تجرّد الخيال أيضا فضلا عن العاقلة. انتهى.
و أمّا دلالتها على تجرّد النفس فوق تجرّدها العقلى فلأنّ تلك الصور سواء كانت بإنشاء النفس إيّاها، أو بانتزاعها إيّاها لا تكون لها نفاد، قال عزّ من قائل: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية (الكهف، 110). و قال: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية (لقمان، 28). و لا تأبى تلك الكلمات النورية الوجودية على أن تكون صورها حاضرة لدى النفس قائمة بها، و لا النفس آبية على استحضارها، فهذا هو مقامها اللّايقفى الذي يعبّر عنه بتجرّدها فوق العقلانى. و ستأتى زيادة البحث عن ذلك في ذكر الأدلّة على فوق تجرّدها.
ثمّ أنّ المتأله السبزوارى جعل هذه الحجة البرهان السابع من كتابه أسرار الحكم، و حرّره أتم و أوسع ممّا في غرر الفرائد حتى يشمل التجرّدات الثلاثة المذكورة حيث قال في أثناء التحرير «بل كلّما زاد النفس علما زادت سعة» و هذا الكلام الكامل ناظر إلى ما أفاضه الوصيّ أمير المؤمنين على عليه السّلام من قوله المسطور في النهج: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنّه يتّسع به» فإنّ ما أفاضه المرتضى يدلّ على تجرّد النفس فوق تجرّدها العقلى كما سيأتي التحقيق في ذلك على التفصيل.
و هذه الحجة نقلها بهمنيار في الفصل الثانى عشر من كتاب النفس من التحصيل فقال:
و مما يبيّن بسرعة أنّ للنفس قوّة مفارقة و هي المسماة بالعقلية: أنها تدرك أشياء يمتنع وجودها في الجسم كالضدّين معا، و كالنور و الظلمة معا، و كالعدم و الملكة معا؛ و أشياء كثيرة من هذا الجنس. و لوجود مثل هذه الأمور في النفس على الوجه المذكور يمكننا أن نحكم بأنّه لا وجود لشيء من هذه الأشياء في الأجسام. و بالجملة فالمعقول هو الموجود المجرّد عمّا سواه، و نحن نعقله على هذا الوجه و نحكم بأنّ كذا مجرّد عن المادة فيجب أن يكون هذا الموجود إمّا في الأعيان و إمّا في العقل، و لا يكفى وجوده في الأعيان عند إدراكه فيجب أن يكون له وجود مجرّد عن المادة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 44
في النفس، فلو وجد في قوّة جسمانيّة لم يكن وجوده وجودا عقليا أو معقوليّا بل متخيلا، و معلوم أنّ الوحدة المطلقة لا يمكن أن تدرك بجسم و إلّا لكانت أجزاء.
فإن قيل إنّ الوحدة قد تعرض أو تحمل على الجسم؛ كان الجواب أنّ الوحدة المقدارية لها أقسام بالقوّة، و أمّا الوحدة المطلقة المشروطة فيها أنّه لا قسم لها لا بالقوّة و لا بالفعل فإنّها مجرّدة. بل نقول: إنّ كل معنى فهو واحد ليس فيه من حيث وحدته شيء غير شيء، و نحن ندرك تلك المعانى على هذه الصفة، فلو كانت تدركها بقوّة جسمانية لكان يعرض أن يكون فيها شيء غير شيء فما كنا ندركها. و أيضا فانا ندرك أشياء غير مشار إليها و نحكم بأنّها غير مشار إليها، فلو أدركت بقوّة جسمانية لكانت مشارا إليها. (ص 810، ط ايران).
و هذه الحجة هو الوجه الرابع من وجوه تجريد النفس في المواقف للقاضى عضد عبد الرحمن بن أحمد الإيجى، و قد أتى فيه بخمسة وجوه من وجوه التجريد فقط.
عبارة المواقف مع شرح السيد الشريف على بن محمد الجرجانى عليه مزجا هكذا:
الرابع منها أنّها تعقل الضدّين إذ تحكم بينهما بالتضادّ، فلو كان مدركهما جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد و البياض مثلا في جسم واحد و أنّه محال بديهة.
و الجواب أنّ صورتى الضدّين لا تضادّ بينهما لأنّهما تخالفان الحقيقة الخارجية، فليس يلزم من ثبوت التضادّ بين الحقيقتين ثبوته بين الصورتين و لو لا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرّد أيضا لأنّ الضدّين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجرّدا.
و إن سلّمنا تضادّ صورتى الضدّين فلم لا يجوز أن يقوم كل منهما بجزء من الجسم الذي يعقلهما معا غير الجزء الذي قام به الآخر، فلا يلزم اجتماع المتضادّين في محل واحد. (ص 458، ط القسطنطنية).
و أنت بما قدّمنا حول هذه الحجة و غيرها تعلم أنّ كلّ واحد من قوله: انّ صورتى الضدّين لا تضادّ بينهما، و انّ الضدّين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجرّدا، و لا سيما إنّ قوله فلم لا يجوز أن يقوم- إلى آخره- بمعزل عن التحقيق فلا فائدة في إعادة لا عائدة فيها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 45
د) الحجة الرابعة على تجرّد الخيال:
كل جسم و جسمانى يصحّ اجتماع المتضادّين فيه من جهة قبوله للانقسام فيقوم ببعضه سواد و ببعضه بياض كالجسم الأبلق، أو ببعضه حرارة و ببعضه برودة كالانسان إذا تسخّن بعض يده بالنار و تبرّد بعض آخر بالماء، و كجسم بعضه محاذ لشيء و بعضه ليس بمحاذ له، فقد اجتمع في جسم واحد أمران متضادّان و متناقضان لكون وحدة الموضوع في الجسمانيات ممّا يجامع الكثرة بوجه، و ليس كذلك حال النفس فإنّها لا يمكن أن يكون عالما بشيء خيالي جزئي و جاهلا بذلك الشيء أيضا كعلمنا بكتابة زيد و جهلنا به، و كذلك الشهوة لشيء و الغضب عليه، و المحبة و العداوة فإنّ الإنسان الواحد لا يمكن أن يشتهى شيئا و يغضب عليه، أو يشتاق إلى شيء و يتنفّر عنه، فعلم أنّ القوّة الإدراكية و الشوقية غير جسمانية و ليست أيضا عقليّة فهي مجرّدة عن عالم الأجرام غير بالغة إلى عالم المعقولات. و أمّا تجويز كونها أمرا جسمانيا غير منقسم كالنقطة فقد مرّ بطلانها فإنّ النقطة نهاية و نهاية الشيء لا يمكن أن يكون محلّا لأمر آخر غير حال في محلّ تلك النهاية.
أقول: نظير هذه الحجة هو الدليل الثانى عشر كتاب المباحث المشرقية للفخر الرازى في تجرّد النفس تجرّدا تامّا عقليا فإنّه قال:
الدليل الثانى عشر لو كان محلّ الإدراك قوّة جسمانية لصحّ أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم و بالبعض الآخر جهل فيكون الشخص الواحد عالما و جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة. (ج 2، ط حيدرآباد، ص 376).
و صدر المتألهين في الفصل المذكور من الأسفار أتى بقيود نحو قوله: «عالما بشيء
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 46
خيالى جزئى و جاهلا بذلك الشيء أيضا إلخ»، فخصّصها بالتجرّد الخيالى. (ج 1، ط 1، ص 318 و 319). و عبارته في الأسفار هي ما نقلناها أوّلا و هي متضمّنة لبعض عبارات المباحث في أثناء اعتراضات حول الدليل المذكور في التجرّد التام العقلى فتبصّر.
و هذه الحجة في تجرّد الخيال قد حرّرناها تحرير إيضاح و بيان في الدرس الحادى و السبعين من كتابنا الفارسى: دروس معرفت نفس (ص 209، ط 1).
و الفرق بين هذه الحجة و الحجة الثالثة أن ملاك النظر هناك هو عدم صحة اجتماع الضدين في محل واحد جسمانى، و صحّته عند النفس؛ و ملاك النظر هاهنا هو صحّة اقتران المتقابلين بل المتضادّين في جسم واحد و عدم صحّته عند النفس فالاجتماع هاهنا في عبارة الحجة بمعنى الاقتران فافهم.
قال صدر المتألهين في الفصل المذكور من عاشرة العلم الكلّى من الأسفار بعد الإتيان بالحجج الأربع المذكورة في أنّ المدرك للصور المتخيلة أيضا لا بدّ أن يكون مجرّدا عن هذا العالم، ما هذا لفظه:
فهذه حجج قوية بل براهين قطعية على هذا المطلب، و لهذا استبصارات أخرى أخّرنا ذكرها إلى مباحث علم النفس و علم المعاد. و هذا الأصل عزيز جدّا كثير النفع في معرفة النشأة الثانية كما ستقف عليه انشاء اللّه؛ و به تنحلّ إشكالات كثيرة: ما لأجله ذهب بعض الحكماء كالاسكندر إلى أنّ النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل هالكة غير باقية. و استصعب الشيخ هذا الإشكال و تحيّر في دفعه في بعض رسائله كرسالة الحجج العشر. و لو لم تكن للنفس غير القوّة العقلية قوّة أخرى غير جسمانية خارجة في بابها عن القوّة إلى الفعل لكان القول بدثور العقول الهيولانية بعد دثور أبدانها حقا لا شبهة فيه عندنا و ذلك لأنّ ما بالقوّة من حيث كونه بالفعل لا يمكن وجوده إلّا بأحد أمرين إمّا بخروجه من القوّة إلى الفعل بحصول ما هو قوّة عليه، و إمّا ببقائه كما كان بتبعية ما هو قوّة منه.
و بالجملة لا بدّ من إحدى الصورتين الفعليتين إمّا السابقة أو اللّاحقة فإذا زالت الصورة الأولى و لم تحصل الآخرة فلا جرم تبطل تلك القوّة رأسا فإذا لو لم تكن في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 47
الإنسان إلّا صورة طبيعيّة تقوم بها قوّة عقلية هيولانية فإذا فسد البدن تفسد تلك القوّة بفساده فلم يبق من الإنسان شيء يعتدّ به مع أنّ الشرائع الآلهية ناصّة على النفوس الإنسانية سعيدة كانت أو شقية كاملة أو ناقصة عالمة أو جاهلة. (ج 1، ط 1، ص 319).
أقول: قد أشار صدر المتألّهين في كلامه المذكور إلى أمرين ينبغى للباحث المحقّق حثّ النظر إليهما: أحدهما مطويّ في قوله: «فهذه حجج قوية» حيث وصفها بالقوّة، و ثانيهما قوله: «و به تنحلّ إشكالات كثيرة إلخ».
أمّا الأوّل فناظر إلى قول الفخر في المباحث فإنّه بعد ما نقل اثني عشر دليلا في تجرّد النفس منها بعض الحجج المذكورة كما أشرنا إليه قال:
فهذه جملة ما وجدناه من الأدلّة على إثبات تجرّد النفس و لم يقنعنا شيء منها للشكوك المذكورة فمن قدر على حلّها أمكنه أن يحتجّ بها انتهى.
و حيث إنّ تلك الشكوك عند صاحب الأسفار موهونة مدفوعة و أجاب عن بعضها بما دريت، قال: «هذه حجج قوّية».
و أمّا الأمر الثانى فهو ناظر إلى أصلين أصيلين أحدهما حشر النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل؛ و ثانيهما أنّ الحشر بالمعادين أي الجسمانى و الروحانى معا.
و قد نطق ببعض الإشارات إلى حشر تلك النفوس العين الثانية و العشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون، و بالكلام في المعادين العين التاسعة و الخمسون منه.
تبصرة: أدلة تجرّد الخيال تثبت حشر النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل، و هذا كلام كامل رصين معاضدة بالنصوص الواردة على حشر النفوس مطلقا. و نحن نزيد و نقول انّ لها مع ذلك تكاملا برزخيا أيضا و التكامل البرزخى ينبّه عليه في العين الخامسة و الخمسين من كتابنا عيون مسائل النفس و شرحها سرح العيون في شرح العيون، ثمّ إنّ النكتة 337 من كتابنا ألف نكتة و نكتة حائزة لمطالب أصيلة في ذلك.
تبصرة أخرى: هاهنا أدلة أخرى تثبت تجرّد النفس عقليا و خياليا معا. منها البراهين الثلاثة: السادسة و السابعة و الثامنة من نفس الشفاء كما يأتى بيانها عن قريب.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 49
الباب الثالث: من الحجج البالغة على تجرّد القوّة العاقلة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 51
الف) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا:
أنّ الرّوح التي لك من جواهر عالم الأمر لا تتشكل بصورة و لا تتخلّق بخلقة و لا تتعين لإشارة و لا تتردّد بين سكون و حركة فلذلك تدرك المعدوم الذي فات و المنتظر الذي هو آت؛ و تسبح في الملكوت و تنفّس من عالم الجبروت.
أقول: ما نقلناه هو من كلام الفارابى في الفصوص. و هو يحتوى الدليلين على تجرّد النفس تجرّدا تامّا عقلانيا. أحدهما عدم تشكلها بصورة، و عدم تخلّقها بخلقة، و عدم تعيّنها لإشارة، و عدم تردّدها بسكون و حركة و الجوهر الكذائى ليس من الطبائع المادية المتصرّمة المقيّدة بالأحياز و سائر الأحكام الجسمانية. ثمّ قال فلعدم كونه كذلك يدرك المعدوم الذي فات و المنتظر الذي هو آت في وقت واحد و حالة فاردة و الموجود الذي يجمع الماضى المعدوم و الآتى المنتظر فهو فوق عالم الأجسام و محيط عليها حيث يدرك في أفقه الأعلى السابق و اللاحق كليهما. و كفى بذلك شاهدا القرآن الكريم حيث يخبرك الكشف المحمّدى صلّى اللّه عليه و آله ما مضى و ما يأتى كأنّهما نصب عينك.
و ثانى الدليلين هو قوله: «و تسبح في الملكوت ثمّ تتنفّس من عالم الجبروت».
و سباحة الروح التي للإنسان في الملكوت و تنفّسها من عالم الجبروت أمر وراء عدم تشكّلها بصورة و سائر أعدامها الراجعة إلى إطلاق جوهرها و بساطة ذاتها و إرسال حقيقتها.
و قريب من الدليل الثانى هو ما قاله الشيخ الإشراقى في الهيكل الثانى من هياكل النور: كيف تتوهّم هذه الماهية القدسية جسما و إذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 52
عالم الأجساد و تسترط عالم ما لا يتناهى.
و بالجملة أنّ بدن الإنسان مجاور للأرض و محشور مع الطبيعة، و الإنسان في هذه الحال يدرك ما فات و ما هو آت في الأعصار الخالية و القرون الآتية، و يسبح في بحار الملكوت ثمّ يتنفس من ما ورائها عالم الجبروت فما هو وقع على الأرض غير ما هو أدرك و سبح و تتنفّس ثمّ المدرك و السابح الكذائى مجرّد عن المادة الطبيعية الجسمية و أحكامها. و شرحنا على فصوص الفارابى المسمّى به نصوص الحكم على فصوص الحكم في المقام لا يخلو عن بعض فوائد فإن شئت فراجعه (ص 179- 182، ط 1).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 53
ب) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا:
أنك لا تغفل عن ذاتك أبدا و ما من جزء من أجراء بدنك إلّا و تنساه أحيانا، و لا يدرك الكلّ إلّا بأجزائه، فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن أو أجزائه.
أقول: نقلنا هذه الحجة من هياكل النور للسهروردي من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى عليه. و في مطبوعة مصر كانت العبارة هكذا: أنت لا تغفل عن ذاتك و ما من جزء ..، فلو كنت أنت هذه الجملة أو جزءا من أجزائها ما كان ... فأنت وراء هذه الجملة.
و لكن قوله: «أو جزءا من أجزائها»، من عبارة الدوانى في الشرح. و بالجملة هي تدلّ بظاهرها على مغايرة جوهر النفس للبدن، و بعد الغور فيها يستفاد منها تجرّدها أيضا لأنّه بعد ما ثبت أنّ النفس الناطقة من مقولة الجوهر- كما حرّر تحقيقه في شرح العين السادسة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون.- و قد تحقق فيه أيضا أنّ كل جوهر شاعر بذاته فهو مجرّد عن المادة و أحكامها سواء كان مجرّدا تامّا عقليا كامل الجوهر بفضيلته الذاتية و هي الأمور الدائمة المتشابهة الأحوال أعنى بها المجردات المحضة التي هي المفارقات الكليّة، أو كان نفسا عاقلة مستكملة ببدنها كالنفوس الإنسانية التي هي مبدأ الإرادة الكلية و الجزئية و تتصور بالكليّات، أو كان نفسا حيوانية لها تجرّد خيالى برزخى و كلها جوهر مجرّد قائم بذاته و شاعر بذاته.
تبصرة: قد تحقّق عند المشّاء أنّ كل عاقل فهو معقول؛ و أنّ كل معقول قائم بذاته فهو عاقل، و قد برهن في الفصل التاسع عشر من النمط الثالث من إشارات الشيخ و شرح
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 54
المحقق الطوسى عليه. و قد تحقق في الحكمة المتعالية أنّ كل عاقل فهو معقول و أنّ كل معقول فهو عاقل على التفصيل المستوفى بيانه في كتابنا الفارسى دروس اتحاد عاقل به معقول.
ثمّ انّ النفوس الحيوانية مجرّدة دون التجرّد العقلى على التفصيل الذي تبيّن في العين الاحدى و العشرين من كتابنا المذكور سرح العيون في شرح العيون، فهي جواهر مجرّدة غير تامة التجريد، و لذا قلنا: كل جوهر شاعر بذاته فهو مجرّد ليعمّ الحكم الأقسام كلّها؛ و لو قلنا مكانه: انّ كل جوهر عاقل بذاته فهو مجرّد لم يشمل النفوس الحيوانية.
و حاصل هذا الاستدلال قياس من الشكل الثانى، مؤدّاه أنّ ذاتك معلومة لك دائما، و بدنك أو كل جزء منه غير معلوم لك دائما، و غير المعلوم دائما غير المعلومة دائما فذاتك غير بدنك و غير أيّ جزء من أجزائه فتدبّر.
ثمّ انّ ظاهر الاستدلال يفيد مغايرة النفس للبدن و أما كونها مجرّدة فيتمّ بكونها جوهرا غير غافل عن ذاته و الجوهر الشاعر بذاته مجرّد إما تجرّدا غير تام، أو تجرّدا تامّا عقليا، أو تجرّدا أتم من ذلك.
ثمّ يجب التعمّق في ما هو مأخوذ في هذا الدليل من أنّ النفس تغفل عن أجزاء بدنه أحيانا، و في ما قاله ابن الفنارى في جواب السؤال الخامس من خاتمة مصباح الأنس من أنّ الباطن غير غافل عن الظاهر حتى النائم في نومه و السكران في سكره و لذا يتنبّه بأدنى ما يصيبه لكنّ الظاهر قد يغفل عن الباطن مع حضوره بالاشتغال بغيره (ص 304، ط 1).
و هذا الدليل من هياكل النور بالعربية مترجم في الهياكل النور بالفارسية: بدان كه تو غافل نباشى از خود هرگز ... (مجموعة مصنفات الشيخ الإشراقى، ج 3، ص 85، ط ايران).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 55
ج) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا:
أنّ بدنك أبدا في التحلّل و السيلان، و إذا أتت الغاذية بما تأتى و إن لم يتحلّل من بدنك العتيق عند ورود الجديد لعظم بدنك جدّا، و لو كنت أنت هذا البدن أو جزءا منه لتبدّلت أنانيتك كلّ حين و لما دام الجوهر المدرك منك فأنت أنت لا ببدنك كيف و يتحلّل و ليس عندك منه خبر فأنت وراء هذه الأشياء.
أقول: هذا الدليل نقلناه من هياكل النور للسّهروردى من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى عليها. و العبارة نقلت في طبعة مصر هكذا:
بدنك أبدا في التحلل و السيلان و لو أتت الغاذية بما تأتى به و لم يتحلّل من العتيق قبل ورود الجديد شيء لعظم بدنك جدّا، و لمّا كان الجوهر المدرك منك ثابتا على حال واحد فأنت أنت لا ببدنك و كيف تكون أنت إيّاه و هو في التحلّل و ليس عندك منه خبر فأنت وراء هذه الأشياء (ص 11).
ثمّ إنّ ما هو مستفاد من ظاهر هذا الدليل هو أنّ الإنسان وراء هذا البدن أي يفيد مغايرة النفس للبدن و أمّا انّ ذلك الأمر حقيقة مجرّدة عن المادة و أحكامها فيحتاج إلى ضميمة أمور أخرى و تضمينها في الدليل.
و الزيادات في المطبوع المذكور توجد في عبارات شرح الدوانى عليه. و خلاصة الدليل: أنّ البدن يتبدّل دائما و النفس باقية مستمرّة فهي غيره.
و هذا الدليل مترجم بالفارسية في هياكل النور: «بدان كه تن تو پيوسته در نقصانست إلخ (مجموعة مصنّفات الشيخ الإشراقى ج 3، ص 85، ط ايران).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 56
د) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا
أنّ الحواس لا تدرك إلّا المفردات أعنى أنّ مدركاتها مفردات، و ليس فيها حكم و الحكم معتبر فيه الإسناد و يتطرق فيه الصدق و الكذب و فينا حاكم يصدّق بعض مدركات الحواس، و يردّ بعضها الآخر و هو العقل؛ فلو كان جميع قوى الإنسان مادّية لكان عاريا عن ذلك الحاكم العاقل و التالي باطل فالمقدّم مثله.
و لست أعني بقولي هذا أنّ الحكم مركّب و ذلك لأنّ الحكم فعل من أفعال النفس و إنشائها و هو بسيط، و لكنّ ذلك الحكم البسيط لا يصدر عن القوى الحسّية فافهم.
و هذا الدليل قويم جدّا، و واجب تسرّيه في جميع الأحكام المتفرعة على المفردات المدركة فإنّها من حيث هي أحكام من المعاني الكلية لن تنالها أيدى الحواس قط، فالمدرك الذي يستنبط منها أو من غيرها أحكاما و يحملها عليها غيرها بالضرورة و ذلك الغير هو المدرك للكلّيات أي العقل فتبصّر.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 57
ه) و من الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا
أنّ الإنسان يسمع الصوت و يميّز بين القريب و البعيد منه و هما من المعانى فالسمع بمعزل عن إدراكها. و صاحب الأسفار في الفصل الثانى من الباب الرابع من الجواهر و الأعراض منه بعد إثبات وجود الصوت في الخارج، أفاد بقوله الشريف:
أنّ المدرك و المحسوس لا بدّ و أن يكونا أمرا موجودا عند المدرك حالة إدراكه و الموجود عند الجوهر الحاس لا بدّ و أن يكون ملاصقا له، و هيئة الصوت و شكل التموّج و إن كانا موجودين عند السامعة لكن صفتى القرب و البعد غير موجودتين عندها. و التحقيق أن يقال إن تعلق النفس بالبدن يوجب تعلقها بما اتصل به كالهواء المجاور بحيث كأنهما شيء واحد تعلقت به النفس تعلّقا و لو بالعرض، فكلما حدث فيه شيء مما يمكن للنفس إدراكه بشيء من الحواس من الهيئات و المقادير و الأبعاد بينها و الجهة التي لها و غيرها فأدركت النفس له كما هو عليه. انتهى كلام صدر المتألهين في المقام (ج 2، ص 32، ط 1).
أقول: قوله «و التحقيق أن يقال إلخ»، هذا التحقيق الأنيق هو أحد البراهين على أنّ النفس الناطقة تصير بتكاملها الجوهرى عارية عن المواد و مجرّدة عن الأحياز و سائر أوصاف المادة و هذا التحقيق كلام سام سامك يعقله من كان له قلب.
فالنفس الناطقة لمّا كانت غير منطبعة في البدن فبحكم تجرّدها النورى المبسوط تتعلق بما ورائه فيدرك القرب و البعد في الأصوات من هذه الحيثية. و يمكن إدراج هذا الدليل في الرابع من هذا الباب، كما لا يخفى على المستبصر.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 58
و) و من الأدلّة على تجرّد النفس النّاطقة تجرّدا تامّا عقليّا
كما في رسائل الكندى الفلسفية (ص 273، ط مصر):
أنّ النفس بسيطة ذات شرف و كمال، عظيمة الشأن، جوهرها من جوهر البارى عزّ و جلّ، كقياس ضياء الشمس من الشمس.
و قد بيّن أنّ هذه النفس منفردة عن هذا الجسم مباينة له، و أنّ جوهرها جوهر الهى روحانى، بما يرى من شرف طباعها و مضادّتها لما يعرض للبدن من الشهوات و الغضب.
و ذلك أنّ القوّة الغضبيّة قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم فتضادّها هذه النفس و تمنع الغضب من أن يفعل فعله أو أن يرتكب الغيظ و ترته و تضبطه، كما يضبط الفارس الفرس إذا همّ أن يجمح به أو يمدّه.
و هذا دليل بيّن على أنّ القوّة التي يغضب بها الإنسان غير هذه النفس التي تمنع الغضب أن يجرى إلى ما يهواه، لأنّ المانع لا محالة غير الممنوع لأنّه لا يكون شيء واحد يضادّ نفسه.
فأمّا القوّة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات، ففكّر النفس العقلية في ذلك أنّه أخطأ، و أنّه يؤدّي إلى حال رديّة فتمنعها عن ذلك و تضادّها. و هذا أيضا دليل على أنّ كلّ واحدة منهما غير الأخرى.
و هذه النفس التي هي من نور البارى عزّ و جل إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم، و لم يخف عنها خافية و الدليل على ذلك قول أفلاطن حيث يقول: إنّ كثيرا من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما يتجرّدوا من الدنيا و تهاونوا بالأشياء المحسوسة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 59
و تفرّدوا بالنظر و البحث عن حقائق الأشياء، انكشف لهم علم الغيب، و علموا بما يخفيه الناس في نفوسهم، و اطّلعوا على سرائر الخلق.
فإذا كان هذا هكذا، و النفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة، فكيف إذا تجرّدت هذه النفس و فارقت البدن، و صارت في عالم الحق الذي فيه نور البارى سبحانه فأمّا من كان غرضه في هذا العالم التلذذ بالمآكل و المشارب المستحيلة إلى الجيف، و كان أيضا غرضه في لذة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة، و لا يمكنها الوصول إلى التشبّه بالبارى سبحانه. و لقد صدق أفلاطون في هذا القياس و أصاب به البرهان الصحيح.
أقول: صدر ما نقلناه من رسائل الكندى من أنّ النفس تمنع الغضب و الشهوة عن فعلهما، دليل على أنّ المانع غير الممنوع فحسب و لا يدلّ على تجرّد المانع عن المادة و الماديات الطبيعية. و الوجه الأعم مأخذا من ذلك ما قلنا في صدر العين الخامسة من كتابنا عيون مسائل النفس، و شرحه: سرح العيون في شرح العيون من أنّ الدليل على مغايرتها له انّك لا تجعل طبيعتك حاكمة عقلك إلخ.
و أما ما نقله عن أفلاطن الإلهى فهو صريح على تجرّدها العقلانى، و كونها من صقع العالم الربوبى. و التمثيل بنور الشمس و ما أفاد حوله كلام في غاية الكمال.
ثمّ ما أفاد الكندى من أنّ جوهر النفس من جوهر البارى عزّ و جلّ كقياس ضياء الشمس من الشمس، فله شأن ينبغى أن ينظر فيه نظر دقّة و تحقيق و تفكير.
و المروى في روضة الجنان عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام انّه قال: «يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس».
و في الكافي بإسناده عن أبى بصير قال سمت أبا عبد الله عليه السّلام يقول:
المؤمن أخ المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد الم ذلك في سائر جسده و أرواحهما من روح واحدة، و انّ روح المؤمن لأشد اتصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها. (ج 2، من المعرب، ص 133).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 60
و غرضنا الأهم من نقل ما في رسائل الكندى في المقام هو كلام أفلاطن الدال على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا.
و خلاصة الدليل أنّ الإنسان بالتجرّد و التفرّد و الإعراض عن الأحوال الدنيّة البهيمية و السبعية، و الانصراف إلى البحث عن حقائق الأشياء، انكشف له علم الغيب، و علم بما يخفيه الناس، و اطلع على سرائر الخلق. و ما هذا شأنه فليس إلا من وراء الطبيعة، و أين للطبيعة الخروج عن حيّزها، و اطلاعها على المغيبات، و صيرورتها عيبة للحقائق النورية، و الأمور الغيبية المحيطة على الزمان و المكان و سائر الأوصاف المادية؟
ثمّ قال الكندى:
انّ أفلاطن قاس القوّة الشهوانية التي للإنسان بالخنزير، و القوة الغضبية بالكلب، و القوّة العقلية بالملك. و قال: من غلب عليه الشهوانية و كانت هي غرضه و أكثر همته فقياسه قياس الخنزير؛ و من غلبت عليه الغضبية فقياسه قياس الكلب؛ و من كان الأغلب عليه قوّة النفس العقلية و كان أكثر أدبه الفكر و التمييز و معرفة حقائق الأشياء، و البحث عن غوامض العلم، كان إنسانا فاضلا قريب الشبه من البارى سبحانه؛ لأنّ الأشياء التي نجدها للبارى عزّ و جلّ هي الحكمة و القدرة و العدل و الخير و الجميل و الحق. و قد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة حسب ما في طاقة الإنسان فيكون حكيما عدلا جوادا خيرا يؤثر الحق و الجميل، و يكون بذلك كلّه بنوع دخل النوع الذي للبارى سبحانه من قوّته و قدرته، لأنّها انّما اقتبست من قربها قدرة مشاكلة لقدرته.
فانّ النفس على رأى أفلاطن و جلّة الفلاسفة باقية بعد الموت، جوهرها كجوهر البارى عزّ و علا في قوّتها إذا تجرّدت أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم البارى بها، أو دون ذلك برتبة يسيرة، لأنّها أو دعت من نور البارى جلّ و عزّ.
و اذا تجرّدت و فارقت هذا البدن و صارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارى، و رأت البارى عزّ و جلّ، و طابقت نوره، و جلّت في ملكوته، فانكشف لها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 61
حينئذ علم كل شيء، و صارت الأشياء كلّها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للبارى عزّ و جلّ؛ لأنّا إذا كنّا و نحن في هذا العالم الدنس، قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس، فكيف إذا تجرّدت نفوسنا و صارت مطابقة لعالم الديمومية، و صارت تنظر بنور البارى فهي لا محالة ترى بنور البارى كلّ ظاهر و خفيّ، تقف على كل سرّ و علانية.
أقول: و على هذا المنوال جاء في كتاب اخوان الصفاء:
أنّ النفوس السعيدة إذا فارقوا الأبدان صاروا ملائكة، و النفوس الشقية إذا فارقوها صاروا شياطين و أجنّة، و كما إذا غلب عليه الغضب و الشهوة صار سبعا و بهيمة.
و كذا قال الشيخ البهائى في الأربعين:
و العجب منك انّك تنكر على عبّاد الأصنام عبادتهم لها، و لو كشف الغطاء عنك، و كوشفت بحقيقة حالك، و مثل لك ما يمثل للمكاشفين إمّا في النوم أو اليقظة لرأيت نفسك قائما بين يدى خنزير، مشمّرا ذيلك في خدمته، ساجدا له مرّة، و راكعا أخرى، منتظرا إشارته و أمره؛ فمهما طلب الخنزير شيئا من شهواته، توجّهت على الفور إلى تحصيل مطلوبه و إحضار مشتهياته، و لأبصرت نفسك جاثيا بين يدى كلب عقور عابدا له مطيعا لما يلتمسه، مدققا للفكر في الحيل الموصلة إلى طاعته و أنت بذلك ساع فيما يرضى الشيطان و يسرّه فإنّه هو الذي يهيّج الخنزير و الكلب و يبعثهما على استخدامك، فأنت عن هذا الوجه عابد للشيطان و جنوده، و مندرج في المخاطبين المعاتبين يوم القيامة بقوله تعالى أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
و كذا قال ابن مسكويه في طهارة الأعراق:
إن أصح مثل ضرب لكم من نفوسكم الثلاث (أي النفس الناطقة، و النفس السبعية، و النفس البهيمية) مثل ثلاثة حيوانات مختلفة جمعت في رباط (في مكان- خ ل) واحد: ملك و سبع و خنزير فأيّها غلب بقوته قوة الباقيين كان الحكم له. (طهارة الأعراق في حاشية مكارم الأخلاق للطبرسى، ط 1، ص 51).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 62
و لك مزيد استبصار في ذلك في العين الثالثة و الستّين و شرحها من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في تجسّم الأعمال أيضا.
و نظير ما تقدّم من كلام هؤلاء الأكابر في القوى الحيوانية جاء في نزهة الأرواح للشهرزورى في أخبار ديوجانس الناسك الكلبى من أنّ:
الإسكندر وقف عليه يوما فلم يلتفت إليه، فقال: يا ديوجانس! ما هذا التهاون بى؟
أراك عنّى غنيا. فقال: و أيّ حاجة تكون لى إلى عبد عبدي؟ فقال له الإسكندر: و من عبد عبدك؟ فقال: أنت؛ قال له: و كيف ذلك؟ قال: لأنّى ملكت الشهوة فقهرتها و استعبدتها، و ملكتك الشهوة فقهرتك و استعبدتك، فأنت عبد لمن استعبدته أنا. (ج 1، ص 208، ط حيدرآباد الدكن الهند).
و كذا مثله منقول عن سقراط و ملك ناحيته كما في طبقات الأطباء و الحكماء لابن جلجل، حيث قال في أخبار سقراط ما هذا لفظه:
و خطر عليه ملك ناحيته فنظر إليه، فوعظه سقراط- إلى أن قال: قال له الملك: أنت عبد لي. قال له سقراط: و أنت عبد عبدي. قال له الملك: و كيف ذلك؟ قال له سقراط:
لأنّى رجل أملك شهوتى الموذية، و أنت رجل تملكك شهوتك فأنت عبد عبدى.
(ص 30، ط مصر).
و مما هو يناسب نقله في المقام ما أفاد هؤلاء العظام، ما حكاه صاحب الفتوحات المكية في الباب الثالث و السبعين منها بقوله:
و كان بعض أخوالى منهم (يعنى من الذين تركوا الدنيا عن قدرة)، كان قد ملك مدينة تلمسان يقال له يحيى بن يغان، و كان في زمنه رجل فقيه عابد منقطع من أهل تونس يقال له عبد الله التونسي عابد وقته، كان بموضع خارج تلمسان يقال له العباد، و كان قد انقطع بمسجد يعبد اللّه فيه و قبره مشهور يزار، بينما هذا الصالح يمشى بمدينة تلمسان بين المدينتين اقادبر و المدينة الوسطى، إذ لقيه خالنا يحيى بن يغان ملك المدينة في خوله و حشمه، فقيل له هذا أبو عبد الله التونسى (كذا) عابد وقته، فمسك لجام فرسه و سلّم على الشيخ، فردّ عليه السلام، و كان على الملك ثياب فاخرة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 63
فقال له: يا شيخ هذه الثياب التي أنا لابسها تجوز لى الصلاة فيها؟ فضحك الشيخ، فقال له الملك: ممّ تضحك؟
قال: من سخف قولك، وجهك بنفسك و حالك، ما لك تشبيه عندى إلّا بالكلب يتمرغ في دم الجيفة و أكلها و قذارتها، فإذا جاء يبول يرفع رجله حتى لا يصيبه البول؛ و أنت وعاء مليء حراما و تسأل عن الثياب و مظالم العباد في عنقك. قال: فبكى الملك و نزل عن دابّته و خرج عن ملكه من حينه و لزم خدمة الشيخ، فمسكه الشيخ ثلاثة أيام، ثمّ جاءه بحبل، فقال له: أيّها الملك قد فرغت أيّام الضيافة قم فاحتطب، فكان يأتى بالحطب على رأسه و يدخل به السوق و الناس ينظرون إليه و يبكون فيبيع و يأخذ قوته و يتصدق بالباقى و لم يزل في بلده ذلك حتى درج و دفن خارج تربة الشيخ، و قبره اليوم بها يزار، فكان الشيخ إذا جاءه الناس يطلبون أن يدعو لهم يقول لهم: التمسوا الدعاء من يحيى بن يغان فإنّه ملك و زهد و لو ابتليت بما ابتلى به من الملك ربما لم أزهد (ج 2، ص 23، ط مصر).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 64
ز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا
هذا البرهان من أوثق البراهين على أنّ النفس الناطقة من سنخ المفارقات النورية و نشأتها غير عالم الأجسام الماديّة. و هذا البرهان ناطق بأنّ الحواسّ لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل، و العقل هو النفس الناطقة العاقلة المجرّدة تجرّدا تامّا عقليا. فنأتى بما حرّره صاحب الأسفار في الفصل الثانى من الطرف الثالث من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» منه في العقل و المعقول، قال:
فصل في أنّ الحواس لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل: إنّ الإدراكات الحسّية يلزمها انفعال آلات الحواس، و حصول صور المحسوسات سواء كانت في آلات الحواس كما هو المشهور و عليه الجمهور، أو عند النفس بواسطة مظهريتها كما هو الحق؛ فهو أنّما يكون بسبب استعداد مادة الحاسة له، فإنّ لامسة أيدينا مثلا انّما تحس بالحرارة و تتأثر عنها للاستعداد الذي هو فيها؛ و البصر انّما يقع فيه الإحساس بصورة المبصر للاستعداد الذي هو فيه؛ و السمع انّما يحصل فيه الصوت للاستعداد الذي هو فيه، و ليس للحواس إلا الإحساس فقط و هو حصول صورة المحسوس فيها، أو في النفس بواسطة استعمالها، فالحواس أو النفس الحساسة بما هي حساسة ليس لها علم بأنّ للمحسوس وجودا في الخارج، انّما ذلك ممّا يعرف بطريق التجربة فهو شأن العقل أو النفس المتفكّرة، و ليس شأن الحسّ و الخيال.
و الدليل على صحة ما ذكرناه أنّ المجنون مثلا قد تحصل في حسّه المشترك صور يراها فيه، و لا يكون لها وجود من خارج، و يقول ما هذه المبصرات التي أراها؟
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 65
و يقول: إنّي أرى فلانا و كذا و كذا؛ و يجزم بأنّ ما رآه كما رآه فهي بالحقيقة موجودة في حقه كما وجدت للإنسان سائر الصور الحسية، لكن لمّا لم يكن له عقل يميزها و يعلم أن لا وجود لها من خارج توهم أنّ تلك الصورة موجودة في الخارج كما هي مرئية له.
و كذلك النائم يرى عند منامه بحسّه المشترك بل بخياله أشياء لا حقيقة لها في الخارج من المبصرات و المسموعات و غيرهما فيرى و يسمع و يشم و يذوق و يلمس، و يجزم بأنّه يشاهدها بالحقيقة. و سبب ذلك وجود صور تلك الأشياء في قوّة خياله و حسّه المشترك و هي في النوم كما هي عند اليقظة، و لتعطّل القوّة العقلية عن التدبّر و الفكر فيما يراه انّه من أيّ قبيل.
و كذلك إذا تأثرت أيدينا مثلا عن حرارة وردت عليها من خارج، أو حصلت له بسبب داخلى لسوء مزاج حارّ، فأحست بها لا يكون لها إلّا الإحساس فإما أن يعلم أنّ هذه الحرارة لا بدّ أن يكون في جسم حار خارجا كان أو داخلا فذلك للعقل بقوّته الفكريّة.
و كذلك إذا حملت شيئا ثقيلا فانّما تحسّ بالثقل، و تنفعل عن الثقل فقط، و أمّا أنّ هذه الكيفيّة قد حصلت بسبب جسم ثقيل في الخارج فذلك ليس إدراكه بالحس، و لا بالنفس في ذاتها بل بضرب من التجربة.
و من هذا المقام يتنبّه اللبيب بأنّ للنفس نشأة أخرى غير عالم الأجسام المادية يوجد فيها الأشياء الإدراكية الصورية من غير أن تكون لها مادة جسمانيّة حاملة لصورها و كيفياتها.
و نعم العون على إثبات ذلك العالم ما حققناه في مباحث الكيفيات المحسوسة أنّ الموجودة من تلك الكيفيات في القوى الحسيّة ليست إيّاها بل من جنس آخر من الكيفيّات هي الكيفيات النفسانيّة؛ فالمسموعات و المبصرات و الملموسات و غيرها كلّها كيفيّات محسوسة حكاية، و هي نفسانية حقيقة؛ كما أنّ الصور العقلية من الجواهر الماديّة كالإنسان و الفرس و الفلك و الكوكب و الماء و النار هي إنسان
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 66
و فرس و فلك و كوكب و ماء و نار حكاية، و هي جواهر عقلية متحدة بالعقل بالفعل حقيقة. و هذه الأحكام و أشباهها من عجائب معرفة النفس الآدميّة و علم المعاد كما نحن بصدد بيانه من ذى قبل انشاء الله. (الأسفار، ج 1، ص 321، ط 1).
أقول: العقل يحكم بأنّ ما يدركه إنسان هو أيّ نوع من الإدراكات، و هو الحاكم مثلا بأنّ ذلك المدرك مما فاض على صقع النفس مجرّدا ثمّ تمثّل بمثال صورى في لوح النفس أيضا، و انّ هذا المدرك هو مما أنشأه النفس في صقع ذاتها بإعداد قواها الحسيّة، و أنّى للقوى الأخرى هذه الشأنية. و العين تنفعل من الشمس إذا قابلتها مفتوحة أو مضمومة، و المحسوس بالذات هو ما حصل للنفس عند قوتها الباصرة، و أمّا أنّ المحسوس بالعرض هو الشمس و لها وجود في الخارج فهو شأن العقل؛ و كذا في باقى المحسوسات. بل ربما يدرك الإنسان مثالا نوريا في الأفق الأعلى و بين جثّة المدرك و ذلك المثال مسافة مراحل، و هو يعلم أنّ ذلك المثال قائم بنفسه القدسية الكلية الإلهية المدركة و ليس بخارج عنها و إن كان بظاهره خارجا عنها بتلك المسافة، و أنّى للحواس ذلك العلم و الحكم. قال سبحانه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (النجم 6- 11).
فهذا الدليل حكم عدل و ناطق بالصواب على أنّ القوّة الحاكمة المميّزة التي اختص بها الإنسان دون سائر الحيوانات، هي ليست من القوى المحسوسة، بل هي نور مجرّد من وراء عالم الطبيعة و فوقه و قبله و بعده و محيط عليه بل محيط به.
قوله: «و نعم العون إلخ». تحقيق البحث يطلب في عدة مواضع من الأسفار منها في مبحث الوجود الذهنى. و قوله: حكاية، ناظر إلى ما هو التحقيق في الوجود الذهنى فإنّ المدركات من حيث هي حكاية وجودات ذهنية، و من حيث هي نور النفس علم حضورى و وجود بسيط اتسع بها النفس اتساعا وجوديا، و زادت انكشافا نوريا. و لمّا كان العلم و العمل جوهرين نوريّين و كان قوام النفس بهما، و كان العلم مشخصا للنفس كما أنّ العمل كان مشخصا للبدن، و البدن مرتبة نازلة للنفس في العوالم كلّها، و يتجسّم و يتحقق العلم و العمل كان للإنسان معادان، الجسمانى و الروحانى معا، و يطلب تفصيل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 67
الكلام في المعادين في العين التاسعة و الخمسين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس.
و خلاصة تحقيقه في المقام هي ما أتى به في آخر الإشراق التاسع من الشاهد الثانى من المشهد الأوّل من الشواهد الربوبية، حيث قال:
كشف و إنارة: النفس عند إدراكها للمعقولات الكليّة تشاهد ذوات نورية مجرّدة لا بتجريد النفس إيّاها و انتزاع معقولها من محسوسها كما عليه جمهور الحكماء بل بانتقال و مسافرة يقع لها من المحسوس إلى المتخيّل ثمّ منه إلى المعقول، و ارتحال لها من الدنيا إلى الأخرى ثمّ إلى ما وراءها. و في قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ إشارة إلى هذا المعنى. أي تقدّم النشأة الدنيا على النشأة الأخرى من جهة انتقال النفس من إدراك المحسوسات إلى ما ورائها فإنّ معرفة أمور الآخرة على الحقيقة في معرفة أمور الدنيا؛ على أنّ مفهوميهما من جنس المضاف، و أحد المضافين لا يعرف إلّا مع الآخر؛ و لهذا قيل: الدنيا مرآة الآخرة. و العارف بمشاهدة أحوال الإنسان هاهنا يحكم بأحواله في القيامة و منزلته عند الله يوم الآخرة. و اعلم أنّ لهذه المسألة على هذا الوجه الذي أدركه الراسخون في الحكمة مدخلا عظيما في تحقيق المعادين الجسمانى و الروحاني، و كثير من المقاصد الإيمانية و لهذا بسطنا القول فيها في الأسفار الأربعة بسطا كثيرا، ثمّ في الحكمة المتعالية بسطا متوسطا، و اقتصرنا هاهنا على هذا القدر اذ فيه كفاية للمستبصر (ص 23، ط 1).
أقول: ما قاله في آخر كلامه في الشواهد من الفرق بين الأسفار و الحكمة المتعالية، كان باتفاق عدة نسخ من المخطوطة التي عندنا و هي نسخ معتبرة مصححة بعضها مزدانة بتعليقات بعض تلامذة المتأله السبزوارى حين كان يتعلم الشواهد منه و تلك التعليقات كلها من إفادات المتأله المذكور، و نسخة منها بخط الحكيم المولى إسماعيل أستاذ المتأله السبزوارى.
و بالجملة النسخ كلها متفقة في نقل العبارة المذكورة أعنى قوله: «و لهذا بسطنا القول فيها إلخ» مع أنّ عباراته الأخرى ناصة على أنّ الأسفار و الحكمة المتعالية كتاب
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 68
واحد. كما قال في أوّل الأسفار:
فرتّبت كتابى هذا طبق حركاتهم في الأنوار و الآثار على أربعة أسفار و سميته ب الحكمة المتعالية في المسائل الربوبية (ص 4، ط 1).
و قال في البحث عن كون الشيء موجودا لا ينافي تأثير العلّية من شرحه على الهداية الأثيريّة: (ص 258، ط 1): «و لنا بفضل الله و رحمته برهان حكمى على هذا المقصد الشريف أوردناه في كتابنا المسمّى ب الحكمة المتعالية» و أورده في إلهيات الأسفار.
و قال في تعليقته على الفصل الخامس من سادسة إلهيات الشفاء في إثبات الغاية ما هذا لفظه:
و نحن لما كرهنا رجوع الرجل الإلهي في شيء من مسائل علمه إلى صاحب علم جزئى طبيعيا كان أو غيره سيما في المبحث الذي كان مذكورا هناك على سبيل الوضع و التسليم، لهذا نرفع الحوالات في أكثر المواضع من شرح هذا الكتاب و نوردها بالفعل كما هو عادتنا في كتابنا الكبير المسمى ب الأسفار و هو أربعة مجلدات كلها في الإلهيات بقسميها الفلسفة الأولى و فنّ المفارقات (ص 256، ط 1).
ففي شرح الهداية سماه ب الحكمة المتعالية، و في تعليقته على الشفاء ب الأسفار الأربعة.
و الشواهد من كلماته و كلمات أرباب التراجم في أنّ الأسفار الأربعة هو الحكمة المتعالية كثيرة. و قال أستاذنا العلم الآية السيد ابو الحسن الرفيعى القزويني (رفع اللّه تعالى درجاته) في وجه تسمية الكتاب تارة ب الحكمة المتعالية، و أخرى ب الأسفار الأربعة: «إنّ الأوّل بلحاظ الجمع، و الثاني بلحاظ التفصيل؛ كما أنّ كتاب الله الكريم بالجمع قرآن و بالتفصيل فرقان».
و أما ما في الشواهد من الفرق و التعدد فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.
قوله: و في قوله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتُمُ الخ. أفاد المتأله السبزوارى في تعليقته على الشواهد في المقام بقوله:
أي قد علمتم انتقالكم في النشأة الأولى من المحسوسات إلى المثل المعلقة التي في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 69
عالم مثالكم الأصغر الذي هو من سنخ عالم المثال الأكبر الذي هو من سنخ برازخكم و صور أعمالها في النشأة الأخروية الصورية و الجسمانية فلو لا تذكرون لها مع استغراقكم في أمثالكم و أسناخها. و كذا علمتم انتقالكم من الأشباه الصورية الأخروية و المثل المعلقة إلى الذوات العقلية و المعانى الجامعة و المثل النورية فلو لا تذكّرون لما وراء الآخرة الصورية و هو الحشر الروحانى، و تشاهدونها عن بعد مع انهماككم فيها كما بينا من رجاء الوصول. بل علمتم انتقالكم إلى معرفة نور الأنوار و حقيقة الحقائق الذي معرفة ذاته و صفاته جنّة الذات و جنة الصفات، سيما مرتبة حق اليقين من المعرفة فلو لا تذكّرون لغاية الغايات و منتهى النهايات و مرجع الموجودات أ لا ترى انّه أنّ إدراك كل كلى عقلى مشاهدة ذات مجرّدة نورية كذلك إدراك الكلى الذي هو الوجود المشترك فيه للمفارقات و المقارنات و هو ابده و اعم من كل شيء مشاهدة عن بعد لحقيقة الوجود هي أظهر و أنور و أوسع من كل نور و فيء، و نعم ما قيل:
زو قيامت را همى پرسيدهاند |
كاى قيامت تا قيامت راه چند |
|
با زبان حال مىگفتى بسى |
كه ز محشر حشر را پرسد كسى |
|
و انّما لا يلتفت و لا يتنبه الإنسان الغافل بهذه الترقيات و العروجات مع وغوله فيها و اختلاسه و تبدّله و صعوده إليها لا نزولها إليه، لأنّه يظنّ ذاته و وجوده هذا البدن الطبيعى و هو منجمد بالجمود الزمهريرى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ. حشر (59): 19.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 70
ح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا
و هو أنّه يمكننا أن نعقل ذواتنا، و كل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات، فإذا لنا ماهية ذاتنا، فلا يخلو إمّا أن يكون تعقّلنا لذاتنا لأنّ صورة أخرى مساوية لذاتنا تحصل في ذاتنا، و إمّا أن يكون لأجل أنّ نفس ذاتنا حاضرة لذاتنا، و الأوّل باطل لأنّه يفضي إلى الجمع بين المثلين، فتعيّن الثاني؛ و كل ما كان ذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته؛ فإذا القوة العاقلة قائمة بنفسها، و كل جسم و جسماني فإنّه غير قائم بنفسه، فإذا القوّة العاقلة ليست بجسم و لا جسماني.
أقول: أتى الفخر الرازى في المباحث المشرقية: بالدليل المذكور و قال:
هو دليل عوّل الشيخ عليه في كتاب المباحثات، و زعم أن أجل ما عنده في هذا الباب هذا الدليل. ثمّ إنّ تلامذته أكثروا من الاعتراضات عليه و الشيخ أجاب عنها، إلّا أنّ الأسئلة و الأجوبة كانت متفرقة و انا رتبناها و أوردناها على الترتيب الجيد.
ثمّ نقل الفخر الدليل و تلك الأسئلة و الأجوبة (ج 2، ص 352- 359، ط حيدرآباد) و هو الدليل الثانى من المباحث في بيان تجرّد النفس الانسانية.
ثمّ صاحب الأسفار جعله الحجة الثانية من الحجج التي أوردها في تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ إلّا أنّه حرّر ذيل الدليل هكذا:
و الأوّل محال لأنّه جمع بين المثلين فتعين الثاني، فكل ما ذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته فإذن النفس جوهر قائم بذاته، و كل جسم و جسمانى غير قائم بذاته فالنفس جوهر غير جسمانى. (ج 4، ص 66، ط 1).
ثمّ انّ الدليل المذكور على تجرّد النفس جاء في تضاعيف المباحثات بانحاء عديدة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 71
و لكن لم أجده بتلك العبارات المنقولة من المباحث و الأسفار؛ و كأنّه تحرير آخر لما في المباحثات كما سنأتى به. و صاحب الأسفار نقل العبارة من المباحث لا من المباحثات كما يعلم بعرض ما في الأسفار على المباحث. و عندنا نسخة مصوّرة من المباحثات في سفينة تحتوى ثمانى و تسعين رسالة و مقالة، أصلها محفوظ في خزانة مكتبة الآية الحبر المعظم المرعشى زيد عزّه في دار العلم قم المحمية، و نسخة أخرى مطبوعة مع عدة رسائل أخرى بعنوان أرسطو عند العرب دراسة و نصوص غير منشورة مما بذل الجهد فيها خدوم العلم المفضال عبد الرحمن بدوى دامت تأييداته.
و العجب أنّ النسختين لا يوافق عبارات إحداهما الأخرى كاملا. بل كأنّ كل واحدة منهما تحرير محرّر منفرد، و تقرير جامع على حدة. كيف كان، عبارة المباحثات في بيان الدليل المذكور على وزان ما في النسخة المطبوعة محررة هكذا:
من شأننا أن نعقل أنفسنا، سواء كان طبعا أو كسبا، فبعض الأشياء يعقل ذاته و جوهره، و ما يعقل شيئا فحقيقة ذلك الشيء حاصلة له، فحقائق ذواتنا حاصلة لها (لنا- خ)؛ و ليس مرّتين، فإنّ حقيقة الشيء، مرّة واحدة، و ليست نفس الوجود، فهذا لكل شيء، و ليس كل شيء يعقل ذاته، فهذا لذاته ليست لغيره، و نحن نعقل جوهرنا، فجوهرنا ماهية لذاته ليست لغيره. فهذا إذن هو أنّ حقائق جوهرنا الأصلية ليست لغيرها. و هذا معنى قولهم: كل ما يرجع على ذاته فهو عقل، أي تكون ماهية ذاته التي بها هي بالفعل لذاته ليست لغيره، و نحن نعقل جوهرنا، فجوهرنا ماهيته لذاته ليست لغيره.
ليس يجوز أن يكون أصل حقيقتنا له بالقياس إلى نفسه أنّه موجود الوجود الذي له، ثمّ له بالقياس إلى نفسه أنّه معقول بزيادة أمر على أنّه موجود الوجود الذي له على أنّهما اثنان، فإنّ حقيقته لا يعرض لها مرّة شيء و مرّة ليس ذلك الشيء، و هي واحدة في وقت واحد، فليس لكونها معقولة زيادة شرط على لونها موجودة وجودها الذي لها، بل زيادة شرط على الوجود مطلقا، و هو أنّ وجود ماهيتها التي بها هي معقولة حاصلة لها في نفسها ليس لغيرها. و هذا أجلّ ما أعرفه في هذا الباب، و يحتاج إلى
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 72
تصور، فإنّ الأمور التصديقية قد يخبر عنها فقدان التصور، و إذا تمكّنت النفس من التصور سارع إليها التصديق (ص 133، ط 2، الكويت).
ثمّ الفخر الرازى أورد الأسئلة و الأجوبة حول الدليل المذكور مما دارت بين الشيخ و تلامذته. و كذا على رويته صاحب الأسفار مع إضافات نورية على ما في المباحث، كما قال على وزان الرازى و ما زاد عليها، ما هذا لفظه:
الحجة الثانية و هي التي عوّل عليها الشيخ في كتاب المباحثات و اعتقد أنّها أجلّ ما عنده في هذا الباب. ثمّ إنّ تلامذته أكثروا من الاعتراضات عليها و الشيخ أجاب عنها؛ و تلك الأسئلة و الأجوبة رأيتها متفرقة في مجموعة مشتملة على مراسلات وقعت من الشيخ و تلامذته فنوردها هنا على الترتيب مع زوائد سانحة لنا في الاتمام ....
و الطالب و إن كان يراجع فيهما إلى المباحث و الأسفار لكنّا نأتي بهما مع زيادة بيان فيهما إن شاء اللّه تعالى. و ليعلم أنّى أرى أنّ عبارات المجيب ليست من قلم الشيخ، بل إنّ أحدا من تلامذته قرّر و حرّر ما دار بين الشيخ و بين تلامذته حول هذه الحجة على ما فهمه، و كأنّما لذلك عبر بالمجيب لا بالشيخ، و هكذا الكلام في السائل، كيف لا و أنت ترى أنّ بعض الأجوبة بمعزل عن التحقيق جدّا، و بعضها ممّا يرى في المباحثات متفرقة. و نحن نأتى بهما زيادة للإستبصار في المقام و سنتلوهما عليك فإنّه حوار يشحّذ الذهن و يوجب الرياضة الفكرية فنقول أولا:
اعلم انّ المجرّد يعقل ذاته، و لم يلزم من بيان ذلك لزوم عكسه و هو أنّ كل ما يعقل ذاته فهو مجرّد لأنّ الكلية الموجبة لا تنعكس كلية موجبة فبيّن بتلك الأصول الرصينة في الدليل المذكور في المباحثات ذلك و هو أنّ كل ما يدرك ذاته فماهيته له، و كل ما ماهيته له فهو مجرّد فتبصّر.
و ثانيا عليك بتلك الأسئلة و الأجوبة حول هذه الحجة على وفق ما في الأسفار مع بعض زيادات إيضاحية منّا نهديها إليك:
قال السائل: إنّا لا نسلّم أنّ إدراكنا لذاتنا يقتضي أن تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 73
لم لا يجوز أن يكون هو أثرا ما حصل لنا من ذاتنا، فلا يكون ذلك هو حقيقة ذاتنا. فعلى هذا يكون لنا حقيقة يحصل منها أثر فينا فنشعر بذلك الأثر، فلا يكون ذلك الأثر هو الحقيقة فلا يكون قد حصل لنا ذاتنا مرّتين.
قال المجيب: قد سبق أنّ الإدراك ليس إلّا ثبوت حقيقة الشيء. فقوله: «انّه يحصل لنا أثر منه فنشعر بذلك الأثر» إمّا أن يجعل الشعور نفس الأثر، أو أمرا مغايرا لذلك الأثر تابعا له؛ فإن كان نفس ذلك الأثر فقوله: «فنشعر بذلك الأثر» لا معنى له بل هو مرادف لقوله يحصل لنا أثر. و إن كان الشعور تبعه (و إن كان الشعور شيئا يتبعه، (كما في المباحث)، فإمّا أن يكون ذلك الشعور هو حصول ماهية الشيء، أو حصول ماهية غيره:
فإن كان غيره فيكون الشعور هو تحصيل ما ليس ماهية الشيء و معناه. و إن كان هو هو فيكون ماهية الذات تحتاج في أن يحصل لها ماهية الذات إلى ذلك الأثر فتكون ماهية الذات غير موجودة إلى أن حصلها ذلك الأثر فلا تكون تلك الماهية متأثرة بل متكوّنة هذا خلف. و إن كان ماهية الذات لنا بحال أخرى من التجريد و التجديد، و نزع بعض ما يقارنها من العوارض فيكون المعقول هو ذلك المتجدد المتجرّد و كلامنا فيما إذا كان المعقول هو جوهر نفسنا الثابت في الحالين.
أقول: الحق انّ حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بنفس ذاتها بالوجدان و الإدراك الشهودي، و التفوه بالأثر أثر من يكابر مقتضى عقله و وجدانه. نعم إنّ هذه الأسئلة و الأجوبة مفيدة للرياضة الفكرية ينتفع بها المتعلم الباحث.
قال السائل: سلّمنا أنّا نعقل ذواتنا و لكن لم قلتم بأنّ من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات و إلا لكنّا إذا عقلنا الإله و العقول الفعالة وجب أن يحصل لنا حقائقها.
قال المجيب: الحاصل فينا من العقل إن أمكننا أن نعقله هو العقل الفعّال من جهة النوع و الطبيعة لا من جهة الشخص لأنّ أحدهما بحال ليس الآخر بتلك الحال، و المعقول من حقيقتك لا يفارق حقيقتك في النوع و الماهية و لا بالعوارض أصلا و لا مفارقة بالشخص فيكون هو بالشخص كما هو هو بالنوع. و أمّا العقل الفعّال و ما يعقل منه فهو هو في المعنى و ليس هو هو بالشخص.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 74
ثمّ قال صاحب الأسفار بعد نقل المجيب عن السؤال الثانى ما هذا لفظه:
أقول: الحقّ أنّ الطبيعة النوعية التي للعقل الفعال لا يمكن تعدد أشخاصها لا في الخارج و لا في الذهن إذ البرهان قائم على أنّ نوعا واحدا من الجواهر المفارقة منحصر في شخصه، و تشخص العقول من لوازم نوعياتها، و لو تعددت أفراد ماهية واحدة لكان امتياز كل من تلك الأفراد بعرض غير لازم للطبيعة، و العرض الغير اللازم للنوع يحتاج عروضه إلى فاعل منفصل الذات، و قابل ذى تجدد و انفعال فلم يكن المفارق مفارقا هذا خلف. فالأولى في الجواب أن يقال: الحاصل في نفوسنا من تلك الحقائق البسيطة ليس كنه حقيقتها بل مفهومات عامة كمفهوم الجوهر المفارق و مفهوم العقل أو غير ذلك. انتهى.
و أقول: كلام الشيخ في الموضعين من المباحث هكذا (ص 135 و 193، ط مصر):
الحاصل فيك من العقل الفعال هو حقيقة العقل الفعال من جهة النوع و الطبيعة و إن كان ليس من جهة الشخص لأنّ أحدهما بحال ليس الآخر بتلك الحال و المعقول من حقيقتك لا يفارق حقيقتك في النوع و الطبيعة و لا يفارقه بالأشياء التي له و ليست له فلا يفارقه بالشخص أيضا فيكون هو هو بالشخص كما كان هو هو بالنوع، و كان العقل الفعال و ما يعقل منه هو هو في المعنى و النوع، و ليس هو هو بالشخص لأنّ هذا يقارنه ما لا يقارن ذلك و يفارقه ما لا يفارقه ذلك. انتهى كلامه.
و هذا تحقيق أنيق لا يعتريه ريب و لا يشوبه عيب، و كلام صاحب الأسفار غير وارد عليه فتدبر. ثمّ انّ الشيخ لم يدع أنّ كنه الحقائق البسيطة المفارقة حاصل للمدرك؛ و جواب صاحب الأسفار حيث قال بأنّ مفهومات عامة منها حاصلة للمدرك ليس كما ينبغى، بل الأمر أشمخ من هذا و يجب الفرق بين الحصول الفكرى و بين الشهودي و لكل واحد منهما مراتب من الإدراك.
قال السائل: فإذا ارتسم في عقلنا صورة مساوية لماهية الإله، فتكون ماهية الإله تعالى مقولة على كثيرين.
قال المجيب: البرهان أنّما قام على أنّ تلك الماهية غير مقولة على كثيرين في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 75
الخارج، فأمّا على كثيرين في الذهن فلم يقم.
ثمّ قال صاحب الأسفار:
أقول: حاشا الجناب الإلهي أن تكون له ماهية محتملة للشركة بين كثيرين لا في الخارج و لا في الذهن، كيف و ذاته صرف الوجود القائم بذاته التام الذي لا أتم منه و لا مكافي له إذ كل ماله ماهية كلية يكون تشخصه زائدا عليه، و كذا الوجود لكونه عين التشخص؛ فكل ماهية أو ذى ماهية فهو ممكن الوجود. فالحقّ في الجواب أن يقال: نحن لا نعرف حقيقة الباري بكنهه بل نعرف بخواص و لوازم إضافية أو سلبية. انتهى.
و أقول: الجناب الإلهى وجود صمدي لا ماهية له بلا كلام، و لكن هذا الرأى القويم في التوحيد الذي هو في الحقيقة برهان الصدّيقين، أنّما يتأتى لمن تخلّص عن الآراء الكلامية و الحكميّة الرائجة و أمّا من هو في أوائل سيره العلمي فهو يحتمل تكثّر واجب الوجود و إلّا فلم أقام الحكماء أدلّة على إثبات توحيده سبحانه بمعنى أنّه لا شريك له في وجوب الوجود أوّلا، ثمّ على توحيده تعالى في الإلهية بمعنى أنّه لا شريك له في الإلهية و أن إله العالم واحد ثانيا؟.
قال السائل: سلّمنا أنّ من عقل ذاتا فانّه يحصل له ماهية المعقول لكن لم لا يجوز أن يحصل ذاتى في قوّتى الوهمية فتشعر قوّتى الوهمية بها، كما أنّ القوّة العاقلة تشعر بالوهمية فعلى هذا لا يكون القوّة العاقلة مقارنة لذاتها بل للقوّة الوهمية كما انّكم تقولون القوّة الوهمية غير مقارنة لذاتها بل للقوّة العاقلة.
قال المجيب: شعورك بهويتك ليس بشيء من قواك و إلّا لم يكن المشعور بها هو الشاعر. و أنت مع شعورك بذاتك تشعر انّك أنّما تشعر بنفسك و انك أنت الشاعر و المشعور به. و أيضا فإن كان الشاعر بنفسك قوّة أخرى فهي إمّا قائمة بنفسك، أو غير قائمة بنفسك؛ و إن كانت قائمة بنفسك فنفسك الثابتة للقوّة الثابتة لنفسك ثابتة لنفسك و هو المطلوب. و إن كانت غير قائمة بنفسك بل بجسم فنفسك إمّا أن تكون قائمة بذلك الجسم أو لا يكون؛ فإن لم يكن وجب أن لا يكون هناك شعور بذاتك بوجه و لا إدراك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 76
لذاتك بخصوصها بل يكون جسم ما يحسّ بشيء غيره كما تحسّ بيدك و رجلك. و إن كانت نفسك قائمة بذلك الجسم فذلك الجسم حصلت فيه نفسك و حصلت فيه تلك القوّة الشاعرة بنفسك فتلك النفس و تلك القوّة وجودهما لغيرهما، و لا تكون النفس بتلك القوّة تدرك ذاتها لأن ماهية القوّة وجودهما لغيرهما و لا تكون النفس بتلك القوّة تدرك ذاتها لأن ماهية القوّة و النفس معا لغيرهما و هو ذلك الجسم.
قال السائل تقريرا لهذا البحث: لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول ذاتي في شيء نسبته إلى ذاتي كنسبته المرآة إلى البصر؟.
قال المجيب: الذي يتوسط فيه المرآة إن سلم أنّه مصور في المرآة فيحتاج مرة ثانية أن يتصور في الحدقة فكذلك هاهنا لا بدّ و أن ينطبع صورة ذاتنا مرّة أخرى في ذاتنا.
قال السائل: لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول صورة أخرى في ذاتي؟
بيانه أنّي حال ما أعقل نفس زيد، إمّا أن لا أعقل نفسي و هو محال لأنّ العاقل للشيء عاقل بالقوّة القريبة من الفعل بكونه عاقلا و في ضمنه كونه عاقلا لذاته. و إمّا أن أعقل نفسى في ذلك الوقت و حينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الحاصل في نفسى من نفسى و من زيد صورتان أو صورة واحدة فإن كانت واحدة فحينئذ أنا غيري، و غيرى أنا، إذ الصورة الواحدة من النفس مرّة واحدة يكتنفها أعراضى، و مرّة أخرى يكتنفها أعراض زيد؛ و أمّا إن كان الحاصل صورتين فهو المطلوب.
قال المجيب: أنت إذا عقلت النفس فقد عقلت جزء ذاتك، و إذا عقلت إنسانية زيد فقد أضفت إلى ذاتك شيئا و قرنته به فلا يتكرر الإنسانية فيك مرّتين بل يتعدد بالاعتبار.
و اعلم أنّ الفرق حاصل بين الإنسانية المطلقة المعتبرة بذاتها، و بين الإنسانية من حيث إنّها كلية مشترك فيها بين كثيرين فإنّ الأوّل جزء ذاتي؛ و أمّا الإنسانية العامة فهي الإنسانية مع قيد العموم فلا يكون جزء ذاتي.
أقول: قوله «فإنّ الأوّل جزء ذاتي»، بإضافة الذات إلى ياء المتكلم، و في المباحث المشرقية «فإنّ الأوّل جزء نفسي» (ج 2، ص 356).
قال السائل: إنّ القسم الذي أخرجتموه (الذى اخترتموه- كما في المباحث) أيضا باطل. بيانه أنّا إذا قلنا: «موجود لذاته» يفهم منه معان ثلاثة:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 77
أحدها: أنّ ذاته لا تتعلق في وجوده بغيره؛
الثاني: أنّ ذاته ليست حالّة في غيره مثل البياض في الجسم، و هذان القسمان باطلان لأنّهما سلبيان و المدركية أمر ثبوتى و هو عبارة عن حصول صورة المعلوم للعالم؛
و الثالث: أنّ ذاته مضافة إلى ذاته و ذلك أيضا محال لأنّ الإضافة تقتضى الاثنينية و الوحدة تنافيها.
لا يقال: إنّ المضاف و المضاف إليه أعمّ ممّا إذا كان كل واحد هو الآخر أو غيره و لا يمكن نفي العام بنفي الخاص؛ فإنّ هذه مغالطة لفظية كما إذ قيل المؤثر يستدعي أثرا و ذلك أعم من أن يكون المؤثر هو الأثر أو غيره فيلزم منه صحة أن يكون الشيء مؤثرا في نفسه، فكما أنّ ذلك باطل فكذا هاهنا.
أقول: قوله: «فإنّ هذه مغالطة لفظية» جواب لقوله: «لا يقال إنّ المضاف إلخ».
قال المجيب: حقيقة الذات غير، و تعينها غير، و الجملة التي هي الأصل و التعين شيء آخر، و هذا لا يختلف سواء كان التعين من لوازم الماهية كما في الإله و العقول الفعالة. أو لا يكون كذلك كما في الأنواع المتكثرة بأشخاصها في الوجود. و هذا القدر من الغيرية يكفى في صحة الإضافة، و لهذا التحقيق صحّ منك أن تقول: ذاتي و ذاتك.
قال صاحب الأسفار:
أقول: هذا الجواب ضعيف فإنّ البسيط الحقيقي المتشخص بذاته ليس فيه اعتباران متغايران الذات و التعين، و قد سبق حلّ هذا الشك الواقع في علم البسيط بذاته في مبحث تحقيق المضاف و تحقيق مسألة العلم. انتهى.
و أقول: إنّ صاحب الأسفار لا ينكر اعتبار التغاير في علم البسيط بذاته بوجه، و تضعيفه ناظر إلى كون التغاير على أنّ حقيقة الذات غير، و تعينها غير.
قال السائل: هذه الحجة منقوضة بإدراك الحيوانات أنفسها، مع أنّ أنفسها غير مجرّدة، و لا يلتفت إلى قول من ينكر إدراكها لذواتها لأنّها تطلب الملائم و تهرب عن المنافر، و ليس طلبها لمطلق الملائم و إلّا لكان طلبها لملائم غيرها كطلبها لملائمها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 78
و أيضا لو كانت طالبة للملائم المطلق لكانت طالبة للملائم من حيث هو ملائم و ذلك كلى فيكون البهيمة مدركة للكليّات و ليست كذلك، فإذن البهيمة تطلب ما يلائم لنفسها و إدراكها له يستلزم إدراكها لنفسها المخصوصة فإنّ العلم بإضافة أمر إلى أمر يقتضى العلم بكلا المتضائفين.
أقول: هذا السؤال معنون في المباحثات هكذا: «سئل هل تشعر الحيوانات الأخرى سوى الإنسان بذواتها إلخ» (ص 209، ط مصر).
قال المجيب: إنّ نفس الإنسان تشعر ذاتها بذاتها، و نفوس الحيوانات الآخر لا تشعر ذواتها بذواتها بل بأوهامها في آلات أوهامها، كما تشعر بأشياء أخر بحواسها و أوهامها في آلات تلك الحواس و الأوهام؛ فالشيء الذي يدرك المعنى الجزئي الذي لا يحس و له علاقة بالمحسوس هو الوهم في الحيوانات، و هو الذي يدرك به أنفس الحيوانات ذواتها لكن ذلك الإدراك لا يكون بذواتها و لا في آلة ذواتها التي هي القلب بل في آلة الوهم بالوهم كما أنّها تدرك بالوهم و بآلته معان أخر، فعلى هذا ذوات الحيوانات مرّة في آلة ذواتها و هي القلب و مرّة في آلة وهمهما و هي مدركة من حيث هي في آلة الوهم.
قال السائل: فما البرهان على أنّ شعورنا بذواتنا ليس كشعور الحيوانات؟
قال المجيب: لأنّ القوّة المدركة للكليات يمكنها أن تدرك ماهية ذاتها مجرّدة عن جميع اللواحق الغريبة، فإذا شعرنا بذاتنا الجزئية المخلوطة بغيرنا، شعرنا بواحد مركب من أمور نحن شاعرون بكل واحد منها من حيث يتميز عن الآخر، و أعنى بتلك الأمور حقيقة ذاتنا و الأمور المخالطة لها، و يجوز أن يتمثل لنا حقيقة ذاتنا و إن كانت سائر الأمور غائبة عنّا، و إدراك الحيوانات لذواتها ليس على هذا الوجه فظهر الفرق.
قال صاحب الأسفار:
هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى. و الحق أنّ نفوس الحيوانات مدركة لذواتها بنفس ذواتها إدراكا خياليا لا بآلة الخيال بل بهوياتها الإدراكية، و ذلك يقتضى تجردها عن أبدانها الطبيعيّة دون الصور الخيالية. و قد مرّ منا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 79
البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم. و الفرق بين نفوسها و نفوس خواص الإنسان أنّ هذه النفوس تدرك ذاتها مجرّدة عن جميع الأبعاد و الصور و الأشكال و غيرها. انتهى.
و أقول: قوله قدّس سرّه «هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى» الحجة الأولى في الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا، كانت من طريق إدراك النفس الكليات و الطبائع الكلية من حيث عمومها و كليّتها، و هي بمعزل عن سؤال السائل و جواب المجيب في نفوس الحيوانات الأخر. و انّما نشأ هذا الكلام الغريب منه (رضوان الله تعالى عليه) من كثرة إحاطته بالآراء و الأفكار، و تراكم الحقائق العلمية فيتبادر بعضها مكان آخر و يسبقه و يظهر من القلم.
و أما قوله: «و قد مرّ منا البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم» قد مر في الموضعين من نفس الأسفار أحدهما في الفصل الثاني من الباب الأوّل (ج 4، ص 9 من الطبع الرحلى) المعنون بقوله: «فصل في بيان تجرّد النفس الحيوانية و عليه براهين كثيرة إلخ»؛ و ثانيهما في الفصل الخامس من الباب الخامس (ج 4، ص 56- 59، ط 1) المعنون بقوله: «فصل في دفع ما قيل في أنّ النفس لا تدرك الجزئيات و هي وجوه عامّة و وجوه خاصة إلخ». و العينان الحادية و العشرون و الثانية و العشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون، و غير واحدة من حجج تجرّد النفس في ذلك.
قال السائل: ليس إذا أمكننا أن نميّز ذاتنا عما يخالطها في الذهن وجب أن يصحّ ذلك في الخارج يعنى هذا التفصيل شيء نفعله و نفرضه في أذهاننا، و انّ ما عليه الوجود بخلاف ذلك و هذا غير مختص بما إذا أدركنا ذواتنا كلية أو جزئية مخلوطة. ثمّ التحقيق أنّ كل ما يدرك شيئا فله ذلك المدرك كلّيا كان أو جزئيا، و الحمار إذا أدرك ذاته المخلوطة فله ذاته المخلوطة، فإذن على كل الأحوال الحمار ذاته موجودة له، و ليس ذلك القوّة واحدة فذاته مجرّدة له. و مما يبطل قولكم أنّ المدرك لذات الحمار قوّة غير ذاته، أن نقول: المدرك لذاته إن لم يكن هو ذاته بل قوّة أخرى، فإن كانت تلك القوّة في الحمار فذات الحمار في الحمار، و إن كانت في غيره لم يكن الشاعر هو المشعور به
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 80
فلم يكن الحمار مدركا لذاته و قد أبطلناه أوّلا. و أيضا لو سلّمنا أنّ الحمار يدرك ذاته لا بذاته بل بجزء من ذاته فذلك الجزء له صورة ذاته فذلك الجزء مجرّد. و أيضا فإذا حصلت نفس الحمار في آلة قوّته الوهميّة مع كونها مخلوطة وجب أن يكون آلة التوهم حيّة بتلك النفس كما أنّ آلة النفس حيّة بها.
و أجابوا عن هذا الآخر بأن قالوا:
حصول تلك الصور في الوهم يشبه الخضرة الحاصلة من الانعكاس، و حصولها في آلتها الخاصّة كحصول الخضرة الأصلية من الطبيعة. هذا تمام ما قيل في هذا المقام، و التحقيق ما لوّحناه اليك من الكلام. انتهى ما أردنا نقله من الأسفار.
قوله: «و التحقيق ما لوّحناه من الكلام»، ناظر إلى ما أفاد في الموضعين المذكورين من نفس الأسفار قد أشرنا إليهما آنفا. و قد علمت أنّ تلك الأسئلة و أجوبتها قد جمعهما و رتبهما الفخر في المباحث أوّلا، و صاحب الأسفار نقلهما عنه مع بعض إفاضات و إشارات منه. و ما في المباحث لا يخلو من جودة تقرير حيث قال بعد تقرير الدليل المذكور على تجرّد النفس ما هذا لفظه:
و الاعتراض عليه من وجوه ستة:
الأوّل لا نسلّم أنّا نعقل ذواتنا و لم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذواتنا نوعا آخر من الإدراك مخالفا للتعقل. بيانه أنّ التعقل هو أن يحصل للعاقل ماهية المعقول فلا يمكننا أن نعرف كوننا عاقلين لذواتنا إلّا إذا عرفنا أن ذواتنا حاصلة لذواتنا، فإن أمكننا أن نبين أنّ لنا حقيقة ذواتنا من دون وساطة التعقل فما الحاجة إلى أن نقول إنا نعقل ذواتنا و نتوصل منه إلى أنّ لنا حقيقة ذواتنا، و إن لم يمكن ذلك فحينئذ لا يمكن بيان كوننا عاقلين بذواتنا إلا ببيان حصول حقيقة ذواتنا لنا، و لا يمكن ذلك الّا ببيان كوننا عاقلين لذواتنا و يلزم منه الدور.
فقال المجيب: ليس يتعلق الكلام بالتعقل و الشعور بل بالإدراك فإنه ثبت أنّ الإدراك عبارة عن حصول ماهية المدرك للمدرك و هذا القدر يكفى في تصحيح هذه الحجة.
قال السائل في تقرير سؤاله الأوّل: لم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذاتنا لا يقتضى أن
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 81
تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بل هو أثر ما يحصل لنا من ذاتنا إلخ؟
الاعتراض الثانى سلّمنا أنّا نعقل ذواتنا و لكن لم قلتم بأنّ كل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات إلخ؟
الاعتراض الثالث سلّمنا أنّ من عقل ذاتا فانّه يحصل له ماهية المعقول لكن لم لا يجوز أن تحصل ماهية ذاتى في قوّتى الوهمية إلخ؟
الاعتراض الرابع لم لا يجوز ان يكون إدراكى لذاتى بحصول صورة أخرى في ذاتى؟
بيانه إلخ.
الاعتراض الخامس قالوا: القسم الذي اخترتموه أيضا باطل. بيانه أنا إذا قلنا:
«موجود لذاته» إلخ.
الاعتراض السادس المعارضة بإدراك سائر الحيوانات أنفسها مع أنّ أنفسها ليست مجرّدة، و لا يلتفت إلى قول إلخ.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 82
ط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا
فاعلم أنّ في الثانى من خامسة نفس الشفاء عدة براهين تنتهى إلى ثمانية بل إلى تسعة على تجرّد النفس الناطقة بالبيان الذي ستسمعه منّا، أطولها الأوّل منها، و أقصرها الرابع منها، و الأوّل و السادس منها من غرر تلك البراهين. و نحن نأتى بها و نذكر حولها بعض ما لعلّها يوضح المراد و يفيد المستفيد. على أنّا نأتى بها مصححة من نسخنا المصحّحة المعروضة على عدة نسخ مخطوطة قد وفّقنا بتصحيحها بعرضها عليها في سنى تدريسنا الشفاء.
قال الشيخ:
الفصل الثانى في إثبات أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادّة جسمانية:
انّ ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان فيه شيء و جوهر ما يتلقّى المعقولات بالقبول، فنقول:
إنّ الجوهر الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم و لا هو قائم بجسم على أنّه قوّة فيه أو صورة له بوجه فإنّه إن كان محلّ المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير فإمّا أن تكون الصورة المعقولة تحلّ منه شيئا وحدانيا غير منقسم، أو تكون انّما تحلّ منه شيئا منقسما؛ و الشيء الذي لا ينقسم من الجسم هو طرف نقطىّ و لنمتحن (و لنمعن- خ) أوّلا أنّه هل يمكن أن يكون محلّها طرف غير منقسم؟ فنقول: انّ هذا محال، و ذلك لأنّ النقطة هي نهاية ما لا تميّز لها عن الخط في الوضع، أو عن المقدار الذي هو منته إليها تميزا يكون له النقطة شيئا يستقرّ فيه شيء من غير أن يكون في شيء من ذلك المقدار، بل كما أنّ النقطة لا تنفرد بذاتها و انّما هي طرف ذاتى لما هو بالذات مقدار، كذلك انّما يجوز أن يقال بوجه ما انّه يحل فيها طرف شيء حال في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 83
المقدار الذي هي طرفه، فهو متقدر بذلك المقدار بالعرض؛ و كما أنّه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات، كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات؛ و لو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات فكانت النقطة اذن ذات جهتين: جهة منها تلي الخط الذي تميّزت عنه، وجهة منها مخالفة له مقابلة فتكون حينئذ منفصلة عن الخط بقوامها، و للخط المنفصل عنها نهاية و لا محالة غيرها تلاقيها فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه، و الكلام فيها و في هذه النقطة واحد، و يؤدّى هذا إلى أن تكون النقط متشافعة في الخطّ إمّا متناهية و إمّا غير متناهية، و هذا أمر قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته فقد بان أنّ النقط لا يتركب بتشافعها جسم، و بان أيضا أنّ النقطة لا يتميز لها وضع خاص و لا بأس بأن نشير إلى طرف منها فنقول:
انّ النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ إمّا أن تكون النقطة المتوسلة تحجز بينهما فلا تتماسان فيلزم حينئذ أن تنقسم الواسطة على الأصول التي علمت و هذا محال.
و إمّا أن تكون الوسطى لا تحجز المتكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصور المعقولة حالة في جميع النقط و جميع النقط كنقطة واحدة و قد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها فتكون تلك النقطة مباينة لهذه في الوضع و قد وضعت النقط كلها مشتركة و هذا محال (فهذا خلف- خ).
فقد بطل إذن أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم، فبقى أن يكون محلّها من الجسم إن كان محلّها في الجسم منقسما:
فلنفرض صورة معقولة في شيء منقسم فإذا فرضنا في الشيء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين:
فإن كان متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس بهما إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء الّا أن يكون ذلك الكل شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة في المقدار، أو
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 84
الزيادة في العدد لا من جهة الصورة، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما و ليس كل صورة معقولة بشكل أو عدد و تصير حينئذ الصورة الخيالية لا معقولة، و أنت تعلم انّه ليس يمكن أن يقال: إنّ كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل، و كيف و الثاني داخل في معنى الكل، و خارج عن معنى الجزء الآخر؟ فمن البيّن الواضح أنّ الواحد منهما و حدّه ليس يدلّ على نفس معنى التمام.
و ان كانا غير متشابهين فلينظر كيف يمكن أن يكون ذلك، و كيف يمكن أن تكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة؟ فانّه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحدّ التي هي الأجناس و الفصول و تلزم عنها (و تلزم من هذا- خ) محالات: منها أنّ كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا في القوّة قبولا غير متناه فيجب أن تكون الأجناس و الفصول في القوّة غير متناهية و هذا محال و قد صحّ أنّ الأجناس و الفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوّة غير متناهية؛ و لأنّه ليس يمكن أن يكون فيه توهم القسمة يفرز الجنس و الفصل، بل ممّا لا نشكّ فيه أنّه إذا كان هناك جنس و فصل يستحقّان تميّزا في المحل أنّ ذلك التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة فيجب أن تكون الأجناس و الفصول بالفعل أيضا غير متناهية، و قد صحّ أنّ الأجناس و الفصول و أجزاء الحدّ للشيء الواحد متناهية من كل وجه، و لو كانت الأجناس و الفصول يجوز لها أن تكون غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن تجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة فإنّ ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية بالفعل.
و أيضا و لتكن القسمة ممّا قد وقع من جهة فأفرز (فأفرزت- خ) من جانب جنسا و من جانب فصلا، فلو غيّرنا القسمة لم يخل إمّا أن يقع بها في كل جانب نصف جنس و نصف فصل، أو يوجب انتقال الجنس و الفصل إلى القسمين فيميل الجنس و الفصل كلّ إلى قسم من القسمة فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية يدور بمكان الجنس و الفصل، و كان يجرّ كل واحد منها إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج فيه، على أنّ ذلك أيضا لا يغني فانّه يمكننا أن نوقع قسما في قسم.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 85
و أيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط منه فإنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات و هي مباد للتركيب في سائر المعقولات و ليس لها أجناس و لا فصول، و لا هي منقسمة في الكم، و لا هي منقسمة في المعنى؛ فاذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المفروضة متشابهة كل واحد منها في معنى الكل و انّما يحصل الكل بالاجتماع فقط. و لا أيضا يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يجب أن تنقسم الصورة المعقولة، و اذا لم يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة، و لا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم، و لا بدّ لها من قابل فينا، فلا بدّ من أن نحكم أنّ محلّ المعقولات جوهر ليس بجسم، و لا أيضا متلقّيها منّا قوّة في جسم فانّها يلحقها ما يلحق الجسم من الانقسام ثمّ يتبعه سائر المحالات، بل متلقّى الصورة المعقولة جوهر منّا غير جسمانيّ. انتهى (كتاب النفس من الشفاء بتصحيح الراقم و تعليقه عليه، ص 288، 294).
بيان: قوله: «أو عن المقدار الذي هو منته إليها» أي سواء كان خطّا أو غير الخطّ كالمخروط.
و قوله: «يستقرّ فيه شيء» الشيء هو الصورة المعقولة في المقام.
قوله: «فكانت النقطة إذن ذات جهتين» و بعبارة أخرى إن كان لها تميز عن ذلك المقدار في الوجود فهو محال، و إلّا لكانت منقسمة كما بيّن في موضعه.
قوله: «لا تحجز المكتنفتين عن التماس» فتتداخل النقاط فلا يحصل منها خط إذ لا يحصل امتداد على هذا الفرض قطعا، و أيضا تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط إلخ؛ و لقد أسقط اللازم من التشافع و أقام المطلوب مقامه فإنّ ابطال التشافع مقصود بالعرض.
قوله: «و قد وضعت النقط كلّها مشتركة في الوضع» لأنّ المفروض أنّ الوسطى لا يحجز.
قوله: «إمّا أن يكون الجزءان متشابهين» أي الجزءان من الصورة المعقولة.
قوله: «إذا لكل من حيث هو كل» تعليل لقوله: ما ليس بهما.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 86
قوله: «و ليس كل صورة معقولة بشكل» الواو حالية.
قوله: «انّ الواحد منهما وحده» وحده بالواو العاطفة و تشديد الدال، و يمكن كونها كلمة واحدة اى موحدا.
و قوله: «على نفس معنى التمام» أي معنى التمام من الكل.
قوله: «و قد صح أنّ الأجناس» الواو حالية في الموضعين.
قوله: «و أجزاء الحد لشيء الواحد متناهية» لأنّها إن كانت غير متناهية لزم عدم تعقل كنه ماهية من الماهيات.
و على هذا البيان قوله في الموضع الأوّل المقدم: «و قد صح أنّ الأجناس و الفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوّة غير متناهية».
قوله: «اجتماعا على هذه الصورة» أي على الصورة الغير المتناهية.
قوله: «فيكون فرضنا الوهمي» أي الجزئى. و قوله: «أو قسمتنا الفرضيّة» أي الكلي و قوله: «أن نوقع قسما في قسم» فلا محالة في تنصيف كل منهما. و قوله: «فإن هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات» كالأجناس العالية و الفصول الأخيرة.
و أقول: خلاصة البرهان أنّ محل المعقولات إن كان جسما أو جسمانيا فهو إمّا شيء وحدانيّ أو منقسم، و الأوّل طرف نقطى و النقطة غير متميزة بذاتها فمحال أن تكون محلّ المعقولات.
و الثاني لزم منه انقسام الصورة المعقولة فأجزائها إمّا متشابهة أو غير متشابهة، فعلى التشابه كيف يجتمع منها ما ليس بها إذا لكل من حيث هو كل ليس هو الجزء إلّا أن يحصل ذلك الكل أي الصورة المعقولة من الأجزاء و لها الزيادة في المقدار أو العدد فحينئذ خرجت عن كونها معقولة بل تصير صورة خيالية.
و إن كانت غير متشابهة فهي أجناس و فصول و هما متناهيتان لأنّها لو كانتا غير متناهيتين لزم عدم تعقل كنه ماهية من الماهيات؛ على أنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات ليس لها أجناس و لا فصول، و لا هي منقسمة في الكم، و لا هي منقسمة في المعنى لأنّ الحقيقة البسيطة لا يمكن أن يطرأ عليه التجزى أصلا، فلا بدّ من أن نحكم
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 87
أنّ متلقّى الصورة المعقولة جوهر منّا غير جسماني. و بعبارة أخرى: انّ الجوهر الذي تحلّ فيه الصورة العقلية الكلّية- و إن شئت قلت: الجوهر الذي يدرك الصور العقليّة- جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام.
و عصارة البرهان: أنّ الصورة المعقولة بسيطة مفارقة و وعاء المفارق مفارق.
و أخصر من هذه أن تقول: وعاء العلم مجرّد لأنّه مجرّد. أو تقول: العلم بسيط فمدركه بسيط.
هذا ما أردنا من تلخيص البرهان. و لا يخفى عليك أنّ قول الشيخ: «و تصير حينئذ الصورة خيالية لا معقولة» صريح بأنّ البرهان يدلّ على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقلانيا، و لا يدلّ على تجرّدها الخيالى البرزخى الغير التام، و لذلك جعلناه في بيان تجرّدها العقلي. فيسأل الشيخ و الذين اقتفوا لآرائه و ممشاه عن النفس التي لم تتجرّد تجرّدا عقليا فإن أقاموا البرهان على تجرّدها البرزخى أيضا فهو المراد و إلّا فالإيراد وارد عليهم في بقاء النفوس التي لم يحصل لها تجرّد عقلى بعد. فتأمل.
تحقيق: اعلم أنّ هذا البرهان أعنى به البرهان الأوّل من نفس الشفاء هو عندهم من أقوى البراهين الدالّة على تجرّد النفوس الناطقة المدركة للمعانى الكلية. و غرضنا الآن في التّحقيق أنّ للشيخ عناية خاصة به و أتى به في سائر تصانيفه بتقريرات يقرب بعضها من بعض، مع ذلك فيها فوائد في تقريب البرهان و تشحيذ الأذهان، و دفع اعتراضات قد تورد عليه، أوجبت نقل بعض ما في تلك المصنّفات من تقرير البرهان، و إن كان بظاهره يوهم الإسهاب و لكن عظم الأمر يجبره فعليك بما نتلوه منها و هي ما يلى:
1- قال في النجاة:
فصل في تفصيل الكلام على تجرّد الجوهر الذي هو محل المعقولات. ثمّ نقول: انّ الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم و لا قائم بجسم- إلى آخر ما نقلناه من الشفاء، و قد علمت أنّ الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) اقتطف النجاة من كتابه الكبير الشفاء. (النجاة، 174- 177، ط مصر، الطبعة الثانية، 1357 ه. ق).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 88
2- قد تصدّى الشيخ لبيان هذا البرهان في الفصل السادس عشر و الفصلين بعده من النمط الثالث من كتاب الإشارات، و في الفصل الأوّل من سابع الإشارات، كما يأتي استيفاء النقل و التحقيق و التنقيب في ذلك.
3- اكتفى في الفصل السادس من المقالة الثالثة من رسالته في المبدا و المعاد بذلك البرهان الأوّل من الشفاء فقط على كون النفس جوهرا مفارقا بتقرير آخر مع اختصار فقال ما هذا لفظه:
فصل في أنّ المعقولات لا تحل جسما، و لا قوّة في جسم، بل جوهرا قائما بنفسه.
و نحن الآن ملتمسون أن نعرف كيف تأخذ كلّ قوّة مدركة صورة المدرك، فنقول: إنّ المدرك إذا كان ذاتا عقلية فلا يجوز أن يدركه قوّة حسيّة، و لا قوّة في جسم بوجه من الوجوه.
و البرهان على ذلك أنّ كل قوّة في جسم فإنّ الصورة التي تدركها تحلّ جسما لا محالة، و لو كان محلّه مجرّدا عن الجسم لكان لتلك القوّة قوام دون الجسم. ثمّ لا يجوز أن يكون لصورة عقلية، كيف كانت، عقلية بذاتها أو بتجريد العقل لها، تصوّر و حلول في الجسم، و ذلك لأنّ كل معنى و ذوات عقلية فهي بريئة عن المادة و عن عوارض المادة، و انّما هو حدّ فقط.
ثمّ كل صورة تحل جسما فقد يمكن فيها أن تنقسم؛ فإن تشابهت الأقسام فيكون الشيء لم يدرك مرّة، بل مرارا كثيرة، بل مرارا بغير نهاية بالقوّة. و إن لم تتشابه الأقسام وجب أن تختلف، فيجب أن يكون بعضها قائما مقام الفصول من الصورة التامّة، و بعضها قائما مقام الجنس، لأنّ أجزاء تلك الصورة تكون أجزاء معنى الذات، و معنى الذات لا يمكن أن يقسم إلّا على هذا الوجه. لكن القسمة ليست واجبة أن تكون على جهة واحدة، بل يمكن على جهات مختلقة، فيمكن أن تكون أجزاء الصورة كيف اتفق فصلا أو جنسا، فلنفرض جزء جنسا و جزء فصلا معيّنا. و لنقسم على خلاف تلك القسمة: فإن كان ذلك بعينه فهذا محال، و إن كان فصل آخر و جنس آخر حدث للشيء فصول كيف اتفق و بغير نهاية و أجناس كذلك فهذا محال.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 89
ثمّ كيف يجوز و لم يجب أن تكون صورة هذا الجانب مختصا بأنّه جنس، و صورة هذا الجانب أنّه فصل. و إن كان هذا الاختصاص يحدث بتوهم القسمة فالتوهم بغير صورة الشيء، و هذا محال؛ و إن كان موجودا فيجب من ذلك أن يكون عقلنا شيئين، لا شيئا واحدا. و السؤال في كل واحد من الشيئين ثابت، فيجب أن يكون عقلنا أشياء بلا نهاية. فيكون للمعقول الواحد مباد معقولة بلا نهاية.
ثمّ كيف يمكن أن يحصل من المعقولين معقول واحد، و نحن نعقل طبيعة الفصل بعينها لطبيعة الجنس، فيجب أن تحلّ طبيعة الفصول و صورته في الجسم حيث طبيعة الجنس، فيستحيل.
ثمّ الواحد الذي لا قسمة له كيف يعقل، و الحدّ من جهة ما هو حدّ واحد، فكيف يعقل من جهة وحدته، و الفصول المجرّدة لا تنقسم بالفصول، و الأجناس المجرّدة التي ليس لها أجناس، و صورة المعقولات التي لا قسمة لها إلى مبادى حدود كيف تعقل؟
و قد بان و اتضح أنّ المعقولات الحقيقية لا تحلّ جسما من الأجسام و لا تقبلها صورة متقررة في مادة جسم، هذا قسم. (ص 100 و 101، ط 1، ايران).
4- هذا البرهان هو البرهان الأوّل من الفصل الخامس من رسالة الشيخ في النفس و بقائها و معادها أيضا. (مجموعة الرسائل الفلسفية، ص 80- 84، ط مصر، و ص 126- 129، ط جامعة استانبول).
و هذه الرسالة للشيخ قد طبعت مرّة مع رسائل أخرى فلسفية تنتهي إلى اثنتين و عشرين رسالة في جامعة استانبول، عنى بنشرها الفاضل حلمى ضيا و لكن بمناسبة ذكرى ابن سينا الألفية؛ و مرّة أخرى مع ثلاث رسائل أخرى للشيخ في النفس أيضا في قاهرة مصر، حققها و قدّم إليها الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى سنة 1371 ه. و قد بذل في تصحيحها بعرضها على نسخ أخرى عتيقة جهده، فرأينا نقل البرهان من الرسالة بهذا التصحيح البليغ في المقام حقيقا لقرب عباراته من عبارات الشفاء و إيجابه تسهيل الفهم من ما في الشفاء أيضا. إلّا أنّا نجعل اختلاف النسخ التي أورده في ذيل الصفحات بين الهلالين بدون ذكر رموز النسخ روما للاختصار، فهي ما يلى:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 90
الفصل الخامس في أنّ إدراكها لا يكون بآلات (بالآلة) في حال (فصل في تفصيل الكلام على تجرّد الجوهر الذي هو محل المعقولات؛ فصل في أنّ المدركة للصور الكلية لا يكون بآلات بحال) نقول: انّ الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم، و لا قائم بجسم، على أنّه قوّة فيه، أو صورة له بوجه. فإنّه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير، فإمّا أن يكون محل الصور (الصورة) فيه طرفا منه لا ينقسم، أو يكون أنّما يحل منه شيئا منقسما.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة 90 ط) برهان آخر على تجرد النفس الناطقة تجردا تاما عقليا ..... ص : 82
لنمتحن أوّلا أنّه هل يمكن أن يكون طرفا غير منقسم؟ فأقول: إنّ هذا محال.
و ذلك لأنّ النقطة هي نهاية ما لا تميز لها (له) في الوضع عن الخط أو المقدار الذي هو متصل به (و المقدار الذي هو منته إليها) حتى ينتقش فيه (حتى يستقر فيه) شيء من غير أن يكون في شيء من ذلك الخط. بل كما أنّ النقطة لا تنفرد بذاتها و إنّما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار، كذلك أنّما يقال بوجه ما إنّه (بوجه إنّه) يحلّ فيها طرف شيء حال في المقدار الذي هو طرفه متقدر (فيتقدر) به بالعرض؛ و كما (فكما) أنّه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة (بالعرض في النقطة).
و لو كانت النقطة منفردة (مفردة) تقبل شيئا من الأشياء، لكان يتميّز لها ذات، فكانت (و كانت) النقطة حينئذ ذات جهتين: جهة منها تلي الخط (الخط الذي تميزت عنه)، و جهة منها مخالفة له (لها) مقابلة (وجهة منها تخالف الذي تتميز به عنه و هي له مقابلة)، فتكون حينئذ منفصلة عن الخط، و للخط نهاية غيرها تلاقيها، فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه (هذا)، و الكلام فيها و في هذه النقطة واحد، و يؤدّي هذا إلى أن تكون النقط متشافعة (متتابعة) في الخط، إمّا متناهية و إمّا غير متناهية؛ و هذا أمر (الأمر) قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته. فقد بان أنّ النقط لا تتركب بتشافعها، و بان أيضا أنّ النقطة لا يتميز (لا يتم) لها وضع خاص. و نشير إلى طرف منها فنقول:
إنّ النقطتين حينئذ اللتين تطبقان بنقطة واحدة من جنبتيها (جنبتيه) إمّا أن تكون هذا النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان، فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأوّلية أن تكون كل واحدة منهما تختص بشيء من الوسطى تماسّه، فتنقسم حينئذ الواسطة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 91
و هذا محال.
و إمّا أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط، و جميع النقط كنقطة واحدة. و قد وضعنا هذا النقطة الواحدة منفصلة عن الخط، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها بها ينفصل عنها، فتلك النقطة تكون مباينة (متباينة) لهذه في الوضع، و قد وضعت النقط كلّها مشتركة في الوضع، هذا خلف. فقد بطل (بطل إذن) أن يكون محلّ المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم. فبقى أن يكون محلّها (محله) من الجسم- إن كان محلّها جسما- شيئا منقسما.
فلنفرض صورة معقولة في شيء منقسم، فإذا فرضناها (فرضنا) في الشيء المنقسم انقساما عرض للصورة أن تنقسم، فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين فان كانا متشابهين فكيف يجتمعان منهما ما ليس هما؟ الّا أن يكون ذلك الشيء شيئا يحصل فيهما من جهة المقدار (من جهة بالزيادة في المقدار) أو الزيادة في العدد، لا من جهة الصورة، فتكون حينئذ الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما، و ليس كل صورة معقولة بشكل، و تصير حينئذ الصورة خيالية لا عقلية.
و أظهر من ذلك أنّه ليس يمكن أن يقال إنّ كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل في المعنى، لأن الثاني إن كان غير داخل في معنى الكلّ، فيجب أن نضع في الابتداء معنى الكل لهذا الواحد لا لكليهما (لا كليهما) و إن كان داخلا في معناه فمن البيّن الواضح أنّ الواحد منهما وحده ليس يدلّ على نفس معنى التمام (على معنى نفس التّمام).
و إن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة؟ فانّه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحدّ التي هي الأجناس و الفصول، و يلزم من هذا محالات: منها أنّ كلّ جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا بالقوّة (في القوّة) قبولا غير متناه، فيجب أن تكون الأجناس و الفصول بالقوّة غير متناهية؛ و قد صحّ أنّ الأجناس و الفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوّة غير متناهية. و لأنّه ليس يمكن أن يكون توهّم القسمة بقدر الجنس و الفصل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 92
(و الفصل تمييزا بينهما). بل ممّا لا شكّ فيه أنّه إذا كان جنس و فصل يستحقّان تمييزا في المحلّ، أنّ ذلك التمييز لا يتوقف على (إلى) توهم القسمة، فيجب أن تكون الأجناس و الفصول أيضا بالفعل غير متناهية؛ و قد صحّ أنّ الاجناس و الفصول و أجزاء الحدّ (و الفصول و الحد) للشيء الواحد متناهية من كل وجه. و لو كانت غير متناهية بالفعل هاهنا لكانت توجب أنّ الجسم (أن يكون الجسم) الواحد يفصل (انفصل) بأجزاء غير متناهية. (بالفعل هاهنا لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة فإنّ ذلك يوجب أنّ الجسم الواحد ...)
و أيضا لتكن القسمة وقعت (وقع) من جهة، و أفرزت (فأفرزت، فأفرد، و أفرد) من جانب جنسا، و من جانب فصلا. فلو غيّرنا القسمة لكان يقع منها في جانب نصف جنس و نصف فصل، أو كان ينقلب [الجنس إلى مكان الفصل، و الفصل إلى مكان الجنس] (زيادة في نسخة) فكان فرضنا الوهمى يدور مقام الجنس و الفصل فيه (و كان يغير كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدن خارج). على أنّ ذلك أيضا لا يغنى، فانّه يمكننا أن نوقع قسما في قسم.
و أيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط منه، فإنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات، و مبادي للتركيب (و مبادي ليست للتركيب) في سائر المعقولات، و ليس لها أجناس و لا فصول، و لا هي منقسمة في الكم، و لا منقسمة في المعنى. فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غير متشابهة، و كل واحد (متشابهة كل واحد) منها هو غير معنى الكل (منها و هو غير معنى الكل)؛ و إنّما يحصل الكل (الكلى) بالاجتماع. فإذا (فإن) كان ليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة (صورة معقولة)، و لا أن تحلّ طرفا من المقادير غير منقسم (غير منقسم و لا بدّ لها من قابل فينا)، فبيّن أنّ محلّ المعقولات جوهر ليس بجسم، و لا أيضا قوّة في جسم، فيلحقه (فيلحقها) الجسم من الانقسام (في الانقسام)، تث يتبعه سائر المحالات. انتهى.
اعلم أنّ عبارات الشيخ في تقرير البرهان من الرسالة المذكورة، و من النجاة كأنّهما واحدة لا تتفاوت كثير تفاوت فيها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 93
5- قد علمت أنّ البرهان الأوّل من نفس الشفاء على اثبات تجرّد النفس هو من أقوى البراهين عندهم على ذلك. و هو البرهان الأوّل في أكثر مصنفات الشيخ لكنّه بدأ في مختصر له موسوم ب عيون الحكمة بالبرهان السادس الآتى من نفس الشفاء على تجرّدها، ثمّ أتى بعده بخلاصة البرهان الأوّل من نفس الشفاء ايفاء لحق العيون في الاختصار فقال:
و ممّا يوضّح هذا أنّ الصورة المعقولة لو حلّت جسما أو قوّة في جسم لكانت تحتمل الانقسام و كان الأمر الوحداني لا يعقل. و ليس يلزم من هذا أنّ الأمر المركب يجب أن لا يعقل بما لا ينقسم؛ و ذلك لأنّ وحدة الموضوع لا تمنع كثرة المحمولات فيه، لكنّ تكثّر الموضوع يوجب أن يكثر المحمول (ط مصر بتحقيق عبد الرحمن بدوى، ص 43- 44).
ثمّ لا بأس في تقديم الأوّل على السادس مرّة، و أخرى بالعكس لما تقدّم من أنّهما من غرر تلك البراهين. و قد وصف السادس في النجاة بقوله: «فهذا برهان عظيم ...»
كما سيأتي تفصيله.
6- قد حرّر الشيخ ذلك البرهان الأوّل من الشفاء في الفصل التاسع من رسالة له في القوى النفسانية بتحرير آخر مع اختصار في البرهان إلّا أنّه قدّم له خمس مقدمات مستنبطة من متن البرهان، تسهيلا لنيل المراد من البرهان. و هذه الرسالة قد طبعت في مصر مرّة سنة 1325 ه. بتصحيح الفاضل ادورد ابن كرنيليوس فنديك الأمير كاني و ضبطه و مقدمته مع شرح كل فصل منها بإشارات منيفة و قد بذل جهده في التصحيح و الضبط جدّا، و أفاد و أجاد بما عمل في طبع الرسالة و نشرها. و مرّة أخرى سنة 1371 ه. مع ثلاث رسائل أخرى لابن سينا في النفس باهتمام الدكتور أحمد فؤاد الأهواني. و نحن نأتى بتحرير الشيخ على وفق هذين الطبعين، و نجعل بعض اختلاف النسخ ممّا أفاده ادورد فنديك، بين الهلالين بلا نقل رموز النسخ روما للاختصار.
قال الشيخ:
الفصل التاسع في إقامة البراهين على جوهرية النفس و غناها عن البدن في القوام
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 94
على مقتضى طريقة المنطقيين. [و إليك] أحد البراهين المنطقية في إثبات هذا المطلوب، و لنقدّم له مقدّمات:
الف) منها أنّ الإنسان يتصوّر المعانى الكلية التي يشترك فيها كثرة ما، كالإنسان المطلق و الحيوان المطلق. و هذه المعانى الكلية منها ما يتصوّره بتركيب جزئي (بتركيب جبرىّ)، و منها ما يتصور (لا يتصور) لا بالتركيب بل بالانفراد. و ما لم يتصوّر القسم الأخير فلا يمكن أن يتصور القسم الأوّل. ثمّ انّما يتصور كل واحد من هذه المعانى الكلية صورة واحدة مجرّدة عن الإضافة إلى جزئياتها المحسوسة، إذ جزئيات كل واحد من المعانى الكليّة لا تتناهى بالقوّة، و ليس بعضها أولى بذلك من بعض.
ب) و منها أنّ الصورة مهما حلّت جسما من الأجسام و بالجملة منقسما من المنقسمات فقد لابسته في تمام أجزائه، و كل ما لابس منقسما في تمام أجزائه فهو منقسم فكل صورة لابست جسما من الأجسام فهي منقسمة.
ج) و منها أنّ كل صورة كلية إذا اعتبر فيها الانقسام بمجرّد ذاتها فلا يجوز أن تكون أجزاؤها المعتبرة مشابهة للكل في تمام المعنى، و إلّا فالصورة الكلية التي اعتبر الانقسام في ذاتها لم تنقسم ذاتها، بل انقسمت في موضوعاتها إمّا أنواعها و إمّا أشخاصها؛ و تكثّر الأنواع و الأشخاص لا يوجب الانقسام في تجرّد ذات الكلّي، و قد وضع أنّه وقع و هذا خلف. فإذن. قولنا: إنّ أجزاءها لا تشابهها في تمام المعنى، قول صادق.
د) و منهما أنّ الصورة الكليّة (العقلية) إذا اعتبر فيها الانقسام فلا يجوز (فلا يجب) أن تكون أجزاؤها عرية عن جميع معناها، و ذلك أنّنا إذا جوّزنا ذلك و قلنا إنّ هذه الأجزاء مباينة لتمام صورة الكلّي أنّما تحصل الصورة فيها عند اجتماعها فهي أشياء خالية عن صورة ما يحصل فيها عند التركيب فهذه صفة أجزاء القابل، فإذن لم تقع القسمة في الصورة الكليّة بل في قوابلها، و قد قيل إنّه وقع فيه، و هذا خلف. فإذن قولنا: لا يجوز أن تكون أجزائها مباينة لها في جميع المعنى، قول صادق.
ه) و منها و هي نتيجة المقدمتين، أنّ الصورة الكلّية إذا أمكن أن يعتبر فيها الانقسام
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 95
فإنّ أجزاءها لا خالية عن كمال الصورة و لا مستوفية لها استيفاء تامّا، و كأنّها أجزاء حدّه و رسمه.
فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: لا محالة أنّ الصورة المعقولة، و بالجملة العلم، تقتضي محلّا من ذات الإنسان جوهرىّ الذات محلّه، فلا يخلو أن يكون هذا الجوهر جسما منقسما أو جوهرا غير جسم و لا منقسم. و أقول و لا يجوز أن يكون جسما؛ و ذلك أنّ الصورة المعقولة الكلّية إذا حلّت جسما فلا محالة أنّه يمكن أن يعرض فيها الانقسام على ما أوضحناه أوّلا. و لا يجوز أن تكون أجزاؤها إلا متشابهة للكل من وجه، مباينة من وجه؛ و بالجملة في كلّ واحد منها بعض معنى الكلّ. و الصورة الكلّية ليس شيء منها يتركب منه و له بعض معناها إلّا الأجناس و الفصول، فإذن هذه الأجزاء أجناس و فصول، فكل واحد منها صورة كلّية، و القول فيها كالقول الأوّل، و لا محالة إمّا سينتهي إلى صورة أولى لا تنقسم إلى أجناس و فصول لامتناع التمادي إلى ما لا يتناهى في أجزاء مختلفة المعاني إذا تقرر أنّ الأجسام تتجزّأ إلى ما لا يتناهى. و معلوم أنّه إن كانت الصورة الكلّية لا تنقسم إلّا إلى أجناس و فصول و إن كان منها (و فصول إن كان منها) ما لا تنقسم إلى أجناس و فصول، فليس تنقسم بوجه من الوجوه في ذاته إذن و لا المركب منهما، إذ من المعلوم أنّ الإنسان لا يمكن أن يتصوّر إلّا مع تصوّر الحىّ الناطق.
و بالجملة لا يمكن أن تتصوّر الصورة الكلية التي لها جنس و فصل إلّا بتصوّرها جميعا. فإذن الصورة التي وصفناها أنّها حلّت في الجسم لم تحلّ فيه و هذا خلف؛ فنقيضه، و هو قولنا: إنّ الصورة الكلية لا تحلّ جسما من الأجسام، صادق. فإذن الجوهر الذي تحل فيه الصورة العقلية الكلية جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام، و هو الذي نسمّيه بالنفس الناطقة. و ذلك ما أردنا أن نبين.
7- للشيخ رسالة فارسية في معرفة النفس قد طبعت بمناسبة ذكرى ابن سينا الألفية في جامعة طهران، عاصمة ايران، سنة 1371 ه. ق 1331 ه. ش بتصحيح الدكتور موسى عميد، و قد بذل جهده في تصحيحها بعرضها على نسخ عديدة عرفها في مفتتح
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 96
الرسالة، و في تحشيتها، و الإتيان بمقدمة مجدية لها. و هذا البرهان من الشفاء هو البرهان الأوّل فيها على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق غير مخالط للمادة بريء عن الأجسام منفرد الذات بالقوام و العقل؛ إلّا أنّ الشيخ لخّص البرهان و أتى به في الرسالة بالفارسية؛ قال في الباب الخامس منها: «اكنون مىگوييم كه هر جوهرى كه تصور معقولات كند ...» (ص 34، ط 1).
8- البرهان الأوّل من نفس الشفاء على أنّ النفس الناطقة جوهر مفارق، محرّر في رسالة للشيخ (رضوان اللّه عليه) في السعادة و الحجج العشر بتحرير آخر مفيد في بيانه جدّا. و هذه الرسالة طبعت في حيدرآباد الدكن مع عدة رسائل أخر فلسفية للشيخ سنة 1353 ه. ق و البرهان المذكور هو الحجة الأولى في تلك الرسالة أيضا، و تؤول إلى البرهان الأوّل من الشفاء، و ليست غيره عند التحقيق قال:
الحجة الأولى في أنّ النفس جوهر [مفارق]؛ يجب أن يتحقق أنّ الإنسان فيما هو انسان يباين سائر الحيوانات بقوّة تخصه من بين جملتها له بها إدراك المعقولات الكلية، و قد جرت العادة بتسمية هذه القوّة العقل الهيولانى و النفس الناطقة، و بها يسمّى الإنسان ناطقا. و هذه القوّة موجودة في كل واحد من الناس طفلا كان أو بالغا، مجنونا كان أو عاقلا، مريضا كان أو سليما.
فأوّل ما يحصل في هذه القوّة من المعقولات هي المسماة بداية العقول و الآراء العالية أعنى المعانى المتحققة بغير حاجة إلى قياس و تعلم، إذ لو كان لكل واحد من المعقولات حاجة إلى تقدم تعلم و قياس لوصل الأمر إلى ما لا يتناهى و ذلك محال.
فظاهره أنّ من المعقولات معقولات أوّل لا تحتاج إلى قياس و تعلم في أن تكون معقولات، و يجب أن يكون حصولها في النفس في أوّل مرتبة لأنّها يجب أن تكون العلة لسائر المعقولات في أن تكون معقولات، فإنّ كل واحد لما هو أوّل في كل واحد من المعاني علة لما هو الثاني في ذلك المعنى من حيث هو ذلك المعنى، و لا بدّ من تقدم وجود هذه المعاني في القابل لها من الإنسان.
ثمّ لا يخلوا ما أن تكون هذه المعاني جواهر أو أعراضا حالّة فيها. و كلّ من نفي كون
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 97
النفس الناطقة داخلة في حقيقة الجوهر فإنّه يسمّي هذه المعاني أعراضا.
ثمّ من المعلوم المقبول عند كل واحد من الفرق أنّ العرض لا يستتمّ قوامه ما لم يحط بحامل جوهرى الذات يحمله، إذا اسم العرض موضوع لهذا المعنى. و لا بدّ أن يكون لهذه المعاني على هذا الوضع حامل من ذات الإنسان يحملها. و هذه المعانى كلية، لأنّ من حكم بأنّ الشيء لا يصدق عليه نعم و لا معا، و لا يكذبان عليه معا، بل يصدق أحدهما و يكذب الآخر، فليس يطلقه إلّا إطلاقا كليا. و كذلك من قال: إنّ الكلّ أعظم من الجزء. و كذلك من قال: إنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
فلينظر من هو حامل هذه المعاني الكلّية من ذات الإنسان؟ و هل هو جسم، أو جوهر غير جسم؟.
و من البيّن أنّ حاملها لو كان جسما لامتنع أن يقبل شيئا من المعانى المعقولة الكلية.
و ذلك أنّه ليس شيء من هذه ينقسم إلّا إلى الأجزاء الجزئية إن كانت له، و الأجزاء الرسمية الوهمية إن كانت له، و الأجزاء القولية إن كانت له. و أمّا من جهة الكمية فكلّا؛ و تبيّن ذلك آنفا.
ثمّ من البيّن أنّ كلّ صورة لابست جسما من الأجسام فإنّها تنقسم بانقسام الجسم.
ثمّ من الممتنع أن يكون انقسامها من جهة الكميّة، و ذلك أنّ الأجزاء التي تنقسم إليها الصورة المعقولة لا يخلو إمّا أن يكون لها أو لبعضها شيء من معنى الكل، أو لا يكون لها أو لبعضها شيء من معنى الكل، فإن كان هذا القسم فالصورة الكلّيّة إذا تتركب من أجزاء ليس لا شيء من معنى الكل، و إذا كانت أجزاء خالية عن صورة و انّما تحصل فيها الصورة عند اجتماعها، فليس بأجزاء لصورة تقبل هي أجزاء قابل الصورة، فاذا ليست الصورة التي وصفناها بمنقسمة و هذا خلف.
فبقى إن كانت الصورة الكلية منقسمة، أن تنقسم إلى أجزاء لها معناها؛ و ذلك على قسمين:
إمّا أن يكون لكل واحد منها أو بعضها تمام صورتها و معناها: فتكون الصورة الكلية محمولة على هذه الأشياء، و هذه الأشياء إمّا أشخاص تحتها، أو أنواع؛ و من البيّن أنّا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 98
إذا وضعنا الصورة الكلية نوعا من الأنواع الأخر أنّ هذه الأجزاء تكون أشخاصها يحمل عليها معنى الصورة الكلّية، ثمّ عند تركبها يحصل المعنى الكلى، و ذلك محال على ما بيّن على لسان المنطقيين و لسان الفاحصين عن الفلسفة الأولى؛ ثمّ مع ذلك لا يكون الانقسام عارضا لها بل لموضوعاتها التي تحمل هي عليها و ذلك غير الموضوع.
فبقى أنّما إذا انقسمت فإنّما تنقسم إلى أشياء ليس لها تمام معناها، و لا هي أيضا عرية عنها، و تلك هي أجزاء الحد و الرسم، فإذا إنّما تنقسم إلى أجزاء حدّية أو رسمية، و لا يخلو إمّا أن تكون هذه الأجزاء كلّية أو شخصيّة: فإن كانت الشخصية فحدّ الكلى مركب من أجزاء شخصيّة و ذلك محال على ما بينه المنطقيون. و إن كانت كلّية فالمسألة راجعة من الرأس في كل واحد من الأجزاء. فأمّا إن بلغت القسمة إلى ما لا تتناهى فتكون صورة كلية مركبة من مباد صورية كلّية لا تنقسم في ذاتها إلى الأجناس الأولى. و بين أنّ هذه الصورة الكلية ليس من شأنها الحلول في جسم من الأجسام لأجل امتناعها عن الانقسام. فإذا لا الصورة التي هذه الصورة مبدؤها و جزؤها وحدها بحالّة في الجسم، و إلّا فيكون الإنسان موجودا و لا حيوانا و هذا محال.
فتبيّن أنّ الصورة الكلية لن تحلّ جسما من الأجسام البتة، و لا أيضا في قوّة جسمانية، إذ حال القوّة الملابسة للجسم في الانقسام كحال الجسم. فقد اتضح أنّ محلّ الحكمة من ذات الإنسان جوهر غير جسماني قائم بذاته، و ذلك ما أردنا أن نبيّن.
و هذا البرهان قد لخّصه الغزّالي بتحرير آخر و نقله في كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس و هو البرهان الأوّل فيه أيضا. (ص 25، ط مصر).
و كذا قد نقله الفخر الرّازي في المباحث المشرقية بتحرير آخر، و هو الدليل الأوّل فيه أيضا على تجرّد النفس الإنسانيّة؛ ثمّ أتى في أثناء التحرير بمطالب على سبيل السؤال و الجواب حول الدليل لا تخلو من فوائد (ج 2، ص 345، ط 1)؛ و كذا في المسألة الثامنة و العشرين من كتابه المسمّى ب الأربعين (ج 1، ص 267، طبع حيدرآباد الدّكن).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 99
و كذلك هو الحجة الأولى من نفس الأسفار، غير أنّ صاحب الأسفار نقلها من المباحث المشرقية و حرّره بتحرير آخر أيضا قريب من ما في المباحث و زاد بعض كلمات تمثيليّة، ثمّ أورد اعتراضات الفخر في أثناء تحرير الدليل على حذوه بتعبير و اعترض هاهنا تارة، فإن قلت أخرى، فأجاب عنها، من غير أن يصرّح باسم الفخر أو يسمّى ب المباحث،- و لا بأس بذلك-. ثمّ نقل مسلكا آخر في تقرير الحجة و اعتراضات بعض المتأخرين عليه، فأجاب عنها؛ و يريد بذلك البعض صاحب المباحث، و أفاد بعض إشارات لطيفة في تضاعيف الحجّة.
و اعلم أنّ أوّل من تصدّى لبيان هذا البرهان المذكور من الشفاء، هو الشيخ نفسه في الفصول الثلاثة السادسة عشرة و تاليتيه من النمط الثالث من كتاب الإشارات، فوزّع البرهان في ثلاثة فصول: فصل في تحرير أصل البرهان، و فصلين في الجواب عن توهّم الإيرادين حوله؛ سيّما أنّ الشارح المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات بيّنها أتمّ تبيين؛ على أنّ لنا حول كلماتهما السامية تعليقات لعلّها لمجدية لمن هو يبتغى الإيمان و الاطمينان بنحو هذه المعارف الإيقانيّة، فعليك بما نهديها إليك، و اللّه سبحانه وليّ التوفيق؛ قال الشيخ:
«إشارة، إن اشتهيت الآن أن يتّضح لك أنّ المعقول لا يرتسم في منقسم و لا في ذى وضع فاسمع انك تعلم أن الشيء غير المنقسم قد يقارنه أشياء كثيرة لا يجب لها أن يصير منقسما في الوضع، و ذلك إذا لم تكن كثرتها كثرة ما ينقسم في الوضع كأجزاء البلقة لكن الشيء المنقسم إلى كثرة مختلفة الوضع لا يجوز أن يقارنه شيء غير منقسم، و في المعقولات معان غير منقسمة لا محالة و إلّا لكانت المعقولات أنّما تلتئم من مبادئ لها غير متناهية بالفعل؛ و مع ذلك فإنّه لا بدّ في كلّ كثرة متناهية أو غير متناهية من واحد بالفعل، و إذا كان في المعقولات ما هو واحد و يعقل من حيث هو واحد فانّما يعقل من حيث هو واحد فانّما يعقل من حيث لا ينقسم، فإذن لا يرتسم فيما ينقسم في الوضع، و كل جسم و كل قوّة في جسم منقسم.»
أقول قوله: «فاذن لا يرتسم فيما ينقسم في الوضع» نتيجة البرهان. أي لا يرتسم
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 100
ما هو واحد بالفعل معقول من حيث هو كذلك فيما ينقسم في الوضع أي لا يمكن أن يكون العاقل منقسما في الوضع. و لا يخفى عليك أنّ هذا البيان هو تحرير متن البرهان المذكور في الشفاء. و كذلك الفصلان الآتيان في دفع بعض الشبه الواردة عليه أيضا قد استخرجا من تقرير برهان الشفاء.
و بالجملة تحرير هذا البرهان في الفصول الثلاثة من الإشارات، تنقيح ما في الشفاء على أسلوب آخر أحسن و أبين. و عليك بشرح المحقق الطوسى عليه:
قوله: «إشارة، إن اشتهيت ... فاسمع» يريد بيان أنّ النفس الناطقة، و بالجملة كل جوهر عاقل فهو ليس بجسم و لا جسمانى، و بالجملة ليس بذى وضع. قال الفاصل الشارح: إيراد هذه المسألة كان بالنمط المترجم بالتجريد أولى، إلّا أنّه لما بنى إثبات الجوهر المفارق على أنّ النفس الإنسانية ليست جسما و لا جسمانية احتاج إلى بيان ذلك فاكتفى هاهنا ببرهان واحد لذلك و ذكر سائر البراهين في النمط المذكور.
و أقول: إنّه أراد في هذا النمط أن يبحث عن ماهية النفس و كمالاتها فبيّن أوّلا أنّها جوهر مفارق الوجود عن الأجسام و الجسمانيات، ثمّ أثبت لها كمالات تصدر عنها لذاتها من غير توسط آلة و كمالات تصدر عنها بتوسط آلات؛ و أراد في نمط التجريد أن يبحث عن حالها بعد التجرّد عن البدن فبيّن هناك بقائها مع كمالاتها الذاتية و لم يتعرض لبيان امتناع كونها جسما أو جسمانيا، بل بالغ في إيضاح الفرق بين الكمالات الذاتية الباقية معها و الكمالات البدنية الزائلة عنها بزوال البدن فوقع اشتراك النمطين في البحث عن تلك الكمالات من غير قصد على ما يتّضح في موضعه و لم يورد كما ذكره الشارح هاهنا شيئا ممّا يجب أن يبين هناك.
و أقول: هذا ما قاله المحقق الطوسي في صدر الفصل من بيان غرض الشيخ الرئيس، و الجواب عن اعتراض الفخر الرازي عليه. و لكن لا يخفى عليك أنّ أدلّة تجرّد النفس كلّها تنتج أنّها جوهر بسيط مفارق الوجود عن المادّة و أحكامها و ما هو شأنه كذلك فلا يتطرّق إليه الفساد و الزوال أبدا، فانقطاع النفس عن بدنها العنصري لا يضرّ بقائها الأبدي كما صرّح الشيخ به في السادس من سابع الإشارات المترجم بقوله:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 101
«تكملة لهذه الإشارات إلخ» و سيأتي تفصيل البحث عن ذلك و نقل ما في التكملة. و قد علمت أنّ البرهان المذكور في السادس عشر من ثالث الإشارات هو البرهان الأوّل من نفس الشفاء على تجرّدها و هو من أمتن البراهين على ذلك و أسدّها و أتقنها، و الحق أنّ ما قاله المحقق الطوسى في المقام مجيبا عن الاعتراض ليس كما ينبغى و لا يخلو عن تكلّف، و ما أفاده الفخر مقرون بالصواب. فلنرجع إلى ما حرّره المحقّق الطوسى في شرح دقائق البرهان، قال:
قوله: «انك تعلم ... غير منقسم» إشارة إلى تمهيد أصل كلّى، و هو أنّ الحالّ قد يكون بحيث لا يقتضى انقسامه انقسام المحلّ؛ و قد يكون بحيث يقتضى:
و الأوّل هو الحالّ الذي لا ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع كالسواد المنقسم إلى جنسه و فصله، و كأشياء كثيرة تحلّ محلا واحدا معا كالسواد و الحركة مثلا فانّهما لا يقتضيان بانقسامهما إلى هذين النوعين انقسام المحلّ إلى جزء أسود غير متحرك، و إلى جزء متحرك غير أسود.
و الثانى هو الحالّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع كالبلقة فانّها تنقسم إلى عرضين متباينين في المحل و الوضع. و أشار الشيخ إلى هذين القسمين بقوله الشيء غير المنقسم قد تقارنه أشياء كثيرة إلى قوله كأجزاء البلقة.
و المحلّ أيضا قد يكون بحيث لا يقتضى انقسامه انقسام الحالّ، و قد يكون بحيث يقتضى:
و الأوّل هو المحل المنقسم إلى أجزاء غير متباينة في الوضع كالجسم المنقسم إلى جنسه و فصله، أو إلى مادته و صورته؛ و المحل الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع و لكن لا يحلّ فيه الحالّ من حيث هو ذلك المحلّ بل من حيث لحوق طبيعة أخرى به كالخط فإنّ النقطة لا تنقسم لأنّها لا تحلّه من حيث هو خط بل من حيث هو متناه، و كالسطح فإنّ الشكل لا يحلّه من حيث هو سطح بل من حيث هو ذو نهاية واحدة أو أكثر، و كالجسم فإنّ المحاذاة التي هي إضافة مثلا لا تحلّه من حيث هو جسم بل من حيث وجود جسم آخر على وضع مامنه، و كالأجزاء فإنّ الوحدة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 102
لا تحلّها من حيث هي أجزاء بل من حيث هي مجموع.
و الثانى هو المحل الذي يحل فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة كالجسم الذي يحل فيه السواد و الحركة أو المقدار. و أشار الشيخ إلى القسم الأخير بقوله: «لكن الشيء المنقسم إلى كثرة مختلفة الوضع لا يجوز أن يقارنه شيء غير منقسم». و إنّما أعرض عن ذكر القسم الأوّل لأنّ الحالّ هناك لا يقارن المحل المنقسم من حيث هو ذلك المحلّ و ليس مقارنته إيّاه هذه المقارنة بل انّما يقع عليهما اسم المقارنة لا بمعنى واحد.
قوله: «و في المعقولات ... و كل قوّة في جسم منقسم» لمّا فرغ عن تمهيد الأصل المذكور شرع في تقرير الحجة و هو أنّ في المعقولات معانى غير منقسمة و إلّا للزم منه محال و هو التيام كل معقول من أجزاء غير متناهية بالفعل سواء كانت متشابهة أو غير متشابهة. و إنّما قيد بالفعل لأنّ الشيء الذي يكون له أجزاء غير متناهية بالقوة كالجسم انّما يكون واحدا بالفعل فيكون هو معنى غير منقسم من حيث هو واحد و هو المطلوب، مع أنّ هذا الاحتمال في المعقولات غير ممكن على ما سيأتي. و مع لزوم المحال المذكور فالمطلوب حاصل لأنّ كل كثرة بالفعل سواء كانت متناهية أو غير متناهية فالواحد بالفعل موجود فيه، و ذلك لأنّ الكثرة عبارة عن الآحاد، فإذن ثبت أنّ في المعقولات ما هو واحد فإذا عقل من حيث هو واحد فانّما عقل من حيث لا ينقسم. و معنى أنّه عقل أنّه ارتسم في جوهر يدركه. و هذا الارتسام في ذلك الجوهر لا يكون من حيث لحوق طبيعة أخرى به لأنّه يدركه بذاته. ثمّ إن كان ذلك الجوهر ممّا ينقسم وجب من انقسامه انقسام المعنى المعقول من حيث هو واحد و هو محال، فإذن المعقول الواحد يستحيل أن يرتسم فيما ينقسم في الوضع، و كلّ جسم و كل قوّة حالّة في جسم منقسم، فإذن محل المعقول الواحد ليس بجسم و لا بقوّة جسمانيّة، و محلّ المعقول الواحد هو محلّ سائر المعقولات على ما مرّ، فإذن ليست النفس الإنسانية و لا كل ما من شأنه أن يعقل بجسم و لا بجسمانى. و ألفاظ الكتاب ظاهرة.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 103
و إنّما قيّد قوله: «فإذن لا يرتسم فيما ينقسم» بالوضع، احترازا من انقسام المحلّ لا بالوضع فإنّه لا يقتضى انقسام الحال كما مرّ، و الجوهر العاقل يجوز أن ينقسم ذلك الانقسام كانقسام النفس إلى جنسها و فصلها.
و اعلم أنّ ما ليس بمنقسم بالفعل فلا يحتمل أن ينقسم إلى مختلفات لأنّ اختلاف الأجزاء الموجودة في الكل يقتضى انقسام الكل بالفعل و قد فرض غير منقسم بالفعل هذا خلف، لكنه يحتمل أن ينقسم إلى متشابهات و إن لم يكن إلّا في الوهم، و ذلك كالجسم الذي هو شخص إلى أجزاء غير متناهية بالقوّة، أو كالجسم الذى هو جنس إلى أنواع غير متناهية بالقوّة، و المعنى المعقول إن كان كذلك فلا يمتنع أن يحلّ في جسم غير منقسم بالفعل، و ينقسم بانقسام ذلك الجسم إلى أجزائه أو إلى جزئياته فلذلك أردف الشيخ هذا الفصل بفصلين مشتملين على بيان هذين الاحتمالين و تحقيق الحق فيهما.
هذا تمام كلام المحقق الطوسي في شرح الفصل الأوّل من الفصول الثلاثة المذكورة في تقرير أصل البرهان. و قد أجاد و أفاد.
و أقول: قوله: «إلى هذين النوعين» أي إلى نوعى الحركة و السواد.
و قوله: «مع أنّ هذا الاحتمال في المعقولات غير ممكن» أي احتمال كون الشيء منقسما إلى أجزاء غير متناهية بالقوّة في المعقولات غير ممكن فلا يكون شيء منها كذلك.
و قوله: «و محلّ المعقول الواحد هو محل سائر المعقولات على ما مرّ» يعنى أنّ وزان محلّ المعقولات هو وزان محلّ المحسوسات أي الحسّ المشترك؛ و كما أنّ القاضى بين الأشياء؛ المحسوسة لا بدّ من أن يحضره المقضى عليها جميعا كما مر البحث عنه في بيان إثبات الحس المشترك في الفصل التاسع من النمط الثالث من الإشارات، كذلك القاضى بين الأمور المعقولة لا بدّ من أن يحضر المقضى عليهم جميعا فمحلّ معقول واحد هو محلّ سائر المعقولات و قد أثبت في الفصل السادس من النمط الثالث أنّ هذا الجوهر العاقل في الإنسان واحد. و هذا البيان في محل المحسوسات المتخالفة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 104
و كذلك في محل المعقولات المتغائرة قد عدّ من أدلّة تجرّد النفس أيضا كما سيأتي كلمات القوم فيه.
قوله: «احترازا من انقسام المحل لا بالوضع» و ذلك كالجسم المنقسم إلى جنسه و فصله أو إلى مادته و صورته مثلا.
قوله «و اعلم أنّ ما ليس بمنقسم بالفعل» هذا الكلام منه قدّس سرّه تمهيد و توطئة لبيان الفصلين الآتيين، لا أنّه من تتمة شرح الفصل السابق.
و أقول: في بيان الوهمين الآتيين بالإجمال: إنّ الشيخ قدّس سرّه لما كان أساس برهانه في تجرّد النفس الناطقة على وجود المعنى الواحد العقلي البسيط مجرّدا عن المادة أى يكون من وراء عالم الطبيعة، كان الوهمان الآتيان في صدد أن يخرجا المعنى الواحد العقلى عن البساطة بحيث لم يكن معنى واحد عقلي بسيطا، فلو ثبت هذا التوهم لما تمّ برهان الشيخ، و ذلك لأنّه إذا تطرق القسمة في المعنى الواحد العقلي و خرج عن البساطة جاز أن يحلّ فيما يقبل الانقسام فينقسم الحالّ أي المعنى الواحد العقلي بانقسام المحلّ أي النفس الناطقة بأقسام، فعلى هذا لم تجب أن تكون النفس مجرّدة بل يمكن أن تكون جسما أو جسمانيا.
قوله: «و اعلم أنّ ما ليس بمنقسم بالفعل» أي ما ليس بمنقسم بالفعل إلى أجزاء متباينة في الوضع فلا يحتمل أن ينقسم إلى مختلفات الحقيقة. فلنرجع إلى ما أفاده الشيخ في دفع الوهمين حول البرهان و شرح المحقق الطوسى عليه، قال الشيخ:
وهم و تنبيه، و لعلك تقول: قد يجوز أن تقع للصورة العقلية الوحدانية قسمة وهمية إلى أجزاء متشابهة. فاسمع أنّه إن كان كل واحد من القسمين المتشابهين شرطا مع الآخر في استتمام التصور العقلي فهما مباينان له مباينة الشرط للمشروط. و أيضا فيكون المعقول الذي أنّما يعقل بشرطين هما جزاءه منقسما. و ايضا فإنّه قبل وقوع القسمة يكون فاقدا للشرط فلم يكن معقولا. و إن لم يكن شرطا فالصّورة المعقولة عند القسمة المفروضة صارت معقولة مع ما ليس مدخله في تتميم معقوليتها إلّا بالعرض، و قد فرضنا الصورة المعقولة صورة مجرّدة عن اللواحق الغريبة فإذن هي ملابسة بعد لها،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 105
و كيف لا و هي عارضة لها بسبب ما فيه قدر في أقل منه بلاغ فإنّ أحد القسمين هو حافظ لنوع الصورة إن كان متشابها فالصورة التي جرّدناها مغشّاة بعد بهيئة غريبة من جمع أو تفريق، و زيادة أو نقصان و اختصاص بوضع فليست هي الصورة المفروضة.
و أمّا الصور الحسية و الخيالية فتفتقر ملاحظة النفس أجزاء لها جزئية متباينة الوضع مقارنة لهيئات غريبة مادّية، إلى أن يكون رسمها و رشمها في ذى وضع و قبول انقسام.
هذا تمام كلام الشيخ في هذا الفصل. و بيّن فيه الفرق بين الصور المعقولة، و بين الصور الحسيّة و الخياليّة، بأنّ الصور المعقولة يمتنع حلولها في الجسم و ما يتبعه، و أنّ الحسية و الخيالية يجب حلولها فيه كما أشبع الكلام في ذلك في الفصل الثالث من رابعة نفس الشفاء بأنّ الصورة المرتسمة في الخيال يجب أن يرتسم في جسم (ج 1، من الطبع الحجرى، ص 341). و لكنك قد دريت تحقيق الحق في ذلك في العين الثانية و العشرين، و في البحث عن براهين تجرّد النفس تجرّدا غير تام، من أنّ القوّة الخيالية و صورها أيضا مجرّدة؛ بل الحقّ هو أنّ الصور المحسوسة أيضا كذلك و أنّ الصور العلمية مطلقا معقولة. و عليك بما أفاده المحقق الطوسي في شرحه على الفصل قال:
الوهم هو الاحتمال الأوّل من الاحتمالين المذكورين و هو أن تكون الصورة العقلية الواحدة قابلة للقسمة الوهميّة إلى أجزاء متشابهة كالجسم الواحد، و حينئذ يمكن أن تكون حالّة في جسم واحد فتنقسم بانقسامه. و التنبيه تنبيه على فساد هذا الاحتمال.
و تقريره أنّ المعقول الواحد إذا انقسم إلى قسمين متشابهين و يجب أن يكونا متشابهين للمجموع أيضا فلا يخلو إمّا أن يكون كون كل واحد من القسمين مع الآخر شرطا في كون ذلك المعقول معقولا و حينئذ لا يكون كل واحد منها بانفراده معقولا لفقدان الشرط، أو لا يكون كذلك بل كان كل واحد من القسمين بانفراده معقولا أيضا كالأصل.
أمّا القسم الأوّل فباطل من ثلاثة أوجه:
الأوّل: أنّ كل واحد من القسمين على ذلك التقدير يكون مباينا للكل مباينة الشرط
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 106
للمشروط، و يلزم من ذلك أن يجتمع من القسمين شيء ليس هو ايّاهما بل إنّما يكون المجتمع متعلق الماهية بزيادة في المقدار أو العدد كشكل ما أو عدد بخلاف القسمين فلا يكون القسمان جزئيه من حيث ماهيته المتشابهة لهما هذا خلف.
و الثاني: أنّ المعقول الذي شرط كونه معقولا هو حصول جزءين له لا يكون من حيث هو كذلك غير منقسم و قد فرضناه واحدا غير منقسم هذا خلف.
و الثالث: أنّه قبل وقوع القسمة فيه لا يكون الجزءان حاصلين فلا يكون شرط معقوليته حاصلا فلا يكون معقولا و قد فرضناه معقولا هذا خلف. و الشيخ أشار إلى القسم الأوّل بقوله: «إن كان كل واحد من القسمين المتشابهين شرطا مع الآخر في استتمام التصور العقلى». و أشار إلى الوجه الأوّل بقوله: «فهما متباينان له مباينة الشرط للمشروط». و أشار إلى الوجه الثانى بقوله: «و أيضا فيكون المعقول الذي أنّما يعقل بشرطين هما جزءاه منقسما». و أشار إلى الوجه الثالث بقوله: «و أيضا فإنّه قبل وقوع القسمة يكون فاقدا للشرط فلم يكن معقولا».
و أما القسم الثاني و هو أن لا يكون حصول القسمين شرطا في معقوليته بل يكون هو بنفسه معقولا، و كل واحد من القسمين بانفراده أيضا معقولا كالجسم الذي يقبل القسمة إلى أجسام فباطل أيضا لكون الصورة المعقولة مأخوذة مع لاحق غريب عن ذاته كالقسمة أوّلا، و كمقارنة ما يقبل القسمة من المقدار ثانيا، و قد ذكرنا من قبل أنّ الصور المعقولة أنّما تكون مجرّدة عمّا يقتضيه غير ذواتها هذا خلف. و أشار الشيخ إلى هذا القسم بقوله: «و إن لم يكن شرطا». و إلى الخلف اللازم من جهة مقارنة القسمة بقوله: «فالصورة المعقولة ... فإذن هي ملابسة بعدلها». و إلى الخلف اللازم من جهة مقارنة ما يقبل القسمة من المقدار بقوله: «و كيف لا و هي عارضة ... فليست هي الصورة المفروضة». و ذلك لانّ القسمة عارضة لها بسبب شيء فيه ذو مقدار في أقل من كفاية فإنّ أحد القسمين و إن كان متشابها للقسم الآخر فهو حافظ لنوع الصورة المعقولة فإذن الصورة التي فرضناها مجرّدة كانت مغشاة بعد بهيئة غريبة من جمع إذا اعتبر حصول الكل من القسمين، أو تفريق إذا اعتبر انقسامه إليهما، أو زيادة إذا اعتبر
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 107
حصوله من انضياف أحد القسمين إلى الآخر، أو نقصان إذا اعتبر بقاء المعقولية بعد حذف أحدهما منه و اختصاص بوضع لأنّ التجزية إلى جزءين متشابهين لا تعرض إلا للماديّات فهي تقتضى وضعا ما لا محالة. و قوله: «فليست هي الصورة المفروضة» إشارة إلى الخلف.
قوله: «و أمّا الصور الحسية ... و قبول الانقسام» لمّا فرغ من بيان امتناع حلول الصورة المعقولة في الجسم و ما يتبعه بيّن وجوب حلول الصورة الحسيّة و الخياليّة فيه ليتمّ الفرق بينهما. و ذلك لأنّا إذا أحسسنا بوجه إنسان مثلا، أو تخيلناه فلا بدّ من أن تلاحظ النفس أجزاء له متباينة الوضع مقارنة لهيئة غريبة مادية كالعينين و الأنف و الفم فإنّ صورة العين اليمنى تدرك في مادة وجهة لم تحلّ اليسرى فيها، و كذلك اليسرى فهما متباينان بالوضع. و أيضا كونهما على بعد مخصوص بينهما و كون إحداهما في جهة من الأخرى غير جهة الأنف هيئات غريبة ماديّة تقارنها و تلك الملاحظة تفتقر إلى أن يكون رسمها الحسّى و رشمها الخيالي في ذي وضع و قبول انقسام أي في شيء مادى.
و الرسم هو الأثر اللاصق بالأرض، و هو بالمحسوس أولى لأنّ الحسّ أنّما يجد أثر الشيء. و الرشم هو الختم أعنى إحداث النقش الذي يحصل من الطابع في الشيء الذي طبع عليه، و لذلك يسمّى اللوح الذي يختم به البيادر رشما و هو بالخيالى أولى لأن صورها منطبعة في الخيال من طابع هو المدرك بالحسّ. و في قول الشيخ «ملاحظة النفس الصور الحسّية و الخياليّة» تصريح بإدراك النفس لها. و يظهر منه بطلان قول من ادّعى عليه أنّه لا يقول بذلك.
و اعتراض الفاضل الشارح بأنّ الصورة العقلية في النفس الجزئية ليست بمجرّدة مكرّر قد سبق ذكره.
و قوله: «لو صح أنّ الصورة العقلية مجرّدة عن اللواحق لكان كافيا في بيان تجرّد النفس لأنا حينئذ نقول كل حالّ في متحيّز فهو ذو وضع، و كل ذي وضع فليس مجرّدا عن اللواحق، و الصورة العقلية مجرّدة فهي ليست بحالة في متحيز» ليس يقدح في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 108
الحجة المذكورة لأنّ صحة حجة على مطلوب لا تنافي صحة حجة أخرى عليه.
و الشيخ قد أورد تلك الحجة أيضا في أكثر كتبه حتى المختصر الموسوم ب عيون الحكمة لكنه أوردها على وجه أقرب مأخذا ممّا ذكره هذا الفاضل. و ذلك لأنّه أوردها هكذا: الصور العقلية ليست بذوات وضع، و كل حال في جسم فهو ذو وضع.
و انّما اختار هاهنا الحجة المذكورة التي هي قولنا المرتسم بالمعقول الواحد ليس بمنقسم و الجسم منقسم، لاندراج وجوب كون الصورة الخيالية جسمانية تحتها على وجه أظهر كما أشار إليه.
و أمّا اعتراضه المستفاد من الشيخ أبى البركات و هو أن الهيولى غير ذات حجم و قد حكمتم بانطباع الجسمية و المقدار فيها فلم لا يجوز انطباع المحسوسات في النفس؟
فالجواب عنه أنّ الهيولى أنّما تتحصل موجودة ذات وضع بذلك الانطباع، و النفس لا يجوز أن تصير ذات وضع البتة.
و قوله: «هب أنّ ما ذكرتموه يقتضى كون الصور الحسية و الخيالية جسمانية لكنّها لا تقتضى كون الوهمية جسمانية» فالجواب أنهم لم يتمسكوا في ذلك بهذه الحجة بل بغيرها.
هذا تمام كلام المحقق الشارح على الفصل الثانى من الفصول الثلاثة المذكورة.
فنقول في بيان بعض عباراته:
قوله: «فتنقسم بانقسامه» أي بنحو التشابه.
و قوله: «إذا انقسم إلى قسمين متشابهين و يجب أن يكونا متشابهين للمجموع أيضا» أي إذا انقسم إلى قسمين كل واحد منهما متشابه للآخر في الماهية، و حينئذ يجب أن يكونا متشابهين للمجموع أيضا في الماهية أ يكون كل واحد من الثلاثة متشابها للآخرين فيها فلا يخلوا إمّا أن يكون كلّ واحد من القسمين أي الجزءين مع الآخر شرطا أي يكون هذه المعية شرطا في كون ذلك المعقول الذي هو كل مجموعى معقولا و حينئذ لا يكون كل واحد منهما بانفراده معقولا لفقدان الشرط إلخ.
قوله: «و قد ذكرنا من قبل أن الصور المعقولة أنّما تكون مجرّدة عما يقضيه
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 109
غير ذواتها» ناظر إلى تحقيقه الذي أتى به في أثناء شرحه على الفصل الثامن من النمط الثالث من الإشارات حيث قال الشيخ: «تنبيه، الشيء قد يكون محسوسا عند ما يشاهد إلخ» و راجع في نقل كلامه و التحقيق الحقيق حوله شرح العين الثالثة و الثلاثين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس.
قوله: «و إن كان متشابها للقسم الآخر فهو حافظ ...» و إن لم يكن متشابها فهو منقسم بالفعل كما مرّ.
قوله: «و يظهر منه بطلان قول من ادّعى ...» تعريض على الفخر الرازى حيث قال في شرحه على نفس الإشارات غير مرّة إنّ الشيخ لا يقول بإدراك النفس للجزئيات.
و قد أجاب عنه الشارح الطوسى بأنّ الشيخ قائل به إلّا أنّ النفس مدركة للمعقولات بذاتها و للمحسوسات بآلاتها؛ و جعل كلام الشيخ هاهنا حيث قال: فتفتقر ملاحظة النفس أجزاء لها، شاهدا لمدّعاه.
قوله: «على وجه أقرب مأخذا ممّا ذكره» أمّا وجه كونه أقرب في العيون فلأنّه من قياس واحد، و أمّا ما ذكره الفخر فلأنّه من قياسين.
قوله: «لاندراج وجوب كون ...» تعليل لوجه الاختيار. و أما بيان قوله على وجه أظهر، فلأنّ اندراجها في الدليل الثانى أظهر من اندراجها تحت الأوّل و ذلك لأنّ كون الصورة الخيالية تحت قوله و الجسم ينقسم أظهر من دخوله تحت الوضع لأنّ المنقسم إمّا جسم أو جسمانى بخلاف اندراجه تحت الوضع لأنّ معناه أنّه هنا أو هنا لك أو هناك هو لا يدل دلالة واضحة ظاهرة على كونها جسمانية. أفاده السيد السند أحمد في تعليقته على شرح الإشارات للطوسى في المقام.
قوله: «و أمّا اعتراضه المستفاد إلخ». قال الفخر في شرحه على الإشارات في المقام ما هذا لفظه (ص 255، ط مصر).
و لقائل أن يقول: أ ليس أنّ الهيولى الأولى ليس لها في ذاتها حجم و امتداد في الجهات، ثمّ انّكم حكمتم بانطباع الجسمية و المقدار و الشكل و الوضع فيها؟
فإذا جوزتم ذلك فلم لا تجوزون انطباع المحسوسات في جوهر النفس أيضا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 110
و ما الفرق بين الأمرين؟
فأجاب عنه المحقق الطوسى بقوله: «انّ الهيولى أنّما تتحصل موجودة ذات وضع بذلك الانطباع، و النفس لا يجوز أن تصير ذات وضع البتة».
أقول: مراد المعترض أنّ النفس ليست بمجرّدة بل مادية كالهيولى، و مراد المحقق من الجواب أنّ الاعتراض على تجرّد النفس بقياسها بالهيولى قياس مع الفارق فالنفس باقية على تجرّدها، و ذلك لأن الهيولى تتحصل موجودة ذات وضع بانطباع الطبيعة الجسمية و امّا النفس فلا تصير ذات وضع البتة.
اعلم أنّ النفس بلحاظ نشأتها الدّانية من حيث إنّ بدنها مرتبتها النازلة ذات وضع كما لا يخفى، و أما بلحاظ نشأتها العالية ليست بذات وضع، كيف و ما هو ذو وضع ليس له إلّا صورة واحدة جسمية لا يقبل صورة أخرى إلّا بزوال الأولى، و النفس تقبل صورة بعد صورة إلى غير النهاية من غير زوال السابقة بتعاقب اللاحقة فهي مجرّدة عن المادة و أحكامها من الوضع و الأحياز و الفساد و نحوها.
قوله: «و قوله هب أنّ ما ذكرتموه إلخ» ناظر إلى كلام الفخر الرازى في المقام حيث قال في شرحه على الإشارات بعد الاعتراض المذكور ما هذا لفظه:
و أيضا فهب أنّ ما ذكرتموه يقتضى كون الإدراكات الحسية و الخيالية جسمانية و لكن لا يلزم منه كون الإدراكات الوهمية جسمانية، فإنّ ملاحظة النفس للصداقة المخصوصة لا يتوقف على ملاحظتها لأجزاء تلك الصداقة متباينة في الوضع. (هامش ص 255، ط مصر).
فأجاب عنه المحقق الطوسى بقوله: «انّهم لم يتمسكوا في ذلك بهذه الحجة بل بغيرها» انتهى.
و أقول: تعليل الفخر بأنّ ملاحظة النفس للصداقة إلخ، ناظر إلى قول الشيخ في آخر هذا الفصل المعنون بالوهم و التنبيه، و هو «و أمّا الصور الحسية و الخيالية فتفتقر ملاحظة النفس أجزاء لها جزئية متباينة الوضع إلخ. و الشيخ لم يدّع هاهنا أنّ الإدراكات الوهمية جسمانية و انّما تعرض بأنّ الإدراكات الحسية و الخيالية جسمانية،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 111
فاعتراض الفخر هذا ليس في محلّه. و تحقيق الحق في الوهم تجده في شرح العين الإحدى و الثلاثين. من كتابنا سرح العيون في شرح العيون.
بقي البحث عن الفصل الثالث من الفصول الثلاثة المعهودة، و هو أيضا جواب عن و هم يورد على البرهان فقال الشيخ:
وهم و تنبيه، أو لعلك تقول: إنّ الصورة العقلية قد تنقسم بإضافة زوائد معنوية إليها قسمة المعنى الجنسى الوحدانى بالفصول المنوعة، و المعنى النوعى الوحدانى بالفصول العرضية المصنّفة؛ فاسمع أنّه قد يجوز ذلك و لكن يكون فيه إلحاق كلّى بكلّى يجعله صورة أخرى ليس جزءا من الصورة الأولى فإنّ المعقول الجنسى و النوعى لا تنقسم ذاته في معقوليته إلى معقولات نوعية و صنفية يكون مجموعها حاصل المعنى الواحد الجنسى أو النوعى، و لا تكون نسبتها إلى المعنى الواحد المقسوم نسبة الأجزاء بل نسبة الجزئيات؛ و لو كان المعنى الواحد العقلى البسيط الذي سبق تعرضنا له ينقسم بمختلفات بوجه لكان غير الوجه الذي تشكّك به أوّلا من قبول القسمة إلى المتشابهات، و كان كل واحد من أجزائه هو أولى بأن يكون البسيط الذي كلامنا فيه.
هذا تمام كلامه في هذا الفصل، و به تم تقرير البرهان المذكور على أنّ كل جوهر عاقل سواء كان نفسا ناطقة أو مفارقا ليس بذى وضع. و قد أجاب الشيخ عن الوهم بأنّ الصورة العقلية المنقسمة إلى الأنواع أو الأصناف لم تنقسم انقسام الجسم الواحد البسيط كالماء مثلا إلى أجزاء متشابهة بل قد ضمّت إليها فصول منوّعة فحصلت أنواعا، أو العوارض المصنّفة فصارت أصنافا؛ فقول المستشكل هاهنا من أنّ المعقول يحتمل أن ينقسم إلى جزئيات، و إن كان صوابا لكنّه ليس بانقسام الشيء إلى أقسام متشابهة كقوله في الاحتمال الأوّل من أنّ الجسم الواحد ينقسم إلى أجزائه المتشابهة فليكن المعنى المعقول الواحد البسيط كذلك؛ فإنّ هذا الانقسام كان في الجسم صوابا، لكن المعنى المعقول لا ينقسم كذلك.
ثمّ هاهنا أي في الوهم الثانى في هذا الفصل يرد سؤال و هو أن يقال: لو سلّمنا أنّ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 112
المعنى المعقول لم ينقسم إلى متشابهات و لكنه ينقسم إلى مختلفات بلا كلام و دغدغة كالإنسان المنقسم إلى الحيوان و الناطق، و كذلك كغيره مما ينقسم إلى مختلفات جنسية و فصلية، فيمكن أن يكون المعنى المعقول حالّا في جسم فينقسم بانقسامه، فمحلّه اى النفس الناطقة جسم أو جسمانى.
و الشيخ أشار إلى هذا الإيراد بقوله: «و لو كان المعنى الواحد العقلى البسيط الذي سبق تعرضنا له ينقسم بمختلفات بوجه».
ثمّ أجاب عن هذا الإيراد أوّلا بأنّه خارج عن سياق الإشكال لأنّ الإشكال كان مبتنيا على انقسام المعنى الواحد المعقول إلى المتشابهات، و إليه أشار بقوله: «لكان غير الوجه الذي تشكك به أوّلا من قبول القسمة إلى المتشابهات». و ثانيا أنّ المعنى المعقول الواحد البسيط إذا قسم إلى أجزاء مختلفة لها كان كل واحد من أجزائه البسيطة كجنسه العالى هو الذي كلامنا فيه أي استدللنا بذلك الجزء البسيط أي بإدراكه على تجرّد محلّه أي النفس الناطقة. هذا ما عندنا في بيان ما في هذا الفصل، و هو و إن كان كافيا لإيفاء المراد و لكن في بيان المحقق الطوسى لطفا آخر نأتى به مزيدا للاستبصار و لعظم الخطر في ذلك الأمر الأهم، قال:
الوهم في هذا الفصل هو الاحتمال الثانى من الاحتمالين المذكورين، و هو أن تنقسم الصورة العقلية إلى جزئيات لها. و اعلم أنّ قسمة الكلّى إلى الجزئيات أنّما تكون بإضافة زوائد معنوية إليه، و تلك الزوائد تكون إمّا مقوّمة لماهيات الجزئيات، أو غير مقوّمة؛ فإن كانت مقومة كانت فصولا فكانت القسمة بها قسمة المعنى الجنسى الوحداني بالفصول الذاتية المنوعة كقسمة الحيوان بإضافة الناطق و غير الناطق إليه إلى الإنسان و غيره؛ و إن لم تكن مقوّمة كانت عرضيات و لا يخلو إمّا أن يكون الحاصل بعد إضافتها إلى ذلك الكلى قابلا للشركة كانت القسمة بها قسمة المعنى النوعى الوحدانى بالفصول العرضية المصنّفة كقسمة الإنسان بالسواد و البياض إلى السودان و البيضان، و إن لم تكن قابلا للشركة كانت القسمة بها قسمة المعنى النوعى الواحد بالعوارض الجزئية المشخصة؛ و انّما لم يذكر الشيخ هذا القسم لأنّ الحاصل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 113
فيه لا يكون معقولا بل يكون محسوسا.
قوله: «انّه قد يجوز ذلك إلخ» هذا هو التنبيه على تحقيق الحق فيه و هو أنّ هذه القسمة يجوز أن تقع في الوجود بخلاف القسمة المتقدمة لكنّها بالحقيقة لا تكون قسمة بل هي تركيب تلك الصورة الكلية كالحيوان بصورة كلية أخرى كالناطق تجعلها صورة ثالثة كالإنسان ليس الحاصل جزاء من الصورة الأولى أعنى الحيوان فإنّ المعقول الجنسي كالحيوان لا تنقسم ذاته في معقوليته إلى معقولات نوعية كالإنسان و الفرس يكون مجموعهما هو حاصل معنى الحيوان، و كذلك النوعى كالإنسان لا ينقسم إلى معقولات صنفية كالعرب و العجم يكون مجموعهما حاصل معنى الإنسان؛ و أيضا لا تكون نسبة هذه الأنواع و الأصناف إلى الحيوان و الإنسان المقسومين نسبة الأجزاء بل نسبة الجزئيات. و لو كان المعنى الواحد العقلي البسيط الذي استدللنا به على تجريد محلّه ينقسم بمختلفات بوجه كالجنس و الفصل لكان غير الوجه الذي تشكك به قبل هذا من قبوله القسمة إلى أجزاء متشابهة كالجسم، و كان كل واحد من أجزائه البسيطة التي لا تنقسم كجنسه العالى أولى بأن يجعله البسيط الذي استدللنا به لئلّا يعرض شك من وجه.
هذا تمام كلام المحقّق الطوسى في بيان الفصل، و به تم تحرير البرهان الأوّل من الشفاء على تجرّد النفس الناطقة على الوجه الذي أتى به في الإشارات.
قوله: «استدللنا به على تجريد محلّه» يعنى بالمحل النفس الناطقة. و قوله: «الذي استدللنا به» اى استدللنا به على تجريد ذلك المحل.
الفخر الرازى في كتابه الأربعين أتى بهذا البرهان من الشفاء فقط على تجرّد النفس و هو أقوى البراهين عنده قال: و أمّا القسم الثالث- و هو قول من قال النفس ليس بجسم و لا جسمانى- فهذا القول اختيار جمهور الفلاسفة، و من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمى، و مذهب أكثر الأخيار من الإمامية، و من المتأخرين الغزالي و أبى القاسم الراغب.
ثمّ قال: و اعلم أنّ الفلاسفة ذكروا في إثبات هذا (يعنى أنّ النفس ليست بجسم
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 114
و لا بجسمانى) وجوها كثيرة، و اعترضنا عليها في كتبنا الحكمية إلّا أنّ اعتمادهم على وجه واحد و نحن نذكره هاهنا: قالوا لا شك في وجود معلومات غير منقسمة فيكون العلم بها غير منقسم فيكون الموصوف بتلك العلوم غير منقسم، و كل متحيز فهو منقسم، فإذا الموصوف بتلك العلوم لا متحيز و لا حالّ في المتحيّز.
ثمّ شرع في بيان البرهان فقال:
أمّا المقدمة الأولى- و هي إثبات معلومات غير قابلة للقسمة- فيدلّ عليه وجهان.
الأوّل: أنّا نعرف ذات الله تعالى و ثبت أنّ ذاته تعالى غير قابلة للقسمة بوجه من الوجوه. و أيضا نعرف الوحدة، و الوحدة غير قابلة للقسمة بوجه من الوجوه.
الثانى: لا شكّ أنّا نعرف شيئا فذلك الشيء إمّا مفرد، و إما مركب؛ فإن كان مفردا فقد حصل المطلوب؛ و إن كان مركبا و كل مركب فهو مركب من المفردات، و العلم بالمركب مسبوق بالعلم بمفرداته فثبت أنّا نعلم أمورا مفردة.
و أمّا المقدّمة الثانية- و هي أنّ المعلوم إذا كان غير منقسم كان العلم به غير قابل للانقسام. فالذى يدل عليه أنّه لو كان ذلك العلم قابلا للانقسام لكان ما يفرض جزءا لذلك العلم إمّا أن يكون علما بذلك المعلوم أو يكون علما بجزء من أجزاء ذلك المعلوم، أو لا يكون علما بذلك المعلوم و لا بشيء من أجزاء ذلك المعلوم؛ فإن كان جزء العلم علما بذلك المعلوم لزم أن يكون الجزء مساويا للكل في تمام الماهية و ذلك محال. و إن كان متعلقا بجزء من أجزاء ذلك المعلوم لزم كون ذلك المعلوم منقسما و هو محال. و إن لم يكن علما لا بذلك المعلوم و لا بشيء من أجزائه فعند اجتماع تلك الأجزاء إمّا أن يحدث أمر زائد بسبب ذلك الاجتماع أو لم يحدث (أو لا يحدث- خ ل) فإن لم يحدث البتة أمر زائد لزم أن لا يكون ذلك المجموع علما بذلك المعلوم و العلم بالشيء لا يكون علما بذلك الشيء هذا خلف. و إن حدثت حالة زائدة بسبب ذلك الاجتماع فتلك الحالة الزائدة إن كانت قابلة للقسمة عاد التقسيم المذكور فيه و لزم التسلسل، و إن لم تقبل القسمة فالعلم بهذا المعلوم هو هذه الحالة الزائدة الحادثة بسبب الاجتماع و أنّه غير قابل للقسمة فحينئذ يحصل بما ذكرنا أنّ المعلوم إذا لم يقبل القسمة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 115
كان العلم به غير قابل للقسمة.
أمّا المقدّمة الثالثة- و هي أنّ العلم إذا لم يكن قابلا للقسمة وجب أن يكون الموصوف به غير قابل للقسمة- فالذى يدلّ عليه أنّ كلّ ما كان قابلا للقسمة افترض فيه جزءان، فالعرض الحاصل فيه إمّا أن يكون بتمامه حاصلا في كل واحد من النصفين، أو يكون بتمامه حاصلا في أحد النصفين دون الثانى، أو يكون بعضه حاصلا في أحد نصفيه و البعض الآخر (و النصف الآخر) منه حاصلا في النصف الآخر من المحلّ (في النصف الثانى من المحل- خ ل)، أو لا يكون شيء من ذلك:
أمّا الأوّل و هو أن يحصل بتمامه في هذا النصف و بتمامه في النصف الثانى فهذا يقتضى حصول العرض الواحد في محلين دفعة واحدة و هو محال. (دفعة و هو محال- خ ل).
و أمّا الثانى- و هو أن يحصل بتمامه في أحد النصفين منه دون الثانى- فحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك النصف فإنّ ذلك النصف إن كان منقسما عاد الكلام فيه فيلزم أن يكون حاصلا في نصف ذلك النصف، و بالجملة فكل ما يكون (فكل ما كان- خ ل) منقسما فإنّ ذلك العرض لا يكون حالا فيه، و هذا يلزمه من باب عكس النقيض انّ ما يكون ذلك العرض حالا فيه فإنّه لا يكون منقسما.
و أما الثالث- و هو أن يقال بتوزع الحال على المحل- فهذا يقتضى انقسام الحال و قد بيّنا أنّه محال.
و أما الرابع- و هو أن لا يكون شيء من هذه الأقسام- فهذا محال و ذلك لأنّه إذا كان كل واحد من أجزاء المحل خاليا عن الحالّ بالكلية، و عن جملة أجزاء الحالّ كان كل واحد من أجزاء المحل خاليا عن الحالّ بالكلية، و متى كان الأمر كذلك امتنع كون المحل موصوفا بالحال و العلم به ضرورى، فثبت أنّ الحال إذا كان غير منقسم كان المحل أيضا غير منقسم.
أما المقدّمة الرابعة- و هي قولنا: إنّ كل متحيز منقسم- فهذا بناء على مسألة نفي الجوهر الفرد و قد تقدّم القول فيه؛ و حينئذ يلزم القطع من مجموع هذه المقدّمات الأربع
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 116
أنّ الشيء الذي هو الموصوف منّا بالمعارف و العلوم موجود ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز و هو المطلوب.
أقول: إنّه أفاد في بيان البرهان بتقرير المقدمات المذكورة، إلّا أنّ ما قال في الثانية منها من أنّ المعلوم اذا كان غير منقسم كان العلم به غير قابل للانقسام، فالحق أنّ المعلوم بالذات و هو الذي حاصل للإنسان في صقع ذاته غير منقسم مطلقا سواء كان المعلوم بالعرض أي الشيء الخارج عن النفس الذي تعلق التفات النفس إليه فحصلت نسبة ما بينها و بينه، منقسما أو غير منقسم فافهم.
و قوله في الرابعة: «فهذا بناء على مسألة نفي الجوهر الفرد» بل و على القول به محال أيضا أن يكون محلا و موضوعا للعلم كما سيأتي البحث عن ذلك. و البراهين القاطعة ناطقة بأنّ وعاء العلم سواء كان واهبا أو متّهبا موجود بسيط عار عن المواد و أحكامها، و إن كان التعبير عن الوعاء أو المحل أو الموضوع أو أترابها على التوسع، و الأمر أرفع من نحو هذه التعبيرات.
ثمّ أخذ الفخر بالإيراد على أنّ الحال في المنقسم منقسم فقال:
و اعلم أنّا لا نسلّم أنّ كل متحيّز فهو يقبل القسمة أبدا، و قد قدّمنا الدلائل على إثبات الجوهر الفرد؛ سلّمنا ذلك و لكن لا نسلّم أنّ الحال في المنقسم منقسم، و يدلّ عليه وجوه:
أحدها أنّ النقطة موجودة مشار إليها غير منقسمة، فهي إن كانت جوهرا فقد ثبت الجوهر الفرد، و إن كانت عرضا افتقرت إلى محلّ فذلك المحل إن كان منقسما لزم انقسام النقطة لانقسام محلّها و هو محال، و إن لم يكن منقسما فقد ثبت الجوهر الفرد.
و ثانيها أنّ الوحدة عرض و هي من أشدّ الأشياء مباعدة عن الكثرة، ثمّ الجسم قد يوصف بالوحدة فثبت (فصحّ- خ ل) أنّ ما لا يقبل القسمة يصحّ قيامه بالجسم.
و ثالثها أن الإضافات كالأبوّة و النبوّة و الأخوّة قائمة بالأجسام، و يمتنع أن يقال: قام بنصف هيكل الأب نصف الأبوة، و قام بثلثه ثلثها.
و رابعها أنّ الوجود صفة قائمة بالجسم، و يمتنع أن يقال: قائم بنصفه نصف الوجود،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 117
و بثلثه ثلث الوجود؛ أو يلتزم ذلك و يقال: إنّ نصف الوجود أيضا وجود، و ثلث الوجود وجود؛ لكن إذا جاز هذا فلم لا يجوز أيضا أن يقال: العلم القائم بالجسم المنقسم يكون منقسما و يكون أيضا نصف العلم علما، و ثلث العلم علما؟ فهذا ما في هذه المسألة و باللّه التوفيق. (ص 267- 270، ط حيدرآباد الدكن).
أقول: هذا ما كان كلام الفخر حول هذه المسألة نقلناها من المسألة الثامنة و العشرين من كتابه الأربعين. و المطبوع منه لم يخل من أغلاط، و قد صححناه بالعرض على نسخة مخطوطة من الأربعين في تصرّفنا. و إيرادات الفخر مذكورة في المباحث المشرقية أيضا على التفصيل و سيأتي نقلها و ردّها. و هي إيرادات دائرة على ألسنة القوم حول هذا البرهان القويم الذي كأنّه بنيان مرصوص و كلّها مردودة داحظة بما يأتى من الإشراقات الباهرة الساطعة على إزالتها و إبطالها.
و قوله في شأن هذا البرهان و عظمه حيث قال: «انّ الفلاسفة ذكروا في إثبات هذا وجوها كثيرة إلّا أنّ اعتمادهم على وجه واحد» يعنى البرهان الأوّل من نفس الشفاء، ممّا ينبغى أن يعتنى به جدّا. نعم انّ هذا البرهان له موقع خطير في إثبات تجرّد النفس الناطقة.
و صدر المتألهين في الأسفار بعد تقرير البرهان المذكور قال:
و عندهم انّه من أقوى البراهين الدالّة على تجرّد النفوس المدركة للمعانى الكلية و هي جميع النفوس البشرية. و قد سبق منّا أنّ التجرّد العقلى غير حاصل لجميع النفوس البشرية. و عندى أنّ هذا البرهان غير جار في كل نفس بل انّما يدلّ على تجرّد النفس العاقلة للصورة هي معقولة بالفعل في نفس الأمر سواء كانت بحسب ذاتها المقتضية للتجرّد، أو بحسب تجريد مجرّد و نزع منزع ينزع معقولها من محسوسها، و تلك النفس هي التي خرجت من حد العقل بالقوّة و العقل الاستعدادي إلى حدّ العقل و المعقول بالفعل، و هذا العقل يوجد في بعض أفراد الناس دون الجميع؛ و ذلك لأنّ الذي يدركه أكثر الناس من الطبائع الكليّة وجودها في أذهانهم يجرى مجرى وجود الكلّيات الطبيعيّة في الخارج في جزئياتها المادية كالحيوان بما هو
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 118
حيوان فإنّ ماهيته موجودة في الخارج بعين وجود الأشخاص و لها اعتبار لا يكون بذلك الاعتبار متخصّصا بمكان معيّن و وضع خاص؛ و لا أيضا من حيث ماهيته المشتركة يقابل للقسمة المقدارية الجزئية، و كذلك إذا وجدت ماهيته في ذهن أكثر الناس فإنّها توجد تلك الماهية بعين وجود صورة متخيلة لكن للذهن أن يعتبرها بوجوه من الاعتبار؛ فهي من حيث كونها صورة شخصية موجودة في قوّة إدراكية جزئية تكون جزئية متخيلة، و من حيث اعتبارها بما هي هى أي بما هي حيوان بلا اشتراط قيد آخر لا تكون متخيلة و لا محسوسة و لا معقولة أيضا لأنّها بهذا الاعتبار أمر مبهم الوجود و إن كانت موجودة في الواقع بوجود ما يتحد به من الصورة، و من حيث اعتبارها مشتركة بين كثيرين تكون معقولة مجرّدة؛ فحينئذ نقول:
إنّ الحاصل في الذهن من طبيعة الحيوان ليس بالفعل صورة مجرّدة وجودها في نفسها وجودها تجرّديا كوجود المفارقات حتى يلزم أن يكون محلّها أيضا مجرّدا بل الموجود منها في الذهن شيء له اعتبارات يكون بحسب بعضها جزئيا، و بحسب بعضها كليا، و بحسب بعضها مطلقا؛ و كذلك الصورة الخارجية من تلك الماهية؛ و نحن لا نسلّم أنّ كل واحد من أفراد الناس يمكنه ملاحظة هذه الاعتبارات، أو يمكن لنفسه أن يتصوّر أمرا ذهنيا من الجهة التي هو بها كلى مشترك بين كثيرين مجرّد عن الخصوصيات و القيود الجزئية. انتهى.
و أنا أقول: الحق أنّ إيراده قدّس سرّه على القوم غير وارد أمّا أوّلا فلأنّ دليلهم المذكور و أمثاله غير جارية على النفوس الإنسانية مطلقا أعنى جميع أحوالها حتى حال حدوثها، بل على الناطقة البالغة منها المدركة للطبائع الكلية و المعانى المرسلة المطلقة.
فإن قلت: انّهم قائلون بأنّ النفوس الإنسانية مجرّدة حدوثا فجميع أدلة تجرّدها جارية عليها في جميع أحوالها حتى حال حدوثها.
قلت: صدق جميعها على جميع أحوالها ممنوع، و ذلك لأنّ برهانهم القائم بأنّ كل مجرّد قائم بذاته فهو عقل و عاقل و معقول شامل عليها في جميع أحوالها حتى حال حدوثها بلا ريب، إلّا أنّ كونها عقلا ذو مراتب كما أنّ الملائكة مثلا و هي قوى العالم لها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 119
مراتب؛ فالنفس لها شعور ما بذاتها حال حدوثها، ثمّ تصير أقوى فيكون إدراكها أقوى و هكذا؛ فادلة التجرّد بعضها صادقة عليها في جميع أحوالها كالبرهان المذكور- أعنى به قولهم: كل مجرّد قائم بذاته فهو عقل و عاقل و معقول- و بعضها صادقة عليها بحسب مراتبها.
نعم يرد عليهم إيراد لا محيص لهم عنه، و هو انّهم ينكرون اتحاد العاقل بمعقولاته المكسوبة فيقال لهم: إذا كانت الصورة المعقولة خارجة عن صقع النفس و حاقّها عارضة عليها فكيف تصير بها قويّة عاقلة مدركة لتلك الحقائق المرسلة، بل كيف تحشر مع ما عملت و كسبت من العلم و العمل؟ و العجب أنّ ممّا هو محقق عندهم وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات، و إنكارهم الاتحاد. على أنّ تجرّدها عن الأبدان على الإطلاق غير صحيح كما يأتى البحث عن ذلك.
و بالجملة أنّ النفس إذا كانت روحانية حدوثا فبقاؤها بعد تجرّدها عن بدنها العنصرى ممّا لا ريب فيها، و إن كانت أدلّة تجرّدها جارية عليها بحسب مراتبها. فمن ردّ حدوثها كذلك و أثبته جسمانيا فأدلة تجرّدها العقلى مطلقا لا تصدق عليها في بدء حدوثها و طول تجرّدها الغير التام الخيالي البرزخى.
و أما ثانيا فلأنّ أقسام الصور المجرّدة على الأنحاء الثلاثة التي بيّنها و إن كان كلها لا يحصل لكل واحد من أفراد الناس و لكنّ أكثرهم ممن يعقل اسناد مفهوم إلى كثيرين و عدم امتناع فرض صدقه عليهم كما في التعاليم الأوّلية الميزانية للمبتدئين كالتهذيب في المنطق مثلا من أنّ المفهوم إن لك يمتنع فرض صدقة على كثيرين فكلّى و إلّا فجزئى، و الكلّى هذا مجرّد عن اللوازم الشخصية المادية و الخيالية فمدركها أي النفس كذلك و كثير من أدلة التجرّد على هذا المبنى؛ و لا ننكر مراتب تجرّدها تنتهى إلى تجرّدها الأتم الذي يتحقق للأوحدي، و كان الأكثرى بمعزل عنه.
و الحق هو ما أفاده استاذنا العلامة الطباطبائى (رضوان الله تعالى عليه) في تعليقة منه على الأسفار في المقام بما هذا لفظه الشريف:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 120
غير خفى أنّ لازم كلامه رحمه اللّه انّ الذي يمكن أن يدركه الإنسان إدراكا على ثلاثة أقسام: المفهوم الجزئي المدرك بحسّ أو خيال، و الكلى بالمعنى الذي ذكره، و المطلق المبهم الذي يظهر في الذهن بنوع من الاعتبار؛ و لا شك أنّ القوم انّما يعنون بالمفهوم الكلى هذا القسم الثالث، و يقيمون البرهان على تجرّده و تجرّد النفس التي تدركه؛ و على هذا فلازم كلامه قدّس سرّه منع التجرّد العقلى لهذا النوع من المفاهيم التي يسمّونها كلية في المنطق و الفلسفة، و هي تصدق بنفسها على كثيرين مع تجرّدها عن اللوازم الشخصية، و لا شيء من الأمور المادية و الخيالية على هذا الوصف و لا سبيل إلى منع وجودها في أذهاننا، و لا إلى منع أن يكون هذا الاعتبار في نفس الأمر؛ فالحق أنّ إدراكها على مالها من الوصف يوجب التجرّد، غير انّ التجرّد على أنحاء مختلفة من القوّة و الضعف، و الذي ذكره قدّس سرّه هو التجرّد التام أو ما يقرب منه انتهى.
و بالجملة أنّ قوله في آخر كلامه: «و نحن لا نسلّم أنّ كل واحد ...» غير مرضى عند من له حظّ من الإلف بالمعانى الكلية و المفاهيم العقلية، نعم انّ الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة بل ينبتّ جميع أفكاره عن مطالبه فهو ممن لا يمكنه ملاحظة الاعتبارات المذكورة و نظائرها؛ و كأنّه قدّس سرّه يريد بقوله ذلك، الغبىّ من أفراد الناس و لا ننكر ذلك كما لا ننكر أنّ الواصل من آحاد الناس إلى الوجود العقلى قليل جدّا على حذو ما أفاده بقلمه الرفيع في الفصل الرابع من الباب التاسع من الأسفار من أنّ:
الأشياء ذوات الطبائع متوجهة إلى كمالاتها و غاياتها، و انّ الإنسان من جملة الأكوان الطبيعية مختص بأنّ واحدا شخصيا من نوعه قد يكون مترقيا من أدنى المراتب إلى أعلاها مع انحفاظ هويته الشخصية المستمرّة على نعت اتصال، و ليس سائر الطبائع النوعية على هذا المنهاج لأنّ المادّة الحاملة لصورتها تنفصل عنها إلى صورة أخرى من نوع آخر منقطعة عن الأولى فلا يتحفظ في سائر التوجهات الطبيعيّة هوياتها الشخصية بل و لا النوعية أيضا بخلاف الشخص الإنساني إذ ربما يكون له أكوان متعددة بعضها طبيعى و بعضها نفساني و بعضها عقلى؛ و لكل من هذه الأكوان الثلاثة أيضا مراتب غير متناهية بحسب الوهم و الفرض لا بحسب الانفصال الخارجي ينتقل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 121
من بعضها إلى بعض أي من الأدون إلى الأرفع و من الأخسّ إلى الأشرف؛ فما لم يستوف جميع المراتب التي يكون للنشأة الأولى من هذه النشآت الثلاث أعنى الطبيعيّة و النفسيّة و العقلية لم يتخطّ إلى النشأة الثانية، و هكذا من الثانية إلى الثالثة؛ فالإنسان من مبدإ طفوليته إلى أوان أشدّه الصورى إنسان بشرى طبيعى و هو الإنسان الأوّل فيتدرج في هذا الوجود و يتصفّى و يتلطف حتى يحصل له كون أخروي نفسانى و هو بحسبه إنسان نفسانى و هو الإنسان الثانى و له أعضاء نفسانية لا تحتاج في وجودها النفسانى إلى مواضع متفرقة كما إذا ظهرت في المادة البدنية حين وجودها الطبيعى فإنّ الحواسّ في هذا الوجود متفرقة يحتاج إلى مواضع مختلفة ليس موضع البصر موضع السمع و لا موضع الذوق موضع الشم، و بعضها أكثر تجزيا من البعض و أشدّ تعلقا بالمادّة كالقوّة اللامسة و هي أوّل درجات الحيوانية و لذا لا يخلو منها حيوان و إن كان في غاية الخسّة و الدناءة قريبا من افق النباتية كالأصداف و الخراطين؛ و هذا بخلاف وجودها النفسانى فإنّه أشدّ جمعيّة من هذا الوجود فتصير الحواس كلّها هناك حسا واحدا مشتركا، و هكذا قياس القوى المحركة؛ ففي هذا العالم بعضها في الكبد، و بعضها في الدماغ، و بعضها في القلب، و بعضها في الأنثيين، و بعضها في غير ذلك الأعضاء، و في العالم النفساني مجتمعة؛ ثمّ إذا انتقل من الوجود النفساني إلى الوجود العقلى و صار عقلا بالفعل و ذلك في قليل من أفراد الناس فهو بحسب ذلك الوجود إنسان عقلى و له أعضاء عقلية و هو الإنسان الثالث (ج 4، ص 121، ط 1).
و الحاصل أنّ البرهان باق على قوّته، دال على أنّ النفس المدركة للمعانى الكلية المعقولة على مراتبها بحسب الشدة و الضعف و السعة و الضيق ليس بجسم و لا جسمانية؛ و إليه يئول كثير من الأدلّة التي أقاموا على تجرّدها كما يأتى التحقيق في ذلك. و انّما قيدنا المعانى الكلية المعقولة بقولنا على مراتبها بحسب الشدة و الضعف لشمول البرهان كلا القسمين من المعقولات أعنى العقليات المتصورة المشتركة بين الكثيرين، و العقليات التي هي ذوات مرسلة و مفارقات نورية كما عرفت في التحقيق
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 122
المقدم في بيان هذا البرهان.
و اعلم أنّ البرهان المذكور جعل في المباحث الفخرية أربعة أجزاء على تحرير آخر كما أومأنا إليه، و كذلك كان على وزانه ما في الأسفار، و بعد كل جزء أوردا بعض اعتراضات و أجابا عنها، و صاحب الأسفار ناظر إلى كلمات صاحب المباحث في التجزئة و الاعتراضات و الجواب عنها إلا أنّه جعل الجزء الرابع مسلكا آخر على ما نحقّقه و نبيّنه، و هذا الجزء هو الوجه الثالث في بيان أنّ الصور العقلية يمتنع أن تحلّ شيئا منقسما من الجسم، و الأصل فيهما كلام الشيخ في الشفاء حيث قال في آخر البرهان: «و أيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط إلخ» نعم لصدر المتألهين في أثناء تقرير البرهان دقائق و حقائق خاصّة، فنقول:
انّ الفخر في المباحث بعد الجزء الأوّل من تقرير البرهان و أنهاه إلى امتناع كون النقطة محلا للصور العقلية، أورد اعتراضا على أنّ النقطة يمتنع أن تكون محلا للصور العقلية ثمّ أجاب عنه بقوله:
و لقائل أن يقول: سلّمنا أنّه ليس للنقطة امتياز عن المقدار الذي هي نهايته لكن لم قلتم انّه لا يحل فيها الأطراف ما يكون حالا في ذلك المقدار و ما البرهان على ذلك فإنّه ليس ذلك من الأوليات؟ ثمّ انّ ذلك منقوض بالألوان فإنّها لا توجد عندكم إلّا في السطوح، و لا حصول لها بالفعل في أعماق الجسم؛ و كذلك النور و الضوء لا يوجدان إلّا في السطوح؛ و كذلك المماسة و الملاقاة لا تحصل إلّا في النهايات؛ و كذلك الملاسة و الخشونة لا تحصل إلّا في السطوح، فبطل قولكم انّ النهايات لا يحل فيها إلا نهايات ما هي حالة في المقادير.
فالمعتمد في إبطال هذا القسم أن نقول: النقطة مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية، بل إن كانت قابلة للصور العقلية وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا لها أبدا فلو كان القبول حاصلا أبدا لكان المقبول حاصلا أبدا لما علمت أنّ المبادى المفارقة عامة الفيض فلا يتخصّص فيضها إلّا لاختلاف القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول و لو كان كذلك لكان جميع
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 123
الأجسام ذوات النقط تكون عاقلة فوجب أن يبقى البدن بعد موته عاقلا للمعقولات لبقاء الصور العقلية على استعداده التام و لمّا لم يكن كذلك بطل هذا القسم.
و صاحب الأسفار في المقام ناظر إلى اعتراض صاحب المباحث حيث قال:
و اعترض هاهنا بأنّ عدم التميز في النقطة عن المحل و إن كان مسلما لكن لا نسلّم انّه لا يحلّ فيها إلّا نهاية ما يحل في ذلك المقدار فإنّ ما ذكرتم منقوض بالألوان و الأضواء الحاصلة في السطوح دون الأعماق، و كذا حال المماسة و الملاقاة.
ثمّ أجاب عنه بوجهين: الوجه الأوّل غير مذكور في المباحث و لعلّه يختص به، و الثانى هو ما في المباحث و هو قوله الآتى: «و أيضا لا بدّ في قابلية الشيء إلخ». فقال:
و الجواب انّ السطح له اعتباران: اعتبار انّه نهاية للجسم، و اعتبار انّه مقدار منقسم في جهتين فقبوله الألوان و الأضواء و غيرهما من جهة انّه عبارة عن امتدادى الجسم لا من جهة انّه نهاية له.
و أيضا لا بدّ في قابلية الشيء أن يكون للقابل استعداد خاص أو مزاج حتى يقبل كيفية أو صفة و ليس للنهاية بما هي نهاية اختلاف قوّة أو حالة استعدادية في القابلية؛ فلو كان للنقطة مثلا إمكان أن تقبل صورة عقلية لكانت دائمة القبول لها لعدم تجدّد حالة فيها فرضا فكان المقبول حاصلا فيها أبدا إذ المبدا دائم الفيض فلا يتراخى فيضه إلّا لعدم صلوح القابل و المفروض انّ الصلوح و الاستعداد حاصل لها من حيث ذاتها فلزم من ذلك انّ جميع الأجسام ذوات النقطة عاقلة، و وجب أن يكون العاقل عند موته عاقلا لوجود قابل العاقلية فيه فالتالى باطل فالمقدم كذلك. انتهى.
أقول: قوله: «للقابل استعداد خاص» ذلك كما في البسائط العنصرية، و قوله:
«أو مزاج» و ذلك كما في المركبات. و قوله: «لعدم تجدّد حالة فيها فرضا» و ذلك لأنّ الاستعداد الخاص أو المزاج يوجبان أو يقبلان ذلك التجدّد، و الفرض أنّ النقطة عارية عنهما. و قوله: «و وجب أن يكون العاقل عند موته عاقلا ...» يعنى بالعاقل هنا الجسم ذا النقطة لأنّ النقطة على ذلك الفرض عاقلة، فإذا مات الجسم العاقل وجب أن يكون عاقلا أيضا لملاك قابل العاقلية فيه و هو النقطة.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 124
ثمّ أخذ الفخر في المباحث في بيان أنّ الصور العقلية يمتنع أن تحلّ شيئا منقسما من الجسم على وجوه ثلاثة و هي الأجزاء الأربعة المذكورة، ففي الوجه الأوّل يبيّن لزوم الخلف لو كان انقسام الصور العقلية إلى أجزاء متشابهة، و لزوم المحال لو كان الانقسام إلى أجزاء مختلفة، فبعد ما قرّر لزوم الخلف قال:
فإن قيل: أ ليس أنّ الصورة العقلية قد تنقسم إلى أقسام متشابهة بإضافة زوائد كليّة إليها مثل المعنى الجنسي كالحيوان فإنّه ينقسم إلى الذي هو حصّة الإنسان، و إلى الذي هو حصّة الفرس، و هما أعنى الحصتين غير مختلفتين بالماهية فإنّ حيوانية الفرس بشرط التجريد عن الصاهلية مساوية لحيوانية الإنسان بشرط التجريد عن الناطقية في النوع و الحقيقة فقد رأينا انقسام الأجزاء العقلية إلى أجزاء متشابهة مع أنّ تلك الأجزاء ليست ذوات مقادير جزئية و أشكال جزئية؟
فنقول: هذا جائز و لكن يكون فيه إلحاق الكلّى بالكلّى، مثلا إلحاق الناطق بالحيوان الذي هو حصة الإنسان و يكون الإنسان الذي هو حاصل من اجتماعهما مخالفا لهما فها هنا لو كانت أجزاء الصورة العقلية كذلك لزم أن تكون كلية تلك الصورة مخالفة لكل واحد من أجزائها فيكون الانقسام حينئذ إلى جزءين مختلفين و إلا لامتنع أن يحصل من اجتماعهما ما يخالفهما؛ و بالجملة فانقسام الحيوان إلى الإنسان قسمة الكلّي إلى الجزئيات المتخالفة بالنوع، و قسمة الصورة العقلية قسمة الكل إلى الأجزاء و بينهما فرق ظاهر.
و لقائل أن يقول: حاصل ما ذكرتموه انّه لو انقسمت الصورة العقلية إلى جزءين متشابهين فحينئذ يكون الجزء مخالفا للكل في الشكل و مقدار المحل و ذلك محال.
فنقول: إن كان هذا الكلام صحيحا وجب أن يعولوا عليه في الابتداء و يقولوا: لو حلّت الصورة العقلية في الجسم لحصل لها مقدار معيّن و شكل معين بسبب محلّها و ذلك محال فإذا كان هذا القدر كافيا وقع سائر ما ذكرتموه من التطويلات حشوا و ضائعا، ثمّ انّا سنبيّن ضعف هذه الطريقة. انتهى.
أقول: صاحب الأسفار أتى بما في المباحث من السؤال و الجواب المذكورين فقال:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 125
«فإن قلت أ ليست الصورة العقلية»- إلى قوله في الجواب: «فيقال هذا غير ذلك و هذا جائز لأنّه بإلحاق كلى بكلى»- إلى قوله: «و بينهما فرق ظاهر»؛ و لم يزد عليه شيئا، ثمّ أخذ في بيان امتناع انقسام الصورة العقلية إلى جزءين مختلفين على حذو ما في المباحث. و التعبير في الجواب بقوله: «فيقال» مشعر بأنّه لغيره، بل صرّح في الآخر بذلك حيث يقول: هذا تقرير هذا البرهان على الوجهين المذكورين في كتب القوم.
و سيأتي ردّ قول الفخر في تضعيفه هذه الطريقة.
ثمّ أخذ الفخر في بيان امتناع الصورة العقلية إلى جزءين مختلفين أي غير متشابهين و بعد ذلك حرّر الوجه الثانى من الوجوه الثلاثة في بيان امتناع القسمة على الصور العقلية؛ و كذلك على ممشاه حرّرهما صاحب الأسفار قريبا من تحريره.
و اعلم أنّ الوجه الثانى ليس بصريح في عبارة الشفاء إلّا أنّه يمكن أن يستفاد من فحاوي عباراته، و لكل واحد من صاحب المباحث و صاحب الأسفار تحرير خاص و إيراد عليه و ما في الأسفار أمتن و أدق و نأتى بهما مزيدا للإستبصار، قال في المباحث:
الوجه الثانى في بيان امتناع القسمة على الصور العقلية أن نقول انّ لكل شيء حقيقة هو بها هو، و تلك الحقيقة لا محالة واحدة و هي غير قابلة للقسمة أصلا فإنّ القابل للقسمة يجب أن يبقى مع القسمة و العشرة من حيث إنّها عشرة لا تبقى مع الانقسام فإنها إذا انقسمت حصلت خمستان و بطلت العشرية فالعشرية من حيث هي عشرية صورة واحدة و حقيقة متحدة غير قابلة للقسمة.
و إذا ثبت ذلك فنقول: العلم المتعلق بهذه الماهيات المجرّدة ان انقسم فإمّا أن تكون أجزاؤه علوما أو لا تكون، فإن لم تكن أجزاؤه علوما لم يكن العلم هو مجموع تلك الأجزاء بل الهيأة الحاصلة عند اجتماع تلك الأجزاء فإنّ تلك الأجزاء إذا اجتمعت و هي أنفسها ليست علوما فإن لم يحصل لها هيئة زائدة بسبب الاجتماع وجب أن لا يكون المجموع أيضا علما، و إن حصلت هيئة زائدة على الاجتماع فكلامنا في تلك الهيأة و هو انّها لو كانت جسمانية لكانت منقسمة. و أمّا إن كانت أجزاء العلوم علوما فلها متعلق فلا يخلو إمّا أن يكون متعلق كل واحد من تلك الأجزاء كل ذلك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 126
المعلوم أو أجزاؤه فإن كان كلّه لزم أن يكون جزء الشيء مساويا لكلّه من جميع الوجوه و ذلك محال، و إن بعض ذلك المعلوم فقد بينا أنّ الحقائق لا بعض لها و لا جزء.
و لقائل أن يقول: العشرية هيئة متحدة حاصلة للمجموع المتألف من تلك الآحاد فمحلّ تلك الهيأة أمور متكثرة فإذا لم يجب انقسام العشرية بسبب انقسام محلّها فكيف يلزم انقسام العلم بالعشرية بسبب انقسام ذلك المحل؟ و بالجملة فإن كانت العشرية قابلة للقسمة جاز أن ينقسم العلم و يكون خرء العلم متعلقا بجزء العشرية، و إن كانت العشرية غير قابلة للقسمة مع أنّ محلها متكثر فحينئذ لا يلزم من انقسام المحل انقسام الحال و ذلك يقدح في أصل الحجة. انتهى.
أقول: حيثية الوحدة العشرية من حيث هي وحدة عشرية غير قابلة للقسمة أصلا، و هي حقيقة كانت حقيقة العشرية بها هي؛ فهي عشرة كلية عقلية كسائر الكليات العقلية، فالعشرة الكلية العقلية صورة واحدة و الكثرة تعرضها باعتبار آخر كاعتبار محلّها الذي هو الآحاد المتألفة منها العشرة، أو اعتبار جنس العشرة الذي هو الكثرة، و ليست العشرة هي عين الكثرة و إلّا كانت كل كثرة عشرة، و بالجملة أنّ العشرة نوع من أنواع العدد و كل نوع له وحدة نوعية هو بها هو، و الشيء من حيث هو ليس إلّا هو؛ فالعشرية لا تنقسم إلى أجزاء متشابهة و لا مختلفة.
و أمّا صاحب الأسفار فحرّر الوجه الثانى المذكور مع مزيد توضيح في أثناء التحرير ثمّ أتى بإيراد عليه و تحقيق حوله و هي ما يلى:
الوجه الثاني في امتناع القسمة على الصورة العقلية أن نقول: لكل شيء حقيقة هو بها هو، و تلك الحقيقة لا محالة واحدة و هي غير قابلة للقسمة أصلا فإنّ القابلة للقسمة يجب أن تبقى مع القسمة، و العشرة من حيث إنّها عشرة لا تبقى مع الانقسام فإنّ الخمسة ليست جزءا للعشرة بما هي نوع من الأنواع العددية بل هي جزء من كثرة الوحدات و ليس للعشرة بما هي حقيقة واحدة جزء فإذا انقسمت العشرة و حصلت الخمستان فهما جزءان للعشرة بما هي كثيرة لا بما هي واحدة، و الكثرة فيها بالنسبة إلى المعدود لا بالنسبة إلى نفسها فإنّ العشرة من الناس كثرة للواحد من الناس
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 127
و وحدة لنفسها فلها صورة واحدة غير قابلة للقسمة؛ إذا ثبت ذلك فنقول: العلم المتعلق بهذه الماهيات المجرّدة إن كان حالا في محل منقسم يلزم من انقسام محله انقسامه، و من انقسامه انقسام ما هو صورته، لكن المعلوم غير منقسم أو مأخوذ بما هو غير منقسم هذا خلف.
ثمّ قال صاحب الأسفار إيرادا على هذا الوجه ما هذا لفظه:
و كذلك نقول إيرادا على الوجه الثاني: لا نسلّم أنّ لكل شيء وحدة تقابل الانقسام من كل جهة حتى يلزم أن يكون صورتها أيضا كذلك فإنّ كثيرا من الأشياء وحدتها بالفعل عين قبول القسمة بالفعل كالعدد، أو عين قبول القسمة بالقوّة كالأجسام و المقادير؛ فإنّ العشرة و إن كانت حقيقة واحدة لكن تلك الوحدة عين كثرة الآحاد التي يتألّف منها العشرة و هذه الكثرة غير مقابلة لها و انّما يقابلها كثرة أخرى هي كثرة العشرة أعنى العشرات تقابل وحدة العشرة التي هي عين كثرة الأجزاء أي الأعشار؛ و كذا وحدة الخمسة هي عين كثرة الأخماس، و قد مرّ أنّ العدد من الأشياء الضعيفة الوجود لكونه ضعيف الوحدة أيضا حيث إنّ وحدته عين الكثرة. و كذلك الأجسام و المقادير و سائر المتصلات وحدتها عين قبول الكثرة الوهميّة أو الخارجية لأنّ وحدتها نفس متصليتها و ممتديتها، و امتدادها عبارة عن قبولها الكثرة المقدارية قوّة أو فعلا؛ فأنّى يوجد في مثل هذه الأشياء نحو من الوحدة التي لا تتضمّن اعتبارها اعتبار الكثرة بوجه من الوجوه؛ نعم حيثية وحدتها تغاير حيثية الكثرة التي تقابل تلك الوحدة و لا تغاير حيثية الكثرة التي يتضمّنها تلك الوحدة؛ فافهم هذا المعنى فانّه قد ذهل عنه كثير من العلماء حتى الشيخ في الشفاء حيث أراد أن يستدل على مغايرة الوحدة للوجود فقال: «انّ الكثير من حيث هو كثير موجود و الكثير من حيث هو كثير ليس بواحد»، و قد مرّ ما فيه من القول.
أقول: من إفادات المتألّه السبزواري في تعليقته على الأسفار في المقام قوله:
سبك الوجه الثانى الترقي من الأدنى فقالوا: أبعد الأشياء عن الوحدة العدد و مع هذا لا يقبل القسمة، ثمّ ترقوا إلى الحقائق الخارجية الأخرى، ثمّ إلى الصور العقلية.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 128
و قول صاحب الأسفار: «و قد مرّ أنّ العدد من الأشياء ...» قد مرّ في أوّل المرحلة الخامسة في الوحدة و الكثرة أنّ الوحدة رفيق الوجود تدور معه حيثما دار إذ هما متساويان في الصدق على الأشياء، فكل ما يقال عليه إنّه موجود يقال عليه انّه واحد؛ و يوافقه أيضا في القوّة و الضعف فكل ما وجوده أقوى كانت وحدانيته أتم إلخ (ج 1، ص 129، ط 1).
و قوله: «و قد مرّ ما فيه من القول» قد مرّ في آخر الفصل الأوّل من المرحلة الخامسة المعنون بعنوان إنارة قوله في ذلك:
و لعلك تقول حسبما وجدت في كتب الفن كالشفاء و غيره انّ الوحدة مغايرة للوجود لأنّ الكثير من حيث هو كثير موجود، و لا شيء من الكثير من حيث هو كثير بواحد ينتج فليس كل موجود بما هو موجود بواحد فإذن الوحدة مغايرة للوجود إلخ (ج 1، ص 132، ط 1).
و ينبغى تحليل مفاد المقدمتين أي الصغرى التي هي الكثير من حيث هو كثير موجود، و الكبرى التي هي لا شيء من الكثير من حيث هو كثير بواحد، كما فعله في الأسفار و الشواهد الربوبية. و الورود في البحث يوجب الاسهاب و يخرجنا عن موضوع الباب. و الشيخ بحث عن الوحدة و الكثرة في فصول المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء.
و الغرض العمدة من بحثنا في المقام هو انّ العشرة نوع من أنواع العدد، و انّ العشرة الكلية العقلية صورة واحدة لا تنقسم في العشرية إلى عشرتين، فمدركها يجب أن يكون جوهرا منّا غير جسمانى، و لا بأس بانقسام معروضها اى الآحاد. و هذا كما أفاده الشيخ في أوّل خامس المقالة المذكورة بقوله:
و كل واحد من الأعداد فانّه نوع بنفسه و هو واحد في نفسه من حيث هو ذلك النوع.
و له من حيث هو ذلك النوع خواصّ، و الشيء الذي لا حقيقة له محال أن يكون له خاصيته الأوّلية أو التركيبية أو التمامية أو الزائدية أو الناقصيّة أو المربّعية أو المكعبية أو الصمم و سائر الأشكال التي لها فإذن لكل واحد من الأعداد حقيقة تخصّه و صورة تتصور منها في النفس و تلك الحقيقة وحدته التي بها هو ما هو. و ليس العدد كثرة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 129
لا تجتمع في وحدة حتّى يقال انّه مجموع آحاد فانّه من حيث هو مجموع هو واحد يحتمل خواصّ ليست لغيره. و ليس بعجيب أن يكون الشيء واحدا من حيث له صورة ما كالعشرية مثلا أو الثلاثية و له كثرة فمن حيث العشرية ما هو بالخواص التي للعشرة، و أمّا كثرته فليس له فيها إلا الخواص التي للكثرة المقابلة للوحدة؛ و لذلك فانّ العشرة لا تنقسم في العشرية إلى عشرتين لكل واحدة منهما خواص العشرية (ج 2، ص 449، ط 1).
ثمّ انّ صاحب الأسفار بعد إيراده المذكور على الوجه الثاني قال:
و لهم في هذا المسلك وجه آخر و هو أن نفرض الكلام في الأمور التي يستحيل عليها القسمة عقلا مثل الباري سبحانه و الوحدة؛ و أيضا مثل البسائط التي يتألف منها المركّبات فإنّ الحقائق إذا كانت مركبة فلا بدّ فيها من البسائط ضرورة أنّ كل كثرة فالواحد فيها موجود؛ و حينئذ يقال: العلم المتعلق بها إن انقسم فإمّا أن يكون كل واحد من أجزائه علما، أو لا يكون، فإن لم يكن أجزاؤه علوما لم يكن العلم هو مجموع تلك الأجزاء بل الهيأة الحاصلة عند اجتماع تلك الأجزاء فكلامنا في تلك الهيأة و هو انّها لو انقسمت لكان لها أجزاء فإن كان أجزاء العلم علوما فلها متعلق فلا يخلو إما أن يكون متعلق كل واحد من تلك الأجزاء كل ذلك المعلوم أو أجزائه، فإن كان كله لزم أن يكون جزء الشيء مساويا لكلّه من جميع الوجوه و ذلك محال، و إن كان بعض ذلك المعلوم فقد بيّنا أنّ هذه الحقائق لا بعض لها و لا جزء. قالوا هذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة.
أقول: المسلك المذكور هو الوجه الثالث في بيان أنّ الصور العقلية يمتنع أن تحلّ شيئا منقسما من الجسم في المباحث المشرقية، و الأصل في ذلك كلام الشيخ في ذيل البرهان المذكور حيث قال: «و أيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط من ... إلخ» فما في المباحث و الأسفار تحرير كلام الشيخ بعبارة أخرى. و كلام صاحب الأسفار في آخر المسلك المذكور: «قالوا هذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة» ناظر إلى كلام الفخر في المباحث حيث قال: «و هذا الوجه أحسن الوجوه الثلاثة».
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 130
فالوجوه في عبارة الأسفار محمول على الجمع المنطقى و المراد منه الوجهان الأوّل و الثانى. و كلام صاحب المباحث في بيان هذا المسلك هكذا:
الوجه الثالث أن نفرض الكلام في الأمور التي يستحيل عليها القسمة عقلا مثل الباري تعالى و الوحدة؛ و أيضا مثل البسائط التي تتألّف عنها المركبات فإنّ الحقائق إذا كانت مركبة فلا بدّ فيها من البسائط ضرورة أنّ كل كثرة فالواحد فيها موجود؛ و حينئذ نقول: العلم المتعلق بها إن انقسم فإمّا أن يكون كل واحد من أجزائه علما أو لا يكون، و نذكر التقسيم المذكور إلى آخره، و هذا الوجه أحسن الوجوه الثلاثة. انتهى.
و لا يخفى عليك أنّ اسلوب التحرير كما في المباحث أوفق بإبانة المراد من الأسفار و إن كان تحقيقات صاحب الأسفار في أثناء التحرير ممّا يختصّ هو بها.
اعلم أنّ الوجه الثالث أي ذلك المسلك الآخر جعل في كثير من الصحف العقلية حجة على حدة على تجرّد النفس الناطقة كما سنتلوها عليك، و غير واحد من أدلة تجرّدها يئول إلى ذلك البرهان الأوّل من الشفاء، و له شأن عظيم في تجرّدها، و هو أصل قويم في ذلك بل أقوم البراهين و أمتنها على ذلك.
و الاعتراضات الواردة عليها داحضة جدّا كما سيأتي نقل بعضها و ردّها.
ثمّ قال صاحب الأسفار بعد تقرير الوجه الثالث ما هذا لفظه:
أقول: لا نسلّم أنّ كل واحدة من النفوس البشرية أمكنها أن يتصوّر حقيقة هذه البسائط، و أكثر الناس انّما يرتسم في أذهانهم إذا حاولوا إدراك هذه الأمور أشباح خيالية و حكايات متقدرة و أنّى لهم معرفة الباري (جل ذكره)، و الجواهر البسيطة العقلية؟! نعم الحجة المذكورة أصح البراهين على تجرّد النفوس العارفة باللّه و الصور المفارقة، و تلك النفوس قليلة العدد جدا، و أمّا سائر النفوس فهي مجرّدة عن الأجسام الطبيعية لا عن الصّور الخيالية.
أقول: فالبرهان دال على تجرّد تلك النفوس القليلة العدد جدّا، و الأدلّة الّتي مرّ ذكرها دالة على تجرّدها عن الأجسام الطبيعية أيضا فأدلة تجرّد النفوس البشرية باقية على قوّتها في بقاء النفوس البشرية مع مدركاتها؛ على أنّ إدراك كثير من البسائط
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 131
العقلية لا يخرج عن طوق نوع البشر أيضا إلّا أن يكون فيه بعض من هو غبىّ على حدّ لا يقدر عليه كما أومأنا إليه.
ثمّ ذكر صاحب المباحث خمسة اعتراضات حول البرهان المذكور ثمّ أجاب عنها.
و صاحب الأسفار لخّصها تلخيصا غير وجيه فاتى بها فيه إلّا أنّه سلك في أثناء الجواب إلى بعض ما تفرد هو به كما نشير إليه. و سياق عبارة الفخر يحكى أنّ تلك الاعتراضات أوردت على البرهان من قبل و ليست من شكوكه، لأنّه قال: «و الاعتراضات الواقعة على هذه الحجة بأمرين أحدهما أنّ النقطة إلخ» و لكن صاحب الأسفار في عبارته الآتية حيث يقول: «و أمّا اعتراضات بعض المتأخرين على هذه الحجة فهي مدفوعة» ناظر بظاهره إلى قول الفخر في المباحث لأنّ عبارات حجج التجرّد في الأسفار منقولة من المباحث، و صاحب الأسفار ناظر إليه غالبا و عبارته يشعر بأنّ الاعتراضات من الفخر و هو كما ترى. كيف كان نحن نأتى بما في الأسفار من الاعتراضات و الجواب عنها ثمّ نتبعه بعض ما يفيد البرهان أيضا.
قال:
«و أمّا اعتراضات بعض المتأخرين على هذه الحجة فهي مدفوعة: منها أنّ النقطة حلّت من الجسم شيئا منقسما أو غير منقسم، فعلى الأوّل لزم حلول غير منقسم في منقسم، و على الثانى يلزم الجزء الذي لا يتجزّى.
و منها النقص بالوحدة فانّها مع كونها من أبعد الأشياء من طباع الكثرة حالة في الجسم.
و منها النقض بالإضافة فإنّ الأبوة مع انّها غير قابلة للانقسام حالة في الأب.
و منها انّ القوة الوهمية جسمانية و العداوة التي يدركها أمر غير منقسم لامتناع ورود القسمة على هذه العداوة إذ لا نصف لها و لا ربع و كذا الصداقة و غيرها.
أقول أمّا اندفاع الأوّل فالتحقيق أنّ النقطة غير قائمة بنفس ذات الجسم بما هي ذات منقسمة بل قيامها للجسم باعتبار تناهى امتداده و انقطاعه فمحلّها الجسم من حيث اتصافه بالتناهى و لهذا قيل الأطراف عدمية لأنّ محلّها من حيث إنّه محلّها مشتمل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 132
على معنى عدمي و هو النفاد و الانقطاع بخلاف العلم فإنّه كمال للذات الموصوفة به.
و أمّا اندفاع النقض بالوحدة فقد علمت مرارا أنّ وحدة الجسم تقبل الانقسام لأنّها نفس اتصاله و امتداده، و كذا وجوده فإنّه عين جسميته؛ و العجب أنّ وحدة الجسم تنقسم بعين انقسام الجسم بالذات لا بالعرض كسائر العوارض التي تنقسم بانقسام المحل بالعرض لا بالذات كالسواد مثلا لأنّ وحدة الجسم نفس وجوده و عين هويّته الشخصية.
و امّا اندفاع الثالث فالإضافات لا نسلّم أنّ جميعها غير منقسمة بالتبع بل التي تعرض الأجسام على ضربين: منها ما يعرض للجسم بما هو جسم كالمحاذاة و المماسة و غيرها فهي منقسمة بانقسام المحل فانّ محاذاة نصف الجسم نصف محاذاة كل الجسم، و محاذاة ربعه ربع محاذاة كلّه. و منها ما يعرض للجسم لا من حيث جسميته بل من حيث معنى آخر تنضاف إليه فهي لا يلزم أن تكون منقسمة بانقسام محلّه كأبوّة زيد مثلا فإنّها غير عارضة له من حيث جسميته و مقداريته بل من جهة أخرى كقوّة فاعلية نفسانية مقتضية للتوليد.
و أمّا اندفاع الرابع فقد سبق أنّ القوّة الوهمية مجرّدة عن المادة لاعن إضافتها، و كذلك حكم مدركاتها. انتهى.
أقول: الاعتراضات- كما أشرنا اليها- خمسة اتى بها الفخر في المباحث. و ظاهر عبارة الأسفار يوهم انّها أربعة، و لكنّ الاعتراض الخامس هو صريح ما في المباحث، و في الأسفار أشير إليه في ضمن الجواب عن الأوّل حيث قال في آخر الاندفاع:
«بخلاف العلم فإنّه كمال للذات الموصوفة به» و لا يخفى عليك أنّ ارتباط قوله هذا أعنى بخلاف العلم بما قبله في بادئ النظر لا يخلو من دغدغة فإنّه يسأل عن إيراده بلا سبق سؤال و اعتراض فيه، و لكن بعد الرجوع إلى المباحث يعلم أنّه سؤال آخر و أجاب الفخر عن النقطة و في ضمنه عن العلم ثمّ أجاب عن الاعتراضات الثلاثة الأخرى بعد ذلك؛ و صاحب الأسفار أيضا أجاب عن النقطة و العلم على حذوه بلا ذكر الاعتراض في العلم فنأتى بما في المباحث، قال: «و الاعتراضات الواقعة على هذه
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 133
الحجة بأمرين: أحدهما أنّ النقطة حلّت من الجسم شيئا منقسما أو غير منقسم إلى قوله: «و أيضا فالنقض بالوحدة وارد إلى قوله: «و كذلك الإضافة» إلى قوله: «و كذلك القوّة الوهمية المدركة بعداوة الذئب» إلى أن قال في بيان ثانى الأمرين:
و ثانيهما أن نقول: العلم متى يجب أن ينقسم بانقسام محلّه أو عند ما يكون محلّه منقسما بالقوّة، أو عند ما يكون محلّه منقسما بالفعل؟ الأوّل مسلّم، و الثانى ممنوع؛ و عندنا الجزء الذي هو محل العلم بسيط غير منقسم بالفعل فلا يلزم أن يكون العلم منقسما، بل متى انقسم ذلك الجزء بالفعل فإنّه يلزم انقسام العلم القائم به لكن العلم لما يكن محتملا للانقسام لا جرم بطل العلم و انعدم.
و الجواب: أمّا النقض بالنقطة فلا بدّ لمن احتجّ بهذه الحجة من أن يمنع كونها أمرا وجوديا في الخارج على ما مضى و إن كان ذلك في غاية البعد؛ و أمّا إذا سلّمنا كونها أمرا وجوديا و فرقنا بين الصورتين بأن قلنا النقطة عرض غير سار في الجسم لأنّك متى فرضت قسمة في الجسم لم تفرض في أجزاء الجسم أجزاء من النقطة. و أمّا العلم فقد بينا أنّ حقيقته ليست مجرّد إضافة فقط بل انّما يتمّ بحصول صورة مساوية لماهية المعلوم في العالم فيكون العلم صفة حقيقية و لا بدّ أن يكون لها محلّ معيّن ممتاز عن غيره فيكون ساريا فيه. و لكن لقائل أن يقول: إذا عقل اختصاص العرض بمحلّه بحيث لا يكون ساريا فيه فليعقل أن يختص العلم به لا على وجه السريان سواء كان العلم وصفا حقيقيا أو حالة إضافية. انتهى.
أقول: لا يخفى عليك جودة التقرير البحث على السياق الذي في المباحث، و وجه كون الاعتراضات خمسة. ثمّ انّ صاحب الأسفار اختار في الجواب عن الاعتراض بالنقض بالنقطة كونها عدمية.
و انّما الكلام في ما ذهب إليه الفخر هاهنا من أنّ العلم صفة حقيقية مع أنّ كلماته الأخرى ناصّة بأنّه قائل في العلم بالإضافة، كما قال في شرحه على الفصل السابع من النمط الثالث من الإشارات في الإدراك- أي العلم-: انّ الصورة الذهنية إن لم تكن مطابقة للخارج كانت جهلا، و إن كانت مطابقة فلا بدّ من أمر في الخارج و حينئذ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 134
لم لا يجوز أن يكون الإدراك حالة نسبية بين المدرك و بينه؟.
و قال في البحث عن العلم و اتحاد العاقل بمعقولة من المباحث ما هذا لفظه:
قد أقمنا البرهان على أنّ التعقل حالة إضافية و ذلك توجب كونها- اى كون العاقلية- مغايرة للذات- إلى أن قال: فهذا برهان قاطع على أنّ العلم حالة نسبية (المباحث، ج 1، 340 و 341، ط 1).
و في آخر الفصل الحادى عشر من المرحلة العاشرة من الأسفار (ج 1، ص 288، ط 1):
و العجب من هذا المسمى بالإمام كيف زلّت قدمه في باب العلم حتى صار الشيء الذي به كمال كل حيّ، و فضيلة كل ذى فضل و النور الذى يهتدى به الإنسان إلى مبدئه و معاده، عنده من أضعف الأعراض و أنقص الموجودات التي لا استقلال لها في الوجود؟ أما تأمل في قوله تعالى في حق السعداء: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ؟ أما تدبر في قول الله سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ؟
و في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟ أ لم ينظر في معنى قول رسوله عليه و آله السلام: «الايمان نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن»؟
فهذا و أمثاله كيف تكون حقيقتها حقيقة الإضافة التي لا تحصّل لها خارجا و ذهنا إلّا بحسب تحصّل حقيقة الطرفين.
و في آخر الفصل الخامس عشر من تلك المرحلة (ج 1، ص 288، ط 1) في درجات العقل و المعقولات. هذا المقصد ارفع قدرا و أجلّ منالا من أن ينال غوره مثل هذا الرجل بقوّة فكره و كثرة جولانه في العلوم البحثية و وفور حفظه للمسائل المشهورة.
يعنى بالرجل صاحب المباحث.
اعلم أنّ التعبير بالمحل و الحال، أو القابل و المقبول أو نظائرها في حق النفس و معلوماته ممّا هو سائر بين المشاء، و دائر على ألسنتهم و أقلامهم، و أمّا عند الحكمة المتعالية فليس على ما ينبغى إلّا بالمجاز أو بضرب من التوسع في التعبير.
ثمّ انّ قول صاحب الأسفار في اندفاع الاعتراض الرابع حيث قال: «و أمّا اندفاع
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 135
الرابع فقد سبق أنّ القوّة الوهمية مجرّدة عن المادة لا عن إضافتها و كذلك حكم مدركاتها» ناظر إلى ما سبق في الفصل الثالث من الباب الخامس من نفس الأسفار، من أنّ الوهم عبارة عن إضافة الذات العقلية إلى شخص جزئى و تعلقها به و تدبيرها له إلخ.
و الغرض أنّ الوهم عقل ساقط، و مرتبة نازلة له و بالجملة أنّ امر الإدراك على التثليث أي الإحساس و التخيل و التعقل، لا على التربيع و هو الثلاثة المتقدمة مع زيادة التوهم.
و راجع العين الإحدى و الثلاثين و شرحها من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في البحث عن أصناف الإدراك.
و إليه يئول أيضا ما في المعتبر لأبى البركات و هو الدليل الرابع فيه على تجرّد النفس الناطقة، و قد أتى فيه بأحد عشر دليلا. قال:
احتجوا على أنّ النفس جوهر غير جسمانى بأنّ النفس الناطقة أيضا تعلم العلم المجرد الكلى الذي لا ينقسم، فلو كانت جسمانية لقد كان العلم الكلى يحل محلّها الذي هو الجسم المنقسم، و ما لا ينقسم لا يحل في منقسم (ج 2، ص 357، ط حيدرآباد الدكن).
و لا يخفى عليك أنّ هذا البرهان مستنبط من البرهان المذكور من الشفاء فانّ حاصل ما في الشفاء عبارة عن انّ وعاء البسيط بسيط. و الراقم قد عبر عن هذا في تصانيفه بأنّ بين الغذاء و مغتذيه لا بدّ من شاكلة اعنى من مناسبة و مسانخة و مشابهة و مجانسة، و العلم طعام الإنسان من حيث هو إنسان، و العلم نور يقذفه في قلب المؤمن فالقلب نور، و القلب هو النفس الناطقة الإنسانية ففي الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم قال:
قال لى أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام ... يا هشام! انّ اللّه تعالى يقول في كتابه:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ يعنى عقل؛ و قال: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ قال: الفهم و العقل (كتاب العقل و الجهل، ج 1 من المعرب، ص 12 و 13).
ثمّ اعترض أبو البركات على الدليل المذكور بما يأتى نقله و ردّنا عليه.
و يأول إلى البرهان المذكور أيضا الدليل الأوّل من حكمة عين القواعد للدبيران الكاتبي القزوينى حيث قال: البحث الثالث في إثبات النفس الناطقة و بيانه من وجوه:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 136
الأوّل أنّ القوّة العاقلة تعقل البسائط، ضرورة انّ معقولاتها إمّا بسائط أو مركبات، و كيف كان لا بدّ من تعقل البسائط و يلزم منه أن تكون مجرّدة و إلّا لكانت قابلة للقسمة و كما مرّ فيكون البسيط أيضا قابلا لها، لأنّ الحال في أحد جزئيها يكون غير الحال في الجزء الآخر.
و قال العلّامة الحلّي في إيضاح المقاصد من عين القواعد المعروف ب: شرح حكمة العين في بيان الدليل المذكور:
شرع في النفس الناطقة التي هي أحد أنواع الجوهر، و قد استدل على ثبوتها بوجوه:
الأوّل أنّ القوّة العاقلة تعقل معقولات غير منقسمة هي البسائط و التعقل يستدعى الحلول، و يلزم من عدم انقسام الحال عدم انقسام المحل، و القوّة العاقلة هي النفس فيلزم عدم انقسام النفس فتكون مجرّدة، فإنّ كل متحيز و كل حال فيه منقسم. فهذا الدليل يتوقف على مقدمات:
إحداها: عدم انقسام بعض المعقولات و هو ظاهر فانّا نعقل شيئا فإمّا أن يكون بسيطا غير منقسم و هو المطلوب، أو يكون مركبا منقسما إلى أجزاء فتلك الأجزاء إن كانت بسائط ثبت المطلوب، و إن كانت مركبات تسلسل و هو محال فلا بدّ من الانتهاء إلى ما لا ينقسم؛ و لأنّا نعقل الوحدة و النقطة و الآن و واجب الوجود تعالى و كل هذه غير منقسمة.
الثانية: أنّ التعقل يستدعى حلول المعقول في العاقل و ذلك سيأتي فيما بعد.
الثالثة: أنّ المحل لما لا ينقسم غير منقسم، و بيانه: أنّ المحلّ لو انقسم فإمّا أن يحلّ الحالّ في كلّ جزء أو في بعض الأجزاء، أو يحلّ في كل جزء شيء من الحال، أو لا يحلّ هو و لا شيء منه في أجزاء المحلّ؛ و الأوّل باطل و إلّا لزم تعدد الحال بحسب تعدد أجزاء المحلّ؛ و الثانى باطل لأنّه إن كان منقسما عاد البحث و إلّا فهو المطلوب؛ و الثالث باطل لاستلزامه انقسام ما فرضناه غير منقسم؛ و الرابع باطل و إلّا لم يكن الحال حالّا في ذلك المجموع و هو خلاف التقدير.
الرابعة: أنّ كل متحيز و كل حال فيه منقسم و ذلك انّما يظهر بعد بطلان الجوهر الفرد،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 137
فإذن محلّ المعقولات أعنى النفس ليست ذات وضع. انتهى.
أقول: ما في حكمة العين من البراهين على إثبات النفس الناطقة و تجرّدها تنتهي إلى خمسة، و قال العلّامة الحلّي في شرحه إيضاح المقاصد: انّ تلك البراهين منقولة عن القدماء. فالبرهان المذكور في الشفاء منقولة عنهم إلّا أنّ الشيخ حرّره على التفصيل و التبيين اتم تحرير.
و إلى هذا الدليل المذكور يرجع أيضا الدليل الرابع من الحكمة المنظومة للحكيم السبزوارى على تجرّد النفس الناطقة، حيث قال:
و دركها للصور البسيطة |
كالوحدة و العلة المحيطة |
|
ثمّ قال في الشرح:
بيانه أنّ النفس تدرك المعقولات التي يستحيل عليها القسمة كالوحدة الحقيقة، و كعلة العلل، و كالبسائط التي يتألّف منها المركبات لأنّ كل كثرة لا بدّ و أن ينتهى إلى البسيط فلو كانت النفس جسما أو جسمانية كمقدار، أو منطبعة في مقدار كانت قابلة للقسمة إلى غير النهاية فلزم أن يكون الصورة البسيطة التي فيها منقسمة بل غير متناهية الانقسام هذا خلف. و أيضا لم يكن العلم مساويا للمعلوم لأنّ كل جزء من العلم إمّا يكون متعلقا بتمام المعلوم فيلزم مساواة كل العلم و جزئه، و إمّا أن يكون متعلقا ببعضه فلا بعض له. (ص 301، ط 1).
و قد اعترض الكاتبى في حكمة العين على الدليل المذكور بقوله: «انّ ذلك يلزم أن لو كان الحلول حلول السريان و هو ممنوع». و قال العلّامة الحلى في شرحه عليه:
اعترض على الدليل بالطعن في المقدمة الرابعة؛ و تقريره: أنّا لا نسلّم أنّ الحالّ في المنقسم يجب أن يكون منقسما مطلقا، بل إذا كان الحلول على نعت السريان و الشياع بحيث يكون أجزاء ذلك المحل مشغولة بشيء من ذلك الحال مثل السواد و الجسم، أمّا إذا كان الحلول لا على نعت السريان لم يلزم من انقسام المحل انقسام الحال فإنّ الأبوّة حالّة في الأب، و لا يقال إنّ نصفها حال في نصفه؛ و كذلك الوحدة و النقطة و الآن، لأنّ الحلول لا على نعت السريان، فلم لا يكون الحال في المتعقل كذلك. انتهى.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 138
و أقول: أنت بما قدّمنا حول الدليل من الشبهات و الردّ عليها لا تحتاج إلى زيادة بيان في دفع اعتراض الكاتبى عليه. و كأنّ صاحب الأسفار في قوله المقدم ذكره: «و أما اعتراضات بعض المتأخرين على هذه الحجة فهي مدفوعة ...» ناظر إليه. و أنت تعلم أنّ تعبير الحلول في المقام مع أنّه غير جدير، إن لم يكن على نعت السريان كان محل المعقولات شيئا وحدانيا و هو طرف نقطى؛ و إن كان على نعت السريان لزم منه انقسام الصورة المعقولة، و قد علمت ما فيهما. ثمّ انّ اعتبار الأبوّة و نحوها من الإضافات من موضوعاتها ليس على سبيل حلولها في تلك الموضوعات فيقال في رجل مثلا هو أب و ابن و عم و جدّ و خال و نحوها من العناوين انّ تلك الإضافات قد حلت فيه، بل هو ممن يصح اعتبارها فيه بالإضافات العديدة و النسب الكثيرة يعتبر فيها العقل بضرب من الاعتبار.
و اعترض أبو البركات البغدادى في المعتبر على الدليل المذكور بقوله:
و أمّا القائلة بالانقسام فالذى يمتنع منه الانقسام بالفعل الواقع بالتمييز و الفصل و المباينة بالعبد المكانى و ذلك لا يلزم في كل شيء يحلّ الأجسام.
و أمّا الانقسام الوهمى التقديرى الذي يلزم فلا يقدح في ذلك و لا يؤثر فيه، و كثير من القوى لا تنقسم بانقسام الأجسام و هو الأكثرى من نفوس الحيوانات أي لا يختلفون في أنّها قوى جسمانية قوامها بالأبدان، و لا ينقسم بانقسامها الذي بالفعل مع كونها متوزعة على البدن في أقطاره و أعضائه، و ينقسم في بعض الحيوان بانقسام أعضائه و يبقى كل جزء منها زمانا يتحرك به و يحيى، و النفس الإنسانية أيضا يشعر الإنسان بها في كل انفعال و فعل من لذة و ألم يكون في سائر أعضائه الحساسة، و لا ينقسم بالفعل مع انقسام البدن فإنّ اليد المقطوعة لا حسّ لها و لا بها، و الجسم الذي يكون مستنيرا بشعاع الشمس إذا قسم بالفعل إلى أقسام و أبعد بينها لا ينقسم النور بانقسامه، و لا يتحرك بحركته، و الشعاع و النور على رأيهم شيء جسمانى و عرض في الجسم الذي هو فيه فكذلك تصوّر من هذه الحجة؛ و على أنّ القول في القسمة و ما ينقسم و لا ينقسم فيه كلام مكانه العلم الإلهي.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 139
و قد اعترض أبو البركات على سائر الحجج التي أتى بها في المعتبر أيضا- و هي مع الحجة المذكورة إحدى عشرة حجة على تجرّد النفس- فقال في الخاتمة متفرعا على اعتراضاته: فلم يبق من هذه الحجج ما نرجع في المطلوب إليه و لا نعوّل في الاحتجاج عليه، و لم يتضح بشيء منها هل النفس جوهر أو عرض (ج 2، ص 363، ط حيدرآباد).
و أقول: المفروض أنّ الصورة العلمية حصلت للنفس الناطقة بالفعل، و قد ارتقت النفس من نقصها إلى كمالها النسبيّ، فمحلّ تلك الصورة على تعبير القوم أعنى النفس إمّا طرف نقطى، و إمّا ليس كذلك فيعود الإشكالات الواردة بأسرها. سواء كان ذلك التمييز هو المعبر بالفصل و المباينة بالفعل، أو بالوهمى التقديري. و سائر اعتراضاته على حجج تجرّد النفس كلّها من هذا القبيل فهي داحضة بأسرها؛ و نأتى بتلك الاعتراضات في ضمن تلك الحجج، ثمّ نريك مواضع ضعفها و عدم ورودها عليها.
تبصرة: قد دريت أنّ النفس الناطقة كأنّها موضوع ما للصور المعقولة، فلذلك كانت عارية عن المادة و أحكامها، فادر أيضا أنّ الشيخ الرئيس تصدى في سابع الإشارات لبيان ستّ مسائل عقلية هي من غرر مباحث حكمية. أوليها في وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات؛ و ثانيتها في كيفية تقرر المعقولات في الجواهر المجرّدة العاقلة إيّاها. فافتتح في المسألة الثانية بالردّ على اتحاد العاقل بمعقوله، و تحقيق الحق في ذلك في العين السادسة و العشرين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون؛ و ابتدأ في الأولى بقوله:
و لمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور المعقولة غير منطبعة في جسم تقوم به بل انّما هي ذات آلة بالجسم فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لا تضرّ جوهرها بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية. انتهى.
بيان: قد تقدّم كلامنا في أنّ حجج تجرّد النفس في سابع الإشارات خمس، و هذا الفصل يحوى الحجة الأولى منها على أنّ النفس موضوع ما للصور المعقولة إلخ؛ و المحقق الطوسى حسبها أربع حجج. و بالجملة قول الشيخ «فاستحالة الجسم ...»
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 140
كلام في غاية الإيقان و الإتقان، و هو نتيجة كل واحد من البراهين القاطعة على تجرّد نفس الإنسان. فقد خبط الجاهلون بآرائهم الكاسدة الفاسدة أنّ الموت إعدام الذات و إبطالها رأسا؛ و لم يهتدوا بنور القرآن و العرفان و البرهان أنّه تفريق صفة الوصل أعنى العلاقة التي بين النفس و البدن العنصرى بضرب من التعبير، و أنّ النفس باقية بعد خراب البدن و بواره بما هو مبدأ لوجودها من الجواهر الباقية العقلية:
سعديا گر بكند سيل فنا خانه عمر |
غم از او نيست كه بنيان بقا محكم از اوست |
|
و نعم ما أفاده صدر المتألهين في رسالة المظاهر: «من أنّ الموت يرد على الأوصاف لا على الذوات لأنّه تفريق لا إعدام و رفع».
و اعلم أنّ نسخ العبارة في الفصل المذكور من الإشارات مختلفة جدّا و الأصوب ما اخترناه. ففي بعض النسخ: من الجواهر العقلية، و في بعضها: من الجواهر الباقية العقلية، و في بعضها: بما هو مفيد الوجود، و في بعضها: بل تكون باقية بما هو مبدأ لوجودها من الجواهر الباقية. و هذه الأخيرة تلي في الصواب ما اخترناه. ثمّ انّ كلمة من بيان ما. و انّما كانت الجواهر الباقية أي العقول مستفيدة الوجود لأنّها وسائط فيض الأوّل تعالى، تستفيد الوجود منه تعالى و تفيد ما دونهم و إن كان المفيد الواهب واقعا هو الأوّل (جلّ شأنه و عزّ اسمه) فلا يكون بينه سبحانه و بينهم بل و بين ما سواه تمايز تقابلى، بل تميز المحيط عن المحاط بالتعيّن الإحاطى و المحاطى.
و المحقق الطوسى أفاد في شرح الفصل المذكور مطالب نذكرها ثمّ نشير إلى بعض تعليقاتنا عليه. قال:
لمّا كانت النفس الناطقة واقعة في آخر مراتب العود اشتغل بالبحث عن حالها بعد تجرّدها عن البدن، فاستدلّ بتجرّدها في ذاتها و كمالاتها الذاتية عن المادة و ما يتبعها، و بأنّها غير متعلقة الوجود بشيء غير مباديها الدائمة الوجود على ما تبيّن في النمط الثالث و غيره على بقائها بعد الموت كذلك. و أشار بلفظة «لمّا» إلى ما ثبت في النمط الثالث من عدم انطباع النفس في الجسم. و بقوله «التي هي موضوع ما للصّور
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 141
المعقولة» إلى كمالاتها الذاتية الباقية معها ببقائها التي بها استدل على امتناع انطباعها في الجسم. و بقوله «بل انّما هي ذات آلة بالجسم» إلى كيفية ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها و كمالاتها المذكورة إليه. ثمّ جعل قوله «فاستحالة الجسم عن كونها آلة لها لا تضرّ جوهرها»، تاليا لما وضعه بعد لفظة «لمّا».
و أتمّ مقصوده بقوله «بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية» و ذلك لوجوب بقاء المعلول مع علته التامّة. فهذا برهان لمى هو عمدة براهين هذا الباب على ما ذكره الشيخ أبو البركات البغدادى.
و اعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هاهنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس، لأنّ النفس كما كانت حافظة لها بالذات فالجسم حافظ أيضا و لكن بالعرض. و ذلك لأنّ فساد المزاج المقتضى لقطع العلاقة إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه و لذلك أسند استحالة البدن عن كونه آلة للنفس إلى الجسم، و عدم تطرق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرق منه الفساد حفظ ما لذلك الشيء لكنه حفظ بالعرض، ثمّ إنّ الشيخ أكّد هذا المطلوب بما أورده بعد هذا الفصل. انتهى.
هذا تمام كلام المحقق الطوسى في شرح ذلك الفصل من الإشارات.
فأقول: قوله: «على بقائها بعد الموت كذلك» يعنى بقاء النفس الناطقة بعد الموت مع كمالاتها الذاتية. و الكمالات الذاتية نحو شعورها بذاتها فانّها كغيرها من الجواهر المجرّدة عقل و عاقل و معقول و هذا لا كلام فيه. و لكن عمدة النظر في بقائها مع كمالاتها المكسوبة بل مع ملكاتها المكتسبة أيضا كما قد أشار المحقق الشارح في صدر شرح النمط السابع إلى أنّ المسألة الأولى في وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات؛ و الشيخ ينكر بعد هذه المسألة اتحاد العاقل بمعقولاته فيسأل عن كيفية تقرر تلك الكمالات و الملكات فيها و ما بيان ذلك و الشيخ لم يبيّن ذلك في الإشارات بل في الشفاء أيضا. و لا محيص في بيان ذلك و في الجواب عن السؤال إلّا بذلك الاتحاد، كما قد استبصر الشيخ آخر الأمر و أقرّبه
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 142
بنور البرهان فراجع في ذلك كله كتابنا الفارسى دروس اتحاد عاقل بمعقول سيما المدرس السادس عشر منه في بيان دليل الشيخ على الاتحاد.
قوله: «أشار بلفظة لمّا إلى ما ثبت في النمط الثالث ...» أقول: قد تقدّم في مفتتح كلامنا في بيان البرهان الأوّل من الشفاء أنّه ثبت في الفصل السادس عشر منه أنّ كل جوهر عاقل منها النفس الناطقة ليس بذى وضع. فابتدأ الشيخ في الفصل المذكور بقوله: «إشارة، إن اشتهيت أن يتضح لك أنّ المعقول لا يرتسم في منقسم و لا في ذى وضع فاسمع إلخ، فأثبت بعدم انقسام المعقول عدم انقسام عاقله فاستنتج أنّ جوهر النفس الناطقة من الجواهر المفارقة. ثمّ اتبعه الفصلين بعده في إزالة بعض الشبه حول المسألة، و بعد ذلك أخذ في الفصل التاسع عشر منه في بيان أنّ كل عاقل كجوهر النفس الناطقة عقل و معقول، و كذلك أنّ كل معقول قائم بذاته فهو عاقل.
فالفصل الأوّل من سابع الإشارات ناظر إلى تلك الحجة الباهرة في الفصل السادس عشر من ثالث الإشارات على كون النفس جوهرا مفارقا فالحجج على ذلك في النمط السابع خمس لا أربع.
قوله: «بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية»، و هذا أحد الوجوه على تجرّد النفس الناطقة أيضا. و ذلك لأنّها آخر مراتب الموجودات العقلية كما ذهب إليه المشّاء فعليك في ذلك بآخر الفصل الرابع من تاسعة إلهيات الشفاء (ج 2، ص 269، ط 1، ايران)، و الفصل الثالث من خامسة نفس الشفاء (ج 1، ص 352)، و آخر الفصل الأخير من النمط السادس من الإشارات؛ فحيث إنّ جوهر النفس الناطقة معلول العقل بلا واسطة مادية بل حادث مع البدن فهو عقل. و على هذا المسلك سلك القاضى سعيد القمى في آخر الفصل الثامن من القسم الثانى من كتابه بالفارسية الموسوم ب كليد بهشت أي مفتاح الجنة (ص 87، ط 1، ايران).
قوله: «و اعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة إلخ» راجع في ذلك شرح العين الخامسة عشرة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في جامع أجزاء البدن و حافظها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 143
ى) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا:
هذا هو البرهان الثانى من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية.
ثمّ قال الشيخ:
و لنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر فنقول: انّ القوّة العقلية هو ذا تجرّد المعقولات عن الكم المحدود و الأين و الوضع و سائر ما قيل من قبل، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجرّدة عن الوضع كيف هي مجرّدة عنه؟ أبا لقياس إلى الشيء المأخوذ منه، أو بالقياس إلى الشيء الآخذ؛ أعنى أنّ وجود هذه الحقيقة المعقولة المتجرّدة عن الوضع هل هو في الوجود الخارجى، أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل؟
و محال أن نقول: انّها كذلك في الوجود الخارجى؛ فبقى أن نقول: انّها انّما هي مفارقة للوضع و الأين عند وجودها في العقل، فاذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع، و بحيث تقع إليها إشارة أو تجزّ و انقسام أو شيء ممّا أشبه هذا المعنى فلا يمكن أن تكون في جسم.
أقول: الدليل الثانى المذكور من الشفاء قد أتى به الشيخ في النجاة أيضا (ص 177، ط مصر) و في الفصل الخامس من رسالته في النفس و بقائها و معادها (ص 84، ط مصر بتصحيح الأهواني، و ص 129 من مجموعة الرسائل الفلسفية، ط استانبول) بتفاوت يسير في تقرير البرهان لا يوجب مزيد إيضاح فيه للنقل هاهنا مرة أخرى. ففي النجاة:
و بحيث تقع إليها إشارة تجزؤ، أو انقسام أو شيء مما اشبه هذا المعنى. و في رسالة النفس: بحيث تقع إليها إشارة تجزّؤ، أي انقسام أو شيء مما اشبه هذا المعنى. و عنوان
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 144
هذا البرهان في النجاة هكذا: «برهان آخر في المبحث المذكور». ثمّ اقتفاه غير واحد من الأكابر فقد عبّروا عنه في الصحف الأخرى بعد الشفاء بوجوه عديدة و كلّها يرجع إلى ما في الشفا: منها ما في حكمة العين للكاتبى و هو الدليل الثانى فيه أيضا، قال:
الثانى أنّ المعقولات الكلية مجرّدة عن المادة، فالقوّة العاقلة لها أيضا كذلك و إلّا لكان لها وضع و مقدار مخصوصان فالحال فيها مقترن بعوارض مخصوصة فلا يكون مطابقا للأفراد المختلفة بالصغر و الكبر فلا يكون كليا (ص 142، ط ايران، 1337 ه ش)
و قال العلّامة الحلّي في شرحه عليه (ايضاح المقاصد):
هذا برهان ثان على تجرّد النفس الناطقة. و تقريره انّ المعقولات الكلية من حيث هي هي غير مخصصة بشخص معين، مجرّدة عن المادة، فانّها لو كانت مخصّصة بمادة لم يصدق على غير تلك المادة فلا يكون كلية، هذا خلف؛ و إذا ثبت تجرّد الصورة الكلية ثبت تجرّد القوّة العاقلة، لأنّها لو كانت ذات وضع و مقدار مخصوصين كان الحال فيه مخصصا بذلك الوضع و المقدار و ذلك ينافي كلّيتها لأنّها إن لم تطابق غيرها لم تكن كلية، و إن طابقت غيرها لزم مساوات الشيء الواحد للمختلفين أعنى الأصغر و الأكبر، هذا خلف.
و منها ما في معارج القدس في مدارج معرفة النفس للغزالى (ص 28، ط مصر) و هو البرهان الثانى فيه أيضا. و حرّفت فيه كلمة: «هو ذا تجرّد المعقولات» بعبارة «هو ذات تجرّد المعقولات». كما حرّفت في كتاب المبدأ و المعاد للمولى صدرا أيضا هكذا «انّ القوّة العاقلة من الإنسان شيء ذو تجرّد المعقولات» (ص 207، ط 1، ايران).
و منها ما في الحكمة المنظومة، و هو الدليل الثانى فيه أيضا، قال:
كذا تجرّد الذوات المرسلة. و شرحه بقوله:
و الثانى: قولنا كذا أي كذا يرى تجرّد النفس الناطقة، تجرّد الذوات المرسلة أي الطبائع الكلية العقلية. بيانه: أنّ النفس تعقل الصور العقلية المشتركة بين كثيرين، و كل مشترك بين كثيرين مجرّد من المادة و لواحقها حتى يصدق عليها، و معلوم انّ هذه الصور المجرّدة موجودة في النفس كما مر في مبحث الوجود الذهنى، فلا محالة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 145
ما تقوم هي به مجرّد و إلّا لكان لها مقدار معيّن و وضع معين و أين معين بتبعيته فلا تكون مشتركة بين كثيرين هذا خلف. فهو جوهر مجرّد و هو المطلوب.
ثمّ قال:
و القرينة على أنّ المراد بالذوات الطبائع المعقولة الإرسال لأنّه الكلية و الإطلاق و هما أكثر استعمالا في المفاهيم من غيرها.
و يمكن جعل الذوات المرسلة أعم منها على مذهب صدر المتألهين قدّس سرّه من أنّ إدراك الكليّات مشاهدة النفس أرباب الأنواع بالإضافة الإشراقية و لكن عن بعد- كما نقل الشيخ في إلهيات الشفاء عن قوم انّهم جعلوا لكل واحد من الأمور الطبيعية صورة مفارقة هي المعقولة و إيّاها يتلقى العقل إذ كان المعقول أمرا لا يفسد و كل محسوس من هذه فهو فاسد، و جعلوا العلوم و البراهين تنحو نحو هذه و إيّاها تتناول، و كان المعروف بأفلاطون و معلمه سقراط يفرطان في هذا الرأى؛ انتهى- و الحق أنّها عنواناتها و عكوسها في القلب و أنوار مشرقة من السماوات العلى التي هي عالم الابداع، و لا سيما العنوانات المطابقة التي هي العلم بها على ما هي عليه في نفس الأمر. انتهى.
فقول الحكيم السبزواري في تعميم البرهان حيث جعله شاملا على القسمين معا بيّن لا غبار عليه، و قد سلك أوّلا على مسلك الأوائل في المعنى الكلى المعقول، ثمّ ارتقى فقال: «و يمكن جعل الذوات المرسلة أعم منها ... إلخ». و نعم ما فعل و تقدّم كلامنا في ذلك في بيان البرهان الأوّل من الشفاء أيضا. و العجب انّه مع هذا التصريح بالتعميم في المنظومة لم يتعرض به في تعليقاته على الأسفار.
مذهب صدر المتألهين في الادراك يطلب في الفصل الثالث و الثلاثين من المرحلة السادسة من الأسفار في العلّة و المعلول (ج 1، ص 200، ط 1) و نقل الشيخ في إلهيات الشفاء كلام أفلاطون و سقراط، فراجع الفصل الثانى من المقالة السابعة (ج 2، ص 557، ط 1).
و منهما ما في أسرار الحكم لصاحب الحكمة المنظومة و هو البرهان الأوّل فيه،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 146
المترجم بالفارسية، و قد أجاد في ترجمته و أفاد بما هو المراد (ص 239، بتصحيح الأستاذ العلامة الشعرانى و تعليقاته عليه).
و منها ما في هياكل النور للسهروردى، و هو الطريق الثالث من طرقه في تجرّد النفس تجردا تامّا عقليا، قال:
لا تدرك أنت شيئا إلّا بحصول صورته عندك فانّه يلزم أن يكون ما عندك من الشيء الذي أدركته مطابقا له و إلّا لم تكن أدركته كما هو و عقلته معانى يشترك فيها كثيرون فانّك عقلتها على وجه يستوى نسبتها إلى الفيل و الذبابة فصورتها عندك غير ذات مقدار لأنّها تطابق الصغير و الكبير، فمحلّها منك أيضا غير متقدر و هو نفسك الناطقة لأنّ ما لا يتقدر لا يحل في جسم متقدر. فنفسك غير جسم و لا جسمانية و لا يشار إليها لتبرّيها عن الجهة. و هي أحدية صمدية لا تقسمها الأوهام أصلا. و لما علمت أنّ الحائط لا يقال له أعمى و لا بصير، فإنّ العمى لا يقال إلّا على من يصحّ أن يبصر، فالبارى و النفس الناطقة و غيرهما مما سيأتي ذكره ليست جسما و لا جسمانية، فهي لا داخلة العالم و لا خارجته، و لا متصلة و لا منفصلة، و كل هذه من عوارض الأجسام يتنزّه عنها ما ليس بجسم. فالنفس الناطقة جوهر لا يتصور أن تقع عليه الإشارة الحسيّة من شأنه أن يدبر الجسم، أو يعقل ذاته و الأشياء الخارجة عنه بصورها.
أقول: نقلنا عبارة هذا الدليل على تجرّد النفس من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى على هياكل النور للسهروردى و ما في مطبوعة مصر تخالف بعض عباراته ففيها:
... فإنّه يلزم أن يكون ما أدركته مطابقا له ... كما هو ثمّ انك تعقل معانى كثيرة ....
الأوهام و لما علمت ... ليست أجساما و لا جسمانيين ... و لا منفصلة إذ كل هذه ...
و يتنزه عنها ... الجسم و أن يعقل إلخ.
و الدليل أيضا مترجم في هياكل النور بالفارسية (ص 86- 87، ط ايران):
بدان كه تو چون چيزى بدانى كه ندانسته باشى، دانستن تو آن باشد كه صورت آن چيز كه بدانستى در ذهن تو حاصل شود إلخ.
و خلاصته: أنّ الصور العلمية العقلية مرسلات كلية و مطلقات نورية فوعاؤها المتّهب
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 147
كوعائها الواهب أيضا كذلك فالعلم و وعائه مطلقا من وراء عالم المادة، و كثير من الأدلّة في تجرّد النفس ناظر إلى سنخية بين وعاء العلم و العلم كما ستطلع عليها.
و الدليل مبتن على ثلاث مقدمات:
إحداهما: أنّ العلم و التعقل انّما هو بحصول صورة المعقول عند العاقل؛
و ثانيتها: انّ الصور المعقولة غير ذات مقدار؛
و ثالثتها: أنّ ما لا يتقدر أي المجرّد عن المقدار لا يحل في متقدر أي في ذى مقدار فأنتجت أنّ الجوهر العاقل لهذه الصور المجرّدة أي النفس الناطقة الإنسانية مجرّد عن الجسم و أحكامه فهو موجود نورى بسيط من فوق عالم الطبيعة و ورائها.
و الحق أنّ حصول الصور المرسلة النورية للنفس أشمخ من نحو التعبير بالحلول و المحل.
قوله: «و هي أحدية صمدية لا تقسمها الأوهام»، هذا الحكم الحكيم لا ينافي قولهم بأنّ كل ممكن زوج تركيبى فافهم.
ثمّ انّ الصمد- كما فسرّه السنة ترجمان الوحى- هو الذي لا جوف له، و في مأثور آخر: الصمد الذي ليس بجسم و لا جوف له.- و حققنا البحث عن الصمد مع ذكر الروايات في تفسيره عن الجوامع الروائية في رسالتنا الموسومة ب أنّه الحق (ص 282- 284، من 11 رسالة)- و الغرض أنّ إطلاق الصمد على النفس الناطقة الكاملة فله وجه كما أطلق على الملائكة كما في الخبر «أنّ اللّه تعالى خلق الملائكة صمدا ليس لهم أجواف». و على هذا الوجه الوجيه قد حقّقنا في موضعه أنّ اللّه سبحانه صمد لا مدخل فيه و لا جوف له لأنّه فعلية مطلقة لا يخلو منه شيء و لا يشذ منه مثقال عشر عشر اعشار ذرة فلا يتصور له ثان، و كذا كتابه القرآن الفرقان صمد فلا جوف له حتى يتمه و يكمله كلام آخر أو كتاب آخر، و كذا نبيّه الخاتم في إنسانيته و نبوّته صمد فالقرآن مصمت ليس بأجوف و كذا الخاتم ليس في نبوته بأجوف حتى يتمّ و يكمل بغيره فكل واحد من الثلاثة لا يتصوّر له ثان فانّه لا ثانى بعد الصمد فافهم.
و أمّا النفوس الناطقة الناقصة من حيث إنّها نفوس فليست بصمد، و أمّا الإنسان
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 148
الكلى الذي هو رب النوع الإنسان فهو من المفارقات النورية و الملائكة المدبرة فهو أيضا صمد ليس له جوف إلّا أنّ سياق البحث لا يوافق حمل العبارة على الوجهين الأخيرين فتدبر.
و منها ما في أسفار صدر المتألهين و هو الحجة الثالثة على تجرّد النفس، و سيأتي نقل ما أفاده بعد الإتيان باعتراض الكاتبى الآتي على هذا البرهان و ما نذكره حوله فارتقب.
اعترض الكاتبى القزوينى في حكمة العين على هذا الدليل بقوله:
و أمّا الثاني فلأنّه لا يلزم من عدم مطابقة الكلى لما تحته من الأفراد بحسب المقدار و العوارض، عدم مطابقته إيّاها أصلا، فيجوز أن يطابقها بحسب الماهية على معنى أنّ المفهوم الكلّى المنتزع من كل فرد من أفراده هو مفهوم ذلك الكلّى.
و قال العلّامة الحلّي في شرحه عليها:
هذا الاعتراض على الوجه الثانى، و تقريره أن نقول: لم لا يجوز أن يكون الكلى حالّا في الجسم المتعقل و تقترن بعوارض مخصوصة من مقدار و غيره، و يكون مطابقا للجزئيات المندرجة تحته في الحقيقة، و إن لم يطابقها في المقدار فإنّه لا يلزم مطابقة المعقول لأفراده في كل وجه، و كذا لا يطابقها في العوارض، و يكون معنى المطابقة أنّ المفهوم الكلّى المنتزع من كل فرد فرد هو المفهوم الكلى الحاصل في النفس.
ثمّ قال العلامة:
و هذا الاعتراض ليس بجيد، فإنّ الصورة العقلية إذا كانت حالّة في المادّة تخصّصت بوضع مخصوصة و عوارض مشخصة لها، بحيث يخرج عن الكلّية أصلا فلا يصدق عليها الكلّية فإن أخذت في تلك الصورة صورة أخرى مجرّدة عن الوضع و المشخّصات كما هو المفهوم من كلام المصنف، و جعلت تلك الصورة الثانية مطابقة للمفهوم المنتزع من تلك الأفراد و جعلت الصورة العقلية كلية باعتبار اشتمالها على الصورة الثانية، لزم المحال من وجوه:
أحدها تجويز كون كل شخص كليا بهذا الاعتبار و ذلك خلف.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 149
الثانى: أنّ الصورة الثانية هي المطلوب إثباتها و بيان تجرّدها فينتقل الكلام إليها.
الثالث: أنّ كلّية الصورة العقلية ليس باعتبار صورة أخرى منتزعة عنها بل باعتبارها في نفسها و مطابقتها لأىّ فرد فرد سبق إلى العقل بحيث لا يكون للوارد من الأفراد تأثير في زيادة ذلك المعقول أو نقصانه. بل الأولى أن يقال: كما أنّ الصورة العقلية الكليّة إذا حلّت في نفس جزئية تخصّصت بها و لا يضرّ ذلك كلّيتها حيث إنّ التخصيص عرض لها باعتبار الحلول لا باعتبار الأفراد المندرجة تحتها فانّ الأفراد بعينها تلك الأفراد، إذ لم يخرج بعضها عن الاندراج باعتبار ذلك المخصّص كذلك إذا كانت حالّة في مادة مخصوصة. انتهى كلام العلامة.
و أقول: يعنى بالجسم المتعقل، النفس الناطقة. و لا يخفى عليك أنّ التعقل لو كان للجسميّة المشتركة لوجب أن يكون كل جسم من حيث هو جسم عاقلا متعقلا و هو زهوق بالضرورة، إلّا أن يدّعى أنّ النفس جسم مخصوص يمتازه عن غيره بتلك الخصوصية و يصحّ له التعقل، و هو كما ترى. نعم يجوز إطلاق الجسم بمعنى المتحقق بذاته و المتقرر القائم بنفسه على النفس و ما فوقها كقولهم تجسم الأعمال و النيات و في النظم الفارسي:
دگرباره به وفق عالم خاص |
شود أعمال تو أجسام و اشخاص |
|
و الجسم بهذا المعنى هو الجسم الدهرى، و كذلك التجسم أعنى تجسم الأعمال و النيّات هو التجسم الدهرى. و الدهر روح الزمان لا تناله أحكام الزمان و الزمانى فانّها متصرمة زائلة بائدة، و الدهر باق ببقائه الأبدى بلا تصرّم و زوال فافهم. و الجسم بهذا المعنى هو فوق ما هو المصطلح في الكتب الفلسفية و أعم منه، و لا يعنيه الكاتبى في المقام بلا كلام.
ثمّ إنّ الصورة المدركة إن كانت جزئية كصورة شجرة شخصية، لا يمتنع أن يكون لتلك الصورة الشخصية أفراد كثيرة في الخارج. فهذه الصورة كالكلّى لا يمتنع فرض صدقها على كثيرين إلّا أن يدّعى بأنّ الأين و المتى و أترابهما من المشخصات أيضا.
و سيأتي في العين الثالثة و الثلاثين أنّ التجريد عن العوارض المقارنة للماهية ليس من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 150
شرائط معقولية تلك الماهية، و ذلك لأنّ التجريد في الحقيقة هو الترفيع أي ترفيع الوجود الجسمانى إلى الوجود العقلانى؛ و كذا في العين السابعة و الثلاثين أنّ كل محسوس فهو معقول في الحقيقة، و إن وقع الاصطلاح على تسميته جزئيا. و جملة الأمر في الصورة المجرّدة أنّ التجريد عن العوارض المقارنة للماهية ليس من شرائط معقولية تلك الماهية إذ للعقل أن يتصور ماهية الإنسان مثلا مع جميع عوارضه و صفاته و نعوته من كمّه و كيفه و أينه و وضعه و متاه و كذا بشكله و أعضائه و جوارحه، كل ذلك على الوجه العقلى الكلّى.
قول الكاتبى: «و إن لم يطابقها في المقدار إلخ» أقول: الصورة المجرّدة البرزخية في النفس بل لدى النفس القائمة بها أعنى بها الصور الخيالية، لها تجرّد غير تام فليس تجرّدها نحو التجرّد التام العقلى، و لها مقدار و إن لم يكن مقدارها ماديا؛ و النفس بعد تجريد الصورة عن المادة و جعلها مجرّدا خياليا مقداريا يجرّده في مرتبة أخرى أشرف و أتم من الأولى تجرّدا تاما عقليا- هذا لو قلنا في الصورة العلمية بتجريد النفس و انتزاعها، و أمّا إن قلنا بإنشائها إيّاها فالأمر أدقّ من نحو هذه المباحث، و الجواب عن الاعتراض كان على وجه أرفع و أشرف- كيف كان و المحقّق أنّ هذا المجرّد المعقول المجرّد عن المقدار الخيالي صادق على كل فرد من أفراده الخارجية؛ فإن أراد الكاتبى من صدق المقارن بالمقدار على أفراده الخارجي هذا المعنى فلا نزاع فيه لأنّ الأمر في تقرر تلك الصورة المعقولة في النفس، و لكنّه أراد حلول الصورة العقلية الكلية في الجسم المادّي، و لا يخفى عليك أنّ تلك الصورة حينئذ ليست بكلّية لأنّها تخصّصت بوضع خاص و عوارض مشخصة مادّية. لست أقول إنّ الصورة الكلّية لا تصير متخصّصة بخصوصيات و لكنّها لو تخصّصت بألف خصوصية من سنخها لا تخرجها عن الكلّية، بل انّما الكلام في تخصّص الصورة المادية الممنوّة بالوضع الخاص و العوارض المشخصة الماديّة فانّها تمنع عن الكلية و لا تقارنها و لا تجمع معها فتبصّر.
و بالجملة أنّ حلول الصورة العقلية في المادة التجرّمية محال رأسا، و التجرّد لا يجامع التجرّم أصلا، و أمّا انتزاع الصورة العقلية عن الصورة الجرمية فأمر آخر،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 151
و انّما ننقل الكلام في هذه الصورة العقلية و نحو حصولها للنفس. و هذه الصورة بذاتها مطابقة لأفرادها لا بصورة أخرى منتزعة عنها.
و أمّا ما قال الشارح العلّامة: «بل الأولى أن يقال كما أنّ الصورة العقلية الكلّية ... إلخ» فهذا إشكال صعب الانحلال حرره صاحب الأسفار في الحجة الثالثة من كتاب النفس على تجردها، ثمّ أجاب عنه بتحقيقه العرشى، و لنا حول كلماته السامية في هذه الحجة تعليقات عديدة فالصواب أن نذكر الحجة بقلمه الشريف، ثمّ ما تيسّر لنا حولها ممّا أفاض علينا رب ن وَ الْقَلَمِ قال:
الحجة الثالثة أنّ نفوسنا يمكنها أن تدرك الإنسان الكلى الذي يكون مشتركا بين الأشخاص الإنسانية كلّها، و لا محالة يكون ذلك المعقول مجرّدا عن وضع معيّن و شكل معيّن و إلّا لما كان مشتركا بين الأشخاص ذوات الأوضاع المختلفة، و ظاهر أنّ هذه الصورة المجرّدة أمر موجود، و قد ثبت أنّ الكليات لا وجود لها في الخارج فوجودها في الذهن، فمحلّها إمّا أن يكون جسما أو لا يكون، و الأوّل محال و إلّا لكان له كمّ معيّن و وضع معيّن بتبعية محلّه، و حينئذ يخرج عن كونه مجرّدا و هو محال، فإذن محلّ تلك الصورة ليس جسما فهو إذن جوهر مجرّد.
و لقائل أن يقول: لصورة الكلية المعقولة من الإنسان هل لها وجود أم لا؟ فإن لم يكن لها وجود فكيف يمكن أن يقال إنّ محلّها يجب أن يكون كذا؟ و إن كان لها وجود فلا محالة هي صورة شخصية حالّة في نفس إنسانية شخصية لاستحالة أن يوجد المطلقات في الأعيان و هي من حيث إنّها صورة شخصية قائمة بنفس شخصية غير مشترك فيها بين الأشخاص: أمّا أولا فلأنّ الأمر الشخصى لا يكون مشتركا فيه؛ و أمّا ثانيا فلأنّ الصورة عرض قائم بالنفس، و الأشخاص جواهر مستقلّة بذواتها، فكيف يمكن أن يقال إنّ حقيقة الجواهر القائمة بذاتها عرض قائم بالغير؟ فإن قالوا: إنّ المعنيّ بكون تلك الصورة كلّية أنّ أيّ شخص من الأشخاص الإنسانية سبق إلى النفس كان تأثيره في النفس ذلك التأثير، و لو إنّ السابق إليها هو الفرس لما كان أثره فيها ذلك الأثر بل أثر آخر.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 152
فنقول: إذا كان المعنيّ بكون الصورة كلية ذلك فلم لا يجوز أن يحصل هذه الصورة على هذا الوجه في محلّ جسمانىّ فيرتسم مثلا في الدماغ من مشاهدة إنسان معين صورة بحيث لو كان المرئى بدل ذلك الشخص أيّ إنسان شئت لكانت الصورة الحاصلة منه في الدماغ تلك الصورة؟
فإن قالوا: إنّ تلك الصورة لو حصلت في الجسم لكان لها بسبب الجسم مقدار معيّن و شكل معيّن، و ذلك يمنع من كونها كلية.
قلنا: و كذلك الصورة الحاصلة في نفس الشخص تكون صورة شخصيّة و تكون عرضا قائما بمحل معيّن، و ذلك يمنع من كونها كلية. فإن كان ما يحصل للصورة بسبب حلولها في الجسم من الشكل و المقدار بالعرض مانعا من كونها كلّية، فكذلك ما يحصل للصورة بسبب حلولها في النفس من الوحدة الشخصيّة و العرضية وجب أن يكون مانعا من الكلّية. و إن أمكن أن يؤخذ الصورة القائمة بالنفس باعتبار آخر حتى تصير كلّية بذلك الاعتبار، و إن كان اعتبار وحدتها و شخصيتها و حلولها في النفس الشخصية مانعا من كون الصورة الكلية، جاز أيضا أن يؤخذ الصورة القائمة بمادة جسمانية كالدماغ و غيره باعتبار يكون هي بذلك الاعتبار كلية، و إن كان باعتبار مقدارها و شكلها و وضعها جزئية.
و بالجملة فالصورة سواء كانت في النفس أو في الجسم فهي لا يكون مشتركا فيها من كل الوجوه لأنّ وحدتها الشخصية مانعة من العموم و الكلّية، ثمّ إنّها مع ذلك يكون مشتركا فيها باعتبار آخر.
أقول: هذا إشكال صعب الانحلال، مذكور في مبحث الماهيات في العلم الكلّي و مباحث الكلّيات في علم الميزان، و قد تفصّينا عنه بأنّ مناط الكلية و الاشتراك بين كثيرين هو نحو الوجود العقلي. فالصورة و إن كانت واحدة معينة ذات هوية شخصية لكن الهوية العقلية و التعيّن الذهنى و التشخص العقلى لا ينافي كون الصورة متساوى النسبة إلى كثيرين و لا يمنع التشخص العقلى الكلية، و انّما المانع عن العموم و الاشتراك هو الوجود المادّي و التشخص الجسماني الذي يلزمه وضع خاصّ و أين
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 153
خاص و مقدار خاص فتختلف نسبة هذا الشخص إلى غيره من الأشخاص الجسمانية و الهويات المادية ذوات الأوضاع المختلفة؛ و ليس عندنا اعتبار كون الصورة العقلية كلية مشتركا فيها غير؛ و اعتبار كونها موجودة متشخصة بتشخص غير، لأنّ ذلك الوجود نحو آخر من الوجود أشد و أوسع من أن ينحصر في حدّ جزئي، و يقصر رداؤه عن الانسحاب على كثيرين متوافقين في سنخ ذلك المعنى المحمول. و جميع المعاني و الماهيات في أنفسها و بحسب حدّ معناها ممّا لا يأبى عن الحمل على كثيرين. و كذلك إذا وجدت بوجود عقلى غير مقيّد بوضع خاص و مقدار خاصّ إذا الوجود العقلى نسبتها إلى جميع الأوضاع و المقادير و الأمكنة نسبة واحدة. فالصورة العقلية لماهية الإنسان من حيث وجودها مشترك فيها بين كثيرين من نوعها، و من حيث ماهيتها و معناها محمولة على كثيرين.
ثمّ إنك قد علمت من طريقتنا في العقل و المعقولات أنّ التعقّل ليس بحلول الصورة المعقولة في الجوهر العاقل حتى يكون صورة الجوهر عرضيا، و يلزم الإشكالات المذكورة في الوجود الذهنى و هاهنا و مباحث علم البارى، بل الصورة العقلية للجواهر جواهر قائمة بذواتها و بمبدعها و هي في باب الوجود، و التجوهر أقوى من ما هي صورتها من الصور الخارجية المادّية لكونها مفتقرة الوجود إلى المواد المتجدّدة الانفعالات و الاستحالات.
و أمّا الكلام في صحة هذا البرهان و دلالته على تجرّد النفوس فأقول: إنّ هذا البرهان برهان قاطع لكن على تجرّد بعض النفوس الإنسانية لا النفوس العامّية فإنّه يدلّ على تجرّد نفس تعقل الصور العقلية، و نشاهدها من حيث عقليتها و نحو وجودها العقلي المشترك فيه بين الأعداد الذي لا يحصل إلّا بعد تجريد المعنى الواحد عن القيود و الزوائد و الخصوصيات.
و بالجملة كل من يمكن له أن يلاحظ صورة الحيوان مثلا بنحو من الوجود لا يكون لها بحسبه مقدار خاصّ و مكان خاصّ و وضع خاص و زمان خاص. و كذا تعقل صورة الإنسان العقلى المجرد عن العوارض الماديّة بأن يكون إنسانا بحتا يخرج منه
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 154
جميع ما هو غير الإنسانيّة من الوضع الخاص و الكم الخاص و الأين الخاص، و مع ذلك لا يحذف عنه شيء من مقوماته و قواه و أعضائه حتى أنّه يعقله ذا رأس و وجه و عين و يد و رجل و بطن. و كل ذلك على الوجه العقلى المشترك فيه بين الأعداد الكثيرة لأنّ ذلك معنى إدراك الماهية الكلية لشيء كما قال المعلم الأوّل في أثولوجيا:
الإنسان العقلى روحاني، و جميع أعضائه روحانية ليس موضع العين غير موضع اليد، و لا مواضع الأعضاء مختلفة. و كذا يمكنه أن يعقل الأرض العقلية و الماء العقلي و السماء العقلية، و يحضر في ذهنه صورة كل طبيعة من الطبائع بنحو وجودها العقلي الكلي على الوجه الذي مرّ ذكره، لأنّ ذلك في الحقيقة معنى إدراكه الكليات. و قلّ من الناس من أمكن له الإدراك على ذلك الوجه. و الذي يتيسّر لأكثر الناس أن يرتسم في خياله صورة إنسان مثلا، فإذا أحسّ بفرد آخر منه يتنبّه بأنّ هذا مثل ذاك، و يدرك جهة الاتحاد بينهما و انّها غير جهة الاختلاف إدراكا خياليا، كما يدرك جهة الاتحاد بين أجزاء الماء مثلا بحسب الحس و يعلم أنّ جميع أجزاء الماء ماء، و كما يدرك أنّ جميع أجزاء الماء ماء مع اختلافها في المقدار و الجهة، كذا يدرك أنّ أفرادها المنفصلة ماء إدراكا خياليا. (ج 4، ص 68، ط 1).
أقول: هذا تمام كلام صاحب الأسفار في تقرير الحجة، و ما أورد عليها من الاعتراض و الشبهة، و الجواب عنهما. و لا يخفى عليك أنّ تلك الشبهة العويصة هي ما ذكرها الشارح العلّامة في إيضاح المقاصد، كما أنّ أصل الاعتراض هو ما أورده الكاتبى عليها؛ و لعلهما كانا مسبوقين من غيرهما. كيف كان، الاعتلاء إلى فهم الجواب الذي هو فائض عن بطنان عرش التحقيق في المقام يفتح بابا في معرفة النفس هو باب أبواب سائر مسائل النفس سيما مسائل أدلة تجرّدها.
قوله: «و إن أمكن أن يؤخذ الصورة القائمة بالنفس باعتبار آخر» أي باعتبار لا بشرط. و كذا قوله في جواب الشرط: «كالدماغ و غيره باعتبار» أي باعتبار لا بشرط أيضا. و الأمر الأهم في المقام أن يسأل المورد عن الذي يأخذ الصورة الكلية عن الصورة الخيالية، أو المادة العنصرية، أو الجسم المتعقل على زعمه من هو؟ و انّما الكلام
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 155
في ذلك الآخذ و تلك الصورة الكلية فينتهى الأمر إلى الصورة المجرّدة العقلية، و مدركها البسيط العقلى.
قوله: «و مباحث الكليات في علم الميزان» أي مباحث الإيساغوجى في المنطق.
قوله: «و قد تفصينا عنه إلخ» أي مناط الكلية هو الانبساط و السعة و الإحاطة؛ و الاشتراك بمعنى تساوى نسبة الكلّى السعيّ الإحاطي إلى كثيرين، لا الاشتراك بمعناه الرائج في الميزان من انطباق الماهيات الذهنية إلى افرادها الخارجية. فقوله: «لأنّ ذلك الوجود نحو آخر ... إلخ» أي ذلك الوجود العقلي الذي هو مجرّد نورى مثل ربّ النوع أوسع من أن ينحصر في حد جزئي و يقصر رداؤه عن الانسحاب على كثيرين متوافقين في سنخ ذلك المعنى المحمول.
قوله: «و ليس عندنا اعتبار ...» كلام بعيد الغور. يعنى أنّ الصورة العقلية الكلية المشترك فيها بذلك المعنى من الاشتراك، هي بعينها موجودة متشخصة أي متعيّنة و متحقّقة بتشخص خاص عقلاني فلا منافاة بين الكلية و التشخص فما هو مناط الشخصية بعينه مناط الكلّية. و عبارة المقام في بعض النسخ منقولة هكذا: «و ليس عندنا اعتبار كون الصورة العقلية كلية مشتركا فيها غير اعتبار كونها موجودة متشخصة بتشخص غير مادّى» و لكن عدّة نسخ مخطوطة من الأسفار و بعضها قريبة العهد من المصنف موافقة لما اخترناها و لا غبار عليها، و إن كان مآل العبارتين واحدا.
قوله: «إذ الوجود العقلى ...» هذا الكلام تعليل لإتيان لفظة خاص للمقيد و المقدار.
و الغرض من ذلك أنّ الجوهر المادىّ ممنوّ بالوضع الخاص و الأين الخاص و المقدار الخاص و سائر أحكام المادة الخاصّة، و أمّا الجوهر العقلى الكلى السعى الإحاطى الذي فهو مثل ربّ نوعه بإذن مبدعه (تعالى شأنه) محيط على جميع الأوضاع و المقادير و الأمكنة و نسبته إليها نسبة واحدة، فهو مع كونه متشخصا خارجيا، عار عن أحكام المادة الخاصّة و لا يشذ عنه وضع خاص و مكان خاص و مقدار خاص. و وزانه مع الأفراد كأنّ وزان الروح الإنسانية إلى قواها و محالّها فإنّ لكل واحدة منها تعيّنا خاصّا، و لبعضها وضعا خاصّا، و مقدارا خاصّا، و لكن الروح أصلها القائم عليها، و كلّها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 156
قائمة بها، فهي مع وحدتها المتشخصة كل القوى و محالّها.
قوله: «فالصورة العقلية لماهية الإنسان، إلخ» أقول: الاشتراك الوجودى بين تلك الصورة العقلية و بين أفرادها المادية متحقق دائما، و نحن بارتقائنا العلمى و اعتلائنا الوجودى نكشف ذلك الاشتراك و نعلمه، و أمّا اشتراك ماهيتها المحمولة فهو من فعلنا و ذلك الفعل هو انطباق تلك الماهية على الأفراد الخارجية أعمّ من المادية و العقلية، و تلك الماهية من حيث هي بمعزل عن الوجود و تلك الصورة العقلية وجود نورى كلى فافهم و تبصر.
قوله: «على تجرّد بعض النفوس الإنسانية» تقدّم كلامنا في ذلك في أثناء البحث عن البرهان الأوّل من الشفاء في تجرّد النفس من أنّ الغبىّ الذي لا يعود عليه الفكر برادّة فهو بمعزل عن التعقل و لا يمكنه ملاحظة الاعتبارات الكلية بوجه، و أنّ الواصل إلى الوجود العقلي سيما إلى الصادر الأوّل الذي هو رق منشور للكلمات النورية الوجودية قليل جدا. بل الواصل إلى الثاني هو مثل النبيّ الختم، و أوصيائه أهل العصمة و عيب القرآن، و أنّ لسائر الناس حظا من التعقل على مراتبهم، فنفوسهم أوعية معقولاتهم بل نفس تلك المعقولات على اختلاف درجاتهم.
قوله: «الإنسان العقلى روحانى، و جميع أعضائه روحانية إلخ» أقول: سواء في ذلك ربّ نوعه الذي من المثل الآلهية، و العنصرى لأنّ الثانى أيضا في مقام روحه إنسان أحدي و جميع أعضائه موجودة بوجوده الأحديّ. و أشار إلى ذلك التعميم بقوله:
«و يحضر في ذهنه صورة كل طبيعة من الطبائع بنحو وجودها العقلى الكلّى لأنّ ذلك في الحقيقة معنى إدراكه الكليات». و انّما كان جميع أعضاء الإنسان العقلى روحانية لأنّ الرقائق نازلة من حقائقها على ما يقتضيها كل منزل من أحكامه فإنّ العوالم يحاكى و يماثل بعضها بعضا، و الفرق بالقرآن و الفرقان؛ و لذا قالوا إنّ الذات الواجبية روح الأسماء، و الأسماء أرواح الأعيان الثابتة، و هي أرواح الأرواح و هي أرواح الأشباح، قوله (عزّ من قائل): يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ (السجدة، 6)؛ و قال (سبحانه): وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (الحجر، 22)؛ و قوله
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 157
(تعالى شأنه): فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس، 84)، فالأولى ناطقة بأنّ الرقيقة تنزل من حقيقتها، و الثانية بأنّ الفرق بينهما بالقرآن و الفرقان، و الثالثة بأنّ شيئا من الأشياء ما نزل بتمامه بل ملكوته بيده سبحانه. و بالجملة أنّ الأعضاء المعنوية هي أرواح الأعضاء الحسية مثل أنّ روح العين ما به يبصر فالعلم الحضوري بالمبصرات حقيقة العين؛ و روح اليد ما به يبطش فالقدرة على البطش بمجرد الهمة حقيقة اليد و هكذا. فالكامل حكاية للناقص بنحو الكمال، و الناقص حكاية للكامل بنحو النقصان لأنّ العلة حدّ تام للمعلول و المعلول حدّ ناقص للعلة.
قوله: «و الذي يتيسّر لأكثر الناس» قد ذكر نظره هذا في تعقل النفوس في عدّة مواضع من الأسفار، و لا يخفى عليك أنّ الحاكم على الاتحاد في الأمثلة التي أتى بها هاهنا هو العقل لا الحسّ و الخيال. و الصواب ما قدّمنا من أنّ الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة فهو بمعزل عن التعقل، و أمّا سائر الناس فلهم التعقل على مراتبهم.
فتحصّل ممّا تقدم أنّ الصورة المعقولة سواء كانت صورة عرض أو صورة جوهر، موجودة متشخّصة بتشخص خاص عقلاني، أي ما هو مناط الشخصية هو بعينه مناط الكلية فلا منافاة بين الكلية و التشخص، كما لا تنافي بين التعين العقلي و الإبهام الخارجى الممنوّ بالمادة الطبيعية العنصريّة، فتلك الكليات العقلية تكون مشارا إليها بالإشارة العقلية بحسب التعيّن العقلي و وجوده في العقل و أمّا من حيث إبهامه الخارجى فلا يقبلها؛ و أنّ تشخص الصورة المعقولة جار في المفارق و النفس الناطقة على السواء من حيث هو تشخص الصورة المعقولة و إن كان المفارق مفيضا و النفس مستفيضة؛ و أنّ الاشتراك الوجودى بمعنى تساوى نسبة الكلّى السعيّ الإحاطي إلى كثيرين أمر، و اشتراك ماهيتها المحمولة أي انطباقها على أفرادها الخارجية الذي هو من فعل النفس و حكمها أمر آخر؛ و أنّ للتعقل مراتب و هو يصح لأفراد الإنسان على مراتبهم إلّا الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة. و من أخذت الفطانة بيده يعلم من هذه الأصول الرّصينة القويمة أنّ اعتراض حكمة العين كشبهة شارحها خارج عن صوب الصواب. فللّه الحمد و هو المبدأ و إليه المآب.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 158
يا) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا؛ هذا هو البرهان الثالث من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية:
ثمّ قال الشيخ:
و أيضا إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة التي هي الأشياء غير منقسمة في المعنى في مادة منقسمة ذات جهات فلا يخلو إمّا أن لا تكون و لا لشيء من أجزائها التي تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى الشيء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المجرّد عن المادة؛ أو تكون لكل واحد من أجزائها التي تفرض نسبة؛ أو تكون لبعض دون بعض.
فإن لم تكن و لا لشىء منها فلا لكلّها فإنّ ما يجتمع عن مباينات مباين.
و إن كان لبعضها دون بعض فالبعض الذي لا نسبة له ليس هو من معناه في شيء.
و إن كان لكل جزء يفرض نسبة ما، فإمّا أن تكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى الذات كما هي، أو إلى جزء من الذات؛ فإن كان لكلّ جزء يفرض نسبة إلى الذات كما هي فليست الأجزاء إذن أجزاء معنى المعقول بل كل واحد منها معقول في نفسه مفردا. و إن كان كل جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات فمعلوم أنّ الذات منقسمة في المعقول و قد وضعناها غير منقسمة هذا خلف. فإن كان نسبة كل واحد إلى شيء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر فانقسام الذات أظهر.
و من هذا تبيّن أنّ الصور المنطبعة في المادة الجسمانية لا تكون إلّا أشباها لأمور جزئية منقسمة و لكلّ جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منه.
أقول: هذا تمام كلام الشيخ في البرهان الثالث.
و قوله: «إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة» كصورة الوحدة، و النقطة، و الجوهر الذي هو الجنس العالى.
و الضمير في قوله: «و لا لكل واحد من أجزائها» و كذا في قوله: «أو تكون لكل واحد من أجزائها» راجع إلى قوله «مادة منقسمة ذات جهات».
و قوله: «نسبة إلى الشيء المعقول ...» مرفوع اسم لقوله: «إمّا أن لا تكون».
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 159
و قوله: «أو تكون لبعض ...» و كذا قوله: «فإن لم تكن و لا لشيء منها» ضمير الفعلين راجع إلى النسبة.
و قوله: «فلا لكلّها» جواب لقوله: «فإن لم تكن و لا لشىء منها؛ فمعنى فلا لكلّها، أي لا نسبة لكلها، كما صرّح بها في النجاة بقوله: «فإن لم يكن و لا لشيء منها نسبة فليس و لا لكلّها لا محالة نسبة».
و قوله: «فيه نسبة إلى الذات كما هي» أي إلى تمام الذات.
و قوله: «فمعلوم أنّ الذات منقسمة في المعقول ...» لأنّ النسبة إلى الشيء الواحد البسيط الغير المنقسم لا تكون مختلفة إلّا أن يكون ذلك الشيء مختلفا.
و البرهان المذكور قد أتى به الشيخ في النجاة أيضا (ص 177، ط مصر) و في الفصل الخامس من رسالته في النفس و بقائها و معادها (ص 129 من مجموع الرسائل الفلسفية ط جامعة استانبول. و في مجموعة أخرى مع ثلاث رسائل للشيخ في النفس أيضا بتصحيح الأهواني، ص 84 و 85، ط مصر) و عبارات الشيخ في الشفاء و النجاة و رسالة النفس هذه متقاربة لا يوجب نقلها من الأخيرين مزيد إيضاح. و هو البرهان الثانى من رسالته الفارسية في معرفة النفس حيث قال: برهان ديگر، و همچنين اگر صورت احدى در جسم منقسم بود إلخ (ص 36 و 37، ط ايران، 1371 ه. ق، بتصحيح الدكتور موسى عميد). و قد نقله الغزالي في كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص 29، ط مصر) و هو البرهان الثالث فيه أيضا على حذو ما في الشفاء. ثمّ قال بعد نقله ما هذا لفظه:
فإن قيل: منشأ التلبيس في هذا البرهان قولكم: إنّ المعنى المعقول إن كان له نسبة إلى بعض الذات فيكون البعض الآخر ليس من معنى المعقول في شيء، و نحن هكذا نقول فإنّ المدرك منّا هو جزء و ذلك الجزء لا ينقسم و هو المسمّى بالجوهر الفرد.
قلنا أنتم بين أمرين: إمّا أن تقولوا نسبة المعقول إلى بعض منقسم، أو إلى بعض غير منقسم؛ فإن كان نسبة إلى بعض منقسم فإذا قسمنا يلزم انقسام المعقول و يعود البرهان الأوّل بعينه؛ و إن قلتم ينتسب إلى جزء لا ينقسم فكل جزء من الجسم منقسم
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 160
و قد برهنا على ذلك، و له براهين هندسية ليس هاهنا موضع ذكرها. انتهى.
قوله: «و قد برهنا على ذلك» يعنى في البرهان الأوّل في معارج القدس، و البرهان الأوّل في معارج القدس على تجرّد النفس هو البرهان الأوّل من الشفاء على ذلك كما تقدّم. ثمّ انّ القول بالجوهر الفرد لا يزاحم أدلّة تجرّد النفس أصلا و هي باقية على قوتها مع القول به كما يعلم في تضاعيف البراهين الساطعة على ذلك. و أمّا البراهين الهندسية على إبطال الجوهر الفرد فقد ذكر بعضها الشيخ البهائى في اواخر المجلد الأوّل من كشكوله (ص 119، ط نجم الدولة) و لكنها ليست بتمام، و إن كانت على فرض تماميتها لا تضرّ التجرد.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 161
يب) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ و هو البرهان الرابع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.
ثمّ قال الشيخ:
و أيضا فإنّ الشيء المتكثر في أجزاء الحدّ، له من جهة التمام وحدة ما لا تنقسم، فلينظر أنّ ذلك الوجود الوحداني من حيث هو واحد ما كيف يرتسم في المنقسم؟
و يكون الكلام فيها و فيما لا ينقسم بالحدّ واحدا.
أقول: يعنى أنّ بعض الأشياء بسيط لا ينقسم بالحدّ، و بعضها له أجزاء حدّية لكنّ له صورة وحدانية هي جهة تمامه و تشخصه. فيسأل عن صورة البسيط المدركة، و كذا عن صورة ذى الأجزاء الحدية المدركة، اللتين لكل واحدة منهما وجود وحدانى من حيث هو واحد ما كيف يرتسم في المنقسم؟ فالشيء المتكثر في أجزاء الحد، و الذي لا ينقسم بالحدّ في هذا الحكم- و هو كون مدركهما الذي هو محل كلّ واحدة من الصورتين- واحد في أنّه ليس مما ينقسم أي أنّه مجرّد عن المادة الطبيعية و أحكامها.
و الشيخ نقل هذا البرهان في رسالته في النفس و بقائها و معادها أيضا. و هو البرهان الرابع فيه أيضا على ترتيب ما في نفس الشفاء، فقال: و أيضا فإنّ الشيء المتكثر أيضا في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم، فتلك الوحدة بما هي وحدة فيه كيف ترتسم في المنقسم؟ و إلا فيعرض أيضا ما قلناه في غير المتكثر أجزاء حده (ص 129، من مجموعة الرسائل الفلسفية، ط جامعة استانبول. و ص 85 و 86 من ط مصر بتصحيح الأهواني).
تبصرة: هذه البراهين الأربعة المنقولة من نفس الشفاء و سائر مصنفات الشيخ، لها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 162
وحدة جامعة و هي أنّ الصورة المعقولة أي العلم بسيطة مفارقة، و مدركها و هو النفس الناطقة يجب أن تكون بسيطة مفارقة أيضا. و أمّا وجه امتياز كل واحد من البراهين الأربعة المذكورة عن الآخر فغير خفي على المتدرب بالفن. ثمّ انّ هذا البرهان اعنى الرابع منها غير مذكور في معتبر أبى البركات، و حكمة العين للكاتبى، و أسفار صدر المتألهين. و المحقق الطوسى في تجريد الاعتقاد جعل الدليل الثانى على تجرّد النفس بعبارة تشمل البراهين الأربعة المذكورة كلّها. فإنّه قال:
و هي (أي النفس) جوهر مجرّد لتجرّد عارضها و عدم انقسامه. و قوله: «و عدم انقسامه» ناظر إلى أنّ العلم بسيط مفارق و مدركه أي معروض العلم و هو النفس كذلك.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 163
يج) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان الخامس من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.
قال الشيخ:
و أيضا فإنّه قد صحّ لنا أنّ المعقولات المفروضة التي من شأن القوّة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوّة؛ و قد صحّ لنا أنّ الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوّة لا يجوز أن يكون جسما و لا قوّة في جسم، قد برهن على هذا في الفنون الماضية؛ فلا يجوز إذن أن تكون الذات المتصوّرة للمعقولات قائمة في جسم البتّة، و لا فعلها كائن في جسم و لا بجسم.
و ليس لقائل أن يقول: كذلك المتخيّلات. فذلك خطأ فإنّه ليس للقوّة الحيوانيّة أن يتخيّل أيّ شيء اتفق ممّا لا نهاية له في أيّ وقت كان ما لم يقرن منها تصريف القوّة الناطقة.
و لا لقائل أن يقول: إنّ هذه القوّة أي العقلية قابلة لا فاعلة، و أنتم أنّما أثبتّم تناهى القوّة الفاعلة و الناس لا يشكّون في جواز وجود قوة قابلة غير متناهية كما للهيولى.
فنقول: إنّك تعلم أنّ قبول النفس الناطقة في كثير من أشياء لا نهاية لها قبول بعد تصرف فعلى.
أقول: هذا تمام كلام الشيخ في بيان هذا البرهان. و يعنى بقوله: «الذات المتصوّرة للمعقولات» النفس الناطقة. و تصورها للمعقولات بمعنى اتصافها بها، و أخذها إيّاها.
و قوله: «برهن على هذا في الفنون الماضية» يعنى في السماع الطبيعى.
و قوله: «ما لم يقرن منها ...» و في نسختين مخطوطتين من الشفاء ما لم يقرن معها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 164
و الشيخ ذكر اصل البرهان فقط في النجاة و اكتفى به، و لم يأت فيها بقوله: «و ليس لقائل أن يقول- إلى قوله: بعد تصرّف فعلى». و عبارته فيها هكذا:
و أيضا فإنّه قد يصحّ (قد صحّ- خ. ل) لنا أنّ المعقولات المفروضة التي من شأن القوّة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوّة، ليس واحد أولى من الآخر؛ و قد صحّ لنا أنّ الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوّة لا يجوز أن يكون محله جسما و لا قوّة في جسم، قد برهن على هذا في السماع الطبيعى؛ فلا يجوز إذن أن تكون الذات القابلة للمعقولات قائمة في جسم البتة و لا عقلها بكائن (و لا فعلها الكائن- خ. ل) في جسم و لا بجسم (و لا بجسم- أو بجسم- خ. ل).
(ص 178، ط مصر).
و نحو ما في النجاة ذكر البرهان في الفصل الخامس من رسالته في النفس و بقائها و معادها (ص 129 و 130 من مجموعة الرسائل الفلسفية، ط جامعة استانبول. و ص 86، ط مصر، بتصحيح الأهواني).
و نسخة «و لا فعلها أكثروا أولى»، و يؤيدها قوله: «بعد تصرف فعلى» و إن كان فعلها عقلها.
بيان البرهان: معنى صحّ أو يصحّ يساوق الإمكان. و كون المعقولات غير متناهية بالقوّة بل بالفعل مما لا ينبغى المراء فيه. و كذلك عدم تأبّيها و تعصّيها عن أن تصير معقولة للنفس مما لا يعتريه الارتياب. و أنّ النفس الناطقة يصحّ لها أن تكون عاقلة لتلك المعقولات الغير المتناهية فممّا لا يصحّ النزاع فيه، و المنازع مكابر مقتضى عقله.
و التعقّل فعل النفس فكونها قوية على أمور غير متناهية بالقوّة أي كونها قوية على إدراكات غير متناهية بالقوّة أي على أفعال غير متناهية بالقوّة. و أنّ الجسم و الجسمانيات مطلقا متناهية التأثير و التأثر فمما برهن في السماع الطبيعى. فالنتيجة أنّ جوهر النفس ليس بجسم و لا جسمانى.
و الشيخ في هذا البرهان كأنّه ناظر إلى كلام الفارابى في رسالة له في إطلاقات العقل من أنّ شأن ذات النفس الناطقة أن تكون عاقلة للموجودات كلها، و شأن الموجودات
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 165
كلّها أن تعقل و تحصل صورا لتلك الذات فاذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون المعقولات من حيث هي معقولات بالفعل، و هي عقل بالفعل أن يعقل أيضا فيكون الذي يعقل حينئذ ليس هو شيئا غير الذي هو بالفعل عقل.
و البرهان المذكور من الشفاء منقول في أسرار الحكم للحكيم السبزوارى مترجم بالفارسية و هو البرهان الثانى فيه قال: «برهان دوم آن است كه عاقله قوّت دارد بر افعال غير متناهية ... إلخ» (ص 241، بتصحيح الاستاد العلّامة الشعرانى و تعليقاته عليه).
و كذا نقله في الحكمة المنظومة بتحرير آخر، قال:
و الثالث قولنا: و كون فعل النفس لا انتهاء له. بيانه أنّ العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية، و لا شيء من الجسمانيات يقوى على أفعال غير متناهية. أما الصغرى فلأنّ العاقلة تقوى على معقولات غير متناهية، ففي إدراك كل معقول كلى يحيط بجميع أفراده الغير المتناهية لأنّ ذلك المعقول من حيث التحقق عين تمام المشترك النوعى أو الجنسى أو غيرهما لجميع أفراده فإذا عقدت قضية عقلية بأنّ النار مشرقة أحاط عاقلتك بجميع النيران ماضية أو آتية، خارجية أو ذهنية؛ بخلاف ما في الخيال من الصورة النارية الجزئية. و كون التعقل فعلا ليس فيه كثير إشكال؛ و كفاك قولهم في الملكة العلمية إنّها عقل بسيط خلاق التفاصيل. و أما الكبرى فلما ثبت أنّ قوى الجسمانية (كذا- القوى الجسمانية- ظ) متناهية التأثير و التأثر.
أقول: هذا تمام كلام السبزوارى في تقرير هذا البرهان على تجرّد النفس الناطقة.
و ناظر في كلامه: «بخلاف ما في الخيال ...» إلى قول الشيخ في الشفاء: «و ليس لقائل أن يقول: كذلك المتخيلات ...» و كذا كلامه: «و كون التعقل فعلا ...» ناظر إلى كلام الشيخ في الشفاء: «و لا لقائل أن يقول: إن هذه القوّة ...» كما أنّ أصل البرهان من الشفاء. ثمّ أفاد في هامش المنظومة مطالب في بيان هذا البرهان و أجاد جدا و هي ما يلى:
قولنا أمّا الصغرى فلأنّ العاقلة تقوى على معقولات غير متناهية، أي كل منها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 166
غير متناهية الأفراد و هو بوحدته كلّها لأنّه مقام الكثرة في الوحدة له، و هي مقام الوحدة في الكثرة له، فذلك الوجود حقيقته و هذه الوجودات رقائقه و تنزلاته بلا تجاف عن الجبروت لأنّه لسعته لا يسعه الناسوت فهو كاللّف و هي كنشره، و كالرتق و هي كفتقه أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما و اذا أدركت كليا عقليا فقد شاهدت وجودا محيطا و أحاطت بجميع رقائقه المثالية و الطبيعية الماضية و المستقبلة و الحالية لأنّ ماهيته و ماهيتها واحدة إذ الأشياء تحصل بأنفسها في الذهن و الفرض وجدانك ماهيتها و عنوانها المطابق لكونك حكيما عالما بالحقائق متصورا إيّاها بالحدود و الرسوم، و وجوده النحو الأعلى الأتم لوجودها و كل بسيط الحقيقة كل ما دونه، و الوجود أي مرتبة منه مع المراتب الأخرى منه سنخ واحد ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك و لهذا كان الصورة العقلية علما بكلّها. و لو لا اتصالك بل اتحادك بهذه الوجودات المحيطة الواحدة بالوحدة الجمعية لطال الأمر عليك بل تعذر معرفة الجزئيات لحاجتك إلى استيناف نظر في كل واحد واحد لتعرفها و تعرف أحكامها، و الجزئى لا يكون مكتسبا كما لا يكون كاسبا بخلاف الكلى فإنّه نور يسعى بين يدى عقلك يهديه و يقوده إلى معرفة أحكام ذاتها و صفاتها. فعليك بمزاولة إدراك الكليات و الانسلاخ عن الجزئيات لأنّ كمال النفس بمعرفة الكليّات و تعقّلها لا بادراك الجزئيات بل تلك جنبة غنائها، و هذه جنبة فقرها إلى البدن و قواه.
و هذا نقص عظيم إلّا في الابتداء ليكون ذريعة إلى نيل الكلّيات بالعنوانات المطابقة كما هو شأن الحكيم المنطبق للوضع مع الطبع و إن فقد حسّا فقد علما. ثمّ إنّ الكلّية العقلية في المعقول باعتبار سعة وجوده و حيطته و عدم تناهيه مدة و شدّة بالنسبة إلى وجود رقائقه، و أمّا عدة فهو باعتبار حصصه الغير المتناهية في أفراده الغير المتناهية، و الحصص و إن استعملت في المشهور في الكلى الطبيعى إلّا أنّا أردنا بها الدرجات الوجودية النازلة إذ الكلام في الكلى العقلى و هذا هو مرادنا بتمام المشترك في الشرح.
و بوجه آخر أقول: للنفس تعقلات غير متناهية، و إحاطة بعلوم غير متناهية العدد في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 167
أبواب غير متناهية، مثل أنّها تعقل أنّ كل علة متقدمة على المعلول و جامعة لكمالات المعلول و فعلياته و يتفرع عليه في موارد غير متناهية علوم غير متناهية كما في النفوس الغير المتناهية العقول المستفادة سابقة دهرا على القول بالفعل، و هي على العقول بالقوّة، و كل جامع لكمالات ما دونه؛ و كما في النيّرات و الكواكب الثابتات التي هي أكثر من قطرات البحار و عدد الرمال فإنّ كل نيّر و نور حسّى جسمانى له نور مدبر اسفهبد فلكى، و فوقه نور قاهر عقلى من القواهر الأدنين و كلّها اشراق نور الأنوار بهر برهانه فإنّه نور كل نور فكل نور سابق جامع للاحقه، و كذا العلل و المعاليل الكيانية و كل مستنير من النور الأقهر الأبهر بهر برهانه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ. آفتاب وجود كرد اشراق/ نور او سربهسر گرفت آفاق. و مثل أنها تعقل أن الشيئين إما مثلان و إمّا خلافان و إمّا متقابلان بأربعتها و فروعاتها الكلية المعلومة لها غير متناهية مثل انّ الحلاوة مع البياض خلافان، و كذا مع السواد مع الصفرة و الحمرة و نظائرها، و كذا هي مع كل طعم. و مثل أنّ الوجود و الماهية خلافان، و من فروعها مخالفة الوجود مع ماهية الإنسان و الفرس و غيرهما من الماهيات الغير المتناهية. و قس القواعد الأخر و الفروع الأخر، و انظر إحاطة النفس بالعلوم الغير المتناهية، انّ اللّه خلق آدم على صورته، غافل از خويش خدا مىطلبى/ اى غلط كرده كه را مىطلبى؛ مخزن گنج معانى دل تست/ مقصد هر دو جهان حاصل تست.
فمن مطلع النور البسيط كلمعة/ و من مشروع البحر المحيط كقطرة.
ثمّ المتأله السبزوارى بعد ما قرّر الدليل المذكور على الوجه المقدّم ذكره قال:
و إذا عرفت تقرير هذا الدليل فلا تعبأ باعتراضات الفاضل القوشجى عليه عند قول العلّامة الطوسى قدّس سرّه و قوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنه. انتهى.
أقول: شرّاح التجريد كالعلامة الحلّي و الفاضل القوشجى و صاحب الشوارق و الشارح محمود الاصفهانى فسّروا قول المحقق الطوسى على نحو ما أفاده الشيخ في هذا البرهان من أنّ النفس تقدر على تعقل أمور غير متناهية، و الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية ليس بجسم و لا جسمانى فالنفس مجرّدة عن المادة و أحكامها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 168
المادية. و لكن الحق أنّ عبارة المحقق الطوسى أعم شمولا من التفسير المذكور لأنّه يشمل أيضا قوّة النفس و قدرتها على التصرف بمادة الكائنات، و التعلق بها من غير أنّ تماسها أعضاؤها كالمعجزات و خوارق العادات و إظهار الكرامات و العلم بالمغيبات، و علم النفس بذاتها و آلاتها و إدراكاتها بلا توسط آلة بينها و بينها و نحوها مما تعجز المقارنات للمادة عنها مطلقا، فلا وجه في انحصاره بالوجه المفسّر المذكور، أو بالوجوه القريبة منه. ثمّ بعد ما فسّروها بالوجه المذكور أعنى كون النفس قادرة على تعقل أمور غير متناهية أوردوا عليه بعض الإيرادات الغير الواردة. و صاحب الشوارق حمل قول المحقق الطوسي على البرهان المذكور من الشفاء أوّلا، ثمّ على برهان آخر من أنّ النفس تدرك ذاتها و آلاتها و إدراكاتها ثانيا و جعلهما بيانا لصغرى القياس. فلا بأس بنقل طائفة ممّا ذكروها حول كلامه: «و قوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنها» ثمّ بالإيماض إلى ما يجري بذلك:
قال في كشف المراد في شرح قول المحقق الطوسى: «و قوتها على ما تعجز المقارنات عنه» و هو الوجه الثالث من وجوه أدلة تجرّد النفس الناطقة الإنسانية، ما هذا لفظه:
أقول: هذا هو الوجه الثالث، و تقريره أنّ النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنّها تقوى على ما لا يتناهى لأنّها تقوى على تعقلات الأعداد غير المتناهية، و قد بينّا أنّ القوّة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجرّدة. و فيه نظر لأنّ التعقل قبول لا فعل، و قبول ما لا يتناهى للجسمانيات ممكن. انتهى.
أقول: قوله لأنّها تقوى على ما لا يتناهى، إن كان المراد بيان فرد مما يشمله كلام المحقق الطوسى فلا كلام فيه، و إلّا فقد دريت انّه اعمّ شمولا منه. ثمّ انّ نظر صاحب الكشف منظور فيه و ذلك لأنّ التعقل هو صورة علمية جمعية فتارة هي معنى معقول غير متناهى الأفراد، و تارة هي حقيقة وجودية نورية لها شئون نورية ذات شجون هي رقائقه، و هذا الشخص من الجسم الخارجى مقارن للمادة و ممنو بالمكان و الزمان ليس
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 169
بصورة خيالية شاعرة فضلا عن أن تكون صورة عقلية فما فوقها من الحقيقة الوجودية المتشأنة بشئوناتها الظلية. و الحقّ أنّ التحقيق التام الذي حكيناه عن المتأله السبزوارى آنفا لا يبقى مجالا للتفوّه بأمثال هذه الشبه.
قال الفاضل القوشجى في شرح قول المحقق الطوسى: «و قوّتها على ما يعجز المقارنات عنه» ما هذه حكاية ألفاظه:
يعنى أنّ النفس الناطقة تقوى على معقولات غير متناهية، و قد سبق أنّ أفعال الماديات متناهية.
و أجيب بأنّ التعقل عبارة عن قبول النفس الصورة العقلية و هو انفعال لا فعل و الانفعالات الغير المتناهية جائزة على الجسمانيات كما في النفوس الفلكية المنطبعة و هيولى الأجسام العنصرية.
أقول: و لو سلّم أنّه فعل، قولكم النفس تقوى على معقولات غير متناهية إن أردتم به أنّها لا تنتهى إلى معقول إلّا و هي تقوى على تعقل آخر بعده فالقوى الجسمانية أيضا كذلك فإنّ القوّة الخيالية مثلا لا تنتهى في تصور الأشكال إلى حدّ إلّا و هي تقوى على تصور شكل آخر بعده. و إن عنيتم به أنّها تستحضر معقولات لا نهاية لها دفعة واحدة فهو ممنوع، إلّا أن يريدوا أنّها يتصور مفهوما كليا و يلاحظ أفراده الغير المتناهية في ضمن ذلك المفهوم الكلى إجمالا و القوى الجسمانية لا تقدر على تعقل ذلك. قلنا ذلك لأنّها لا تقدر على تعقل الكلّى فيرجع إلى الوجه الأوّل بعينه. و أيضا فإنّ النفس تدرك ذاتها و آلاتها و إدراكاتها و المدرك الجسماني ليس كذلك كالباصرة و السامعة و الوهم و الخيال لأنّها تنعقل بتوسط آلة و لا يمكن توسط الآلة بين الشيء و ذاته و آلته و إدراكاته.
و أجيب عن ذلك بأنّه لم لا يجوز أن يدرك بعض الجسمانيات ذاتها و إدراكاتها من غير توسط آلة و كذا ما هو آلة لها في سائر الإدراكات. انتهى.
أقول: التعقل كالتفكير فعل يخصّ النفس بوجه خاص. و الصورة العقلية مطلقا جوهر مدرك لذاته فهو عقل و عاقل و معقول. و التعقل في الحقيقة ارتقاء النفس إلى
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 170
تلك الصورة العقلية و اتحادها بها عينا و وجودا فالتعقل أشمخ درجة من أن يتفوّه حوله القبول و الانفعال و الحلول و الحال و المحل و نحوها. و المراد من الفعل في المقام هو مطلق اتصاف النفس بمدركاتها. فافهم.
ثمّ كون الجسم قابلا للانفعالات الغير المتناهية بالقوّة أمر، و كون النفس حائزة للصور العلمية الغير المتناهية بالفعل إلى حد يصير وعاء لحقائق الكلمات النورية و يقرأ في شأنها إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مثلا أمر آخر. و التفاوت بين الأمرين كالتفاوت بين الجسم و العقل كما أشرنا إليه آنفا.
قوله: «و النفوس الفلكية المنطبعة إلخ». التحقيق أنّ النفوس الفلكية كالنفوس الإنسانية لها مراتب أرفعها هي العاقلة و أنزلها هي المنطبعة. و المنطبعة و إن كانت بتبع الجسم أعنى البدن ينقسم، و لكن النفس من حيث هي روح مدبرة للبدن غير منقسمة.
قوله: «فإنّ القوّة الخيالية مثلا ...». القوّة الخيالية كسائر القوى من شئون النفس.
و ليست الخيال من القوى الجسمانية، بل هي مجرّدة بالبراهين القاطعة السالفة. ثمّ إنّ هذه القوّة التي جبلت للمحاكاة و تصوير المعانى على صور مناسبة لها، لها فسحة عظيمة تتصوّر بالأشكال و الأشباح و الصور الكثيرة فوق الإحصاء دفعة واحدة. كما أنّ نمازج منها ترى في المنامات بالغة إلى ما شاء اللّه كثرة و كلها منتشأة من القوّة الخيالية المسخّرة تحت سيطرة النفس، و أنّى للقوى الجسمانية هذه الفسحة العظيمة؟! كيف لا و قد بيّن أساطين المعارف الحقة في خواص النبوّة أنّ النبيّ يجب أن يكون قوّته المتخيّلة في كمال السعة و الصفاء و القدرة كما أنّ عاقلته كذلك حتى يتعقل الحقائق الآلهية كما، و يتمثل في خياله حقيقة الملك و صور المعانى على التفصيل الذي حرّرناه و بينّاه في شرح الفصلين الثالث و الثلاثين و الرابع و الثلاثين من فصوص الفارابى من كتابنا نصوص الحكم (ص 188- 206، ط 1، ايران).
قوله: «و إن عنيتم به انّها تستحضر معقولات لا نهاية لها دفعة واحدة إلخ».
أقول: قد اغنانا ما تقدّم آنفا من التحقيق التام الذي أفاده المتأله السبزوارى في أنّ العاقلة تقوي على معقولات غير متناهية عن إيراد ما يرد عليه، و إبرام ما هو الحقيق
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 171
في المقام. و يجب الفرق بين دفعة زمانية و آنية و بين دفعة دهرية فان الأوليين لا يليقان بعالم العقل بخلاف الثانية كالفرق بين الجسم الزمانى و بين الجسم الدهرى فافهم.
قوله: «و أيضا فإنّ النفس تدرك ذاتها إلخ».
أقول: هذا البيان هو أحد المصاديق المستفاد من قول المحقق الطوسى: «و قوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنه». كما تقدّم كلامنا فيه.
و أمّا قوله: «و أجيب عن ذلك بأنّه لم لا يجوز إلخ» فسيأتى التحقيق الحقيق بذلك في البراهين الآتية فيعلم دليل عدم الجواز الذي توهمه المجيب. و صاحب الشوارق ناظر إليه بقوله:
و ما قيل لم لا يجوز أن يدرك بعض الجسمانيات ذاتها و آلتها و إدراكاتها من غير توسط آلة، ففساده ظاهر، لأنّه لو كان كذلك لم يكن جسمانيا، إذ لا معنى للجسمانى إلّا ما يدرك و يعقل بالجسم.
ثمّ قال:
فإن قلت: هذا الدليل منقوض بنفوس الحيوانات العجم فإنّها تدرك ذواتها و آلاتها مع كونها مادية.
قلت إدراكها لذواتها كما يدرك الإنسان ذاته أعنى مع الغفلة عن الحواس ممنوع بل الظاهر أنّ إدراكها انّما هو لبدنها و عوارضه باللمس و الحس لا غير فليتدبر و بالجملة لا نقض إلّا مع العلم. انتهى.
أقول: و قد حرّرنا الكلام في النفس الحيوانية في العين الإحدى و العشرين من كتابنا العيون.
اعلم أنّ هذا البرهان المذكور من الشفاء و النجاة و رسالة الشيخ في النفس و بقائها و معادها، هو ما جعله الفخر الرازى في المباحث المشرقية الدليل الثالث من أدلة تجرّد النفس الإنسانية بتحرير آخر. (ج 2، ص 360، ط حيدرآباد). و أيضا هو ما جعله صدر المتألهين في نفس الأسفار الحجة الرابعة من حجج تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا (ج 4، ص 69 و 70، ط، ايران) و صاحب الأسفار نقل عبارة صاحب المباحث في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 172
تقرير الحجة؛ إلّا أنّ صاحب الأسفار أفاد في أثناء عبارات المباحث عدّة إشارات لطيفة معنونة بقوله: أقول، هي مع عبارات الفخر كالشرح المزجى لبيان الحجة، فنحن نأتى بما في الأسفار ثمّ نتبعه بعون الفيّاض على الإطلاق بعض الإيماضات حولها فيعلم من جميع ذلك أنّ الحجة في غاية الإتقان و هي حجة قاطعة على طالبى الإيقان في معرفة النفس بنور البرهان، و الاعتراضات التي اوردوها عليها موهونة جدّا. ثمّ و قد حرّفت في الأسفار المطبوعة كلمة صاحب المباحث بصاحب المباحثات و الصواب هو الأوّل بلا مراء. فعليك بما في الأسفار من تقرير الحجة على النهج الذي وصفناه:
الحجة الرابعة أنّ القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية، و لا شيء من القوى الجسمانية يقوي على أفعال غير متناهية، فلا شيء من القوى العاقلة جسمانية. أمّا الصغرى فانّها تقوى على إدراك الأعداد و لا نهاية لمراتبها مع أنّها أحد الأنواع المدركة للقوّة العاقلة؛ و أمّا بيان الكبرى فقد سبق.
قال صاحب المباحث أنّ إثبات كون القوى الجسمانية متناهية الفعل يحتاج إلى أن نبيّن أنّها منقسمة بانقسام محلّها فيرد النقوض الموردة على الحجة الأولى أعنى النقض بالنقطة و الواحدة و الإضافة و مدركات الوهم و غيرها.
أقول: قد مرّ اندفاع تلك النقوض بحمد اللّه.
ثمّ قال: ثمّ على هذه الحجة أسئلة زائدة تخصّها:
أوّلها: أنا لا نسلّم أنّ القوة الناطقة تقوى على إدراك أمور غير متناهية دفعة، بل إدراكا لا ينتهى إلى حد إلّا و يقوى بعد ذلك على إدراك شيء آخر، و لكن لا يلزم من ذلك كونها قوية على إدراكات غير متناهية كما أنّ الجسم لا ينتهى في الانقسام إلى حدّ يقف عنده و لكن يستحيل أن يحصل له تقسيمات غير متناهية بالفعل فكذلك هاهنا.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة 172 يج) برهان آخر على تجرد النفس الناطقة تجردا تاما عقليا، و هو البرهان الخامس من نفس الشفاء في أن قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية. ..... ص : 163
بالجملة فالحال في فاعلية تلك القوّة كالحال في منفعليته.
الثانى: سلمنا أنّها قوية على أمور غير متناهية، و لكن لم قلتم انّها قوية على أفعال غير متناهية؟ و ذلك لأنّ الإدراك ليس فعلا بل هو انفعال و انتم تجوّزون أن يكون الأمر الجسماني قويا على انفعالات غير متناهية. و الدليل عليه أنّكم تثبتون هيولى
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 173
أزلية قد تواردت عليها صور غير متناهية.
الثالث: النقض بالنفوس الفلكية فانّها عندكم قوى جسمانية مع أنّ أفعالها و هي الحركة الدورية غير متناهية.
و الجواب: أمّا عن الأوّل فلا شك أنّ القوة الناطقة لا تنتهى إلى حد إلّا و تقوى على إدراك أمور أخر و قد قام البرهان على أنّ القوى الجسمانية لا يمكن أن يكون كذلك فقد حصل الغرض. و لقائل أن يقول: القوّة الجسمانية إمّا أن يقال إنّها تنتهى إلى وقت لا يبقى لها إمكان الوجود و بعد ذلك يصير ممتنع الوجود، أو لا تنتهي إلى هذه الحالة البتة. و الأوّل باطل لأنّ الممكن لذاته لا يصير ممتنعا لذاته. و أمّا الثاني فنقول: إذا كانت القوّة الجسمانية لا يجب انتهاؤها إلى حيث يزول عنه إمكان الوجود، فهي إذا أبدا في ذاتها ممكنة الوجود و لا ينتهى إلى أن يستحيل بقاؤها أبدا، و متى كانت باقية أبدا كانت مؤثرة و تجويز ذلك يبطل أصل الحجة.
أقول: إنّ الإمكان الذاتي و مقابله من عوارض الماهيات من حيث هي إذا قيست إلى الوجود، و القوى عبارة عن موجودات متشخصة و الموجود بما هو موجود أمر شخصى و يكون الزمان الخاص من مشخصاته، فوجوب نحو خاص من الوجود و امتناع نحو آخر منه بخصوصه لا يخرج الماهية المشتركة بينها عن الإمكان الذي هو حالها من حيث هي هى و البرهان قائم على امتناع لا تناهى الأفعال لواحد شخصى من الجسم لا على امتناع ذلك لواحد نوعى، و الوحدة العددية حكمها غير الوحدة النوعية.
و أمّا عن السؤال الثانى فهب أنّ الإدراك نفسه انفعال و لكن فعل النفس في تركيب المقدمات و تحليلها و ذلك كاف في غرضنا.
أقول: انّ جهة انفعالات القوى غير منفكة عن جهة أفاعيلها و إن كانت الجهتان مختلفتين فإنّ الشيء ما لم يكن له وجود لا ينفعل عن شيء آخر فالقوّة الجسمانية كما لا تقوى على أفعال غير متناهية كذلك لا تقوى على انفعالات غير متناهية. و أمّا النقض بالهيولى فهو مندفع بأنّ الهيولى في ذاتها ليست لها هوية باقية بالعدد لأنّها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 174
ضعيفة الوحدة مبهمة الوجود، وحدتها على نحو الوحدة الجنسية و هي بحسب تحصّلاتها الصورية متبدلة متجددة كما مرّ بيانه.
فإن قلت: أ لستم قد بيّنتم الفرق بين الحس المشترك و بين المفكرة بأنّ أحدهما مدرك و الآخر متصرف و القوّة الواحدة لا تكون مبدءا للإدراك و التصرف فكيف تنسون ذلك و تحكمون بأنّ النفس قوية على الفعل و هو التصرف في المقدمات و تركيبها، و الانفعال و هو التصور و قبول الصور؟ قلت إنّ النفس لها قوتان علمية و عملية و تفعل بأحدهما و تنفعل بالأخرى.
و أمّا عن الثالث فقيل إنّ النفوس الفلكية و إن كانت جسمانية إلّا أنّها غير مستقلة في أفعالها من التحريكات، فهي في ذاتها و إن كانت متناهية القوّة إلّا أنّها بما يسنح عليها من أنوار العقل صارت غير متناهية.
و اعترض عليه بأنّ القوّة العقلية إذا حركت الفلك فإمّا أن يفيد الحركة أو قوّة بها يكون الحركة. فإن أفادت القوّة المحركة و هي جسمانية فالقوّة الفاعلة للأفعال الغير المتناهية جسمانية. و إن كانت القوّة العقلية مفيدة للحركة لم يكن القوّة الجسمانية مبدءا لتلك الحركة فلا يكون الحركة حركة. و أيضا يلزم أن يكون الجسم بما هو جسم قابلا لتأثير العقل المفارق من غير أن يكون فيه قوّة جسمانية و محال.
أقول: هذا أنّما يلزم لو كان الوسط في التأثير قوّة واحدة بالعدد أو ضميمة واحدة بالعدد. و أمّا إذا كانت الواردات من العقل المفارق على مادة الفلك قوى متجددة كما رأينا، أو كيفيات مستحيلة فلا يلزم شيء من المحذورين، و قد مرّ نظير هذا الكلام فيما سبق. و لكن بقي الكلام هاهنا بأنّه إذا جاز ذلك في القوى الفلكية مع كونها جسمانية فلم لا يجوز أن تكون القوّة الناطقة جسمانية؟ لكنها بما يسنح عليها من نور العقل الفعّال تقوى على الأفعال الغير المتناهية.
و أقول: و يؤيّد هذا البحث أنّ قوّة التخيل مع كونها غير عقلية أيضا تقوى على تصويرات غير متناهية لا تقف عند حدود ذلك لأنّها، مستمدّة من عالم العقل. انتهى كلام صاحب الأسفار في المقام.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 175
أقول: صاحب الأسفار نقل عبارات المباحث مع تصرّف فيها روما للاختصار. قوله:
«و بالجملة فالحال ...» اى الحال في فاعلية القوّة العاقلة الناطقة كالحال في منفعلية الجسم عن الانقسام.
قوله: «و الجواب أمّا عن الأوّل ...» هذا من تتمة كلام صاحب المباحث إلى قوله يبطل أصل الحجة. و كذا قوله: «و أمّا عن السؤال الثانى» إلى قوله: «كاف في غرضنا».
و كذا قوله: «فإن قلت أ لستم قد بينتم» إلى قوله «و قبول الصور». و كذلك قوله: «و أمّا عن الثالث» إلى قوله: «على الأفعال الغير المتناهية». و لكن كما قلنا مع نحو تصرف في عبارات المباحث.
قوله: «فإنّها عندكم قوى جسمانية». هذا على رأى طائفة من المشائين. و الحق- كما أشرنا إليه آنفا- أنّ وزان النفوس الفلكية مع الأجرام الفلكية وزان النفوس الناطقة الإنسانية مع أبدانها كما برهن في محلّه.
قوله: «و الجواب أمّا عن الأوّل إلخ» على أنّ القوّة الناطقة و إن كانت لا تنتهى إلى حدّ إلّا و تقوى على ادراك أمور أخر و القوى الجسمانية ليست كذلك كما دل عليه البرهان و لكنّ النفس تقوى أن تدرك أيضا اللانهاية و الأمور الغير المتناهية دفعة بلا دخالة تعاقب الإدراكات فافهم.
قوله: «و لقائل أن يقول القوّة الجسمانية»، أي نوعها لا شخصها. أعنى يجب أن تكون القوّة الجسمانية الشخصية متناهية لا القوّة الجسمانية النوعية كما يشير إليه قول صاحب الأسفار في جوابه: «و البرهان قائم على امتناع لا تناهى الأفعال لواحد شخصى من الجسم، لا على امتناع ذلك لواحد نوعي، و الوحدة العددية حكمها غير الوحدة النوعية». و هذا التحقيق الأنيق هو جواب صاحب الأسفار عن شبهة الفخر بقوله: «و لقائل أن يقول القوّة الجسمانية إلخ» فهي مدفوعة.
قوله: «أقول انّ جهة انفعالات القوى ...» كان وجه الاعتراض أنّ الإدراك ليس فعلا بل انفعال، و الأمر الجسمانى يكون قويا على انفعالات غير متناهية فلا يتم الحجة على تجرّد النفس الناطقة. فأجاب الفخر عن الاعتراض بأنّ الإدراك و إن كان انفعالا و لكن
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 176
تركيب المقدمات و تحليلها فعل النفس فبهذا الوجه تكون النفس قوية على افعال غير متناهية و ليس الأمر الجسمانى كذلك فالنفس ليست بجسمانية. و أجاب صاحب الأسفار عن الاعتراض بقوله: «إنّ جهة انفعالات القوى غير منفكة عن جهة أفاعيلها إلخ». و لا يخفى عليك أنّ الفعل تارة يطلق في مقابل القوّة و الاستعداد، و تارة يطلق في مقابل الانفعال. و المقصود في المقام هو الفعل بالإطلاق الثانى و لا يخفى عليك أنّه خلّط بين الفعل في مقابل القوّة و الاستعداد و الفعل في مقابل الانفعال، اللهم إلا أن يريد من الوجود مبدأ الأفعال فقوله فإنّ الشيء ما لم يكن له وجود لا ينفعل عن شيء آخر، أي الوجود فعلية و مبدأ الأفعال فانفعالات القوى الغير المتناهية ترجع إلى أفاعيلها الغير المتناهية. و الفرق بين جوابه و جواب الفخر عن الاعتراض ظاهر.
قوله: «و أمّا النقض بالهيولى إلخ». أجاب عن النقض بوجهين أحدهما أنّ الهيولى في ذاتها مبهمة الوجود. و ثانيهما أنّها متحدة الوجود بحسب تحصلاتها الصورية بالحركة الجوهرية. و السؤال أنّما كان على وحدتها العددية الثابتة الباقية الدائمة و قبولها الصور الغير المتناهية كما هو رأى المتأخرين من المشاء فتبصّر. و لا يخفى عليك أنّ الهيولى على الحركة في الجوهر غير ثابتة في الخارج و انّما ثباتها في الذهن فقط فهي في الخارج مع كل صورة بحسبها.
قوله: «و هو محال» و ذلك للزوم تجسم العقل، أو تروح الجسم.
قوله: «قوى متجددة كما رأينا» يعنى به الحركة الجوهرية. و الكيفيات المستحيلة قيل هي الأحوال الطارية على الفلك كالتعقلات المتتالية و التشبهات المتعاقبة إلى ما فوقه من العقل المفارق، و لكن الاستحالة كالقوّة يجب أن يتطرّق فيها التناهى أو اللاتناهى و هما من صفات الكم.
قوله: «و أقول و يؤيد هذا البحث أنّ قوّة التخيّل ...» أي و يؤيّد هذا البرهان في تجرّد النفس أنّ قوّة التخيّل مع كونها دون قوّة التعقل تقوى على تصويرات غير متناهية على التعاقب لا تقف عند حدّ، بل تقوى عليها دفعة دهرية غير آنية و لا زمانية فالقوّة العاقلة التي فوقها تجرّدا وسعة أولى بذلك. و قد تقدم آنفا الكلام في فسحة القوّة الخيالية.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 177
خلاصة البرهان: المعقولات غير متناهية بالقوّة، و شأن القوّة الناطقة أن تعقلها بالقوّة أي القوّة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية، و الجسم و الجسمانى ليس لهما هذه الشأنية أي و لا شيء من القوى الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية، فالقوّة الناطقة أي النفس الناطقة ليست بجسم و لا قوّة في جسم.
بل الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) لخّص البرهان في عيون الحكمة و قد أتى فيه أربعة براهين على أنّ جوهر النفس مفارق غير مخالط للمادة، و هذا البرهان هو الرابع منها قال في آخر الطبيعيات منه و هو آخر الفصل السادس عشر منه ما هذا لفظه في تقرير البرهان ملخصا:
و أيضا فإنّه ليس لشيء من الأجسام قوّة أن يطلب أو يفعل أمورا من غير نهاية، و المعقولات التي للعقل أن يعقل أيّها شاء كالصورة العددية و الشكل و غير ذلك بلا نهاية؛ فإذن هذه القوّة ليست بجسم، لأنّ كلّ جسم قوّته الفعلية متناهية؛ لست أعنى الانفعالية فإنّ ذلك لا يمتنع.
ثمّ ختم كلامه بقوله: فقد بان لك أنّ مدرك المعقولات، و هو النفس الإنسانية، جوهر غير مخالط للمادّة، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام و العقل.
البرهان الرابع من الباب الخامس من رسالة الشيخ الفارسية في معرفة النفس هو البرهان الخامس من نفس الشفاء، فقد حرره الشيخ فيها بأوجز بيان و تلخيص فقال:
«برهان ديگر معلوم است كه صور معقولات كه ...» (ص 39، 1371 ه. ق، ط، 1، ايران، بتصحيح الدكتور موسى عميد).
قد ذكر الشيخ في الرسالة المذكورة أربعة براهين من الشفاء على تجرّد النفس و قد أوجز في تحريرها بالفارسية: الأوّل منها هو الأوّل منه، و الثانى منها هو الثالث منه، و الثالث منها هو الثانى منه، و الرابع منها هو الخامس منه، كما تقدم التنبيه على ذلك في أثناء شروح البراهين المذكورة.
و كذلك الشيخ قدّس سرّه في رسالته في السعادة و الحجج العشر على أن النفس الإنسانية جوهر مفارق، قد حرّر البرهان الخامس من نفس الشفاء بعبارة أخرى تتضمن تمثيلا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 178
مبينا لما في الشفاء من البرهان، قال:
الحجة الثامنة؛ الصور الهندسية و العددية و الحاصلة من تركيب ذوات الموجودات القابلة له على المناسبات غير متناهية في ذواتها، و الشيء الذي يعقل به الإنسان له قوّة أن يعقل أيّما واحد منها كان، و مهما ازداد منها زاد في القوّة، و ليست الصورة التي من شأنها أن يعقلها بمفردة الذوات عن جملتها. فتبيّن أنّ قوّته غير متناهية، إذا القوّة الغير المتناهية غير منتصفة، و كل قوّة جسمانية منتصفة بتنصّف الجسم الذي هي فيه.
فإذا محل الحكم جوهر غير جسماني؛ و ذلك ما أردنا أن نبين. (ص 10، ط 1، حيدرآباد الدكن).
و كذلك حرّره بتحرير آخر يتضمن ذلك التمثيل أيضا مع أنّه أبسط ممّا في رسالة السعادة، في رسالته الأخرى النفسية أهداها للأمير نوح الساماني، و هي مبحث عن القوى النفسانيّة، أو كتاب في النفس على سنة الاختصار و مقتضى طريقة المنطقيين.
و هو البرهان الخامس فيها أيضا قال:
و من البراهين على صحة هذه الدعوى أنّ من البيّن أن ليس شيء من القوى الجسمانية له قوّة على أفاعيل غير متناهية، و ذلك لأنّ قوّة نصف من ذلك الجسم لا محالة توجد أضعف من قوّة الجميع، و الأضعف أقل تقويا عليه من الأقوى، و ما قل من غير المتناهي فهو متناه، فإذن قوّة كل واحد من النصفين متناهية، فإذن مجموعها متناه، إذ مجموع المتناهيين متناه، و قد قيل إنّه غير متناه و هذا خلف.
فإذن الصحيح أنّ قوى الأجسام لا تقوى على أفاعيل غير متناهية. ثمّ القوة الناطقة تقوى على أفاعيل غير متناهية، إذ الصّور الهندسية و العددية و الحكميّة التي للقوّة النطقية أن تفعل فيها أفعالا ما غير متناهية؛ فإذن القوّة النطقيّة ليست بقائمة بالجسم، فهي إذن قائمة بذاتها و جوهر بذاتها. ثمّ من البيّن أنّ فساد احد الجوهرين المجتمعين لا يقتضى فساد الثانى، فإذن موت البدن لا يوجب موت النفس. و ذلك ما أردنا أن نبيّن (ص 71 و 72، ط مصر بتصحيح ادور فنديك. و ص 175 من أربع رسائل نفسية للشيخ، ط مصر، بتصحيح الأهواني).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 179
بيان: الصور الهندسية في الرسالتين مبتدأ، و غير متناهية خبر له، فما جاء في نسخة الأهواني: «إذ للصور الهندسية و العددية ...» و هم بلا مراء، كما أنّ عبارة الشيخ في رسالة السعادة كالنصّ على ذلك حيث وقع «الصور الهندسية» أوّل العبارة؛ على أنّ بياننا الآتى ذكره يزيح الدغدغة رأسا.
و كذا قد حرّره بتحرير آخر نافع جدّا في تقرير هذا البرهان في رسالته الأخرى، و هي سبعة من المقاييس المنطقية على بقاء النفس الناطقة. و هذا البرهان في تلك الرسالة هو القياس الثالث منها، قال:
القياس الثالث: العلوم الحقيقية التي يقبلها الإنسان لسعيها لا بدّ لها من محلّ جوهريّ الذات صالح لقبولها فالجبلّة الإنسانية تكون ذات جوهر صالح لقبول ما يقبله من علومه، و ليس يشكّ كلّما ازداد اقتناء للعلوم ازداد به اقتدارا على علومها فإذا الجوهر الصالح منه لقبول العلم يجب أن تكون قوته على قبوله غير متناهية، و إذا كان هذا سوس القابل لعلمه ثمّ لم يشك أنّ القالب الجسدانى لا يجوز أن يكون ذا قوّة بقبول شيء من أعراض غير متناهية فإنّه في ذاته جسم ذو مقدار متناه و لن يجوز أن يكون ذو المقدار المتناهي ذا قوة متناهية لأنّ مقداره متى يوهم مضاعفا لحصلت نسبة القوّة إليه متناصفة، فإذا القالب الجسدانى لن يجوز أن يكون محلا للعلوم فالقابل لها إذا يجب بأن يكون جوهرا غير جسمانى، و لو كان غير جوهر لما كان محلا للعلوم، و لو كان جسمانيا لكان قبوله للعلم إلى نهاية محدودة لا يجاوزها في القوّة حسب ما شوهد من الحال في قبوله للسواد و الحرارة و ليست النفس الناطقة في الحقيقة إلّا الجوهر الصالح لأن يكون محلا للعلوم، فالجبلّة الإنسانية إذا و إن وجدت مشتملة عليها و على القالب فلن يجوز أن يكون نظيرا لذى القوّة المتناهية، و انتقاض ذا القوّة لن يجوز أن يكون موهنا لذا القوّة المتناهية؛ ثمّ الفعل المختص بالجسم لن يعدو ذات الجسم و لن يجوز أن يوجد أعظم من الجسم و فعل النفس الناطقة قد ينفذ الأماكن البعيدة في الحالة الواحدة فقد يوجد كليا أبديا، اللهم إلّا أن يظن ظانّ أنّها لو كانت ذات قوّة غير متناهية لاستصلحت طبع القالب دفعة لا في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 180
مدة، و لما ضعفت عن الاستصلاح في شيء من حالاتها مدة أصلا غير أن الخطب في إزالة هذا الظن يسير فإنّ استصلاحها للقالب لا يكون إلّا بآلة معدّة لها و هي الطبيعة، ثمّ الطبيعة في ذاتها قوّة متناهية فأمّا قبولها فلن يكون إلّا لمجرّد ذاتها، و لهذا ليست يحتاج فيه إلى المدّة و لن يلحق فتور في القوّة و باللّه التوفيق.
تبصرة: هذا البرهان كما يدل على تجرّد النفس الناطقة كذلك يدلّ على أنّ لها مقام فوق التجرّد حيث قال: «فاذا الجوهر الصالح منه لقبول العلم يجب أن تكون قوته على قبوله غير متناهية ...» و نحوه من عبارات أخرى في هذا القياس.
و كذلك البرهان الذي نقلناه قبل هذا البرهان من رسالته السعادة ناطق بأنّ للنفس مقام فوق التجرّد حيث قال: «ثمّ القوّة الناطقة تقوى على أفاعيل غير متناهية ...».
ثمّ ما أشار إليه الشيخ في رسالة السعادة في أثناء البرهان من قوله: «إذا الصور الهندسيّة و العددية ...» فراجع في بيانه الدرس الثانى عشر من كتابنا دروس معرفة الوقت و القبلة، و كذلك كتابنا الآخر إنسان و قرآن في بيان درجات آيات القرآن (ص 77- 108)، سيّما الباب الأوّل من رسالتنا المسماة ب الصحيفة الزّبرجديّة في كلمات سجّاديّة.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 181
يد) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان السادس من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.
قال الشيخ:
و لنستشهد أيضا على ما بيّناه بالكلام الناظر في جوهر النفس الناطقة و في أخص فعل له بدلائل من أحوال أفعال أخرى له مناسبة لما ذكرناه فنقول:
إنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنما يستتمّ باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها، و أن لا تعقل الآلة، و أن لا تعقل أنّها عقلت فإنّه ليس بينها و بين ذاتها آلة، و ليس لها بينها و بين آلتها آلة، و ليس لها بينها و بين أنّها عقلت آلة لكنّها تعقل ذاتها و آلتها التي تدعى لها، و أنّها عقلت فإذن تعقل بذاتها لا بآلة.
بل قد نحقق فنقول: لا يخلو إمّا أن يكون تعقّلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك، أو لوجود صورة أخرى مخالفة لها بالعدد و هي أيضا فيها و في آلتها، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع و هي فيها و في آلتها:
فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها و فيها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما إذ كانت أنّما تعقلها لوصول الصورة إليها.
و إن كان لوجود صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل: أمّا أوّلا فلأنّ المغايرة بين أشياء تدخل في حدّ واحد إمّا لاختلاف المواد و الأحوال و الأعراض، و إمّا لاختلاف ما بين الكلى و الجزئى، و المجرّد عن المادة و الموجود في المادة؛ و ليس هاهنا اختلاف مواد و أعراض فإنّ المادة واحدة و الأعراض لموجودة واحدة؛
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 182
و ليس هاهنا اختلاف التجريد و الوجود في المادة فإنّ كليهما في المادّة؛ و ليس هاهنا اختلاف الخصوص و العموم لأنّ إحداهما إن استفادت جزئية فإنّما تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية و اللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها و هذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى. و لا يلزم هذا على إدراك النفس ذاتها فانّها تدرك دائما ذاتها و إن كانت قد تدركها في الأغلب مقارنة للأجسام التي هي معها على ما بيناه.
و أنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها فإنّ هذا أشد استحالة لأنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته، أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة و هذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة، و لا صورة شيء مضاف إليها بالذات لأنّ ذات هذه الآلة جوهر و نحن أنّما نجد (نأخذ- خ ل) و نعتبر صورة ذاته و الجوهر في ذاته غير مضاف البتة.
فهذا برهان واضح على أنّه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته في الإدراك. و لهذا فإنّ الحسّ أنّما يحسّ شيئا خارجا و لا يحس ذاته و لا آلته و لا إحساسه. و كذلك الخيال لا يتخيّل ذاته و لا فعله البتّة، بل إن تخيّل آلته تخيّلها لا على نحو يخصّه و أنّها لا محالة له دون غيره إلّا أن يكون الحسّ يورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ أنّما يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شيء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيّله.
بيان: الغرض من البرهان أنّ تعقّل القوّة العقلية ليس بالآلة الجسدية، كما هو عنوان البرهان في النجاة.
قوله: «أنّما يستتم»، و في نسختين من الشفاء عندنا «أنّما يستقيم» مكان «أنّما يستتمّ».
قوله: «و أنّها عقلت» عطف على قوله: «ذاتها و آلتها» أي تعقل ذاتها و آلتها التي تدعى لها، و تعقل أنّها عقلت، أي تعقل تعقّلها و إدراكها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 183
قوله: «مخالفة لها بالعدد» أي لا بالنوع بقرينة مقابلته لقوله بالنوع. و هي أي الصورة الأخرى أيضا في النفس و في آلتها. و أمّا بيان المخالفة بالنوع فسيأتى في قوله: و أنت تعلم أنّه لا يجوز إلخ».
قوله: «فصورة آلتها في آلتها و فيها بالشركة» قال الملّا عبد الرزاق في بيانه: «يعنى أنّ صورة آلتها قائمة في مادة آلتها فتكون في آلتها، و كذلك تكون فيها أي في القوّة العاقلة أيضا لأنّ المفروض أنّ القوة العاقلة حالّة في مادة آلتها فهي أعنى صورة الآلة كما تكون حاضرة لمادّة الآلة تكون حاضرة للقوّة العاقلة أيضا فيجب أن تكون عاقلة لصورة الآلة دائما.
و قوله: «بالشركة» معناه أنّ صورة الآلة صورة واحدة موجودة لكليهما لا أن تكون الموجودة للعاقلة صورة أخرى مخالفة للموجود للآلة بالعدد أو بالماهية فتدبّر لتفهم معنى قوله: «و في آلتها» في العبارتين السابقتين أيضا انتهى كلامه.
قوله: فذلك باطل أمّا أوّلا، هكذا في جميع نسخ الشفاء التي عندنا، و لكنه لم يأت في قباله بما يكون هو ثانيا.
قوله: «و أنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون بوجود صورة أخرى غير صورة آلتها» أى لا يجوز أن يكون تعقّلها آلتها بوجود صورة أخرى غير صورة آلتها بالنوع.
قوله: «على ما بيّناه» أقول: بيّنه في موضعين من نفس الشفاء أحدهما في أوّل الأولى (ج 1، ص 281، ط 1)، و ثانيهما في سابع الخامسة حيث قال: و ليست هذه الأعضاء لنا في الحقيقة إلّا كالثياب التي صارت لدوام لزومها إيّانا كأجزاء منّا عندنا و إذا تخيّلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة بل نتخيّلها ذوات أجسام كاسية و السبب فيه دوام الملازمة إلّا أنّا قد اعتدنا في الثياب من التجريد و الطرح ما لم نعتد في الأعضاء فكان ظنّنا الأعضاء أجزاء منّا آكد من ظنّنا الثياب أجزاء منّا (ج 1، ص 363، ط 1).
قوله: «و أنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى في غير صورة آلتها».
أي غير صورة آلتها بالنّوع.
قوله: «و كذلك الخيال لا يتخيل ذاته و لا فعله البتة بل إن تخيل آلته ...». العبارة في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 184
النجاة هكذا: «و كذا الخيال لا يتخيل ذاته و لا فعله و لا آلته بل إن تخيل آلته ...» و ظنى أن العبارة في الشفاء حرّفت و إن كانت عدة نسخ مخطوطة من الشفاء كلّها كذلك.
و الصواب انّ كلمة «البتة» في الشفاء أصلها «آلته» و بعد تحريف آلته بالبتة حذفت لفظة «و لا» أيضا لكى يستقيم المعنى فالصواب و لا فعله و لا آلته بل إن تخيل آلته إلخ.
اعلم أنّ الشيخ جعل هذا البرهان المذكور من الشفاء فصلا على حدة في النجاة معنونا بقوله: «فصل في أنّ تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية». و عبارتهما و إن كانت لا تتفاوت كثيرا، و لكن عبارة النجاة تفيد بعض الإيضاحات لما في الشفاء، و تعيننا في غرضنا الآتى ذكره حول هذا البرهان الشريف، و ما يؤول إليه من البرهان المحرّر في الإشارات الذي اعتنى به الحكماء الآلهية نقلا و فنأتى بما في النجاة أيضا ثمّ نهدى إلى طالبى الإيقان و مبتغى التحقيق ما تيّسر لنا بعون المفيض على الإطلاق و ملهم الصواب و السداد. قال الشيخ:
فصل في أنّ تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية: و نقول إنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنّما يتمّ باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها، و أن لا تعقل الآلة، و لا أن تعقل أنّها عقلت.
فإنّه ليس بينها و بين ذاتها آلة، و ليس بينها و بين آلتها و لا بينها و بين أنّها عقلت آلة، لكنّها تعقل ذاتها و آلتها التي تدعى آلتها و أنّها عقلت فإذا أنّما تعقل بذاتها لا بالآلة.
و أيضا لا يخلوا إما أن يكون تعقّلها آلتها بوجود ذات صورة آلتها إمّا تلك و إمّا أخرى مخالفة لها و هي صورتها أيضا فيها و في آلتها، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك فيها و في آلتها: فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها و فيها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما التي كانت تعقل لوصول الصورة إليها.
و إن كان لوجود صورة غير تلك الصورة فأنّ المغايرة بين أشياء مشتركة في حدّ واحد إمّا لاختلاف المواد، و إمّا لاختلاف ما بين الكلى و الجزئى، و المجرّد عن المادة و الموجود في المادة؛ و ليس هاهنا اختلاف مواد فإنّ المادة واحدة و ليس هاهنا اختلاف التجريد و الوجود في المادة فإنّ كليهما في المادة؛ و ليس هاهنا اختلاف
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 185
بالخصوص و العموم لأنّ أحدهما أنّما يستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية و اللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها، و هذا المعنى لا يختص بأحدهما دون الآخر. و لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى معقولة غير صورة آلتها فإنّ هذا أشدّ استحالة لأنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر القابل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته، أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة و هذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة، و لا أيضا صورة شيء مضاف إليها بالذات لأنّ ذات هذه الآلة جوهر و نحن أنّما نأخذ و نعتبر صورة ذاته و الجوهر في ذاته غير مضاف إليه.
فهذا برهان عظيم على أنّه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته في الإدراك. و لهذا كان الحس أنّما يحسّ شيئا خارجا و لا يحسّ ذاته و لا آلته و لا إحساسه. و كذا الخيال لا يتخيل ذاته و لا فعله و لا آلته بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصّها بأنّه لا محالة لها دون غيرها إلّا أن يكون الحس أورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ أنّما يحكى خيالا مأخوذا من الحسّ غير مضاف عنده إلى شيء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيله. (ص 178- 180، ط مصر).
هذا تمام كلام الشيخ في النجاة في تحرير البرهان. و كتاب النجاة و إن كان الشيخ اقتطفه من كتابه الشفاء و لكنه يفيد الباحث كثيرا في حلّ المشاكل و تفهيم المسائل فأقول: لا يخفى عليك أنّ الشيخ ناظر في صدر البرهان إلى أنّ تعقل القوّة العقلية ذاتها و آلاتها، و كذلك تعقلها أنّها عقلت ليس بآلة جسدية بل هي بذاتها تعقل ذاتها و آلاتها و أنّها عقلت كما هو العنوان في النجاة. و استدل على ذلك بثلاثة أمور:
الأوّل: أنّ تعقّلها لو كان بآلة جسدية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها فإنّه ليس بينها و بين ذاتها آلة، و الحال أنّها عاقلة بذاتها.
و الثانى: أنّها لو كان كذلك لكان يجب أن لا تعقل الآلة فإنّه ليس لها- اى للقوّة العقلية- بينها و بين آلتها آلة، و الحال أنّها تدرك الآلة.
و الثالث: أنّها لو كان كذلك لكان يجب أن لا تعقل أنّها عقلت فإنّه ليس للقوّة العقلية
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 186
بينها و بين أنّها عقلت اى و بين تعقّلها و إدراكها آلة و الحال أنّها تعقل أنّها عقلت فإذن أنّها تعقل ذاتها و آلتها و تعقل أنّها عقلت بذاتها لا بآلة.
ثمّ أخذ الشيخ في تحقيق نظره المذكور أعنى أنّ تعقّل القوّة العقلية مطلقا ليس بآلة جسدية بقوله في الشفاء: «بل قد نحقّق فنقول لا يخلو إمّا أن يكون تعقلها إلخ».
و في النجاة بقوله: «و أيضا لا يخلو إمّا أن يكون تعقلها آلتها». فتبصّر.
و في الشفاء بعد التحقيق قال: «فهذا برهان واضح على أنّه لا يجوز إلخ»، و في النجاة قال: «فهذا برهان عظيم على أنّه لا يجوز إلخ».
و تحرير التحقيق أنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنّما يتم و يستقيم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن تدرك أوّلا تلك الآلة التي استعملتها لسائر إدراكاتها إذ بها يتحقق فعلها الخاص اى التعقل، و تعقلها آلتها يتصور على ثلاثة أوجه: و ذلك لأنّه إمّا أن يكون لوجود نفس صورة آلتها تلك أي صورة ذلك المحلّ الخارجية نفسها تكفى في تعقل القوّة العاقلة إيّاها، أو لوجود صورة أخرى و الصورة الأخرى إمّا مخالفة لذات صورة الآلة بالعدد، أو مخالفة لها بالنوع. أي لو لم تكن نفس صورة ذلك المحل الخارجية كافية افتقرت إلى صورة أخرى منتزعة من صورة المحل منطبعة في العقلية- و إن شئت قلت منطبعة في صورة المحل فإنّ مآلهما واحد واقعا- و تلك الصورة الأخرى إمّا مخالفة لذات صورة الآلة أي محل العقلية بالعدد أو بالنوع.
أمّا على الوجه الأوّل أعنى أن يكون تعقّل القوّة العقلية آلتها لوجود ذات صورة تلك الآلة، فنقول:
إنّ صورة تلك الآلة قائمة في مادة تلك الآلة لا محالة لأنّها آلة جسدانية بالفرض.
و كذلك تكون صورة تلك الآلة في القوّة العاقلة أيضا لأنّ المفروض أنّ القوة العقلية حالّة أي منطبعة في مادة آلتها الجسدانية، فنفس صورة الآلة صورة واحدة موجودة للآلة و للقوّة العاقلة كلتيهما فكلما كانت الصورة حاضرة لمادة الآلة كانت حاضرة للقوّة العاقلة المنطبعة في تلك الآلة أيضا، فالعاقلة المنطبعة في الآلة الجسمانية كانت من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 187
الأمور الجسمانية و الأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فإذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها، و حيث إنّ القوّة العقلية حالّة منطبعة في الآلة الجسمانية، و صورة الآلة حاضرة لمادة الآلة و للقوّة العاقلة المنطبعة فيها أيضا بالشركة فيجب أن تكون القوّة العقلية دائمة التعقل لذات صورة آلتها إذ كانت القوّة العقلية أنّما تعقل الآلة لوصول صورة الآلة إليها و المفروض أنّ تلك الصورة حاصلة للعقلية لأنّ القوّة العقلية منطبعة في تلك المادة الجسدانية بالفرض، و الحال أنّ القوّة العاقلة اى تلك القوّة العقلية ليست دائمة التعقل لمحلّها الذي هو تلك الآلة الجسدانية كالقلب أو الدماغ مثلا بل تعقّلها له حاصل حصولا منقطعا أي في وقت دون وقت لا دائما فكون القوّة العقلية منطبعة في آلة جسمانية باطل.
هذا لو قلنا إنّ مقارنة القوّة العقلية بمحلّها ذلك أعنى انطباعها في آلتها تكفى في تعقّلها له فتوجب تلك المقارنة الدائمة التعقل الدائم. و أمّا إذ قلنا إنّها لم تكف في ذلك فلا تعقله البتّة لاستحالة أن يكون تعقلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلّها فيها اى صورة مساوية منتزعة عن محلّها و إلّا لزم اجتماع المثلين في محل واحد أحدهما الصورة المنطبعة الأصلية التي هي المحل اي الآلة العاقلة؛ و ثانيهما الصورة المنطبعة المعقولة من المادة الأصلية التي هي المحل و الآلة المساوية لها فقد حصل في مادة واحدة مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان لشىء واحد، و اجتماع المثلين محال فالموقوف عليه أعنى تعقل العاقلة آلتها ممتنع، و الحال انّ القوّة العقلية ليست كذلك اعنى ليست أن لا تحتمل التعقل أصلا أي لا تعقل محلّها دائما؛ فليس و لا واحد من الأمرين بصحيح لأنّ الحق كون الإنسان متعقلا لأعضائه في وقت دون وقت و من تلك الأعضاء ما فرض محلا للقوّة العقلية و آلة لها. و هذا الشق أنّما يتضح حق الاتّضاح ببيان الوجهين الباقيين فنقول:
أمّا على الوجه الثانى، و هو كون تعقل القوّة العقلية آلتها لوجود صورة أخرى مخالفة لذات صورة الآلة بالعدد أي لم تكف تلك المقارنة المذكورة بل يكون تعقلها لها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلها الذي هو آلتها الجسدانية، فنقول: إنّ ذلك باطل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 188
لأنّ تلك الصورة الأخرى إن كانت مخالفة للأولى بالعدد كان كتغاير زيد و عمر المتحدين بالماهية الإنسانية مثلا و الأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة إمّا مادية كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع، أو غير مادية كتغاير الأنواع المتفقة بالجنس، أو بسبب اقتران البعض بشيء و تجرد البعض عنه و ذلك الشيء إمّا مادّى و هو كتغاير الإنسان الجزئي للإنسان من حيث هو طبيعته، أو غير مادى كتغاير الانسان الكلى للإنسان من حيث هو طبيعة، و يتبيّن من ذلك امتناع تغاير الأشخاص المتفقة بالنوع من غير تغاير المواد و ما يجرى مجريها، و الصورتان حالّتان في مادّة واحدة هي آلة القوّة العقلية و محلّها فإذا فرضتا مغايرتين بالعدد فتميز إحداهما عن الآخر غير متصور فقال على هذا المنوال في وجه البطلان أي بطلان تغاير الصورتين بالعدد: لأنّ المغايرة بين أشياء تدخل في حدّ واحد، أي مغايرة الأمور المتحدة في الماهية إمّا لاختلاف المواد و الأحوال و الأعراض كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع، و إمّا لاختلاف بين الكلى و الجزئى كتغاير الإنسان الجزئى للإنسان من حيث هو طبيعته إن أخذ الكلى كليا طبيعيا، و إن أخذ عقليا فظاهر أيضا، و إمّا لاختلاف المجرّد عن المادة و الموجود في المادة كتغاير الإنسان الكلى للإنسان من حيث هو طبيعة خارجية مثلا، و الحال ليس هاهنا اختلاف موادّ و أعراض فان المادة واحدة و الأعراض حاصلة لمادة واحدة هي آلة القوة العقلية؛ و كذلك ليس هاهنا اختلاف التجريد و الوجود في المادة فإنّ كليهما في المادة الواحدة؛ و كذلك ليس هاهنا اختلاف الخصوص و العموم أي الاختلاف بين الجزئى و الكلى لأنّ إحدى الصورتين إن استفادت جزئية فانّها تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية و اللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها و هذا المعنى لا يختص بإحدى الصورتين دون الأخرى.
فإن قلت: الصورة الثانية حالّة في الأولى لا في مادتها؛ أو إنّ إحداهما حالّة في العاقلة و في محلّها معا، و الأخرى حالة في محلّها فقط فلا يلزم اجتماع المثلين في محل واحد، قلنا هذا مجرّد فرض في الذهن فإنّه إذا كان محلهما واحدا فهما منطبعان فيه خارجا مجتمعان معا في مادة واحدة. ثمّ انّ القوّة العاقلة إن كانت في تلك الآلة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 189
و الصورة الثانية حاصلة في القوّة العاقلة فالصورة الثانية للآلة أيضا حالّة في الآلة لأنّ الحال في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء أيضا فيلزم منه الجمع بين المثلين أيضا على أنّ البحث عن بطلان ذلك يأتى على التفصيل أيضا.
و لا يرد هذا الإيراد أي كون تعقل القوّة العقلية لوجود ذات صورة آلتها، أو لوجود صورة مخالفة لها بالعدد الموجب لكون القوة العقلية إمّا دائمة التعقل لآلتها أو لا تعقلها أصلا، على إدراك النفس ذاتها فإنها تدرك دائما ذاتها و إن كانت على سبيل القضية الحينية مقارنة للأجسام التي هي أعضائها و بدنها.
و أمّا على الوجه الثالث- و هو كون تعقل القوّة العقلية آلتها لوجود صورة أخرى مخالفة لذات صورة الآلة بالنوع- فإنّ هذا أشدّ استحالة من الأولين، و ذلك لأنّ ذات هذه الآلة جوهر و نحن انّما نجد و نعتبر صورة ذاته و الجوهر في ذاته غير مضاف إليه.
و أمّا الصورة المعقولة فانّها إذا حلّت الجوهر العاقل- و إن شئت قلت الجوهر القابل كما في النجاة- جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته، أو لما تلك الصورة مضافة إليه، فحيث إنّ صورة المضاف داخلة في هذه الصورة المعقولة ليست صورة الآلة جوهر و الجوهر في ذاته غير مضاف البتة فهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة و لا أيضا شيء مضاف إليها بالذات فكيف يكون هذه الصورة المخالفة للآلة بالماهية آلة القوة العقلية في إدراك آلتها و حاكية لها؟ بل كيف يتحقق انطباع ثلاث صور متغايرة في محل واحد شخصى؟ و لا يخفى عليك أنّ التغاير بين الشيئين بالنوع أشدّ من التغاير بينهما بالعدد. فإذا لم يصحّ اجتماع المتغائرين بالعدد في محل شخصى واحد فإن لا يصحّ اجتماعهما بالنوع أولى. فإن لم تكن القوّة العقلية في تلك الآلة بل هي مجرّدة عن الأجسام فذلك هو المطلوب.
فهذا البرهان العظيم الدال على أنّ ما يدرك ذاته و آلته في الإدراك و إدراكه فهو بريء عن المادة و أحكامها، برهان واضح على أنّ المدرك بالآلة لا يجوز أن يدرك آلته في الإدراك. و لهذا أنّ الحس لا يدرك ذاته و لا آلته في الإدراك و لا إدراكه بل إنّما يدرك شيئا خارجا عن ذاته. و كذا الخيال لا يتخيّل ذاته و لا فعله أي إدراكه و لا آلته في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 190
الإدراك، بل إن تخيّل آلته تخيّلها لا على نحو يخصّها بأنّه لا محالة لها دون غيرها إلّا أنّ الحس أمكن أن يوجب تلك الخصوصيّة بأن يورد عليه صورة آلته فحينئذ يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شيء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيّله.
اعلم أنّ هذا البرهان في إثبات تجرّد القوّة العاقلة تام لا كلام فيه، إلّا أنّ في الابصار و الخيال تحقيقا أنيقا يأتى بعيد هذا، و ذلك التحقيق يؤكد تمامية البرهان و عظمه.
تبصرة: البرهان المذكور من الشفاء و النجاة، قد جعله الغزالى البرهان الرابع من كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس على حذو ما في الشفاء و النجاة. قال: البرهان الرابع أن نقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها انّما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية إلخ (ص 31، ط مصر).
تذكرة: قد علمت في شرح البرهان الأوّل من الشفاء أنّ البرهان الأوّل و السادس من نفس الشفاء من غرر البراهين التي حكمت بأنّ مدرك الصورة العقلية الكلّية أعنى بها النفس الناطقة جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام، كما قد دريت آنفا في أثناء شرح هذا البرهان أنّ الشيخ وصفه في النجاة بقوله هذا برهان عظيم. و قد أشرنا في أثناء شرح البرهان الأوّل أنّ الشيخ بدء في مختصر له موسوم بعيون الحكمة بالبرهان السادس من نفس الشفاء بتحرير آخر ثمّ أتى بالبرهان الأوّل من نفس الشفاء بالاختصار معنونا بقوله: و مما يوضّح هذا إلخ. فاعلم انّ البراهين التي في العيون ممّا يسهّل الخطب في فهم المراد منها على الوجه الذي حرّر كل واحد منها في الشفاء أو في كتاب آخر للشيخ. فنقول الشيخ أتى في الفصل السادس عشر من عيون الحكمة بمطالب أنيقة ثمّ أتبعها بتحرير عدة من البراهين على تجرّد النفس و الفصل في تلك المطالب و البراهين. فقال:
الفصل السادس عشر في الإنسان: و من الحيوان الإنسان يختص بنفس إنسانية تسمّى نفسا ناطقة، إذ كان أشهر أفعالها و أوّل آثارها الخاصّة بها النطق. و ليس يعنى بقولهم:
نفس ناطقة، أنّها مبدأ المنطق فقط، بل جعل هذا اللفظ لقبا لذاتها.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 191
و لها خواصّ: منها ما هو من باب الإدراك، و منها ما هو من باب الفعل، و منها ما هو من باب الانفعال. فأمّا الذي لها من باب الفعل في البدن و الانفعال (كذا- و لعل كلمة «و الانفعال» زائدة.) ففعل ليس يصدر عن مجرد ذاتها. و أمّا الإدراك الخاص ففعل يصدر عن مجرّد ذاتها من غير حاجة إلى البدن و لتفسّر كل واحد من هذه؛ فأمّا الأفعال التي تصدر عنها بمشاركة البدن و القوى البدنية فالتعقّل و الرؤية في الأمور الجزئيّة في ما ينبغى أن يفعل و ما لا ينبغى أن يفعل بحسب الاختيار. و يتعلّق بهذا الباب استنباط الصناعات العملية و التصرف فيها كالملاحة و الفلاحة و الصياغة و التجارة. و أمّا الانفعالات فأحوال تتبع استعدادات تعرض للبدن مع مشاركة النفس الناطقة كالاستعداد للضحك و البكاء و الخجل و الحياء و الرحمة و الرأفة و الأنفة و غير ذلك.
و أمّا الذي يخصها و هو الإدراك فهو التصوّر للمعانى الكلّية و بنا حاجة أن نصوّر لك كيفية هذا الإدراك فنقول:
إن كلّ واحد من أشخاص الناس مثلا هو إنسان، لكن له أحوال و أوصاف ليست داخلة في أنّه إنسان و لا يعرى هو منها في الوجود مثل حده في قده و لونه و شكله و الملموس منه و سائر ذلك فإنّ تلك كلّها و إن كانت إنسانية فليست بشرط في أنّه إنسان و إلّا لتساوى فيها كلها أشخاص الناس كلّهم، و مع ذلك فإنّا نعقل أنّ هناك شيئا هو الإنسان، و بئسما قال من قال إنّ الإنسان هو هذه الجملة المحسوسة فإنك لا تجد جملتين بحالة واحدة، و هذه الأحوال الغريبة تلزم الطبيعة من جهة قبول مادتها صورتها فإنّ كلّ واحد من أشخاص الناس تتفق له مادة على مزاج و استعداد خاص، و كذلك يتفق له وقت و زمان و أسباب أخرى تعاون على إلحاق هذه الأحوال للماهيّات من جهة موادّها.
ثمّ الحسّ إذا أدرك الإنسان فإنّه تنطبع فيه صورة ما للإنسان من حيث هي مخالطة هذه الأعراض و الأحوال الجسمانية و لا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها مجرّد ماهية الإنسانية حتى يكون ما يشاكل فيها نفس تلك الماهية، و هذا يظهر بأدنى تأمل؛
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 192
و الحس كأنّه نزع تلك الصورة عن المادّة و أخذها في نفسه لكن نزع إذا غابت المادة غاب و نزع مع العلائق العرضية الماديّة فإذن لا مخلص للحسّ إلى مجرّد الصورة.
و أمّا الخيال فإنّه يجرّد الصورة تجريدا اكثر من ذلك، و ذلك أنّه يستحفظ الصورة و إن غابت المادّة، لكن ما ينزع للخيال من الصورة المأخوذة عن الإنسان مثلا لا تكون مجرّدة عن العلائق الماديّة فإنّ الخيال ليس يتخيّل صورة إلا على نحو ما من شأن الحس أن يؤدّي إليه.
و أمّا الوهم فإنّه و إن استثبت معنى غير محسوس فلا يجرّده إلّا متعلّقة بصورة خياليّة، فإذن لا سبيل لشيء من هذه القوى أن تتصوّر ماهية شيء مجرّدة عن علائق المادّة و زوائدها إلّا للنفس الإنسانية فإنّها التي تتصور كل شيء بحدّه كما هو منفوض عنه العلائق الماديّة و هو المعنى الذي من شأنه أن يوقع على كثيرين كالإنسان من حيث هو إنسان فقط فإذا تصور هذه المعانى تعدى التصور إلى التصديق بأن يؤلف بينها على سبيل القول الجازم فالشيء في الإنسان الذي تصدر عنه هذه الأفعال تسمّى نفسا ناطقة، و له قوتان:
إحداهما معدّة نحو العمل و وجهها إلى البدن و بها يميّز بين ما ينبغى أن يفعل و ما يحسن و يصحّ من الأمور الجزئية و يقال له العقل العملي و يستكمل في الناس بالتجارب و العادات، و الثانية قوّة معدّة نحو النظر و العقل الخاص بالنفس و وجهها إلى فوق و بها ينال الفيض الإلهى.
و هذه القوّة قد تكون بعد بالقوّة لم تعقل شيئا و لم تتصوّر بل هي مستعدّة لأن تعقل المعقولات، بل هي استعداد ما للنفس نحو تصوّر المعقولات، و هذا المسمى العقل بالقوّة و العقل الهيولانى.
و قد تكون قوّة أخرى أخرج منها إلى الفعل، و ذلك بأن يحصل للنفس المعقولات الأولى على نحو الحصول الذي نذكره، و هذا المسمّى العقل بالملكة، و درجة ثالثة هي أن تحصل للنفس المعقولات المكتسبة فتحصل النفس عقلا بالفعل، و نفس تلك المعقولات تسمى عقلا مستفادا.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 193
و لأنّ كل ما يخرج من القوّة إلى الفعل فإنّما يخرج لشيء يفيده تلك الصورة فإذن العقل بالقوة أنّما يصير عقلا بالفعل بسبب يفيده المعقولات و يتصل به أثره، و هذا الشيء هو الذي يفعل العقل فينا، و ليس شيء من الأجسام بهذه الصفة فإذن الشيء عقل بالفعل و فعّال فينا فيسمى عقلا فعّالا و قياسه من عقولنا قياس الشمس من أبصارنا فكما أنّ الشمس تشرق على المبصرات فيوصلها بالبصر كذلك أثر العقل الفعّال يشرق على المتخيّلات فيجعلها بالتجريد عن عوارض المادّة معقولات فيوصلها بأنفسنا.
فنقول: إنّ إدراك المعقولات شيء للنفس بذاتها من دون آلة لأنّك قد علمت أنّ الأفعال التي بالآلة كيف ينبغى أن تكون، و نجد أفعال النفس مخالفة لها، و لو كان يعقل بآلة لكان يعقل الآلة دائما لأنّها لم تخل إمّا أن تعقل الآلة بحصول صورة الآلة، أو بحصول صورة أخرى، و محال أن يعقل الشيء بصورة شيء آخر فإذن يعقله بصورته فإذن يجب أن تحصل صورته، و حصول صورته لا يخلو من وجوه:
إمّا أن تحصل الصورة في نفس النفس مباينة للآلة، أو تحصل الصورة في نفس الآلة، أو تحصل الصورة فيهما. جميعا: فإن كانت الصورة تحصل في النفس و هي مباينة فلها فعل خاص لأنّها قد قبلت الصورة من غير أن حلّت تلك الصورة معها في الآلة، فإن كان حصول الصورة في الآلة فيجب أن يكون العلم بها دائما إذا كان العلم بحصول الصورة في الآلة، و إن كان بحصولهما في كليهما فهذا على وجهين: أحدهما أن يكون إذا حصل في أيّهما كان حصل في الآخر لمقارنة الذاتين فيجب أن يكون إذا كانت في الآلة صورتها أن تكون أيضا في النفس إذا كانت بمقارنة الذاتين فيكون حينئذ العلم يجب أن يكون دائما، أو يكون يحتاج أن تحصل صورة أخرى من الرأس فتكون في الآلة صورتان مرّتين، و محال أن تكثر الصور إلّا بموادّها و أعراضها، و إذا كانت المادة واحدة و الأعراض واحدة لم تكن هناك صورتان بل صورة واحدة؛ ثمّ إن كان الصورتان فلا يكون بينهما فرق بوجه من الوجوه فلا ينبغى أن يكون أحدهما معقولا دون الآخر؛ و إن سامحنا و قلنا إنّ الصورة وحدها لا تتهيّأ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 194
أن تكون معقولة ما لم نجد صورة أخرى فلا بدّ من أن نقول حينئذ إنّ كل واحدة من الصورتين معقولة فإذن لا يمكن أن تعقل الآلة إلّا مرّتين و لا يمكن أن تعقل مرّة واحدة؛ فإن كان شرط حصول الصورتين فيهما ليس على سبيل الشركة بل على سبيل أن يحصل في كل واحد منهما صورة ليست هي بالعدد التي هي في الأخرى رجع الكلام إلى أنّ للنفس بانفرادها صورة و قوى ما؛ فقد بان من هذا إنّ للنفس أفعالا خاصّة و قبولا للصورة المعقولة لا تنطبع تلك الصورة في الجسم فيكون جوهر النفس بانفراده محلّا لتلك الصورة.
تبصرة: قد سلك الشيخ على وزان هذا المسلك من عيون الحكمة في كتابه الفارسى دانشنامه علائى أيضا.
تبصرة: الحجتان الثالثة و الرابعة من سابع الإشارات هما مأخوذتان من البرهان السادس من الشفاء و مؤولتان إليه على التفصيل الذي يلى ذكره:
الحجة الثالثة من الفصل الرابع من النمط السابع من الإشارات على تجرّد النفس الناطقة في الحقيقة مستخرجة من البرهان السادس المذكور من الشفاء ثمّ على سياق ما في الإشارات جعلت في الزبر الحكمية حجة على تجرّدها بتقريرات أخرى يقرب بعضها من بعض. ثمّ أورد عليها بعض الاعتراضات سنتلوها عليك مع أجوبتها الشافية.
أمّا تقرير الشيخ في الإشارات فهو ما يلى:
زيادة تبصرة، ما كان فعله بالآلة و لم يكن له فعل خاصّ لم يكن له فعل في الآلة، و لهذا فإنّ القوى الحساسة لا تدرك آلاتها بوجه، و لا تدرك إدراكاتها بوجه لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها و إدراكاتها، و لا فعل لها إلّا بآلاتها و ليست القوى العقلية كذلك فانّها تعقل كلّ شيء انتهى.
أقول: هذه الحجة مذكورة في طهارة الأعراق لابن مسكويه ايضا. و هي الحجة الثانية في معتبر أبى البركات على تجرّد النفس (ج 2، ص 357، ط حيدرآباد)؛ و الدليل الثامن من مباحث الفخر على ذلك (ج 2، ص 371، ط حيدرآباد)؛ و الوجه الخامس من تجريد المحقق الطوسى (ص 186، بتصحيح الراقم و تعليقاته عليه)؛ و الحجة الثامنة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 195
من نفس الأسفار (ج 4، ص 73، ط 1)؛ و الدليل الخامس من الحكمة المنظومة للحكيم السبزوارى (ص 302، ط اعلى)؛ و البرهان الخامس من أسرار الحكم للحكيم المذكور (ج 1، ص 246، بتصحيح الأستاذ العلّامة الشعرانى).
قال المحقق الطوسى في شرح الفصل المذكور من الإشارات ما هذا لفظه:
هذه حجة ثالثة و هي أوضح من المذكورتين قبلها. و هي مبنية على قضية واضحة هي أنّ كل فاعل ليس له فعل إلّا بتوسط آلة فلا فعل له في شيء لا يمكن أن يتوسط آلته بينه و بين ذلك الشيء، و يتفرع منه مقدمة هي كبرى هذه الحجة و هي قولنا: كل مدرك بآلة جسمانية فلا يمكنه أن يدرك ذاته و لا آلته و لا إدراكه فإنّ الآلة الجسمانية لا يمكن أن تتوسط بينه و بين هذه الأمور؛ و صغراها قولنا: و العاقلة مدركة لذاتها، و لإدراكاتها، و لجميع ما يظن أنّها آلاتها؛ و النتيجة قولنا: فليست العاقلة مدركة بآلة جسمانية. و اعتراض الفاضل الفاضل الشارح على ذلك بتجويز تعلق المدركة الجسمانية بنفسها و بما عداها مندفع بما مر في النمط السادس من امتناع صدور الأفعال عن القوى الحالّة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. و الشيخ أنّما تمثّل بالقوى الحسّاسة التي لا يمكن لها أن تدرك أنفسها، و لا آلاتها و لا إدراكاتها لإيضاح فساد الحكم على القوى الجسمانية المدركة بإدراك كل شيء. انتهى كلامه في الشرح.
بيان: قول الشيخ: «و لم يكن له فعل في آلة». المراد من الفعل هاهنا الإدراك و التعقل. و قوله: «لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها» أي لأنّ القوى الحسّاسة لا آلات لها تتوسط تلك الآلات بين القوى الحسّاسة و آلاتها و إدراكاتها. و ممّا أفاد القطب في المحاكمات في بيان حاصل الحجة أنّ القوة العاقلة تدرك نفسها و إدراكاتها و آلاتها، و كلّ قوة لا تدرك إلّا بالآلة لا تدرك نفسها و لا آلاتها لامتناع أن يتوسط الآلة بين الشيء و نفسه، و بين الشيء و إدراكاته، و بينه و بين الآلة. و يمكن أن توجه بقياس استثنايى فيقال: لو كانت القوّة العاقلة لا تدرك إلّا بالآلة لما عقلت نفسها و لا إدراكاتها و لا آلتها لكنها تعقل نفسها و إدراكاتها و جميع ما يظنّ به أنّه آلتها كالقلب و الدماغ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 196
فليست القوّة العاقلة مما لا تدرك إلّا بالآلة. و قوله: «لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها» و إلّا لزم التسلسل في الآلات.
قول المحقق الشارح: «مندفع بما مرّ في النمط السادس» كما أنّ الشيخ بعد البحث عن تأثير المقارنات و تأثرها من النمط السادس قال في الفصل السادس و الثلاثين منه المعنون بقوله: «تذنيب قد استبان أنّه ليست الأجسام ...» ما هذا لفظه:
و أنت إذا فكّرت مع نفسك علمت أنّ الأجسام أنّما تفعل بصورها، و الصور القائمة بالأجسام و التي هي كمالية لها أنّما تصدر عنها أفعالها بتوسط ما فيها قوامها إلخ.
و أقول: يعنى بالتي هي كمالية لها الأعراض و النفوس. أمّا الأعراض فالأمر فيها بين من كونها كمالات ثانية. و أمّا النفوس فلأنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعى آلى ذى حيوة بالقوّة كما تقدّم في العين الثانية. و المراد من صدور أفعالها عنها بتوسط ما فيها قوامها، صدورها عن الأجسام من حيث أفعالها الآلية لا مطلق أفعالها كالتعقل و إدراك ذاتها و آلاتها و ذلك لأنّ النفوس الإنسانية من المفارقات بل الحيوانية أيضا لها تجرّد برزخى. و أمّا في الأعراض فصدورها عنها بتوسط ما فيها قوامها مطلقا.
و قوله: «و الشيخ أنّما تمثل ...» يعنى لما كان عدم إدراك القوى الحساسة أنفسها و آلاتها و إدراكاتها أمرا واضحا تمثل الشيخ بها لإيضاح فساد الحكم على القوى الجسمانية المدركة، بأنّها مدركة كل شيء؛ لا أن الشيخ أثبت مدّعاه بالتمثيل المنطقى حيث تمسّك بالقوى الحساسة، و بالجملة أنّ التمسّك بها على سبيل التمثّل لا على سبيل التمثيل.
اعلم أنّ صاحب المعتبر و كذلك صاحب المباحث قد اعترضا على الحجة و أطالا في الاعتراض بلا طائل تحته. و صاحب الأسفار بعد تقرير الحجة على سياق ما في المباحث أجاب عن اعتراضه مع ما فيه من مزيد استبصار في تجرّد الخيال أيضا.
فنذكر ما في المباحث أوّلا، ثمّ نتبعه بما في الأسفار، و بعد ذلك نحكى تقرير ما في المعتبر، ثمّ نهدى اليك جواب اعتراضه. قال في المباحث:
الدليل الثامن قالوا: النفس غنية في أفعالها عن المحلّ، و كل ما كان غنيا في فعله عن
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 197
محل يحلّه فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن محل يحلّه، فالنفس غنية عن المحل.
أمّا بيان أنّ النفس غنية في فعلها عن المحلّ فوجوه ثلاثة:
الأوّل أنّها تدرك نفسها، و من المستحيل أن يكون بينها و بين ذاتها آلة فهي في إدراك ذاتها غنية عن الآلة.
الثانى أنّها تدرك إدراكها لنفسها و ليس ذلك بآلة.
الثالث أنّها تدرك آلتها التي تدعى لها، و ليس بينها و بين آلتها آلة أخرى فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة و المحلّ، و كل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن المحلّ لوجهين:
أحدهما أنّ القوى النفسانية لما كانت جسمانية، و كانت محتاجة في ذاتها إلى محالّها لا جرم تعذر عليها إدراك ذواتها و إدراك إدراكاتها و إدراك آلتها فلو كانت القوّة العاقلة جسمانية لتعذر عليها ذلك.
و ثانيهما أنّ مصدر الفعل هو الذات فلو كانت الذات متعلقة في قوامها و وجودها بذلك المحل كان الفعل صادرا عن تلك الجهة فيكون للجهة المتعلقة بذلك الفعل مدخل في ذلك الفعل فيكون الفعل بمشاركة ذلك المحلّ و قد فرض انّه ليس كذلك فظاهر أنّ النفس غنية عن المادة.
و لقائل أن يقول: لم قلتم أنّ القوّة العاقلة لمّا كانت وحدها هي المدركة لذاتها، و لإدراكها لذاتها، و لإدراكها لآلتها وجب أن لا تكون جسمانية فأمّا قولكم إنّ القوى الحساسة لمّا كانت جسمانية تعذر عليها ذلك فالقوّة العاقلة لو كانت جسمانية لتعذر عليها ذلك.
فنقول: لم قلتم إنّ تلك القوى أنّما تعذر عليها هذه الإدراكات لكونها جسمانية، و هل هذا إلّا من باب التمثيلات التي بيّنوا فسادها في المنطق؟
و أمّا قولهم: ما لا يتوقف في اقتضائه لآثاره على المحل لا يتوقف في ذاته على المحل، فنقول: أ ليس أنّ الصور و الأعراض محتاجة إلى محالّها، و ليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرد ذواتها ثمّ لا يلزم من استقلالها باقتضاء ذلك الحكم استغناؤها في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 198
ذواتها عن تلك المحال فعلمنا أنّه لا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من الاحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل. بل نقول: إنّ جميع الآثار الصادرة عن الأجسام و مباديها قوى و أعراض معدودة في تلك الأجسام و ليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضاء تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام و الأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل باقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض وحدها، ثمّ لا يلزم من انفرادها باقتضاء تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها فكذلك هاهنا. انتهى كلام الفخر.
و أقول: إنّه أجاد في تقرير الحجة. و أمّا قوله في الاعتراض: «و هل هذا إلّا من باب التمثيلات» فقد دريت آنفا أنّه من باب التمثّل لا التمثيل. و أمّا قوله: «ليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها» فمراده أنّ الصور و الأعراض مع احتياجها في ذواتها إلى محالّها ليست في فعلها محتاجة إليها بل صدور الفعل منها بمجرّد ذواتها، و أنت قد دريت آنفا أيضا امتناع صدور الأفعال عن الأمور الحالة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. و قد حان أن نذكر ما أفاده صاحب الأسفار في الحجة من تقريرها الأمتن، و استنباطه التجريد الأعم، و جوابه عن اعتراضات المباحث فهي ما يلى:
الحجة الثامنة أنّ النفس غنية في فعلها عن البدن، و كل غنى في فعله عن المحلّ فهو غنىّ في ذاته عنه، فالنفس غنيّة عن المحلّ. أمّا أنّها غنية في فعلها عنه فلوجوه ثلاثة:
أحدها أنّه يدرك ذاتها، و من المستحيل أن يكون بينها و بين ذاتها آلة، فهي في إدراكها ذاتها غنية عن الآلة.
و ثانيها أنّها تدرك إدراكها لنفسها و ليس ذلك بآلة.
و الثالث أنّها تدرك آلتها و ليست بينها و بين آلتها آلة أخرى. فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة و المحل، و كلّ ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ؛ و ذلك لأن كون الشيء فاعلا متقوّم بكونه موجودا، فلو كان الوجود متقوما بالمحل لكان الفعل متقوما أيضا به لأنّ الإيجاد فرع الوجود و الفعل بعد الذات، فحاجة الذات و الوجود إلى شيء يستلزم حاجة الإيجاد و الفعل إليه من غير عكس. و لهذا لا يفعل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 199
شيء من القوى الجسمانية إلّا بمشاركة الجسم. و لأجل كون الحواس و غيرها من القوى الجسمانية الوجود لا تدرك ذاتها و لا إدراكها لذاتها و لا إدراكها لآلتها فلو كانت النفس جسمانية لتعذر عليها ذلك و قد ثبت أنّها ليس كذلك فثبت أنّها غير جرمية.
أقول: هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن سواء كانت قوّة عاقلة بالفعل، أو كانت متخيلة؛ إذ للخيال أيضا أن يتخيّل ذاتها و آلتها و يفعل فعلها من غير مشاركة البدن؛ و لهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى ممّا لا يكون بينها و بينه علاقة وضعية بالقرب و البعد. فعلم أنّ فعلها ليس بآلة بدنية و إن كان محتاجا إلى البدن في الابتداء كحاجة العقل إليه أيضا من جهة الإعداد و تخصيص الاستعداد.
و اعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان بوجهين: الأوّل بأنّ الصور و الأعراض محتاجة إلى محالّها، و ليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها، ثمّ لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذاتها عن تلك المحال.
الثانى أنّ جميع الآثار الصادرة من الأجسام مباديها قوى و أعراض في تلك الأجسام، و ليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضائها تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام، و الأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل في اقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض و القوى الحالّة وحدها، ثمّ لا يلزم من استقلالها و انفرادها في تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها في الوجود.
أقول في الجواب: أما عن الأوّل فإنّ الاحتياج و الإمكان و ما أشبهها أمور عقلية و أحكام ذهنية تعرض الماهيات بحسب ملاحظة الذهن إيّاها من حيث هي هى.
و الكلام في الأفعال و الأحكام الخارجية و الصور الحالّة و الأعراض، حاجتها إلى المواد و الموضوعات ليست أمرا زائدا على وجوداتها، و وجوداتها متقوّمة بالمحلّ، فكيف تكون مستغنية عن المحل بنفسه ما به الحاجة إلى المحلّ أعنى الوجود الحلولى؟
و أمّا عن الثاني فإنّا لا نسلّم أنّ محالّ القوى و الأعراض لا دخل لها في التأثير، كيف و التأثير يحتاج إلى وضع خاصّ و نسبته معينة للمؤثر بالقياس إلى المتأثر، و الوضع
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 200
لا يقوم إلّا بالجسم. و الذي يذكر في الطبيعيات أنّ الجسم بما هو جسم لا يكون سببا لفعل خاص كحرارة أو برودة أو شكل أو حركة و إلّا لكان جميع الأجسام متشاركة فيه، لا ينافي هذا الحكم إذ المراد بنفي السببيّة عن الأجسام نفى سببيّتها بالاستقلال لا نفى سببيتها مطلقا و إن كانت بالجزئية و الدخول حتى لو فرض الحرارة مجرّدة عن الأجسام لكانت فاعلة لهذه السخونة؛ و السواد لو فرض تجرّده عن الأجسام لكانت أيضا قابضا للبصر، كيف و المسألة أعنى كون تأثير القوى الحالّة في محلّ بمشاركته برهانية قطعيّة لا يتطرق في مقدّماتها شك أصلا.
انتهى كلام صاحب الأسفار. قوله: «هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن» يعنى عن البدن الطبيعى، لا عن البدن مطلقا و ذلك لما ثبت بالبراهين القاطعة من أنّ النفس لا تخلو عن أبدان متفاوتة بالكمال و النقص بحسب نشئاتها و هي لا تنافي تجرّدها. و قوله: «و لهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى» و هي كجبل من ياقوت و بحر من زيبق و نحوها. و كلامه هذا إشارة إلى الحجة الأولى التي عوّل عليها أفلاطون الإلهي على تجرّد النفس و قد تقدّم نقلها و بيانها فتذكّر.
و قوله: «و اعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان» أى على قوله و كل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ.
و قوله: «من استقلالها بهذا الحكم» المراد من الحكم هذا، هو الاحتياج إلى المحلّ.
و أمّا ما في المعتبر من تقرير الحجة و الاعتراض عليها، فالتقرير موجز مفيد، و الاعتراض مدفوع بما يأتى من وجه الدفع. قال في التقرير:
احتجوا على أنّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم ... و بأنّ القوى الجسمانية المذكورة لا تدرك ذواتها و آلاتها، و النفس الناطقة التي هي عقل الإنسان، تعقل ذاتها، و البدن الذي هو آلتها، و سائر أجزائه و أعضائه التي هي آلات خاصّة لكل صنف من أفعالها.
ثمّ أخذ في الاعتراض عليها بقوله:
و أمّا القائلة بأنّ القوى الجسمانية لا تدرك ذواتها و آلاتها، فجوابها أنّ هذا الإدراك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 201
إن كان من المدرك للمدرك بغير واسطة فلا القوة الباصرة و لا العقل يدركان آلتيهما، و إن كان بواسطة فالعقل يدرك آليته و يعرفها بعلم فيه حدود وسطى، و دلائل هي الوسائط في العلم، و العين أيضا تبصر ذاتها، بل القوّة الباصرة تبصر العين التي هي آلتها بواسطة كالمرآة، و تلك الواسطة في الدلالة للقوّة العاقلة كالمرآة في الإبصار للباصرة. و يبقى إدراك الذات متشابها في الإدراكات الحسية و العقلية، فإن كان المدرك فيها كلها نفس الإنسان الواحد كما قلنا فهي تدرك ذاتها، و أنها أدركت في كل ما يدرك و مع كل إدراك فتبصر و تسمع و تشعر بذاتها و إبصارها و سمعها و أنّها أبصرت و سمعت فإنّ الإنسان يشعر من ذاته بذاته في سائر أفعاله الإرادية و إدراكاتها و إن كانت المدركات الحسية قوى أخر غير ذات النفس فهي غير ذات الإنسان الذي يعرض حال نفسه على نفسه فيعلم حاله و لا يعلم حالها في ذلك و هل تدرك ذواتها أم لا لأنّها غير ذاته و هو يشعر بحال ذاته من ذاته و لا يلزم أن يشعر بحال غيره من ذاته. فأما حديث الآلة فما لا يدرك إلّا بآلة معيّنة لا يدرك بسواها لا يدرك الآلة فإنّ الإنسان إذا كان لا يبصر إلّا بعينه و أن كان هو الباصر فلا عين له يبصر بها عينه.
و كذلك لا يبصر ذاته بعينه لأنّ العين لا تتوسط بينه و بين ذاته و كيف و نفسه غير مرئية بالعين و لا بشيء من الحواس لأنّها ليست من جنس ما يدرك بالحواس فلا هي لون تراه العين، و لا صوت تسمعه الأذن، و لا حرارة يحسّها اللمس، و نسبتها إلى الحواس كنسبة الصوت إلى العين، و اللون إلى الأذن، و الألوان هي التي يدركها البصر أولا و بالذات و يدرك من أجلها ذوات الألوان فما ليس بلون و لا ذى لون لا يدركه البصر بالذات و لا بالعرض فمن طلب أن يرى نفسه بعينه فما عرف نفسه و لا عينه.
أمّا الجواب عن الاعتراض فنقول: قوله: «فلا القوّة الباصرة و لا العقل يدركان آلتيهما» لو لم يدرك جوهر العقل أى النفس الناطقة آلاته بذاته فكيف يستعمل كل واحدة منها فيما خلقت لأجله بحيث لا تعصيه ما أمره و تفعل ما أمرت به؟ ثمّ كيف يتصور توسط الآلة بينه و بين آلاته و يلزم من التفوه بالتوسط تسلسل الآلات، فضلا؛ عن توسطها بينه و بين إدراكه ذاته؟ فلا يكون إدراك الذات متشابها في الإدراكات
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 202
الحسية. ثمّ إنّ إدراك جوهر النفس ذاته أى علمه بنفس ذاته علم شهودى، و العلم الذي فيه حدود وسطى و دلائل هي الوسائط في العلم هو علم فكري فأين أحدهما من الآخر؟. و قوله: «فإن كان المدرك فيها كلها نفس الإنسان الواحد ...» نعم مدرك جميع الإدراكات الحسية و العقلية هو جوهر النفس الناطقة، و جميع أفعال الإنسان مستند إلى هوية واحدة و هي ذات نفسه ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (الأحزاب 5) ثمّ انّ إسناد كل واحد من الأفعال الحسيّة إلى آلة معيّنة و صدوره عنها لا يخرجه عن الإسناد إلى الهوية الواحدة فإنّ قوى النفس كلها من شئونها. و جوهر النفس له فعلان أحدهما لا يحتاج فيه إلى آلات و إن كانت في بدء الأمر معدّات لاعتلائه الوجودى و ارتقائه النورى و ذلك كتعقله و علمه بذاته و تلقّيه الحقائق من صقع الملكوت؛ و الآخر ما يفتاق فيه إليها و ذلك كتعلّقه بالأشياء الخارجية الطبيعية. و لا يخفى عليك أنّ تلك الاعتراضات كأنها خزعبلات اشتغل بها صاحب المعتبر، و الحكيم لا يتفوّه بها، و الفيلسوف الإلهي بمعزل عنها، نعم من كان متفلسفانيّا لا بأس به.
و أمّا تقرير الحجة على ما في تجريد الاعتقاد و شرحه كشف المراد فنقول: المحقق الطوسي أشار إليها موجزا على دأبه في التجريد بقوله: «و هي جوهر مجرد ....
و لاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض» و عنى بالعارض التعقل، و بالمعروض النفس. و كلام الشارح العلّامة في بيانه هو نحو ما تقدّم من شرح المحقق الطوسى على الإشارات في بيان الحجة، و مع ذلك لعلّ في نقل عبارة الكشف مزيد إيضاح فيها، قال:
هذا وجه خامس يدلّ على تجرّد النفس العاقلة، و تقريره: أنّ النفس تستغنى في عارضها و هو التعقّل عن المحل، فتكون في ذاتها مستغنية عنه لأنّ استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض لأنّ العارض محتاج إلى المعروض، فلو كان المعروض محتاجا إلى شيء لكان العارض أولى بالاحتياج إليه فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض. و بيان استغناء التعقّل عن المحلّ أنّ النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة، و كذا تدرك آلتها، و تدرك إدراكها لذاتها و لآلتها، كلّ ذلك من غير آلة متوسطة بينها و بين هذه المدركات فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها و لآلتها و لإدراكها عن
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 203
الآلة فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا. فقوله رحمه اللّه: «و لاستلزام استغناء العارض» عنى بالعارض هنا التعقل؛ و قوله: «استغناء المعروض» عنى به النفس التي يعرض لها التعقل. انتهى ما في الكشف. و لا يخفى عليك أنّ تقرير الحجة متنا و شرحا تام، إلّا أنّ التعبير بالعارض و المعروض فقد دريت ما فيه مرارا.
و أمّا بيان الحجة على ما في الحكمة المنظومة للمتأله السبزوارى فقال:
كذا الغنى فعلا كدرك الذات |
و درك درك الذات و الآلات |
|
ثمّ شرحه بقوله:
و الخامس قولنا: كذا الغنى عن المادة للنفس فعلا أي في الجملة و في بعض الأفعال.
انّما قلنا في الجملة و في بعض الأفعال إذ من المتقررات أنّ النفس جوهر مفارق في ذاته دون فعله عن المادة فهو محتاج في فعله إليها؛ و في الموضعين تحقق الطبيعة بتحقق فرد ما و انتفائها بانتفاء جميع الأفراد. كدرك الذات أي درك النفس ذاتها، و درك درك الذات، و درك الآلات كالقوى. بيانه أنّ النفس غنية في فعلها عن المحلّ، و كل غنى في فعله عن المحل غنى في ذاته. أمّا الصغرى فكما في الأمثلة المذكورة.
إن قلت: كيف يكون إدراك النفس ذاتها أو إدراك إدراكها فعلها و هما حضوريان ليسا زائدين على ذاتها و الشيء لا يكون فعلا لنفسه؟ قلت: قد اقتفينا في ذلك أثر صدر المتألهين قدّس سرّه و الوجه أنّ ذاتها و إدراكها لذاتها و إنّ اتّحدا مصداقا إلّا أنّهما اختلفا مفهوما؛ و هذا القدر كاف إذ الأحكام تختلف باختلاف العنوانات، كيف و العلية على ما هو التحقيق هي التشؤن و الوجود سابق على كل التعيّنات. و أمّا الكبرى فلأنّه لو احتاج في ذاته لاحتاج في فعله إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد. انتهى بيانه الشريف.
قوله: «فكما في الأمثلة المذكورة» يعنى بها إدراك النفس ذاتها، و إدراك إدراكها، و إدراكها آلاتها. و قد أفاد في أثناء التقرير نكتة سامية في معنى من معانى «من عرف نفسه فقد عرف ربه». و ذلك لأنّ قوى النفس بل بدنها من شئونها، فهي عالية في دنوّها و دانية في علوها فأين التكثر و التعدّد حتى يقال: إنّ ذلك فاعل و إن هذا فعله؟ فأجاب بأنّ الوجه أنّ ذاتها إلخ، فمن عرف نفسه عرف سر قوله (سبحانه): هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 204
وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ، قوله (تعالى شأنه) وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ و خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، و نحوها.
و قوله: «قد اقتفينا في ذلك إلخ». أقول: إنّ ذلك القول الفصل تجده في صحف السابقين من مشايخ العرفان كثيرا مثل ما قال القيصرى في الفصل الأوّل من شرحه على فصوص الحكم: «و ايجاده للأشياء اختفاؤه فيها مع اظهاره إيّاها (ص 7، ط 1- ايران). و مثل ما أفاد من تحقيق رشيق صائن الدين على بن تركه في آخر مقدمته على تمهيد القواعد في شرح قواعد التوحيد حيث قال:
إنّ الوجود الواحد الحق الظاهر بنوره الذاتى الذي هو المتجلى له باعتبار غيب هويته المطلقة، و إذا اعتبرت التعددات الظاهرة في مجلاه التي هي عبارة عن تعدد شئون المتجلّى حصل هناك باعتبارها في الحضرتين أربع اعتبارات: و وحدة و كثرة حقيقيتان، و وحدة و كثرة نسبيّتان اعتباريّتان؛ فمتى اعتبرت الوحدة الحقيقية في الحضرتين المذكورتين المتميزتين بنسبتى البطون و الظهور قيل حق، و إن اعتبرت الكثرة الحقيقية فيهما قيل خلق و سوى و مظاهر و صور و شئون و نحو ذلك.
إلخ. (ص 20 و 21 ط 1- ايران).
فالوجود الواجب الواحد الصمدى تعيّنه و امتيازه بذاته لا بتعين زائد عليه إذ كما أنّه لا مبدأ للوجود الواحد الحق الصمدى كذلك ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه شيء و يتميز عنه بشيء إذ لا يتصور بعد الوجود الصمدى ثان. و ذلك لا ينافي ظهوره في مراتبه المتعينة، بل هو أصل جميع التعيّنات الصفاتية و الأسمائية، و المظاهر العلمية بالفيض الأقدس، و المظاهر العينية بالفيض المقدس. نعم إنّ تميّزه عن ما سواه في التوحيد القرآنى أنّما هو بالتعين الإحاطى و تميز المحيط عن المحاط لا بالتقابلى منهما. و هذه الدقيقة قد أفادها صائن الدين على في عدة مواضع من تمهيد القواعد، منها في الفصل السابع عشر منه. و هو مطلب سام جدا في بيان التوحيد القرآني قد حرّرناه مستشهدا بالآيات القرآنية و الروايات المأثورة عن بيت آل الوحى عليه السّلام في رسالتنا الفارسية المسماة ب وحدت از ديدگاه عارف و حكيم (ص 64، 75، ط 1) و نكتفى هنا بذكر ما في التمهيد، قال:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 205
التعين أنّما يتصور على وجهين إمّا على سبيل التقابل له، أو على سبيل الإحاطة، لا يخلو أمر الامتياز عنهما أصلا. و ذلك لأنّ ما به يمتاز الشيء عمّا يغايره إمّا أن يكون ثبوت صفة للمتميز و ثبوت مقابلها لما يمتاز عنه كالمقابلات؛ و إمّا أن يكون ثبوت صفة للمتميز و عدم ثبوتها للآخر كتميز الكل من حيث إنّه كل، و العام من حيث إنّه عام بالنسبة إلى أجزائه و جزئياته. و أمارات التميز في القسم الأوّل منه لا بدّ و أن يكون خارجا عن المتعيّن ضرورة أنّها نسب أو مبادى نسب من الأمور المتقابلة؛ و في الثانى لا يمكن أن يكون أمرا زائدا على المتعيّن ضرورة أنّه بعد مه ينتفى الحقيقة المتعينة، و به صارت الحقيقة هي هى إذ حقيقة الكل أنّما تحققت كليته باعتبار إحاطته الأجزاء و بها يمتاز عن أجزائه. و كذلك العام أنّما يتحقق عمومه باعتبار إحاطته الخصوصيات و الجزئيات و جمعها تلك الخصوصيات و بها يمتاز عن خواصه و لا شك انّ الهيأة المجموعية و الصور الإحاطيّة التي للأشياء ليس لها حقيقة وراء اجتماع تلك الخصوصيات و أحدية جمعها، فحينئذ، نقول: انّ التعين الواجبى أنّما هو من هذا القبيل إذ ليس في مقابلته تعالى شيء و لا هو في مقابلة شيء. و إن شئت زيادة تحقيق لهذا المعنى أو إقامة بيّنة لهذه الدعوى فتأمل في قوله تعالى:
لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، حيث سرى النفى فيه متوجها إلى النوعين الوجوديّين من أنواع المتقابلات و أصنافها. و تأمّل في هذه النكتة فإنّها منطوية على معانى جمّة كثيرة الجدوى. (ص 54- 55، ط 1، ايران).
هذا ما عندنا من الفحص و التحقيق حول الحجة الثالثة من سابع الإشارات المستنبطة من سادس نفس الشفاء. بقي الكلام في الحجة الرابعة من سابع الإشارات المستنبطة من البرهان السادس من نفس الشفاء أيضا فنقول:
و كذلك الحجة الرابعة من خامس سابع الإشارات على تجرّد النفس في ذاتها و كمالاتها عن المادة و ما يتبعها، مستخرجة من البرهان السادس المذكور من الشفاء و مؤوّلة إليه، ثمّ تداولتها الأيادى فأتى بها رجال العلم في صحفهم الحكمية بتحريرات متقاربة بعضها من بعض، كلّها تقرير تلك الحجة المدوّنة في الإشارات. ثمّ بعضهم
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 206
اعترض عليها نقدا و ردّا كالفخر الرازى في المباحث و شرحه على الإشارات، و الدبيران الكاتبى في حكمة العين. و الحق أنّ الاعتراض غير وارد، و الحجّة قائمة على أصلها الحكيم. و بعضهم بيّن مبانيها أتم تبيين و ردّ النقد و الاعتراض عليها على أحسن وجه عليه المشاء كالمحقق نصير الدين الطوسى في شرحه على الإشارات. و بعضهم أحكمها بتحقيقات رشيقة و إشارات عرشية كصدر المتألهين في الأسفار. و بعضهم لخّصها على غاية الجودة و حسن الجزالة إمّا نثرا كالمحقق الطوسى في التجريد، و إمّا نظما و نثرا كالمتأله السبزوارى في الحكمة المنظومة، و نقله في أسرار الحكم أيضا مترجما بالفارسية و هو البرهان التاسع فيه و لنا حول كلماتهم إيماضات و توضيحات لعلّها تفيد زيادة استبصار في سبيل التحقيق فنقول: قال الشيخ في الإشارات:
زيادة تبصرة: لو كانت القوّة العقلية منطبعة في جسم من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقل له، أو كانت لا تتعقله البتة: لأنّها أنّما تتعقل بحصول صورة المتعقّل لها، فإن استأنفت تعقلا بعد ما لم يكن فيكون قد حصل لها صورة المتعقّل بعد ما لم تكن لها، و لأنها مادية فيلزم أن يكون ما يحصل لها من صورة المتعلّق من مادّته موجودا في مادته أيضا، و لأنّ حصوله متجدّد فهو غير الصورة التي لم تزل له في مادته لمادته بالعدد، فيكون قد حصل في مادّة واحدة مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان لشيء واحد معا و قد سبق بيان فساد هذا، فإذن هذه الصورة التي بها تصير القوة المتعقلة متعقّلة لآلتها تكون الصورة التي للشيء الذي فيه القوّة المتعقلة؛ و القوّة المتعقلة مقارنة لها دائما فإمّا أن تكون تلك المقارنة توجب التعقل دائما، أو لا تحتمل التعقل أصلا و ليس و لا واحد من الأمرين بصحيح.
بيان: الصواب أن نشرح كلام الشيخ المنقول من الإشارات شرحا مزجيا لكى لا يبقى إبهام في ما سيق له البرهان فنقول: لو كانت القوّة العقلية منطبعة في جسم من قلب و دماغ- إنّما اختصهما بالذكر لأنّها أشرف الأعضاء، و لأنّ الخصم قائل بأنّ القوّة العاقلة منطبعة في الدماغ- لكانت القوّة العقلية دائمة التعقل لذلك الجسم، أو كانت القوّة العقلية لا تتعقّل ذلك الجسم البتة، و ليس و لا واحد من الأمرين بصحيح و ذلك لأنّ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 207
العاقلة تعقل أعضائها منها ذلك الجسم، في وقت دون وقت. و ذلك لأنّ القوّة العقلية أنّما تتعقل بحصول صورة المتعقّل لتلك القوّة العقلية لأنّ الإدراك أنّما يكون بمقارنة صورة المدرك بالفتح للمدرك بالكسر. فإن استأنفت و تجدّدت القوّة العقلية تعقلا بعد ما لم يكن ذلك التعقل فيكون قد حصل للقوّة العقلية صورة المتعقّل بالفتح بعد ما لم تكن صورة المتعقل للقوّة العقلية؛ و لأنّ القوّة العقلية مادّية بالفرض و الأمور المادية أي الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فاذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها، فيلزم أن يكون ما يحصل للقوّة العاقلة من صورة المتعقّل بالفتح التي هي صورة المتعقل من مادته التي هي محل تلك الصورة المتعقلة موجودا في مادته أيضا، فقوله من مادته متعلق بالمتعقّل، و ذلك لأنّ المدرك على ممشى المشاء إن كان مدركا بذاته كانت المقارنة بحصول الصورة في ذاته، و إن كان مدركا بآلة كانت بحصولها في آلته و المفروض هاهنا الشق الثاني أي القوّة العقلية مدركة بالآلة؛ و لأنّ حصول ما يحصل للقوّة العقلية من صورة المتعقّل من مادته متجدد فهو أي ذلك الحصول المتجدد الذي هو صورة المتعقل غير الصورة التي لم تزل أي مستمرة له في مادة ما يحصل لمادته بالعدد أي غير الصورة لمادته بالعدد فقوله لمادته متعلق بالصورة، و قوله بالعدد متعلق بالغير.
قوله: «و لأنّ حصوله متجدد» في غير واحدة من نسخ مخطوطة من الإشارات عندنا جاءت العبارة هكذا: «و لأنّ حصولها متجدد» فعلى الأوّل يرجع الضمير إلى ما، و على الثانى إلى صورة المتعقل، و صورة المتعقل هو بيان ما فمآل الضميرين واحد؛ فيكون قد حصل في مادة واحدة هي الآلة أي محل القوّة العقلية من قلب أو دماغ، مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان متغايرتان لشيء واحد. و الشيء الواحد هو محل القوّة العقلية، و الصورتان إحداهما صورة الآلة المتجددة عند التعقل، و الأخرى صورة تلك الآلة المستمرّة الوجود حالتى التعقل و عدمه، و الحال أنّ الأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة: إمّا مادية كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع، أو غير مادية كتغاير الأنواع المتفقة بالجنس، أو بسبب اقتران البعض بشيء و تجرّد البعض
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 208
عنه و ذلك الشيء إمّا مادىّ و هو كتغاير الإنسان الجزئى للإنسان من حيث هو طبيعة، أو غير مادى كتغاير الإنسان الكلّى للإنسان من حيث هو طبيعة؛ و يتبين من ذلك امتناع تغاير الأشخاص المتفقة بالنوع كتغاير صورتى الآلة المذكورتين من غير تغاير الموادّ و ما يجرى مجريها على ما تبيّن في الفصل التاسع عشر من النمط الرابع حيث قال:
فائدة اعلم من هذا أنّ الأشياء التي لها حدّ نوعى واحد فإنّما تختلف بعلل أخرى إلخ.
و إليه أشار الشيخ بقوله: و قد سبق بيان فساد هذا. فاذن هذه الصورة التي بها تصير القوّة المتعقّلة متعقّلة لآلتها و محلّها تكون الصورة التي للشيء الذي فيه القوّة المتعقّلة و ذلك الشيء هو ذلك المحل و الآلة من قلب أو دماغ؛ و القوّة العاقلة أي المتعقلة مقارنة لها أي لتلك الصورة دائما فإنّ المفروض أنّ العاقلة كانت عاقلة لآلتها بالصورة المستمرّة الوجود معها، فحينئذ إمّا أن تكون تلك المقارنة توجب التعقل دائما أي تعقل القوّة العقلية آلتها التي هي محلها من قلب أو دماغ دائما، أو لا تحتمل التعقل أصلا، و ليس و لا واحد من الأمرين بصحيح و ذلك لأنّ القوّة العاقلة تعقل أعضائها و منها القلب و الدماغ في وقت دون وقت فكون العاقلة منطبعة في جسم كالقلب و الدماغ باطل فإذن هي مجرّدة عن المادة و أحكامها.
و جملة الأمر أن يسأل الخصم عن القوّة العاقلة هل هي مجرّدة عن الجسم و الجسمانيات، أم ماديّة؟ فإن كانت مجرّدة فهو المراد، و إن لم تكن مجرّدة فهي مادية منطبعة في جسم فنقول: لو كانت القوّة العاقلة منطبعة في جسم لكانت هي إمّا دائمة التعقل لذلك الجسم، أو غير متعقلة له في وقت من الأوقات، و ليس و لا واحد من الأمرين بصحيح بالحجة المذكورة فالحجة استثنائية من متصلة مؤلفة من حملية و منفصلة حقيقية. و الحملية هي قوله: «لو كانت القوّة العاقلة منطبعة في جسم»؛ و المنفصلة هي قوله: «لكانت هي إمّا دائمة التعقل لذلك الجسم أو غير متعقلة له في وقت من الأوقات». فقوله: «ليس و لا واحد من الأمرين بصحيح» استثناء لنقيض التالى بفساد قسمى المنفصلة معا، و هو كون الإنسان متعقلا لأعضائه في وقت دون وقت. هذا تقرير ما في الإشارات من الحجة المذكورة و شرحها بما استفدنا من شرح المحقق
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 209
الطوسى مع إضافات إيضاحية منّا.
و المحقق الطوسى في خامسة الرابع من المقصد الثانى في تجريد الاعتقاد جعل هذا البرهان المذكور من الإشارات المستخرج من الشفاء، برهانا رابعا لتجرّد النفس الناطقة و أوجز في تعبيره و أجاد فقال: «و هي جوهر مجرّد .... و لحصول عارضها بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا».
يعنى بالعارض التعقل. و بقوله: بالنسبة إلى ما يعقل محلا، ما يفرض محلا لذلك العارض من قلب أو دماغ كما يقوله جماعة من القائلين بعدم تجرّد النفس. و قوله:
منقطعا، صفة للمفعول المطلق المستفاد من الحصول أي حصولا منقطعا أي في وقت دون وقت. يعنى لو كانت النفس الناطقة حالّة في جسم فهو محلّها، لكانت دائمة التعقل له، أو كانت لا تعقله البتة و الحال أنّ تعقّلها له حاصل حصولا منقطعا لا دائما، بالبرهان المذكور.
و البرهان المذكور هو الدّليل السادس في الحكمة المنظومة أيضا. حيث قال الحكيم السبزوارى:
و إنّ بين الدرك دوما ما ارتبط |
من قابل و النفى رأسا لا وسط |
|
ثمّ قال في شرحه:
و السادس قولنا و انّ على تقدير المادّية بين الدرك أي درك النفس دوما أي دائما، ما مفعول الدرك، ارتبط بها من قابل بيان ما، و بين النفى أي نفى دركها قابلها رأسا لا وسط أي لا واسطة. بيانه: أنّ النّفس الناطقة لو كانت منطبعة في جسم كقلب أو دماغ أو غيرهما لكانت إمّا دائمة التعقل لذلك الجسم الذي هو قابله، أو غير عاقلة له رأسا، و لا واسطة بين شقّي هذه المنفصلة حينئذ لكنّ التالى باطل لأنّ تعقّل النفس لبدنها و لكل عضو عضو منه حاصل في وقت دون وقت. و أمّا بيان الملازمة فهو أنّه إمّا أن يكفى في تعقلها لذلك المحل حضوره بنفسه لها فتكون دائمة التعقل له، أولا بل تحتاج إلى صورة أخرى فيلزم اجتماع المثلين في مادة واحدة فيمتنع تعقّلها لمحلّها.
و الحاصل أنّه على تقدير المادية في النفس لا واسطة بين الشقّين فالملازمة حقة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 210
و الواسطة متحققة في الواقع فالتالى باطل (ص 303، ط 1).
ثمّ أورد مثل الكاتبى و الفخر الرازى على هذا البرهان العظيم بعض الشكوك، أجاب عنها المحقق الطوسى و صاحب الأسفار. على أنّ لصاحب الأسفار بعض التحقيقات العرشية في المقام. و لنا تعليقات إيضاحية على كلماتهم. فنأتى بها مزيدا للاستبصار و حسما لمادة تلك الشكوك الداحضة فنقول:
نقل الكاتبى في حكمة العين خمس أدلة على تجرّد النفس و هذا البرهان من الشفاء خامسها، ثمّ شرع في الاعتراض عليها. و قال العلّامة الحلّي في شرحه عليها ما هذا لفظه: «لما ذكر البراهين المنقولة عن القدماء شرع في الاعتراض عليها ...».
أقول: الظاهر من كلامه يستفاد أنّ البرهان المذكور من أوائل الحكماء الذين كانوا قبل الإسلام إلّا أنّ الشيخ ذكره في الشفاء بتحرير آخر.
و الكاتبى حرّر البرهان بقوله:
الخامس أنّ القوّة العاقلة لو كانت جسمانية لكانت حالّة في جزء من البدن، و هو محال و إلّا لكانت دائمة التعقل له، أو دائمة اللاتعقل، لأن صورة ذلك الجزء إن كانت كافية في تعقلها إيّام لزم الامر الأوّل، و إلّا لتوقّف إيّاه على حصول أخرى في مادته، لكن حصول تلك الصورة ممتنع لامتناع حصول صورتين مختلفتين في مادة واحدة فيلزم الأمر الثاني، فعلم أنّ القوّة العقلية مجرّدة عن المادة لكن لها حاجة إلى البدن و إلّا لما تعلّقت به.
ثمّ شرع في الاعتراض عليه بقول:
و أمّا الخامس فلا نسلّم أنّ صورة ذلك العضو إن لم تكن كافية في إدراك القوّة العاقلة إيّاه، توقف الإدراك على صورة أخرى حتى يمتنع اجتماعهما في تلك المادة، بل اللازم حينئذ توقف الإدراك على شيء آخر فيجوز أن يكون ذلك الشيء أمرا يجوز اجتماعه مع صورة ذلك العضو فيه. انتهى.
تقرير الاعتراض أن نقول: لم لا يجوز أن لا يكفى صورة العضو الذي جعل محلا للقوّة العقلية في تعقّل ذلك العضو؟
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 211
قوله: «يفتقر إلى حصول صورة أخرى مساوية للصورة الأولى و حينئذ يجتمع صورتان في محلّ واحد».
قلنا: لا يلزم من عدم الاكتفاء بالصورة الأولى افتقاره إلى صورة أخرى لجواز أن يتوقف الإدراك على حصول شرط غير حصول صورة ثانية فلا يلزم اجتماع صورتين لمعقول واحد.
أقول: انتهى تقرير الاعتراض. و العبارة من العلّامة الحلى في شرحه على حكمة العين، و بعد تقريره هذا اعترض على اعتراض الكاتبى بقوله:
و هذا الاعتراض ليس بجيّد لأنّ التعقل عندهم هو اقتران صورة المعقول بالعاقل، فتلك الصورة إن كانت هي الصورة المنطبعة في المادة لزم دوام التعقل بدوام تلك الصورة، و إن كانت صورة أخرى لزم اجتماع المثلين، و حينئذ لا يرد ما ذكره من الاعتراض لأنّه يخرج التعقل عن حقيقته التي هي الحصول من حيث هو حصول لا باعتبار اقتران أمر آخر و لا باعتبار عدمه.
ثمّ قال: بل الوجه أن يقال: إنّ الصورة الثانية حكاية للصورة الأولى و مثال لها، و ليست مساوية لها من كل وجه، فإنّ هذه الصورة عرض قائم بالنفس، و الأولى جوهر قائم بذاته فلا يلزم اجتماع المثلين في مادة واحدة. انتهى.
أقول: اعتراض العلّامة على الكاتبى حق، و الشيخ قال: «إنّ القوة العقلية أنّما تعقل آلتها لوصول صورة آلتها إليها، أي التعقل هو اقتران صورة المعقول بالعاقل»، كما قال أيضا: «إنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته. و إن كان أمر التعقل أرفع من التعبير بالاقتران و الحلول».
و العجب أنّ الكاتبى كيف غفل عن المراد؟ وهب أنّ تعقل العاقلة محلّها يتوقف على حصول شرط غير حصول صورة ثانية، و أمّا تعقّلها نفس صورة محلها بحصول ذلك الشرط، و تميزها عن محلها الذي هي منطبعة فيه فكيف ينبغى أن يتحقّق؟
ثمّ انّ الوجه الذي قرّره الشارح العلّامة ليس بوجيه أيضا و ذلك لأنّ الصورة الثانية إذا لم تكن مساوية للصورة الأولى من كل وجه فكيف تكون هي صورته المعلومة؟
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 212
و كيف يحصل العلم بالشيء. ثمّ انّ الصورة المعقولة ليست عرضا قائما بالنفس بل هي تصير متحدة بها وجودا و عينها كما تحقق في اتحاد العاقل بمعقوله. على أنّ تميز القوّة العاقلة عن محلها الشخصى المادّي كيف هو؟
بقي في المقام اعتراضات الفخر الرازى في المباحث و شرحه على إشارات الشيخ حول البرهان، و الجواب عنها، فنكتفى بنقل ما أوردها في المباحث فانها نحو ما في شرحه على الإشارات إلّا ما سنتلوه عليك، ثمّ نتبعه بجواب المحقق الطوسى و صاحب الأسفار عنها مع زيادة إفادات منّا حول كلماتهم فنقول:
هذا البرهان هو الدليل الرابع على تجرّد النفس الإنسانية في المباحث (ج 2، ص 362- 364، ط 1). و تقريره البرهان يوهم في جليل النظر العدول عن صوب الصواب. و ذلك لأنّه ثلّث التقسيم، و غيره ثنّاه و جعل الثالث استثناء لنقيض التالي بفساد قسمى المنفصلة معا على البيان الذي تقدم؛ و لكن دقيق النظر يحكم بعدم المنافاة بين التثليث و التثنية. فلا محيص إلّا بنقل تقريره أيضا و بيانه و إن كان فيه بعض التكرير بالنسبة إلى ما تقدّم من تقرير البرهان غير مرّة. قال:
الدليل الرابع: لو كانت القوّة العاقلة منطبعة في جسم مثل قلب أو دماغ لكانت إمّا أن تعقل دائما ذلك الجسم، أو لا تعقله قط، أو تعقله في وقت دون وقت. و الأقسام الثلاثة باطلة، فالقول بكونها منطبعة في الجسم باطل.
و بيان ذلك هو أنّ تعقل القوّة العاقلة لذلك الجسم إمّا أن يكون لأجل أنّ صورة الآلة حاضرة عند القوّة العاقلة، أو لأجل أنّ صورة أخرى من تلك الآلة تحصل للقوّة العاقلة. فإن كان الأوّل فالقوّة العاقلة إن أمكنها إدراك تلك الآلة و إدراكها نفس مقارنتها للقوّة العاقلة فما دامت الآلة مقارنة للقوّة العاقلة وجب أن تعقلها القوّة العاقلة فتكون القوّة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة. و إن امتنع على القوّة العاقلة إدراك تلك الآلة لوجب أن لا تدركها أبدا فظاهر أنّه لو كان تعقل القوّة العاقلة لتلك الآلة لأجل نفس مقارنة تلك الآلة لتلك القوّة لوجب أن تعقلها دائما، أو لا تعقلها دائما و كلا القسمين باطل. و أمّا إن كان تعقل تلك القوّة العاقلة لتلك الآلة لأجل حصول صورة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 213
أخرى منها في القوّة العاقلة فالقوّة العاقلة إن كانت في تلك الآلة، و الصورة الثانية حاصلة في القوّة العاقلة فتكون الصورة الثانية للآلة أيضا حالّة في الآلة لأنّ الحال في الحال في الشيء حال في الشيء فيلزم منه الجمع بين المثلين هذا خلف. و إن لم تكن القوّة العاقلة في تلك الآلة بل هي مجرّدة عن الأجسام فذلك هو المطلوب.
انتهى تقرر البرهان على ما في المباحث. و أنت ترى أنّ أصل الدليل محرر على ثلاثة أوجه، و أمّا في بيانه فلم يتعرض لثالث الوجوه، و لا بأس فيه. فالتثليث على هذا التقرير موجّه لأنّ القوّة العاقلة إذا كانت منطبعة في جسم لا يصحّ أن يقال انّها تعقله في وقت دون وقت، فانّها إمّا دائمة التعقل له، أو دائمة اللاتعقل له. فعلى ذلك يظهر وجه عدم تعرض التوقيت في ضمن البيان أيضا. فالقوّة العاقلة إذا كانت تعقل آلتها منقطعا فهي غير حالة فيها كما صرّح به غير الفخر في التقريرات السالفة. فالوجه الثالث في تقرير الفخر مطوى في تقريرات غيره أيضا كما أنّ استثناء نقيض التالى بفساد قسمى المنفصلة معا مطوى في تقرير الفخر أيضا فلا منافاة بين التقرير على التثليث و بينه على التثنية. ثمّ شرع في الاعتراض على الدليل و جرحه بقوله:
و لقائل أن يقول: إنّا قد بيّنا أنّه ليس إدراك الشيء للشيء عبارة عن حصول المعقول في العاقل، بل الإدراك و العلم و الشعور حالة إضافية و هي قد تحتاج إلى حصول صورة المعلوم في العالم، و قد لا تحتاج، و لكن العلم في جميع الأحوال ليس إلّا هذه الإضافة، و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن تكون القوّة الناطقة حالّة في جسم؟ فمتى حصل بينها و بين ذلك الجسم تلك الإضافة المخصوصة حصل الإدراك و إلّا فلا.
و أيضا فهذه الحجة تقتضى أن تكون جميع لوازم النفس معقولة لها دائما لأنّها لو عقلت شيئا من لوازمها في حال دون حال لكان تعقلها لذلك اللازم ليس نفس حضور ذلك اللازم عندها و إلّا لكان ذلك اللازم أبدا معقولا، كما أنّه أبدا موجود، بل يكون تعقل النفس لذلك اللازم لأجل حصول صورة مساوية للازم النفس في النفس فيلزم منه الجمع بين المثلين. فظهر أنّ هذه الحجّة تقتضى كون النفس عالمة بجميع لوازمها أبدا.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 214
و أيضا تقتضى دوام علمها بجميع عوارضها ما دامت تلك العوارض حاصلة و إلّا لكان علمها بذلك العارض لأجل صورة مساوية لعارضها فيها فحينئذ يجتمع فيها ذلك العارض و صورته فيلزم الجمع بين المثلين. فظهر أنّ هذه الحجة تقتضى كون النفس عالمة بلوازمها ما دامت النفس موجودة، و كونها عالمة بعوارضها ما دامت تلك العوارض موجودة، و لو كان كذلك لم يكن شيء من محمولات النفس مطلوبا بالبرهان، و لمّا لم يكن كذلك بطلت هذه الحجّة.
و أيضا فالمثلان انّما استحال اجتماعهما لأنّه لا يتميز أحدهما عن الآخر بشيء من الأوصاف و حينئذ ترتفع المغايرة بينهما و يحصل الاتحاد بينهما، و لما كان الاتحاد محالا لا جرم استحال الجمع بين المثلين.
و إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القوّة الناطقة إذا عرفت آلتها في وقت دون وقت فلا بدّ و أن يكون ذلك لأجل حصول صورة مساوية لآلتها فيها، ثمّ إنّ القوّة الناطقة إذا كانت في الجسم فهناك قد اجتمع في ذلك الجسم صورته الأصلية، و صورته المكتسبة و لكن قد اختصت كل واحدة منهما بوصف تمتاز به عن الأخرى لأنّ أحد المثلين محلّ القوّة الناطقة، و الثانى حالّ فيها فيبقى الامتياز و لا يلزم المحال، و هذا شك لا يمكن حلّه» انتهى ما في المباحث من الاعتراض على البرهان.
أقول: قد تقدّم في البحث عن الحجة الأولى قول الفخر في العلم بأنّه إضافة. فقوله هاهنا: «انّا قد بيّنا أنّه ليس إدراك الشى» إلى قوله: «حالة إضافية» صريح بأنّه كان في العلم قائلا بالإضافة، مع أنّه صرّح أيضا في الفصل الأوّل من الباب الخامس من الفن الثانى من المباحث في بيان تجرّد النفس الإنسانية بأنّ العلم ليس بإضافة بل صفة حقيقية، و قد تقدّم في ضمن البحث عن الحجة الأولى نقل كلامه هذا من المباحث.
فانظر أنّه كيف كان يتلوّن في آرائه حتى في الشيء الذي هو نور و به فضيلة كل ذى فضل و كمال كلّ حيّ؟!
و قد علمت في مطاوى البيان حول الحجة المستخرجة من برهان الشفاء في التبصرة الثانية أنّ هذه الحجة مبتنية على أربع مقدمات: إحداها أنّ الإدراك أنّما يكون
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 215
بمقارنة صورة المدرك للمدرك.
و ثانيتها أنّ المدرك إن كان مدركا بذاته كانت المقارنة بحصول الصورة في ذاته، و إن كان مدركا بآلة كانت بحصولها في آلته.
و ثالثتها أنّ الأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فإذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها.
و رابعتها أنّ الأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة إمّا مادية أو غير مادية على التفصيل المقدم ذكره.
و المقدمة الثانية عند الحكمة المتعالية غير تمام و سيأتي الكلام فيها.
فالفخر الرازى في قوله بأنّ العلم إضافة، معترض على المقدمة الأولى فإنّ الإدراك هو العلم، و إن كان الإطلاقات العرفية تميز بينهما أحيانا فيقال مثلا إنّ الحيوان مدرك و لا يقال انّه عالم. ثمّ انّ قوله على التفصيل بكون العلم إضافة يطلب في باب البحث عن العلم من المباحث المشرقية (ج 1، ص 319، ط 1). و قد تقدم كلامنا في الإشارة إلى عدة مواضع من الأسفار في ردّه حول التحقيق عن الحجة الأولى في تجرّد النفس.
و البحث عن العلم في الأسفار يطلب في ستة فصول من مفتتح المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» من العلم الكلى منه (ج 1، ص 270- 277، ط 1) و إن كان في تضاعيف الكتاب قد تصدّى له مرارا. و قد أدّى نظره الشريف في أوّل الفصل الرابع من تلك الفصول بقوله:
العلم ليس أمرا سلبيا كالتجرّد عن المادّة، و لا إضافيا، بل وجودا و لا كل وجود بل وجودا بالفعل لا بالقوّة، و لا كل وجود بالفعل بل وجودا خالصا غير مشوب بالعدم، و بقدر خلوصه عن شوب العدم يكون شدة كونه علما. و بيان هذا إلخ.
اعلم انّ المحقق نصير الدين الطوسى في شرحه على الخامس من سابع الإشارات قد نقل اعتراض الفخر على المقدمة الأولى ثمّ أجاب عنه فنأتى بهما ثمّ نتبعهما بما ينبغى الإتيان بها. قال الفخر معترضا على المقدمة الأولى:
المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج في تمام الماهية و إلّا
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 216
لجاز أن يكون السواد مثل البياض في تمام الماهية لأنّ المناسبة بين السواد و البياض لاشتراكهما في كونهما عرضين حالّين في المحل محسوسين أتم من المناسبة بين المعقول من السماء الذي هو عرض غير محسوس حال في محلّ كذلك، و بين السماء الموجودة التي هي جوهر محسوس موجود في الخارج محيط بالأرض. انتهى كلامه.
أقول في بيان اعتراضه: يعنى بقوله «المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج في تمام الماهية» أنّه لو قيل بالمساواة للزم انطباع الكبير في الصغير. و يعنى بقوله: «و إلّا لجاز إلخ» أنّ المناسبة بين السواد و البياض لكونهما عرضين أتم من المناسبة بين العرض الذي هو المعقول من السماء و بين الجوهر الذي هو السماء الموجود في الخارج، فلو جاز أن يكون هذا العرض مساويا لذلك الجوهر في تمام الماهية فليكن ذلك العرض أي السواد مثل ذلك العرض أي البياض بطريق أولى. و لكن لا يخفى عليك أنّ اعتراض الفخر مبنى على كون السماء المعقولة أي العلم عرضا في محلّ مجرّد هو النفس الناطقة، و هو كما ترى. و سيأتي الإشارة إلى تحقيق الحق في ذلك.
و أجاب عن اعتراضه المحقق الطوسى بقوله:
إنّ ماهية الشيء هي ما يحصل في العقل من ذلك الشيء نفسه دون عوارضه الخارجة عنه، و لذلك اشتقت لفظة الماهية من لفظة ما هو فإنّ الجواب عنها يكون بها.
و لما كان ذلك كذلك كان معنى قول القائل المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج هو أنّ السماء المعقولة المجرّدة عن اللواحق ليست بمساوية للسماء المحسوسة المقارنة إيّاها، و حينئذ إن أراد بعدم المساواة التجرّد و اللّاتجرّد كان صادقا؛ و إن أراد به أنّ مفهوم السماء نفسه ليس بمشترك بين المجرّدة و المقارنة كان كاذبا؛ فإن زاد و قال المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في تمام الماهية كما قال هذا الفاضل- يعنى به الفخر الرازى- كان معناه أنّ المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في تمام المعقولية أي ليس بمساو لها حال كونها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 217
معقولة فهذا هذيان كما تسمعه فإنّ المعقول من السماء نفس ماهية السماء الموجودة فضلا عن المساواة. و أمّا كون السواد غير مساو للبياض في تمام الماهية فظاهر.
و ظاهر أنّ المناسبة بين الموضعين غير صحيحة فإنّ الفرق بين السماء المعقولة و المحسوسة بكون أحدهما عرضا في محلّ مجرّد غير محسوس، و الآخر جوهرا محسوسا لا في محلّ، فرق بين الطبيعة النوعية المحصّلة المأخوذة تارة مع عوارض و تارة مع مقابلاتها؛ و الفرق بين السواد و البياض فرق بين الطبيعة الجنسية الغير المحصّلة المأخوذة تارة مع فصل يقومها نوعا و تارة مع فصل آخر يقوّمها نوعا مضادا للأوّل. على أنّ السماء المعقولة إذا أخذت من حيث هي عرض قائم بنفس ما لم تكن ماهية للسماء أنّما تكون ماهية لها من حيث تكون صورة حصلت في العقل مطابقة لها. انتهى.
بيان قوله: «دون عوارضه الخارجة عنه» أي العوارض الخارجة عن حقيقة الشيء يترك في الخارج، و حقيقة الشيء يحل في الذهن.
قوله: «و إن أراد به أنّ مفهوم السماء ...» يعنى بمفهومها حقيقتها العارية عن عوارضها الخارجة.
قوله: «فرق بين الطبيعة النوعية المحصلة» أي طبيعة السماء في المقام. و قوله: «تارة مع مقابلاتها» أي حقيقة السماء في الذهن. و قوله: «فرق بين الطبيعة الجنسية» أي اللون في المقام. و قوله: «المأخوذة تارة مع فصل ...» أي المأخوذة تارة مع قابض للبصر يقوّم الطبيعة الجنسية أي اللون نوعا أي سوادا، و تارة مع فصل آخر و هو مفرق للبصر يقوّم تلك الطبيعة الجنسية نوعا آخر و هو البياض مضادا للسواد.
ثمّ إنّ قوله: «إنّ الفرق بين السماء المعقولة و المحسوسة ...» تسليم بأنّ السماء المعقولة عرض في محل مجرّد غير محسوس هو النفس الناطقة. فالعلم على الوجه الذي حرّره من الفرق هو عرض في محل و هو كما ترى. و التحقيق التام في التجريد هو ما أفاده صدر المتألهين في المقام فعليك بالارتواء من شرح العين الثالثة و الثلاثين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في الإنشاء و الانتزاع.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 218
قد علمت أنّ اعتراض الفخر في المباحث على هذا البرهان كان على أربعة أوجه:
أحدها كون الإدراك إضافيا. و ثانيها كون جميع لوازم النفس معقولة لها دائما. و ثالثها دوام علم النفس بجميع عوارضها الحاصلة لها. و رابعها عدم اجتماع صورتين متماثلتين في محل واحد. و زاد في شرحه على الإرشاد اعتراضا آخر عليه و هو قوله:
الجسم قد يحلّ فيه أعراض و لا شك أنّ وجوداتها الزائدة على ماهياتها متماثلة و حالّة في الجسم و يلزم من ذلك اجتماع المثلين.
أمّا الجواب عن اعتراضه الأوّل فقد تقدّم، و دريت أنّه كان في هذا الاعتراض ناظرا إلى المقدمة الأولى من مقدمات الحجة الأربع. و لا يخفى عليك انّ الاعتراضين الثانى و الثالث متقاربان، و لذا قد أجاب عنهما محقق الإشارات بجواب واحد؛ و كذا صاحب الأسفار أتى بهما معا و نقل جواب المحقق عنهما، إلّا أنّه لم يرتض بكون الجواب وافيا عن الثاني و أجاب عنه بوجه آخر مرضى له فقال:
و قال أيضا- يعنى صاحب المباحث- هذه الحجة بعينها تقتضى إمّا كون النفس عالمة بصفاتها و لوازمها أبدا، أو غير عالمة بشيء منها في وقت من الأوقات بالبيان المذكور الذي ذكرتم. و أيضا تقتضى دوام علمها بجميع عوارضها ما دامت تلك العوارض حاصلة و إلّا لكان علمها بعارضها لأجل صورة مساوية لعارضها فيها فيلزم اجتماع المثلين. قال: و أجاب عنه محقق الإشارات أنّ الصفات و اللوازم منقسمة إلى ما يجب للنفس لذاتها ككونها مدركة لذاتها، و إلى ما يجب لها بعد مقايستها بالأشياء المغايرة لها ككونها مجرّدة عن المادة و غير موجودة في الموضوع، و النفس مدركة للصنف الأوّل دائما كما كانت مدركة لذاتها دائما، و ليست مدركة للصنف الثاني إلّا حالة المقايسة لفقدان الشرط في غير تلك الحالة. ثمّ قال صاحب الأسفار بعد ذلك:
أقول: ما ذكره- يعنى ما ذكره المحقق الطوسى في الجواب- غير واف بحلّ الإشكال على التقرير الثانى. و يمكن أن يجاب عنه بأنّ عوارض النفس ليست إلّا علومه و إدراكاته و ما يلزمها و تلك العلوم ما دامت حاضرة كانت مدركة لها بنفس صورتها الحاضرة، و ما دامت النفس ذاهلة عنها فهي زائلة عنها، و كذا لوازم تلك العلوم من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 219
الانفعالات التي تلحقها بمشاركة البدن كالغضب و الشهوة و الخجل و الوجل و غيرها.
تنبيه: المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات نقل الاعتراض الثانى فقط و أجاب عنه بذلك الجواب المذكور. فكأنّ صاحب الأسفار حمل الصفات و اللوازم بمعناهما الأعم حتى يشملا العوارض أيضا فجعل الجواب جوابا عن كلا الاعتراضين. و قد حرّرنا في شرح العين الثامنة عشرة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون مطالب في علم النفس بذاتها و قواها و آلاتها و أفعالها لعلّها تجديك هاهنا أيضا.
و للمتأله السبزوارى تعليقة مفيدة على الأسفار في المقام قال:
قوله: «و النفس مدركة للصنف الأوّل دائما». إن قيل إدراك النفس للصنف الأوّل صفة حاصلة لها و المفروض أنّ صفاتها معلومة لها ما دامت حاصلة لها فوجب العلم به أيضا، و هكذا؛ قلنا: العلم بالعلم ليس أمرا زائدا عليه.
و ربما يقال: إنّ كثيرا من لوازم النفس لا يدوم استحضاره لأنّا نعلم بالضرورة أنّه لا يدوم علمنا بالقدرة مثلا.
و الجواب: أنّ المدرك العلم بها لا العلم بالعلم و الالتفات. و أيضا في هذه الضرورة خلط بين المفهوم و المصداق فإنّ مصداق القدرة مثلا و حقيقتها الوجودية معلوم كحقيقة الحياة دائما كيف و حقائق اللوازم منطوية في حقيقة الملزوم، فكذا العلم بها في العلم به و هكذا، كما أنّه يمكن الغفلة عن المفاهيم المنتزعة عن هوياتنا كالجوهر القابل للأبعاد النامى الحساس الناطق و لا يمكن الغفلة عن هوياتها المنطوية في هوياتنا.
و أمّا الجواب عن الاعتراض الرابع فأجاب عنه المحقق الطوسى في شرح الإشارات بعد ما نقل اعتراضه هذا حيث قال: و منها- يعنى و من اعتراضات الفخر- قوله: لا يلزم من كون العاقلة متعقلة لمحلّها بصورة مساوية لمحلّها اجتماع صورتين متماثلتين في محلّها لأن إحداهما حالّة في العاقلة، و الأخرى محل لها.
أقول: يعنى بقوله إحداهما حالة في العاقلة، الصورة المعقولة المستأنفة؛ و بقوله و الأخرى محل لها، ذات صورة المحل التي هي محل للعاقلة. فالعاقلة محل للصورة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 220
المعقولة، و نفس صورة الآلة أي المحل محل للعاقلة. ثمّ قال المحقق:
و الجواب عنه بعد ما مر- من التحقيق في معنى الإدراك- أنّ العاقلة لو كانت محلا لصورة من غير أن تحل تلك الصورة في محلها كانت ذات فعل من غير مشاركة المحل، و لمّا كان كل فاعل جسمانى فاعلا بمشاركة الجسم كان كل فاعل من غير مشاركة الجسم فهو غير جسمانى فاذن العاقلة ليست بجسمانية، و لو كانت محلا لصورة حلّت في محلّها عاد المحال المذكور.
أقول: يعنى بالمحال المذكور اجتماع المثلين. ثمّ قال المحقق: فإن قيل الفرق بين الصورتين باق لأنّ إحداهما حالّة في العاقلة و في محلها معا، و الأخرى حالة في محلّها فقط، قلنا: هذا النوع من الحلول اقتران ما على ما مرّ و اقتران الشيء باحد الشيئين المتقارنين دون الأخر غير معقول، و مع ذلك فالمحال المذكور باق بحاله للقول بحلول صورتين متحدتى الماهية في محل واحد.
أقول: يعنى أنّ الصورة المعقولة المستأنفة حالّة في العاقلة و في محل العاقلة معا، و الأخرى و هي العاقلة حالة في آلتها التي هي محلّها. و قوله على ما مر، ناظر إلى ما مرّ في الفصل التاسع عشر من النمط الثالث من الإشارات من أنّ كل ما يعقل فمن شأن ماهيته أن تقارن معقولا آخر إلخ. و لا يخفى عليك أنّ الفخر في هذا الاعتراض معترض على المقدمة الثالثة المذكورة.
و أمّا الجواب عن اعتراضه الخامس و هو قوله: «الجسم قد يحل فيه أعراض إلخ» فأجاب عنه المحقق الطوسى في شرح الإشارات:
أنّ الوجود ليس بعرض حال في محلّ، و وجودات الأعراض ليست بمتماثلة بل هي متخالفة بالحقائق و متشاركة في لازم واحد هو الوجود المشترك المقول بالتشكيك عليها و على غيرها. و هذه الاعتراضات و امثالها متولدة من الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها. انتهى جواب المحقق عنه.
أقول: يعنى بالوجود المشترك المقول بالتشكيك على الحقائق المختلفة، مفهومه يحمل بحمل عرضى عليها فإنّ الوجود عند المشائين حقائق متباينة بتمام ذواتها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 221
البسيطة لا بالفصول ليلزم التركيب و يكون الوجود المطلق جنسا، و لا بالمصنفات و المشخصات ليكون نوعا بل المطلق عرضى لازم لها بمعنى أنّه خارج محمول لا أنّه عرضى بمعنى المحمول بالضميمة. و قد استوفينا البحث عن ذلك بالتحقيق و التنقيب في رسالتنا الفارسية الموسومة ب وحدت از ديدگاه عارف و حكيم (ص 53، ط 1 و ص 55، ط 2، يازده رساله).
قوله: «من الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها». من تلك الأصول عدم الفرق بين المصداق و المفهوم. و منها أنّ الوجود شيء واحد في الجميع على السواء أي بالتواطى، و قد سبق ذكر تلك الأصول في شرح المحقق الطوسى على الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات في الجواب عن اضطراب الفخر الرازى في مسائل الوجود.
تبصرة: انّ صاحب الأسفار في تقرير هذه الحجة بيّن اجتماع المثلين بقوله: «الصورة المنطبعة العاقلة، و الصورة المنطبعة المعقولة» و لكن الصواب أنّ المثلين أحدهما نفس الصورة الطبيعية الجسمية التي هي المادة الأصلية و محل للعاقلة أي هو آلتها، و ثانيهما الصورة المنطبعة المعقولة من تلك المادة الأصلية و المساوية لها. فتبصّر.
ثمّ انّه قدّس سرّه اعترض على المقدمة الثانية من المقدمات الأربع المبتنية عليها الحجة، بناء على تحقيقه العرشى في الإبصار و تجرّد الخيال بقوله:
أقول: إنّ المقدمة الثانية غير مسلّمة عندنا لأنك قد علمت أنّ القوّة الباصرة تدرك المبصرات لا بارتسام صورها في العين؛ و كذا قوّة الخيال تدرك الصور و الأشباح الجسمانية لا بانطباعها في الدماغ، فهذه الحجة مقدوحة لأجل اختلال تلك المقدمة.
انتهى.
أقول: إنّ تنقيب البحث عن ذلك القول الفصل يطلب في العينين الثلاثين، و الثامنة و الخمسين، و شرحهما من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس. و لكن رفع تلك المقدمة لا يوجب قدح الحجة، لو لم نقل بأنّه موجب لتأكيدها و تسديدها. و ذلك لأنّ الثالثة منها باقية على قوّتها و حاكمة بتّا بأنّ الأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بآلاتها التي هي موضوعاتها فالحجة ناهضة بمنطقها الصواب و تلك المقدمات
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 222
قد حرّرها المحقق الطوسى في شرح الإشارات حول الحجّة لبيانها و القدح وارد على تمهيد هذه المقدمة لا على أصل الحجة. ثمّ إذا لم تكن صورة المدرك بالآلة حاصلة في الآلة بل حاضرة لدى النفس بإنشاء النفس و إعداد الآلة كما هو المحقق في الحكمة المتعالية، كان معناه أنّ النفس في ذاتها عارية عن المحل الذي هو آلتها، و الخصم لا يقول بتجرّدها و إذا كانت مادية فالمقدمة الثالثة باقية على قوّتها و رفع الثانية يضر الحجة.
تنبيه: ما مرّ من التحقيق في أن الحجّتين الثالثة و الرابعة من الإشارات على تجرّد النفس مستنبطتان من البرهان السادس من نفس الشفاء، يؤيّده أنّ الشيخ حيث ذكرهما في الإشارات لم يذكر السادس من الشفاء فيه، و حيث ذكر البرهان السادس في الشفاء لم يذكرهما فيه. و كذلك ترى صاحب الأسفار لم يأت بسادس الشفاء فيه لأنّ الحجتين الخامسة و الثامنة منه هما الحجتان الرابعة و الثالثة من الإشارات فتبصّر. هذا ما عندنا من التحقيق حول الحجج الثلاث و اللّه سبحانه وليّ التوفيق.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 223
يه) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان السابع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.
قال الشيخ:
و أيضا ممّا يشهد لنا بهذا و يقنع فيه أنّ القوّة الدراكة بالآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكلّ لأجل أنّ الآلات تكلّها إدامة الحركة و تفسد مزاجها الذي هو جوهرها و طبيعتها، و الأمور القويّة الشاقّة الإدراك توهنها و ربما أفسدتها و لا تدرك عقيبها الأضعف منها لانغماسها في الانفعال عن الشاق كالحال في الحس فإنّ المحسوسات الشاقة و المتكررة تضعفه و ربما أفسدته كالضوء للبصر، و الرعد الشديد للسمع، و لا يقوى الحس عند إدراك القوىّ على إدراك الضعيف فإنّ المبصر ضوء عظيما لا يبصر معه و لا عقيبه نورا ضعيفا، و السامع صوتا عظيما لا يسمع معه و لا عقيبه صوتا ضعيفا، و من ذاق الحلاوة الشديدة لا يحسّ بعدها بالضعيفة، و الأمر في القوّة العقلية بالعكس فإنّ إدامتها للعقل و تصوّرها للأمور التي هي أقوى تكسبها قوّة و سهولة قبول لما بعدها ممّا هو أضعف منها، فإن عرض لها في بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التي تكلّ فلا تخدم العقل، و لو كان لغير هذا لكان يقع دائما و في الأكثر و الأمر بالضدّ.
بيان: قوله: «يشهد لنا بهذا» أي بكون النفس غير جسمانية. و قوله: «تكلّ»، الأوّل من الكلال و الثانى من الإكلال. و عبارة البرهان في النجاة قريبة من عبارة الشفاء بهذا العنوان: برهان آخر في هذا المبحث، و أيضا مما يشهد لنا بهذا و يقنع فيه إلخ. و في النجاة: المستعمل للآلة التي تكلّ هي فلا تخدم ... و في أكثر الأحوال الأمر بالضدّ و في
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 224
بعض نسخ الشفاء: يقع دائما و في أكثر الاحوال، و الأمر بالضدّ.
و خلاصة البرهان: أن تكرّر افاعيل القوّة العاقلة يؤتيها قوّة و سهولة قبول لما هو أضعف منها، و تكرّر أفاعيل القوى البدنية تملّها بل تكلّها بل قد تبطلها فلا تدرك عقيبها الأضعف منها، فالقوّة العاقلة ليست ببدنية.
هذا البرهان هو الحجة الثانية في الفصل الثالث من النمط السابع من الإشارات على تجرّد النفس الناطقة في ذاتها و كمالاتها الذاتية عن المادة و ما يتبعها، حيث قال:
«زيادة تبصرة، تأمل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان يكلّها تكرارا لأفاعيل إلخ». هذا على ما رآه المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات، و عندنا أنّها حجة ثالثة كما سيأتي كلامنا فيه.
و إليه يؤول البرهان الأوّل من معتبر أبى البركات على أنّ النفس الناطقة من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم. حيث قال:
فاحتجوا على ذلك بأن قالوا: إنّ القوى الجسمانية إلخ (ج 2، ص 357، ط 1).
و هو الدليل التاسع في المباحث المشرقية للفخر الرازى على أنّ النفس الإنسانية ليست بجسم و لا منطبعة في جسم. حيث قال: الدليل التاسع قالوا: القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال إلخ (ج 2، ص 372، ط 1).
و هو الوجه السابع على تجرّد النفس في تجريد الاعتقاد حيث قال المحقق الطوسى:
و لحصول الضدّ (كشف المراد بتصحيح الراقم، ص 187) على النحو الذي فسره الشارح العلّامة الحلى.
و هو الحجة التاسعة من نفس الأسفار على تجرّد النفس الناطقة الإنسانية تجرّدا تامّا عقليا حيث قال: «الحجة التاسعة القوى البدنية تكلّ بكثرة الأفعال إلخ» (ج 4، ص 73، ط 1).
و هو البرهان الثالث عشر من أسرار الحكم للحكيم السبزوارى بالفارسية حيث قال:
«برهان سيزدهم، قواى جسمانيه بدنيه ضعيف مىشوند به كثرت افعال و تكرر آنها بتجربه و دليل إلخ» (ص 254 بتصحيح الأستاذ العلّامة الشعرانى (رضوان اللّه تعالى عليه)).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 225
اعلم أنّ هذا البرهان كما يدل على أنّ القوّة العاقلة ليست بجسمانية، كذلك يدلّ على أنّ القوّة الخيالية أيضا ليست بجسمانية و سيأتيك بيانه. و قد اعترض أبو البركات في المعتبر، و الفخر الرازى في المباحث و شرح الإشارات عليه بما ليس بوارد حقا، و لكن يجب نقله و التنبيه على ردّه. و الحرى أن نحكى صورة البرهان من الإشارات و نأتى بما أفاده المحقق الطوسى في شرحه ثمّ نتبعه بما نهديها إليك فنقول قال الشيخ في الإشارات:
زيادة تبصرة: تأمّل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان يكلّها تكرّر الأفاعيل لا سيّما القوية، و خصوصا إذا اتبعت فعلا فعلا على الفور و كان الضعيف في مثل تلك الحال غير مشعور به كالرائحة الضعيفة إثر القويّة، و أفعال القوة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف. انتهى كلام الشيخ في تقرير الحجة.
و قال المحقق الطوسى في الشرح:
يقال: خرجت في إثر فلان بكسر الهمزة أي في أثره. و هذه حجة ثانية. و تقريرها أنّ تكرر الأفاعيل، و خصوصا الأفاعيل القويّة الشاقّة يكلّ القوى البدنية بأسرها.
و يشهد بذلك التجربة و القياس: أمّا التجربة فظاهرة. و أمّا القياس فلأنّ تلك الأفاعيل لا تصدر عن قواها إلّا مع انفعال لموضوعات تلك القوى كتأثر الحواس عن المحسوسات في المدركة، و كتحرّك الأعضاء عند تحرّك غيرها في المحرّكة، و الانفعال لا يكون إلّا عن قاهر يقهر طبيعة المنفعل و يمنعه عن المقاومة فيوهنه، و الفعل و إن كان مقتضى طبيعة القوّة لكنه لا يكون مقتضى طبائع العناصر الّتي يتألّف موضوعات تلك القوى عنها فيكون تلك الطبائع مقسورة عليها مقاومة لتلك القوى في أفعالها، و التنازع و التقاوم يقتضى الوهن فيهما جميعا، و ربما يبلغ الكلال و الوهن حدّا يعجز عنده القوّة عن فعلها أو يبطل كالعين تضعف بعد مشاهدة النور الشديد عن الإبصار أو تعمى.
قوله: «و أفعال القوّة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف» هذه القضية هي صغرى القياس و كبراه ما مرّ و تقريره أن يقال: العاقلة قد لا تكلّها كثرة الأفاعيل، و كلّ قوّة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 226
بدنية فدائما تكلّها كثرة الأفاعيل، فالعاقلة ليست ببدنية. و العاقلة و إن كانت تعقلها مع انفعال ما لكنّها لا تضعف و لا تكلّ بالانفعال لبساطة جوهرها و خلّوها عن التقاوم المذكور بخلاف البدنية.
و إنّما قال: قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف، و لم يقل دائما لأنّ العاقلة إذا كان تعقّلها بمعاونة من الفكرة التي هي قوّة بدنية فقد تضعف عن التعقّل لا لذاتها و لكن لضعف معاونها.
و الحاصل أنّ تكرر الأفعال يوهن القوى البدنية أو يبطلها دائما، و لا يوهن العقلية دائما بل ربما يقويها و يشحذها فضلا عن الإبطال.
و اعتراض الفاضل الشارح بتجويز كون العاقلة مخالفة لسائر القوى بالنوع مع كون الجميع بدنية، و حينئذ لا يبعد اختصاص البعض بالكلال دون البعض ساقط لأنّ القياس المذكور يأباه. و أمّا قوله: الخيال يدرك البقّة بعد تخيّل الجبال فإذن الحكم بأنّ الضعيف غير مشعور به أثر القوى ليس بكلّى، فليس بشيء لأنّهم لا يعنون بقوّة المحسوس كبره، و لا بضعفه صغره، بل يعنون بهما شدّة تأثيره في الحاسة و ضعفه.
انتهى كلام محقق الإشارات في المقام.
بيان: قوله: قدّس سرّه: «و هذه حجة ثانية». أقول: أنّه جعل الحجج على تجرّد النفس الناطقة من كلام الشيخ في الإشارات أربع، و أخذ الفصل الثانى من سابع الإشارات و هو قوله:
«تبصرة إذا كانت النفس الناطقة، إلخ» مؤكدا للفصل الأوّل في تجرّدها حيث قال في الشرح على الفصل الأوّل: «ثمّ إنّ الشيخ أكّد هذا المطلوب بما أورده بعد هذا الفصل»؛ و لكنّنى أقول: إنّ الحجج على تجرّدها في الإشارات خمس؛ لأنّ الفصل الأوّل هو في تجرّدها على أنّها موضوع ما للصور المعقولة فحيث إنّ الصور المعقولة عارية عن المادة و أحكامها فلا بدّ من أن يكون موضوعها من سنخها و إلّا يلزم انقسام تلك الصور المرسلة البسيطة بانقسام محلّها أي موضوعها، و إن كان الأمر أرفع من التعبير بالمحلّ و الموضوع و نحوهما من القبول و الانطباع و أترابهما الرائجة في أقلام المشاء و المتكلمة.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 227
و أمّا الفصل الثانى فقد أثبت فيه تجرّدها من حيث كلال آلاتها و عدم كلالها في فعلها أي في إدراكها و تعقلها فأين أحدهما من الآخر.
ثمّ قال محقق الإشارات في شرح الفصل الثانى المذكور:
قوله: إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال لم يضرّها فقدان الآلات، تكرار لما سلف.
و أقول: ليس هذا بتكرار بل هو حكم فارد، و نتيجة واحدة يستفاد من جميع أدلة تجرّد النفس فإنّ أدلّة التجرّد كلّها ناطقة بأنّ هذا الجوهر البسيط لا يضرّها فقدان الآلات.
و بالجملة لا يصح الارتياب في كون أدلّة تجرّدها تجرّدا عقليا تنتهى في النمط السابع من الإرشاد إلى خمسة فعليك بالرجوع إليه و التوغل فيه.
قوله: «التجربة و القياس» يعنى بالقياس البرهان كما نطق به غير مرّة.
قوله: «فلأنّ تلك الأفاعيل لا تصدر عن قواها إلّا مع انفعال لموضوعات تلك القوى» الموضوعات أوّلا هي الروح البخارى المصبوب في محالّه.
و قوله: «و إن كان مقتضى طبيعة القوّة» دفع دخل مقدر و هو أن يقال إذا كان الفعل مقتضى طبيعة القوّة و مناسبا لها و ملائما لها فكيف يوجب و هنها و كلالها؟ فدفعه بقوله:
الفعل و إن كان مقتضى طبيعة القوّة لكنه لا يكون مقتضى طبائع العناصر.
و قوله: «لبساطة جوهرها» اى ليست بمركبة من العناصر فإنّ الفساد يعرض ما هو مركب من العناصر، فالجوهر البسيط كالنفس لن يفسد. و قولهم الممكن زوج تركيبى من وجود و ماهية لا يكون نحو هذا التركيب الذي يعرض له الفساد فإنّ ذلك التركيب تحليل عقلى في وعاء الذهن.
قوله: «و اعتراض الفاضل الشارح» يعنى به الفخر الرازى قد شرح الإشارات قبل المحقق الطوسى و قال المحقق في أوّل ديباجة شرحه على منطق الإشارات بعد ما وصف الفخر الرازى بشرحه الإشارات: إنّه بتلك المساعى لم يزده إلا قدحا، و لذلك سمّى بعض الظرفاء شرحه جرحا.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 228
و قوله: «مع كون الجميع بدنية» بيان لوجه شركة القوى. و قوله: «لأنّ القياس المذكور يأباه» و ذلك لأنّ القياس كلى و كان ناطقا بأنّ كل قوّة بدنية يكلها كثرة الأفاعيل و تكررها. و قوله: «بل يعنون بهما شدة تأثيره في الحاسة و ضعفه» فربما كان إدراك الصغير كالبقّة مثلا أشدّ تأثيرا للمدركة و ذلك لصغره و دقته و لطافته دون الكبير.
و لكن جوابه غير تام و التمام مبتن على تجرّد الخيال كما سيأتي تحقيقه من صاحب الأسفار و تنقيب البحث عن ذلك منّا.
اعلم انّ الفخر في المباحث بعد تقرير البرهان المذكور جرى الحق على لسانه فاعترض على البرهان بأنّ الخيال أيضا كالقوّة العقلية لا تضعف بكثرة الأفاعيل و تكرّرها بل تقوى على القوي بعد الضعيف، فبهذا البرهان يجب أن يكون القوّة الخيالية غير مادية مع أنّهم قائلون بأنّها جسمانية. ثمّ انّ صاحب الأسفار بعد تقرير البرهان صرّح بأنّه يدل أيضا على كون القوّة الخيالية غير جسمانية و له في المقام بعض إشارات يريد بها صاحب المباحث في اعتراضه المذكور من غير أن يصرّح باسمه و كتابه، فالحقيق أن نذكر ما في المباحث أوّلا ثمّ ما في الأسفار و ما لنا حول كلماتهما من البيان:
قال صاحب المباحث:
فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية ثمّ انّها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها للأشياء الحقيرة مثلا إذا تخيّلنا صورة شعلة يمكننا أن نتخيل مع ذلك صورة الشمس و القمر و السماء و غيرها فبطل قولكم إنّ القوى الجسمانية لا تقوى على الأفعال الضعيفة عند صدور الأفعال القوية عنها.
فنقول: إنّا إذا ادّعينا أنّ الفعل الجسمانى القوى يمنع من الفعل الجسمانى الضعيف و هاهنا إذا تخيلنا الشمس و القمر فالمدرك قوى. أما ربما لا يكون إدراكنا لهما قويا فلا جرم لا يمنع من تخيل الأشياء الضعيفة. و أما إذا قوى تخيلنا لهما بحيث صرنا مستغرقين في ذلك التخيّل امتنع علينا و الحال هذه تخيل الأشياء الحقيرة. و أما القوة العقلية فليست كذلك، فإنّا إذا عقلنا الشيء العظيم أمكننا في ذلك الوقت تعقل الشيء الحقير.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 229
و لقائل أن يقول: كما أنا متى استغرقنا في تخيل شيء عظيم انقطعنا عن تخيل الأشياء الصغيرة، كذلك متى استغرقنا في تعقل شيء عظيم انقطعنا عن تعقل غيره.
و الدليل عليه أن من استغرق في جلال اللّه جلّت عظمته امتنع عليه في تلك الحالة أن يشتغل بسائر المعقولات. انتهى كلام الفخر في المقام (ج 2، ص 372، ط 1).
أقول: قوله: «فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية» اعتراض الفخر مبتن على كون القوّة الخيالية جسمانية، و قد بيّنا في العين الثانية و العشرين من كتابنا العيون أنّ المشاء كانوا قائلين بأنّها مادية، و الشيخ كان مصرا في ذلك و لكنّه استبصر بالأخرة فحكم بأنّ قوّة الخيال و الصور الخيالية مجرّدة.
و جملة الأمر أنّ صاحب المباحث بنى اعتراضه أوّلا على جسمانيّة قوة الخيال و نطق بالصواب، لكنه تصدّى لجوابه بأنّ المدرك بالفتح إذا كان قويّا كالشمس و القمر مثلا لا يوجب أن يكون إدراكهما أيضا قويا، فأمكن أن يتخيل الإنسان شيئا قويا و لا يكون إدراكه التخيّلى قويا فلا جرم لا يمنع من تخيل الأشياء الضعيفة. أمّا إذا كان ذلك الإدراك التخيلى قويا امتنع بعده تخيل الأشياء الحقيرة، بخلاف القوّة العاقلة.
ثمّ اضطرب الفخر بما أشكل عليه من قوله: «و لقائل أن يقول كما أنا متى إلخ». فعليك بما في الأسفار في المقام حيث قال:
و هذا البرهان أيضا يدل على كون القوّة الخيالية غير جسمانية فانّها تقوى على تخيّل الأشياء العظيمة مع تخيّلها للأشياء الحقيرة. مثلا يمكنها أن تتخيّل فلك الأفلاك مع الخردلة، و أن تتخيّل ضوء الشمس و حرارة النار مع ضوء الشرارة و حرارة الهواء المعتدلة، و أن تتخيّل صوت الرعد مع الهمس. و هذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطّن بتجرّد الخيال عن الموادّ المستحيلة الكائنة الفاسدة فجعل يتكلف في دفع الإشكال عن نفسه بأنّ قوّة الإدراك غير قوّة المدرك فالشمس و القمر و السماء مدركات قوية و نحن إذا تخيّلناها فإدراكنا لها لا يلزم أن يكون قويا، و لأجل ذلك لا يمنع إدراكنا لها عن إدراك المدركات الضعيفة؛ و أمّا إذا قوى تخيلنا لها بحيث صرنا مستغرقين في ذلك التخيل امتنع علينا و الحال هذه تخيل الشيء الحقير.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 230
أقول: الإدراك لا يخلو إمّا أن يكون هو الصورة الحاصلة من الشيء، أو الإضافة التي بين المدرك و المدرك كما هو مذهب هذا القائل، فعلى الأوّل لا معنى لقوّة الإدراك و ضعفه إلّا قوّة المدرك و ضعفه لأنّهما أمر واحد، لأنّ المدرك في الحقيقة هو الصورة لا الأمر الخارجى الذي ربما لا يوجد في الخارج عند وجود الصورة. ثمّ لا يخفى أنّ صورة السماء التي في الخيال أقوى من صورة الخردلة فيه.
و أمّا على الثانى فالإضافة من الأمور التي لا توصف بقوّة و لا ضعف و لا عظم و لا حقارة إلّا باعتبار ما أضيف إليه. ثمّ قوله و أمّا إذا قوى تخيلنا امتنع علينا و الحال هذه تخيّل الشيء الحقير، يناقض ما ذكره حيث وصف الشيء المتخيل بالحقارة دون الخيال. و أيضا الاستغراق في إدراك الشيء في الحقيقة يرجع إلى ضعف الإدراك بالنسبة إلى وجود المدرك و غلبة وجود المدرك و استيلائه على القوّة الإدراكية فيقهرها عن الإحاطة به و الاكتناه، فليس الاستغراق في إدراك الشيء عبارة عن تسلط الإدراك على المدرك بل تسلط المدرك على الإدراك. و أيضا ما ذكره مشترك بين الإدراك العقلى و الإدراك الخيالي فإنّا متى استغرقنا في تعقل شيء عظيم قوىّ الوجود عالى المرتبة رفيع السمك انقطعنا عن تعقل غيره. و من استغرق في جلال اللّه و عظمته امتنع عليه الالتفات إلى ذاته فضلا عن تعقل معقولات أخرى. انتهى كلام صاحب الأسفار في المقام. (ج 4، ص 74، ط 1).
أقول في بيان بعض كلماته المنيفة: قوله: «و هذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطّن» ناظر إلى كلام الفخر في المباحث حيث قال: «فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية ثمّ إنّها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة إلخ».
و قوله: «بأنّ قوّة الإدراك غير قوة المدرك» القوّة بمعناها اللغوى، و إضافتها إلى الإدراك بمعنى كون الإدراك قويّا. و كذا قوله غير قوّة المدرك. و المدرك على صيغة اسم المفعول.
و قوله: «إلّا باعتبار ما أضيف إليه» يعنى باعتبار ما أضيفت الإضافة إليه أي أسندت الإضافة إليه، يعنى أنّ الإضافة لا توصف بالذات بتلك الأوصاف من القوّة و الضعف
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 231
و العظم و الحقارة بل باعتبار ما أضيفت إليه فإذا كان اتصافها بها لا بذاتها بل بالإضافة فإدراك القوىّ يلزم أن يكون قويا، كذلك إدراك الشيء الضعيف يلزم أن يكون ذلك الإدراك ضعيفا.
و قوله: «حيث وصف الشيء المتخيل بالحقارة» يعنى أنّ الحقير في قوله تخيل الشيء الحقير، وصف للتخيل.
و قوله: «و أيضا الاستغراق في إدراك الشيء في الحقيقة يرجع إلى ضعف الإدراك» كلام سام بعيد الغور و ذلك لأنّ الكامل لا يشغله شأن عن شأن، أعنى أنّه يصير مظهرا للاسم الشريف يا من لا يشغله شأن عن شأن. قال المعلّم الثانى الفارابى في الفص الواحد و الخمسين و الذي بعده من الفصوص:
الروح القدسية لا يشغلها جهة تحت عن جهة فوق، و لا يستغرق الحس الظاهر حسّها الباطن- إلى أن قال: الأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر، و إذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن إلخ.
و راجع شرحنا على الفصوص الموسوم ب نصوص الحكم على فصوص الحكم (ص 302- 315، ط 1).
و كذا قال الشيخ الأكبر العارف العربى في الفصّ الاسحاقى من فصوص الحكم في البحث عن خلق العارف بهمّته ما هذا لفظه:
و العارف يخلق بهمّته ما يكون له وجود من خارج محلّ الهمّة و لكن لا تزال الهمّة تحفظه و لا يئودها حفظه أي حفظ ما خلقته فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق إلّا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات و هو لا يغفل مطلقا إلخ.
و راجع في تنقيب ذلك شرحنا على فصوص الحكم هذا أيضا.
و قوله: «و أيضا ما ذكره مشترك إلخ» يعنى أنّ ما ذكره جار في الإدراك العقلى أيضا فيلزم منه أن تكون القوّة العاقلة أيضا جسمانية كالخيالية. فقوله: «فانا متى استغرقنا- إلى قوله: عن تعقل غيره» بيان لجريان ما ذكره في الإدراك التخيلى. و قوله: «و من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 232
استغرق في جلال اللّه- إلى آخره» بيان لجريانه في الإدراك العقلى. فالدليل يثبت تجرّد الخيال أيضا تجرّدا برزخيا فتبصّر.
و صاحب المعتبر أبو البركات بعد تقرير الحجة اعترض عليها بما تسمعه قال: أمّا الذين قالوا انّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع فاحتجوا على ذلك بأن قالوا: إنّ القوى الجسمانية المدركة في الحواس الظاهرة و الباطنة بآلاتها الجسمانية تستضر أفعالها بما ينال آلاتها من الضرر فتضعف أو تتشوّش أو تبطل و ليس كذلك النفس الناطقة.
أقول: هذا هو تقرير أبى البركات أصل الحجة و هي الحجة الأولى في المعتبر على تجرّد النفس الناطقة. ثمّ تصدّى للاعتراض عليها بقوله:
أمّا الحجة الأولى القائلة بأنّ القوى الجسمانية إذا أصاب موضوعها الذي هو البدن آفة استضر فعلها و ليس كذلك القوّة العقلية، فنقول: في جوابه إنّ القوّة العقلية كذلك أيضا تستضر أفعالها بأمراض البدن كما يضعف الرأى و التفكر و الروية في الأمراض البدنية. فإن قيل إنّ ذلك الضرر ليس فيها لكن في الآلة، قيل: و من لنا بذلك و ما الذي يدل عليه أنّه كذلك في هذه القوّة دون غيرها إذا جمعها و عمّها مع باقى القوى ضرر الفعل بمرض البدن؟ فلم تدلّ هذه الحجة من حيث لم تميز و لم تفرق. فإن أعينت بغيرها من الحجج كانت الحجة غيرها. انتهى كلام صاحب المعتبر.
أقول: القياس المتقدم في تقرير هذه الحجة يأبى هذا الاعتراض رأسا، و ذلك لأنّ كبرى القياس في جانب القوى البدنية كلية دائمية؛ و أمّا صغرى القياس في جانب القوّة العقلية جزئية قد تستضر أفعالها بأمراض البدن فلو خالفتها و تخلفت عنها مرّة واحدة لكانت الحجة ناهضة بأنّها ليست من سنخ القوى البدنية، و المكابر يكابر مقتضى عقله.
و إنّما قلنا في صدر البحث عن هذا البرهان إنّ الحجة الأولى من المعتبر تؤول إليه، لأنّ حجة المعتبر بظاهرها اعمّ شمولا منه و ذلك لأنّها يشمل ما نال آلات القوى البدنية من الضرر كان من تكرّر أفاعيل تلك القوى أو من غيره كالأمراض الطارية عليها من جهة أخرى و لكن المآل واحد فلا ينبغى بهذا القدر من الفرق جعلهما حجتين منفردتين
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 233
على ذلك.
و أما المحقق الطوسى فقال في التجريد: «و هي جوهر مجرّد ... و لحصول الضد» و في كشف المراد:
هذا وجه سابع يدلّ على تجرّد النفس. و تقريره أنّ القوّة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها و كثرتها تضعف و تكلّ لأنّها تنفعل عنها، و لهذا فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا و القوى النفسانية بالضد من ذلك فإنّ عند تكثر التعقلات تقوى و تزداد. فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانية عند كثرة الأفعال. فهذا ما خطر لنا في معنى قوله: رحمه اللّه: و لحصول الضد. انتهى كلام الشارح العلامة (ص 187 بتصحيح الراقم و تعليقاته عليه).
تذكرة: قد تقدم ما خطر لنا في معنى قوله «و لحصول الضد» في البحث عن الحجة الثالثة من الباب الثانى، فتذكّر.
تبصرة: ينبغى إهداء مطلب حول تقريرات هذا البرهان و هو متفرع على نقل ما في المباحث و الأسفار من تقرير البرهان أيضا سيما أنّ تقرير صاحب الأسفار له دخل عظيم في تفهيم المفاد و تقريب الذهن إلى المراد. ففي المباحث:
الدليل التاسع قالوا: القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال و لا تقوى على القوى بعد الضعف و علة ذلك ظاهرة لأنّ القوى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال الكثيرة تتعرض موادها للتحلل و الذبول و بسبب ذلك يعرض الضعف لها، و أمّا القوّة العقلية فانّها لا تضعف بكثرة الأفعال و تقوى على القوى بعد الضعف فظهر أنها غير مادية أصلا.
و في الأسفار:
الحجة التاسعة القوى البدنية تكلّ بكثرة الأفعال و لا تقوى على الضعيف بعد القوى.
و علة ذلك أنّ القوى الجسمانية المادية موادّها قابلة للتبدل و الاستحالة و الذبول و بسبب ذلك يعرض لها تبدل الأحوال. أمّا كلالها و ضعفها فلتحلّل المادة و ذبولها؛ و أمّا عدم تمكّنها من الفعل الضعيف إثر القوى فالسّر فيه أنّ القوى يناسب الأفاعيل فإنّ هذه القوى لمّا كان من شأنها الاشتداد و التضعيف و التبدّل بالاستحالة كما علمت
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 234
فهي متفاوتة الحدوث حسب تفاوت الاستعداد فإذا استعملت الآلة الجسمانية في إدراك قوىّ أو فعل قوىّ فلا بدّ هناك من قوّة قوية فيفيض من المبدا القوّة القوية على تلك الآلة، ثمّ إذا استعملت إثر ذلك الفعل في فعل آخر ضعيف يعسر ذلك على تلك القوّة لأنّها لا تناسبه و إنّما المناسب لهذا الفعل الضعيف قوّة ضعيفة، و القوّة أنّما تحدث تدريجا لا دفعة كما علمت فيما سبق؛ و لأجل ذلك لا يمكن للقوّة القوية الفعل الضعيف كما لا يمكن للقوّة الضعيفة الفعل القوى، أ لا ترى أنّ القوّة المحركة التي في الحجر العظيم لا يمكن لها التحريك البطيء لذلك الحجر في هويّه، و لا للحرارة الشديدة التسخين الضعيف لما يلاقيه. و أمّا القوى الغير الجسمانية فلكونها متساوية النسبة إلى جميع القوابل و غير متناهية القوّة فلا جرم يجوز أن يصدر منها القوىّ و الضعيف من الأفعال بعضها عقيب بعض من جهة الأسباب المخصّصة، فلأجل ذلك لا تضعف بكثرة الأفعال و تقوى على القوى بعد الضعيف و على الضعيف بعد القوى.
فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول: القوّة العاقلة لمّا كانت هكذا لأنّها تدرك المعقولات القوية و الضعيفة بعضها عقيب بعض فهي ليست جسمانية كسائر القوى البدنية التي شأنها ما ذكرناه انتهى ما أفاد في تقرير المراد.
فأقول: النفس تقوى على الضعيف إثر القوى أي عقيبه، كما أنّها تقوى على القوى إثر الضعيف، و لا تكون القوى الجسمانية كذلك بل تضعف و تذبل و تنفذ إثر القوي و الضعيف. و عبارات الحجة بعضها يناسب تقدم القويّ على الضعيف بأن يقال و لا تقوى على القويّ بعد الضعيف كما هو عبارة المباحث و الأسفار. و لا يخفى أنّ النفس تقوى على الضعيف بالتجربة و التعليم و التمرّن و التداوم و غيرها، بل يصحّ أن يقال إنّها تقوى على القوىّ بعد الضعف كما في المباحث و عبارات صدر ما في الأسفار من تقرير الحجة أيضا تناسب هذا الوجه، و تقرير الفخر أظهر في ذلك. و بعض عبارات الحجة على ما في الأسفار يناسب تقدّم الضعيف على القوى بأن يقال و لا تقوى على الضعيف بعد القوى كما أنّ عبارة الكتاب أعنى الأسفار و هي قوله: «و أمّا عدم تمكنها من الفعل الضعيف إثر القوي» ناصّة على ذلك. ثمّ أنّ بعض عبارات الحجة في الأسفار
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 235
على الوجه التعميم حيث يقول: «يجوز أن يصدر منها القوى و الضعيف من الأفعال بعضها عقيب بعض» حتى يشمل الوجهين.
و بالجملة هذه الحجة ناطقة بأنّ النفس تقوي على القوى بعد الضعف أى بعد ضعفها تقوى على القوى؛ و تقوى على الفعل القوى بعد الفعل الضعيف؛ و تقوى على الفعل الضعيف بعد الفعل القوي، و القوى الجسمانية ليست كذلك فتبصّر.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 236
يو) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان الثامن من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانيّة.
قال الشيخ:
و أيضا فإنّ أجزاء البدن كلّها تأخذ في الضعف من قواها بعد منتهى النشو و الوقوف و ذلك دون الأربعين أو عند الأربعين، و هذه القوّة المدركة للمعقولات أنّما تقوى بعد ذلك في أكثر الأمر؛ و لو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما في كل حال أن تضعف حينئذ، لكن ليس ذلك إلّا في أحوال و موافاة عوائق دون جميع الأحوال فليست هي إذن من القوّة البدنية.
و من هذه الأشياء تبيّن أنّ كل قوّة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها، و لا آلتها، و لا إدراكها، و يضعفها تضاعف الفعل، و لا تدرك الضعيف إثر القوىّ، و القوى يوهنها، و يضعف فعلها عند ضعف آلات فعلها و القوّة العقلية بخلاف ذلك كلّه.
بيان: قوله: «و أيضا فإنّ أجزاء البدن» أى هذا دليل آخر على تجرّد النفس.
و قوله: «لكن ليس ذلك إلّا في أحوال» أي ليس ذلك الضعف للقوّة العقلية إلّا في أحوال إلخ.
و قوله: «و القوّة العقلية بخلاف ذلك كله» الواو حالية. و المراد من الأشياء في قوله:
«و من هذه الأشياء تبيّن» البراهين المتقدمة في تجرّد النفس الناطقة الإنسانية. و إلى هذا البرهان ينتهى البراهين على أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية من نفس الشفاء ظاهرا و لكن فيه برهانا آخر يأتى التحقيق فيه.
و هذا البرهان مذكور في النجاة أيضا. و هو في المطبوعة المصرية معنونة بقوله:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 237
برهان ثالث و أيضا فإنّ أجزاء البدن إلخ. و عبارات النجاة تحاكى عبارات الشفاء أيضا إلّا في بعض العبارات على تغيير يسير ففي النجاة: و أيضا فإنّ البدن تأخذ أجزاؤه كلّها تضعف قواها ... و هذه القوة أنّما تقوى بعد ذلك ... فليست إذا من القوى البدنية.
و هو الحجة الأولى من النمط السابع من الإشارات على تجرّدها و إن كان ما في الإشارات أعمّ شمولا من الشفاء.
و هذا البرهان هو الحجة السادسة من معتبر أبى البركات على كون النفس جوهرا غير جسمانى (ج 2، ص 358، ط 1) قال:
أمّا الذين قالوا انّها من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم فاحتجوا على ذلك ... و بأنّ الأبدان و قواها تضعف إذا جاوزت في قوتها و نموّها أشدّها و منتهاها، و تأخذ بعد بلوغ الغاية في الذبول و الانحطاط، و النفس الناطقة تقوى حينئذ في كثير من الناس أولا تضعف مع ما يضعف من القوى فليست بجسمانية مثلها.
ثمّ اعترض على حجيتها. و يأتى نقل الاعتراض و ردّه.
و هو الدليل السادس من المباحث المشرقية للفخر الرازى: لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما إلخ (ج 2، ص 366، ط 1). ثمّ أخذ في الاعتراض عليه بما سنتلوه عليك مع ردّه.
و هو الوجه السادس في تجرّد جوهر النفس من تجريد الاعتقاد للمحقق الطوسى قوله: «و هي جوهر مجرّد ... و لانتفاء التبعية قال الشارح العلامة الحلى في كشف المراد:
الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ هذا وجه آخر دال على تجرّد النفس، و تقريره: أنّ القوّة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها، و النفس بالضد من ذلك فإنّها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة تقوى و تكثر تعقلاتها، فلو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلّها و ليس كذلك، فلمّا انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دلّ ذلك على أنّها ليست جسمانية. (كشف المراد،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 238
ص 187 بتصحيح الراقم و تعليقاته عليه).
و هو الحجة السادسة في الأسفار على تجرّد القوّة الخيالية و الوهمية. قال: «الحجة السادسة لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما إلخ (ج 4، ص 72، ط 1).
و هو الحجة الخامسة من رسالة في السعادة و الحجج العشر للشيخ الرئيس أيضا بتقرير آخر قال:
الحجة الخامسة، من البيّن أنّ الأجسام الواقعة تحت النمو تأخذ في سنّ الشيخوخة في الضعف و كذلك جميع القوى الملابسة لها، و لو كان محل العلم جسما أو قوّة جسمانية تتعلق تنميتها بكمال الجسم و قوّتها بقوّته لكانت الشيخوخة على الاضطرار تضعف القوّة المميزة، أو الجوهر التمييزى عن تعقل الحكمة فلا يوجد أحد من الناس إلّا و هو في تلك الحال أضعف منه في الأحوال التي كان الجسم و القوى الجسمانية فيها قوية جدا، و قد نرى من يكبر سنّه، و يأخذ جوهره الجسمانى في الذبول يكون أقوى تمييزا ممّا كان أوّلا، بل ذلك على الأكثر؛ و لو كان الموضوع جسما حقا لما كان يوجد هذا في حال أبدا؛ فإذا موضوع العلم جوهر غير جسمانى، و ذلك ما أردنا أن نبيّن. (ص 9، ط 1 بحيدرآباد الدكن).
و هو البرهان الرابع على جوهرية النفس و غناها عن البدن في القوام، في الفصل التاسع من رسالة الشيخ الرئيس أيضا الموسومة ب هدية الرئيس أهداها للأمير نوح بن منصور السامانى، بتقرير آخر. قال:
و من البراهين الدالّة على صحة هذه الدعوى ما أنا مبيّنة فأقول: لا شك أنّ الجسم الحيواني و الآلات الحيوانية إذا استوفين سنّ النمو و سنّ الوقوف أخذت في الذبول و التنقّص و ضعف القوّة و كلال المنّة و ذلك عند الإنافة على الأربعين سنة. و لو كانت القوّة الناطقة العاقلة قوّة جسمانيّة آليّة لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين إلّا و قد أخذت قوّته هذه تتنقص و لكنّ الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا بل العادة جرت في الأكثر أنّهم يستفيدون ذكاء في القوّة العاقلة و زيادة بصيرة. فإذن
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 239
ليس قوام القوّة النطقية بالجسم و الآلة فإذن هي جوهر قائم بذاته و ذلك ما أردنا بيانه.
(رسائل الشيخ الرئيس، ص 71، ط مصر، سنة 1325 ه بتصحيح ادور فنديك و ص 175 من أربع رسائل نفسية للشيخ بتصحيح الأهواني، ط مصر، 1371 ه).
و هذا البرهان ذكره ابن مسكويه (ابو على احمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه الخازن الرازى معاصر الشيخ الرئيس) في صدر كتاب طهارة الأعراق و قد نقلناه و بيّناه بالفارسية في الدرس السادس و الخمسين من كتابنا دروس معرفة النفس (ص 175- 178، ط 1).
اعلم أنّ أهم ما ينبغى أن يذكر حول هذا البرهان هو ما في المباحث المشرقية من التقرير و الاعتراض أوّلا، ثمّ ما في الأسفار ثانيا فإنّ صاحب الأسفار ناظر في كلماته إلى ما في المباحث، و بعد ردّ اعتراضاته تصدّى لتحقيق تفرد هو به في الحكمة المتعالية، ثمّ نزيد عليهما بما لنا من التعليقات الإيضاحيّة في بيان بعض عباراتهما في المقام، قال في المباحث:
الدليل السادس، لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما، لكنّها لا تضعف في زمان الشيخوخة دائما، فهي غير جسدانية. و يصحّح نقيض التالي بقياس من الشكل الثالث هكذا: كل ما يعقل به الشيخ الأشياء فهو قوّة عاقلة، و ليس كل ما يعقل به الشيخ الأشياء فإنّه يكلّ عند الشيخوخة، فليس كل قوّة عاقلة تكلّ عند الشيخوخة.
و اعلم أنّه ليس من الواجب في صحّة ما قلنا أن لا يكون عقل شيخ يكل بل إذا كان عقل ما لم يكل في الشيخوخة و إن كان سائر العقول يكلّ فالمطلوب قد صح، فإنّه إن كانت النفس محتاجة في ذاتها إلى البدن كان اختلال البدن موجبا لاختلال النفس لا محالة فحينئذ يستحيل أن يختل البدن و تكون النفس سليمة، أمّا إذا كانت النفس غنية في ذاتها عن البدن لا يلزم أن تختل أفعال النفس عند اختلال البدن. نعم قد يجوز أن يكون اشتغالها بتدبير البدن عند اختلاله يعوقها عن سائر أفعالها، و ذلك مثل ما يعرض للفارس الراكب فرسا ردىّ الحركات فإنّه يصير اشتغاله بمراعات مركبه
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 240
مانعا له عن أفعاله الخاصّة به و ليس صدورها عنه بشركة الفرس. و يجوز أن يكون الفعل الذي ليس بالشركة موقوفا على الفعل الذي بالشركة مثل انّه قد يحتاج في اكتساب المعقولات في أوّل الأمر إلى تخيلات تتصرف فيها النفس تصرفا سنذكره فإذا عاقت عن استعمال التخيلات آفة في أعضاء التخيل كلّت القوّة العاقلة عن أفعالها فالشيخ إذا عرض له الانصراف عن المعقولات فالسبب فيه أنه قد شغل عن أفعاله الخاصة أو عرضت الآفة لشيء ربما احتاج إليه في هذه الأفعال لا لأنّ جوهر نفسه قد ضعف، فانّ الشيخ لو أعطى عينا كعين الشاب في المزاج لكان حسّه مثل حسّ الشابّ بل الشيخوخة ضعف في الآلات البدنية يشبه حال السكر و الإغماء.
فإن قيل الشيخ لعلّه أنّما يمكنه أن يستمرّ في أفعال عقله على الصحة لأنّ عقله يتمّ بعضو من البدن يتأخّر إليه الفساد و الاستحالة إن ظهرت الآفة في سائر القوى و الأفعال.
فنقول: الأعضاء الطرفية أنّما يلحقها الضعف و الفساد لضعف يسبق إلى المبادي، و لو كانت المبادي صحيحة لانحفظت الأطراف و لم تسقط قواها فكان الحال فيها كالحال في الشباب فيظهر من هذا أنّه لا كبد الشيخ و لا دماغه و لا قلبه على الحال الصحيحة أو القريبة من الصحيحة، و لذلك يجد في نبضه و بوله و أفعال دماغه تفاوتا عظيما.
فإن قيل إنّ بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى فلعلّ مزاج المشايخ أوفق للقوّة العقلية فلهذا تقوى فيه هذه.
فنقول: مزاج المشايخ إمّا برد و يبس، و إمّا ضعف، و كل واحد منهما قد يوجد قبل الشيب و لا يكون لصاحبه مزيد استعداد. و أيضا فليس كل شيخ هو أقوى من الشباب، و ليس الدليل مبينا على أنّ الغالب في المشايخ كمال العقل بل على أنّه لو كانت القوّة العقلية قائمة بالبدن لاستحال أن لا تضعف عند ضعف البدن، و قد نجد واحدا ليس كذلك فالمقدم مسلوب على أنّ ضعف البنية ليس يكون ملائما لما يقوم بالبنية بل لعلة تلائم ما لا يقوم بالبنية.
فإن قيل الشيخ تخيله و تذكره و حفظه محفوظة ليست دون حال عقله مع أنّ هذه
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 241
القوى جسمانية.
فنقول: ليس الأمر كما ذكرتموه، و أمّا ذكره الأمور الماضية التي كانت في ذكره في زمان الشباب فإنّما يكون كذلك لأنّ تكرر مذكوراتها على وهمه و هو شيخ أكثر من تكررها عليه و هو شاب فيكون السبب لذكره أقوى فيه مما في الشباب. و أما حفظه الأشياء التي يحفظها عند الشيخوخة فهو ضعيف، فالشيخ لا في حفظه تصور المحسوسات و لا في حفظها معانيها كالشاب. و إن شئت أن تعلم ذلك فجرّب حفظ الشيخ للشيء الذي يحفظه عند شيخوخته كحفظه عند ما كان صبيّا أو شابا فانك تجده لا محالة لا ينحفظ له الشيء لا معناه و لا صورته لا عدة و لا مدة كما كان ينحفظ له قبل ذلك و تجد تذكره أضعف مما كان أيضا إلّا فيما للعقل سبيل إلى المعونة فيه. و أمّا الأمور المحفوظة قديما فإنّما يساوى الشيخ الشاب في حفظها لأنّه يتساوى فيهما السبب للحفظ عددا و مع ذلك فإنّ المرتسم من ذلك في حفظ الشاب أوضح و أصفى و أشد استصحابا بالأحوال المطيفة به و المرتسم في حفظ الشيخ أطمس و أدرس و أخفى لمعانا و ظهورا.
فإن قيل الشيخ ليس أنّما يوجد سليم العقل بحسب الأمور العقلية الكلية، بل هو أثقب رأيا و أصحّ مشورة من الشاب في الأمور الجزئية الخيالية و أنت لا تقول أنّ خياله أسلم من خيال الشاب أو مثله.
فنقول: إنّ ذلك لشيئين: أحدهما أنّ الآلة أكبر، و ثانيهما أنّه يستعين بما هو مساو لمثله من الشاب أو أقوى بسبب قلة المنازعات. أمّا أن الآلة أكبر فهو أنّ الأمثلة الجزئية عنده أكثر لأنّ تجاربه أوفر. ثمّ إنّه ليس يتصرف فيها بالخيال و القوى الوهمية فقط بل يرجع فيها إلى العقل فيستعين به في طريق القسمة للأسباب الواقعة الممكنة و طريق الاعتبار للأوائل.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنّ الشيخ قد استفاد في استعمال العقل دربة فصارت الآلة و إن ضعفت إلّا أنّ كثرة دربته تتدارك ما فات بسبب نقصان الآلة و لذلك فإنّ الشيخ المتدرب أقوى في صناعاته و استعماله لها من الشاب.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 242
فنقول: الدربة أنّما يحصل لها أثر من وجهين: أحدهما أنّ هيئات التحريك الصادرة بالإرادة تتمثل في الخيال أشدّ فيكون وجه استعمالها عند الوهم أحضر. و ثانيهما و هو أنّ الأعضاء تستفيد بذلك حسن تشكّل تستعد به لهيئة التحريك. و ليس يمكن أن يقال هذا في باب المعقولات فإن العقل و إن سلمنا أنه يفعل بتحريكات الآلات فليس ينحفظ في النفس خيال شيء منها كما ينحفظ لهيئة تحريك اليد و القدم و نحوه. و لا أيضا يمكن أن يقال أنّه يستعين بآلات جسدانية و هي عاصية فيفيدها الاستعمال طاعة فإنا و إن سلمنا العقل يفعل بتحريك فليس بتحريكات مستعصية و لذلك فإنّ صحيح الفطرة الأصيلة يشرع في العلوم فيقف عليها على الاستواء و إن كان بعض الناس يحتاج إلى أن يراض من جهة التفطن لمعانى الألفاظ، و من جهة معاوقة من خياله و معارضة منه لعقله حتى يفهم الحال في ذلك فيعقله و يستوى في أدنى مدة و أخف كلفة. انتهى كلام الفخر.
بيان: قوله: «و يصحّح نقيض التالى بقياس من الشكل الثالث» برهان تام، و الشكل الثالث ينتج نتيجة جزئية موجبة أو سالبة، و نتيجة هذا القياس هي السالبة الجزئية و هي قوله: «فليس كلّ قوّة عاقلة تكلّ عند الشيخوخة» و لا تنافي لفظة الكل في النتيجة الجزئية لأنّ سور السالبة الجزئية ليس بعض، و بعض ليس، و ليس كلّ، و ما يساويها. فإذا كانت القوّة العاقلة لها فعلها بنفسها أعنى أنّ لها تعقلا بذاتها، عند كلال الآلات الجسدانية البدنية و ضعفها و فتورها كانت الحجة تامة على إثبات تجرّدها و لو كان وقوع ذلك الفعل مرّة واحدة؛ كما أنّ رؤيا واحدة مثلا إذا تحقق لها تعبير صحيح كفى ذلك لإثبات الرؤيا الصادقة و إن كان كثيرا من الرؤيا أضغاث أحلام، كما أفاد صاحب المباحث بقوله: «و اعلم أنّه ليس من الواجب في صحة ما قلنا إلخ». و لكنّ تمسكه بأعضاء التخيل ليس بتمام لما دريت من تجرّد القوة الخيالية أيضا. و قوله:
«ليس من الواجب إلخ» كلام كما في الأسفار في قوّة قياس استثنائي تاليه متصلة كلّية موجبة استثنى فيه نقيض التالى و هو سالبة جزئية لينتج نقيض المقدم، صورته هكذا:
لو كانت الناطقة جسدانية تفعل بالآلة لكان كما عرض للبدن آفة أو مرض أو كلالة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 243
يعرض لها في التعقل فتور و ليس كذلك كليا، ينتج أن تعقلها ليس بآلة بدنية. فلا يرد عليه أنّ كثيرا ما يعرض الاختلال في التعقل عند اختلال قوى البدن لأنّ هذا بمنزلة استثناء لعين التالى لا لنقيضه فلا ينتج شيئا.
قوله: «نعم قد يجوز إلخ» بيان لسبب عروض الاختلال في التعقل تارة، و وجهه ظاهر.
قوله: «الأعضاء الطرفية» الأعضاء الطرفية في كتاب القصاص و الديات من الكتب الفقهية يراد بها ما دون النفس كاليد و الرجل و الأذن و نحوها، و هاهنا بمناسبة البحث جعل الكبد و الدماغ و القلب أصلا و ما سواها أطرافا، و الأعضاء الرئيسة و المرءوسة في كتب الطبّ على تفصيل آخر.
قوله: «فإن قيل الشيخ تخيله إلخ» لما لم يكن صاحب المباحث قائلا بتجرّد الخيال و القوّة الوهمية بل كان هو كغيره من المشاء قائلا بجسمانيتهما، ثمّ رأى بقاء التخيل و التذكر كالعاقلة عند الشيخوخة تكلفوا تمحّلات شديدة في دفع البقاء عندها، فاعلم أنّ الحجة السادسة من كتاب الأسفار على تجرّد النفس في الحقيقة تلخيص عبارات المباحث في تقرير الدليل المذكور إلّا أنّ صاحب الأسفار تفرّد في البحث عن الخيال و نحوه، و كذا عن الاعتراضات الواردة من المباحث عليها بعد تقرير أصل الحجة تلخيصا بتحقيقه الشريف فقال:
حكمة عرشية: اعلم أنّ هذا البرهان أيضا غير دالّ على أنّ لكل إنسان جوهرا مفارقا عقليا، بل يدلّ على أنّ القوّة العاقلة غير بدنية. و هو كما يدل على أنّ القوّة العاقلة ليست بدنية، يدلّ على أنّ القوّة الخيالية و الوهمية أيضا ليست بدنية، فإنّ بعض المشايخ و المرضى قد يكون تخيّله و تصوّره للمعانى الجزئية بحاله. و لو كانت القوّة الخيالية طبيعية قائمة بهذا البدن الطبيعى لكان كلما عرضت لها آفة أو مرض وقع الاختلال في تخيّله و تصوّره و ليس كذلك إذ قد تكون غير مختلّة في فعلها، و القضية السالبة الجزئية تكفى لاستثناء نقيض التالى كما علمت. و القوم لعدم اطلاعهم على تجرّد الخيال تكلّفوا تمحّلات شديدة في دفع بقاء التخيّل و التذكر عند الشيخوخة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 244
و اختلال البدن. انتهى كلام صاحب الأسفار فيما تفرد به في المقام.
أقول: أمّا قول صاحب الأسفار «انّ هذا البرهان أيضا غير دال على أنّ لكل إنسان جوهرا مفارقا عقليا» قد تقدّم التحقيق ذلك منّا في أثناء البحث عن البرهانين الأوّل و الثانى من الشفاء، فقد دريت في الموضعين أنّ ما أدّى إليه نظره الشريف في هذا الأمر ليس على ذلك الإطلاق بصحيح.
و أمّا قول الفخر في المباحث: «و أمّا حفظه الأشياء التي يحفظها عند الشيخوخة فهو ضعيف» فأقول: ينبغى أن يميّز و يفرق في المقام بين فعل النفس من حيث هي عاقلة لذاتها و لما كسبتها، و بينه من حيث هي فاعلة بالآلات البدنية، و النظر الأصيل في مباحث تجرّدها هو الأوّل و هو باق على قوّته عند الشيخوخة سواء كثرت معلوماته أو قلّت؛ و أما الثاني فكلاله لا يضرّ تجرّدها. مثلا أنّ القوّة المتفكرة متحركة في فعلها، و لا بد في الحركة هذه من استعمال الآلة الجسدية و الآلات الجسدية يكلّها تكرّر الأفاعيل. و في اللآلى المنتظمة للحكيم السبزوارى (ص 8، ط 1):
و الفكر حركة إلى المبادى |
و من مبادى إلى المراد |
|
و الغرض إنّ الشيخ الهرم مثلا أمكن أن يدركه الضعف في تفكّر مسألة علمية من حيث سرعة كلال آلة الفكر، قبل الشاب بزمان، و لكن ذلك لا ينافى أن يتعقّل معانى عقلية متواليا من غير عروض كلال و فتور لأنّ المتفكرة في فعلها تحتاج إلى آلة جسدية دون العاقلة، و يجب الفرق بينهما، و انّما الكلام في تجرّد العاقلة. فحيث إنّ العاقلة في إدراكاتها و تعقلاتها المعانى المكسوبة المخزونة فيها باقية على قوّتها عند الشيخوخة مثلا علمنا أنّ النفس مجرّدة في ذاتها و يكفى ذلك في تجرّدها. فقوله:
«و أمّا الأمور المحفوظة ...»
فيه كفاية لعدم كون النفس من المقارنات. و أما قوله في الفرق بين المرتسمين في الشيخ و الشاب فوهمانى صرف لا برهان عليه، بل العكس صواب.
قوله: «فإن قيل الشيخ ليس ...» السؤال يتضمن أمرين: أحدهما أنّ الشيخ ليس في الأمور العقلية الكلية سليم العقل، و ثانيهما أنّه في الأمور الجزئية الخالية أثقب رأيا من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 245
الشاب، ثمّ سأل عن الأمر الثانى بأنّه كيف يكون كذلك مع أنّ القوّة الخيالية عندكم جسمانية؟ فأجاب عن الثانى بقوله: انّ ذلك لشيئين إلخ، و أمّا الأمر الأوّل فكأنه سلم أنه كذلك. و لا يخفى عليك أنّ قوله: «ثمّ انّه ليس يتصرف فيها بالخيال و القوى الوهمية فقط ...» ليس جوابا عن الأمر الأوّل. و أنت بما أسلفنا دريت أنّ الخيال مجرّد أيضا فالكلام في العاقلة. و انّ الأمر الأوّل في السؤال وهم و افتراء، بل الصواب هو في خلاف ذلك.
قوله: «فإن قيل لم لا يجوز إلخ». الدربة هي ملكة تكسب من تمرّن العمل، فما يستفاد من استعمال العقل ملكات علمية و إطلاق الآلة عليها أنّما هو على المجاز و ضرب من التوسع في التعبير، و البحث في الآلات الجسدية و فتورها. و تلك الملكات تكسب النفس سعة نورية وجودية على ما تحقق بالبراهين القاطعة على اتحاد العاقل بمعقولاته، و التجارب لقاح العقول.
قوله: «و ليس يمكن أن يقال هذا في باب المعقولات ...». بل ذلك في باب المعقولات أشد فإنّ النفس الفسيحة بالملكات النورية العلمية كان تصرفها في قواها مطلقا أقوى و آكد و إن كانت محال بعض القوى من حيث كونها مادية واهنة مستعصية.
و عمدة النظر في البرهان هي تجرّد النفس الناطقة الإنسانية من حيث بقاء فعل القوّة العاقلة مع فتور آلاتها الجسمانية، و الحجة قول فصل على ذلك و أمثال تلك الوساوس حوار لفظية لا اعتداد بها. و من تلك الوساوس اعتراض أبى البركات في المعتبر على الحجة حيث قال معترضا بعد تقريرها بما تقدم ما هذا لفظه:
و أمّا الحجّة القائلة بضعف القوى البدنية و قوّة العقل في الشيخوخة، فجوابه أنّ تسليم الدعوى لا يثبت الغرض المطلوب فإنّ لكل قوّة مزاجا يوافقها يقوى به فعلها فلا عجب أن تقوى من البدن قوّة مع ضعف أخرى كما يقوى السمع و الحفظ في الأعمى، و تضعف الشهوة بقوّة الغضب، و الغضب بالشهوة، فلعلّ المزاج الشيخوخى موافق لهذه القوّة أكثر من موافقة غيره، و لعلّ الرياضة بالتجارب و التعاليم الحاصلة في طول العمر تجتمع لها و يتبع ضعفها فيما بعد مع تزايد ضعف البدن و قواه بآخرة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 246
و عند الموت تضعف القوى بأسرها و هذه في جملتها فيشتبه الأمر و لا تفيد الحجة سوى أنّ هذه غير هذه و كل واحد منها كذلك هي غير الباقية و لا يحصل بالجسمانية و غير الجسمانية من ذلك تصديق في واحدة دون الأخرى. انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى عليك أنّ كلام صاحب المعتبر غير معتبر فإنّ قوله: «فلا عجب أن تقوى من البدن قوّة مع ضعف أخرى» لا ينافي فتورها و ضعفها عند الشيخوخة و إنكار عروض الذبول و النقص على القوى البدنية عندها يعدّ من إنكار البديهيات. و لو كان اقتضاء المزاج الشيخوخى ما قال لوجب أن يوافق كل مزاج شيخوخى كذلك، و وجب أن يوافق إدراك المعقولات أكثر من مزاج غيره و هو كما ترى.
و أمّا ما تمسك بالرياضة على اجتماع العلوم الكثيرة فغير ما نحن فيه رأسا و ذلك لأنّ إنسانا إذا فرض قليل البضاعة في المعقولات جدا، و كان عند الشيخوخة عاقلا لمعنى واحد كلّى فقط هو كان مكسوبه منذ زمان شبابه، أفادت الحجة تجرّد النفس العاقلة.
ثمّ إنّ اعتراض صاحب المعتبر، و اعتراض تلميذه صاحب المباحث و شرح الإشارات على الحجة- كسائر وساوسهما على العلوم العقلية- متقاربان، و قد أورد التلميذ في الشرح هذا الاعتراض عليها أيضا، و سترى حسم مادّته عن المحقق الطوسى من شرحه على الإشارات. و ينبغى أن يعدّ أمثال أبى البركات الطبيب و الفخر الرازى الخطيب و المتكلم المنشى الغزالى صاحب التهافت من المتفلسفة لا من الفلاسفة الحكماء، و تجوال الفكر حول عباراتهم كثيرا يحاسب من تضييع العمر كما ضيّعنا، إلّا أن الأمر خطير و لعلّ عظم الخطر في ذلك يجبره.
بقي في المقام نقل كلام الشيخ في الفصل الثانى من النمط السابع من الإشارات، و شرح المحقق الطوسى عليه في تقرير الحجة، و بعض الإشارات منّا حولها، فهي ما يلى:
قال الشيخ:
تبصرة: إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات لأنّها تعقل بذاتها كما علمت لا بآلتها. و لو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال البتّة إلّا و يعرض للقوّة كلال، كما يعرض لا محالة لقوى الحس و الحركة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 247
و لكن ليس يعرض هذا الكلال بل كثيرا ما تكون القوى الحسيّة و الحركيّة في طريق الانحلال و القوّة العقليّة إمّا ثابتة، و إمّا في طريق النموّ و الازدياد. و ليس إذا كان يعرض لها مع كلال الآلة كلال يجب أن لا يكون لها فعل بنفسها و ذلك لأنك علمت أنّ استثناء عين التالى لا ينتج. و أزيدك بيانا فأقول: إن الشيء قد يعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه، فليس ذلك دليلا على أنّه لا فعل له في نفسه، و أمّا إذا وجد قد لا يشغله غيره و لا يحتاج إليه فدلّ على أنّ له فعلا بنفسه. انتهى كلام الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه).
بيان: قوله: «قد استفادت ملكة الاتصال».
أقول: تحقيق البحث عن ذلك و تنقيبه يطلب في شرح العين الثامنة و العشرين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون.
و قوله: «و يعرض للقوّة كلال» يعنى بالقوّة القوّة العاقلة قد عبّر عنها بالقوّة العقلية أيضا. و قوله: «لأنّك علمت أنّ استثناء ...» يعنى علمت في منطق كتاب الإشارات.
و استثناء عين التالى في المقام بأن يقال: لكن قد يعرض لها كلال حينما يعرض للآلة كلال؛ أو نحوها من عبارات أخرى تفيد هذا المعنى.
و قوله: «إنّ الشيء قد يعرض إلخ». الشيء المبحوث عنه هاهنا هو النفس الناطقة كما قال في صدر كلامه: إذا كانت النفس الناطقة؛ و إن شئت قلت هو القوّة العاقلة أو القوّة العقلية. و المراد بالغير هو الآلة البدنية. و المقصود عن فعل نفسه هو التعقل فإنّه فعل الشيء أى فعل النفس الناطقة. و ضمير إذا وجد يرجع إلى ذلك الفعل. و ضمير إليه في قوله «و لا يحتاج إليه» يرجع إلى غيره في قوله «قد لا يشغله غيره»، و الغير كما قلنا هو الآلة الجسمانية الجسدية.
و أمّا ما أفاده المحقق الطوسى في الشرح فهو قوله:
التبصرة جعل غير البصير كالأعمى بصيرا، و التنبيه جعل غير اليقظان كالنائم يقظان؛ ففي تسمية هذا الفصل بالتبصرة دون التنبيه تعريض بأنّ البحث المذكور فيه أوضح من الأبحاث المذكورة في الفصول الموسومة بالتنبيهات لأنّ المبالغة عند حثّ الغافل
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 248
عن إدراك الشيء الحاضر أمامه أنّما يكون في نسبته إلى العمى أكثر منها في نسبته إلى النوم. و أمّا كون هذا البحث أوضح من غيره فلأنّه يفيد استبصار العاقل لذاته بذاته، و ما عداه يفيد استبصاره بغيره.
فقوله: «إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال لم يضرّها فقدان الآلات» تكرار لما سلف في الفصل المتقدم مع مزيد فائدة و هي أنّ فقدان الآلات بعد حصول ملكة الاتصال للنفس بالعقل الفعال لا يضرّها في بقائها في نفسها، و لا في بقائها على كمالاتها الذاتية المستفادة من العقل الفعّال، فإنّ الفاعل و القابل لها موجودان معا عند فقدان الآلات، و الآلات المفقودة ليست بآلات لها بل لغيرها.
و قوله: «لأنّها تعقل بذاتها كما علمت» إشارة إلى ما مرّ في النمط الثالث من بيان كون النفس عاقلة بذاتها لا بالآلات البدنية. ثمّ أنّه أراد المبالغة في إيضاح ذلك ليتضح الفرق بين الكمالات الذاتية الباقية مع النفس و الكمالات الذاتية الزائلة عنها بعد المفارقة فذكر على ذلك أربع حجج منها واحدة في هذا الفصل. و هي استثنائية متصلة، مقدّمها قوله: «و لو عقلت بآلتها» و تاليها متصلة كليّة موجبة هي قوله: «لكان لا يعرض للآلة كلال إلّا و يعرض للقوّة كلال» و صورتها هكذا: لو كان تعقل النفس بآلة بدنية لكان كلّما يعرض لتلك الآلات كلال يعرض لها في تعقّلها كلال. و ذلك واضح فإنّ اختلال الشرط يقتضى اختلال مشروطه.
و قوله: «كما يعرض لا محالة لقوى الحس و الحركة» استشهاد بالأفعال التي تصدر عنها بالآلات البدنية و تختل باختلالها. و فائدة هذا الاستشهاد أنّ جودة الفاعلية قد تكون بسبب التمرّن الحاصل للفاعل بعد صدور الفعل عنه دفعات كثيرة، و قد تكون بسبب التجربة الحاصلة عند استحضار صور أفعال مختلفة صدرت عنه، و قد تكون بسبب القوّة التي بها يكون اقتداره على الفعل أتمّ اقتدار. و الإنسان في سنّ الانحطاط يكون أجود تعقلا منه في سنّ النمو بالوجوه الثلاثة جميعا، و يكون أجود إحساسا بالوجهين الأولين أعنى بسبب التمرّن و التجارب المقتضية لاستثبات المحسوسات دون الوجه الأخير فإنّه لا يكون أحدّ سمعا و لا بصرا. و المراد هاهنا الفرق بين
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 249
الأمرين بهذا الوجه فلذلك أورد الاستشهاد بالإحساس و التحرّك.
و قوله: «و لكن ليس يعرض هذا الكلال» استثناء لنقيض التالى و هو متصلة سالبة جزئية، تقديره: و لكن ليس كلما يعرض للآلات كلال يعرض للنفس في تعقّلها كلال، بل قد تكلّ الآلات و لا تكلّ هي في تعقلها، بل إمّا تثبت و إمّا تزيد و تنمو كما في سنّ الانحطاط. و أيضا كما يكون بعد توالى الأفكارى المؤدية إلى العلوم فإنّ الدماغ يضعف بكثرة الحركات الفكرية، و النفس تقوى لازدياد كمالاتها. و هذا الاستثناء أنتج نقيض المقدم و هو أنّ تعقلها ليس بآلات بدنيّة، و هاهنا قد تمّت الحجّة.
ثمّ الشيخ اشتغل بنفى و هم يمكن أن يعرض هاهنا و هو أن يقال: لو كان عدم كلال النفس في تعقّلها مع كلال الآلة دالّا على أن تعقلها ليس بالآلة لكان وجود كلالها في تعقلها مع كلال الآلة دالّا على أنّ تعقّلها بالآلة، فذكر أنّ هذا استثناء لعين التالي و هو غير منتج. ثمّ زاد في بيانه بأنّ وجود الفعل لشيء في صورة معيّنة يدلّ على كونه فاعلا مطلقا، أمّا عدمه في صورة معينة فلا يدلّ على كونه غير فاعل أصلا.
قال الفاضل الشارح معترضا على ذلك:
يجوز أن يكون المعتبر في بقاء النفس على كمال تعقلها حدّا معيّنا من الصحة البدنية و هو باق إلى آخر الشيخوخة و يكون النقصان الحاصل في زمان الكهولة واقعا في ما يزيد على ذلك المعتبر بخلاف الحاصل في آخر الشيخوخة فإنّه واقع في نفس ذلك المعتبر، و حينئذ يكون النقصان الثانى مخلّا دون الأوّل، كما أنّ للصّحة المعتبرة في بقاء القوّة الحيوانية حدّا ما لا تبقى تلك القوّة بدونها و تبقى مع الازدياد و الانتقاص فيما وراءها. ثمّ إنّه حمل الازدياد في الكهول على الاجتماع العلوم الكثيرة عندهم في ذلك السنّ مع عدم الاختلال.
و أقول: القوّة الحيوانية تقع بالاشتراك على الكمال الأوّل الذي به يكون الحيوان حيوانا، و على كمالات الثانية الصادرة عنه. و الأوّل أمر لا يحتمل الزيادة و النقصان بخلاف الثاني، فالحدّ المعيّن من الصحة الذي لا يزيد و لا ينقص معتبر في بقاء الأوّل.
و أمّا المعتبر في الثاني فالصحة القابلة للازدياد و الانتقاص، و لذلك يزيد تلك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 250
الكمالات بازديادها و تنتقص بانتقاصها، و هاهنا ليس الكلام في الكمال الأوّل للنفس العاقلة بل في كمالاتها الثانية القابلة و للازدياد و الانتقاص، و ظاهر أنّها لو كانت مقتنصة بالآلات المختلفة الأحوال لاختلفت باختلافها كما اختلفت الكمالات الحيوانية و ليس الأمر كذلك. و أمّا حمل الازدياد الحاصل في الكهولة على اجتماع العلوم الكثيرة فغير ما نحن فيه على ما مرّ. هذا مع أنّ الشيخ معترف بأنّ هذه الحجة و الحجّة التي أوردها بعد من الحجج الإقناعية في هذا الباب على ما ذكره في سائر كتبه؛ يعنى أنها تكون مقنعة للمسترشدين و إن لم تكن مسكتة للجاحدين فإنّ الإقناعيات العلمية تكون هكذا، لا على ما يستعمل في الخطابة فانّها تطلق هناك على كل ما يفيد ظنّا ما صادقا كان أو كاذبا، فهي بهذا الاعتبار يشمل التجربيات و ما يجرى مجريها مما يعدّ من اليقينيات.
بيان: قوله: «فإنّ الفاعل و القابل لها موجودان معا» يعنى بالفاعل العقل الفعّال، و بالقابل النفس الناطقة، و ضمير لها راجع إلى كمالاتها الذاتية.
قوله: «فذكر على ذلك أربع حجج» بل ذكر على ذلك خمس حجج كما تقدّم كلامنا في ذلك في شرح البرهان السابع من الإشارات.
قوله: «و المراد هاهنا الفرق بين الأمرين بهذا الوجه» اى الفرق بين التعقل و الاحساس بالوجه الأخير و هو قوله و قد تكون بسبب القوة التي بها يكون اقتداره على الفعل أتم اقتدار.
قوله: «قال الفاضل الشارح معترضا على ذلك» يعنى به الفخر الرازى، و قد تقدّم اعتراضه هذا في المباحث المشرقية أيضا، و نحوه عن استاذه أبى البركات في المعتبر.
قوله: «و ظاهر أنّها لو كانت مقتنصة بالآلات ...» الاقتناص الاصطياد و وجهه ظاهر.
و في نسخ: لو كانت مقتضية أى لو كانت النفس العاقلة مقتضية للتعقل بالآلات المختلفة الأحول أى هي مختلفة في أحوال من حيث كلالها و ضعفها تارة، و قوّتها و تصلّبها أخرى، لاختلفت الكمالات الثانية باختلافها قوّة و ضعفا و ليس الأمر كذلك.
قوله: «فغير ما نحن فيه على ما مرّ» يمكن أن يقال في بيانه: و ذلك لأنّ الكلام
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 251
فيما نحن فيه هو تعقّل النفس و لا ريب أنّها تعقل غير ما اجتمع عندها من العلوم و تزيد معقولاتها عليها على مرّ آنفا من أنّ الكلام في كمالاتها الثانية القابلة للازدياد و الانتقاص. و لكنّ للسيّد السند على بعض النسخ المخطوطة عندنا من شرح المحقق الطوسى على الإشارات تعليقة شريفة في المقام هكذا:
قوله فغير ما نحن فيه؛ لأنّ الكلام ليس في أنّ حصول الكمالات الثانية و زيادتها من أين، بل إنّما الكلام في كون تلك الكمالات القابلة للزيادة و النقصان للنفس من دون الآلات و زيادتها بحسب الفاعل و جودته بأمور ثلاثة و إلى هذا أشار بقوله على ما مرّ أى في هذه التبصرة عند ما قال إنّ جودة الفاعل تكون لأحد أمور ثلاثة: إمّا التمرن أو التجربة أو ازدياد الآلة قوّة. أي الذي ذكره الإمام يرجع إلى الأمرين الأولين لا إلى الأخير الذي به فرقنا بين القوّة العاقلة و القوة (ص 150 نسخه اصلى) النفسانية.
و بالجملة أنّ كلامنا فيما يكون جودة الإدراك بواسطة جودة الآلات، فلو كان الإدراك بها اختلّ التعقل باختلال الآلة. انتهت التعليقة.
قوله: «فهي بهذا الاعتبار» أى الإقناعيات بهذا الاعتبار إلخ.
و لا يخفى عليك أنّ الحجة المنقولة من الإشارات أعمّ شمولا من البرهان الثامن المنقول من الشفاء أوّلا، فإن نظر ما في الشفاء هو سنوح ضعف القوى البدنية بعد منتهى النشو و الوقوف عند الشيخوخة؛ و أمّا نظر ما في الإشارات فهو كلال الآلات مطلقا، إلّا أنّ المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات ساق البحث أيضا إلى سنّ الانحطاط و الشيخوخة تمثيلا لظهوره من حيث وضعه الطبيعى قال عزّ من قائل: وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ و ملاك ما في الشفاء و البرهان و تقريره واحد.
و الحكيم الرياضى الإلهي أبو العباس فضل بن محمّد اللوكري كان من أعاظم تلامذة بهمنيار، و أستاذ عدة من الأعاظم، كأنّه في هذين البيتين ناظر إلى هذا البرهان:
الجسم يبلى إذا طال الزمان به |
و النفس تبقى و هذى غاية الناس |
|
لا تيأسنّ من النفس التي بقيت |
إن كنت عن جسمك الفانى على يأس |
|
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 252
يز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا، و هو البرهان التاسع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية:
قد نقلنا ثمانى حجج على تجرّد النفس الناطقة من الفصل الثانى من المقالة الخامسة من نفس الشفاء مع بيانها و تحقيقات منّا حول كل واحدة منها، فاعلم أنّ الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) تصدّى في ذيل الفصل المذكور بعد الإتيان بتلك البراهين لإزالة وسوسة ربما ننسخ على بعض الأوهام العامية. و قد سلك في كتاب النجاة أيضا هذا المسلك السوىّ، و قد سمعت منّا سالفا أنّ الشيخ اقتطف كتابه النجاة من كتابه الشفاء، و لكن الذيل المذكور في النجاة معنون بهذا العنوان: «سؤال و شرح شاف للإجابة عنه» و كأنّ هذا العنوان من مصحّح طبع النجاة (ص 180، ط مصر، 1357 ه)؟
و كيف كان فغرضنا الآن أنّ جوابه عن السؤال متضمّن برهانا آخر على تجرّد النفس الناطقة، كما أنّ الشيخ نفسه جعله الحجة التاسعة من رسالته في السعادة و الحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مجرّد فتنتهى براهين الشفاء على ذلك إلى تسعة كما أومأنا إليه في صدر مقالنا حول الفصل المذكور من الشفاء. ثمّ جعله أبو البركات في المعتبر الحجّة العاشرة على تجرّدها على حذو كلام الشيخ في ذلك (ج 2، ص 35، ط حيدرآباد الدكن)، ثمّ اتبعه باعتراض ستسمعه. ثمّ جعله صدر المتألهين في نفس الأسفار الحجة الحادية عشرة على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا و بها تنتهى حجج الأسفار على ذلك (ج 4، ص 74، ط 1) ثمّ جعله الحكيم السبزوارى الدليل السابع من الحكمة المنظومة (ص 303، ط اعلى)؛ و البرهان الحادى عشر من كتابه أسرار الحكم بالفارسية (ج 1، ص 253، بتصحيح الاستاذ العلامة الشعراني و تعليقاته عليه) فعليك
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 253
بما نتلوها من كلماتهم، و ما نتبعها من زيادة استبصار في ذلك: قال الشيخ في ذيل الفصل المذكور من الشفاء ما هذا لفظه:
و أمّا الذي يتوهم من أنّ النفس إذا كانت تنسى معقولاتها و لا تفعل فعلها مع مرض البدن، و عند الشيخوخة فذلك لها بسبب أنّ فعلها لا يتم إلّا بالبدن فظنّ غير ضروري و لا حقّ و ذلك أنّه قد يمكن أن يجتمع الأمران جميعا فتكون النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق و لم يصرف عنه صارف، و أنّها أيضا قد تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا تفعل حينئذ فعلها و تصرف عنه، و يستمرّ القولان من غير تناقض و إذا كان كذلك لم يكن إلى هذا الاعتراض التفات.
و لكنّا نقول: إنّ جوهر النفس له فعلان: فعل له بالقياس إلى البدن و هو السياسة، و فعل له بالقياس إلى ذاته و إلى مباديه و هو الإدراك بالعقل. و هما متعاندان متمانعان فإنّه إذا اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر و يصعب عليه الجمع بين الأمرين.
و شواغله من جهة البدن الإحساس و التخيّل و الشهوات و الغضب و الخوف و الغم و الفرح و الوجع.
و أنت تعلم هذا بأنّك إذا أخذت تفكر في معقول تعطّل عليك كلّ شيء من هذه إلّا أن تغلب هي النفس و تقسرها رادّة إيّاها إلى جهتها. و أنت تعلم أنّ الحس يمنع النفس عن التعقل فإنّ النفس إذا أكبّت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه. و تعلم أنّ السبب في ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل، فكذلك الحال و السبب إذا عرض إن تعطّلت أفعال العقل عند المرض.
و لو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت و فسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى اكتساب من الرأس (من رأس- خ ل) و ليس الأمر كذلك فإنّه قد تعود النفس إلى ملكتها و هيأتها عاقلة بجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته، فقد كان إذن ما كسبته موجودا معها بنوع ما إلّا أنّها كانت مشغولة عنه.
و ليس اختلاف جهتى فعل النفس فقط يوجب في أفعالها التمانع، بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك بعينه فإنّ الخوف يغفل عن الوجع، و الشهوة تصدّ عن الغضب،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 254
و الغضب يصرف عن الخوف. و السبب في جميع ذلك واحد و هو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد. فبيّن من هذا أنّه ليس يجب إذا لم يفعل شيء فعله عند اشتغاله بشيء أن لا يكون فاعلا فعله إلّا عند وجود ذلك الشيء المشتغل به.
و لنا أن نتوسع في بيان هذا الباب، إلّا الإمعان في المطلوب بعد بلوغ الكفاية منسوب إلى التكلّف لما لا يحتاج إليه.
فقد ظهر من أصولنا التي قرّرنا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن، و لا قائمة به، فيجب اختصاصها به على سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة البدن الجزئى بعناية ذاتية مختصة به صارت النفس عليها كما وجدت مع وجود بدنها الخاصّ بهيئته و مزاجه.
انتهى كلام الشيخ في ما أتى به في ذيل ذلك الفصل بتمامه من إثبات أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية. و عباراته في النجاة قريبة من الشفاء، و التفاوت يسير جدا لا حاجة إلى نقلها إلّا أنّ عبارته في صدر السؤال في النجاة جاءت هكذا:
... فظن غير ضرورى و لاحق، و ذلك أنّه بعد ما صحّ لنا أنّ النفس تعقل بذاتها يجب أن نطلب العلة في هذا العارض المشكك فإن كان يمكن أن يجتمع أنّ للنفس فعلا بذاتها و انّها تترك فعلها مع مرض البدن و لا تفعل من غير تناقض فليس لهذا الاعتراض اعتبار إلخ.
قوله: «فلا تفعل حينئذ فعلها و تصرف عنه» أى تصرف عن فعلها.
و قوله: «و يستمرّ القولان من غير تناقض». عدم التناقض من حيث إن أحدهما ذاتي و الآخر عرضى.
و قوله: «و شواغله من جهة البدن الإحساس ...». شواغله مبتداء، و الإحساس إلى قوله: «الوجع» خبر له.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة 254 يز) برهان آخر على تجرد النفس الناطقة تجردا تاما عقليا، و هو البرهان التاسع من نفس الشفاء في أن قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية: ..... ص : 252
قوله: «إلّا أن تغلب هي النفس» ضمير هي راجع إلى كلمات الإحساس و ما يتلوه إلى الوجع. و قوله: «أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه» كلمة آفة مرفوع فاعل لفعل أصاب، و آلة العقل و كذا ذاتها منصوبة على المفعولية. و قوله: «إذا عرض أن تعطلت»
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 255
جملة أن تعطّلت فاعل لفعل عرض. و قوله: «بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك» قد يوجب خبر للتكثر. و المراد من جهة واحدة أن تكثر أفعال يقع في جهة واحدة. و قوله: «على سبيل مقتضى هيئة فيها» تلك الهيأة في النفس كتصور كمال و استكمال. و قوله: «كما وجدت مع وجود بدنها» أى من أوّل وجودها.
و أمّا أنّ جوابه عن السؤال المذكور يتضمّن برهانا آخر على تجرّد النفس، فذلك لمكان قوله: «و لو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت إلخ». و قد حرّره على التفصيل و التبيين في رسالة السعادة و الحجج العشر بقوله:
الحجة التاسعة، لو كان العلم عرضا حالا في الجسم لوجب من ذلك أنّه متى زال عنه بنسيان أو غيره أن يعود لا كما حصل أوّلا، إذ فراغ الجسم القابل في الحالتين بمرتبة واحدة و لكنا نرى المرء يعرض له ما يزيل عنه الصورة المعلومة ثمّ إذا رؤيت عادت بغير حاجة إلى استئناف الجسد فتبيّن أنّ محل العلوم ليس بجسم بل هو جوهر غير جسمانى و لا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذا ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه و الصورة المعلومة فيه و انّه ربما تزول عنه هذه الأسباب لا قباله على تصور شيء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له و لا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج بل يكون في ذات بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة بل كقوة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة، ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلى بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد. و أما الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صوّر مختلفة مدركة و لا استحفاظها بوجه من الوجوه أ لا ترى أن الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة و تقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه، و لا معاودته للصورة و قبولها بنوع فعلى بل بنوع انفعالى فإذا لا يتقرر هذا القدر فاذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم و لا قوة جسمانية لأنها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلّقها فالمسألة قائمة، و ان كفت بذاتها فليست بجسمانية بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف و ذلك ما أردنا أن نبيّن.» انتهى
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 256
(ص 11 ط حيدرآباد الدكن).
و على هذا السياق قال صاحب المعتبر: «أما الذين قالوا إنها من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم فاحتجّوا على ذلك ... و بأن العلم المعقول لو حلّ الأجسام و القوى الجسمانية لم يعد منه ما يزول بالنسيان إلا بسبب محصّل وارد من خارج لأنه يكون بعد انمحاء الصورة المنتقشة مثله قبل انتقاشها بالنسبة اليها في كونها معدومة فيه و لا تحصل له ثانيا إلا بسبب موجب كما حصلت له أولا، و القوة التي تنسى و تذكر من غير أن تستعيد ذلك من سبب من خارج، و الصور المعلومة تكون حاصلة عندها مع اشتغالها بغيرها عن ذكرها فلا تنمحى عنها الأوّل بالثوانى لأنها روحانية بل تكون فيها بنوع قوة لا قوة الصبى على الكتابة بل كقوة العاقل على الكتابة حيث لا يكتب و يكتب متى أراد، و القوى الجسمانية لا يمكن فيها تزاحم الصور المختلفة لا في الإدراك و لا في الحفظ، أ لا ترى أن الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة إذا أقبلت على غيرها لأن الجسم ما لم يخل عن إحدى الصورتين لن تحله الأخرى فالقوة العاقلة غير جسمانية.» (ص 358، ج 2، ط حيدرآباد الدكن). ثمّ اعترض عليها بقوله:
«و أما القائلة بالحفظ و النسيان فعلى مذهب القائل لا تفيد في الاحتجاج فإن القوة الحافظة الذاكرة على مذهبه جسمانية و تلحظ و تعرض و تحفظ و تنسى فإن جعل للحفظ قوة و للذكر أخرى فالعقل أيضا يقول فيه إن الحافظة للمعقولات قوّة و الذاكرة لها أخرى و يجوز منه في هذه ما جاز في تلك فلا تفيد الحجة على مذهبه» (ج 2 ص 362) انتهى.
أقول: هذه الحجة في الحقيقة تتضمن حجة أخرى أيضا على تجرد جوهر النفس الناطقة الإنسانية قد ادرجت في تقرير الحجة الأولى تمثيلا و تثبيتا لها. و هي أن النفس جوهر ليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه و الصور المعلومة فيه. و هذا الجوهر مع أن تلك الصور و الأمور حاصلة عنده يقبل إلى غيرها و ذلك الإقبال ربما يشغله عن ذكر تلك الصور و التوجه اليها مع انها لا تنمحى عنه بإقباله إلى غيرها بل هي حاصلة عنده
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 257
نحو حصول قوة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة فمتى شاء أن يكتب يكتب بلا حاجة إلى تحصيل ملكة الكتابة جديدا، و الحال أن الجسم الطبيعى ليس له هذه الشأنية فان ما زال عنه يجب حصوله له بسبب محصّل جديد من خارج، فكما أن تلك الصور حاصلة عند جوهر النفس و ما زالت عنه بذلك الإقبال كذلك سنوح العوارض من مرض أو نسيان أو نحوهما لا يوجب زوالها عنه فإذا زال المرض و النسيان مثلا رؤيت تلك الصور و الأمور كما كانت من غير كسب جديد فهي كانت مستكنّة فيه إلّا أن الرادع كأن يشغله عنها. فهاتان الحجتان تفيدان اتحاد النفس بمسكوباتها وجودا.
فالنفس هي صورها العلمية و ملكاتها العلمية. و تفصيل البحث عن الاستقصاء موكول إلى كتابنا دروس اتحاد العاقل بمعقوله.
و أمّا ما في المعتبر من الاعتراض على الحجة فنقول: إنّ المشاء ذهبوا إلى أنّ القوّة الحافظة الذاكرة خزانة للمعانى الجزئية، و أمّا المعانى العقلية فخزانتها العقل الفعّال.
قال الشيخ في آخر الفصل الأوّل من رابعة نفس الشفاء في إثبات الحواس الباطنة، ما هذا لفظه:
و قد جرت العادة بأن يسمى مدرك الحس المشترك صورة، و مدرك الوهم معنى.
و لكل واحد منهما خزانة فخزانة مدرك الحس و هو الصورة هي القوّة الخيالية، و موضعها مقدم الدماغ فلذلك إذا حدثت هناك آفة فسد هذا الباب من التصوّر إمّا بأن تتخيّل صورا ليست، أو تصعب استثبات الموجود فيها. و خزانة مدرك المعنى هو القوّة التي تسمّى الحافظة، و معدنها مؤخر الدّماغ، و لذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختص بحفظ هذه المعانى. و هذه القوّة تسمّى أيضا متذكرة، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها، و متذكرة لسرعة استعدادها لاستثباته و التصوّر به مستعيدة إيّاه إذا فقد إلخ. (ج 1، ص 334، ط رحلى ايران).
و مدرك الوهم معنى جزئى كما نص به الشيخ في الموضع المذكور من الشفاء أيضا.
و قد أثبت في الفصل الثالث عشر من النمط الثالث من الإشارات العقل الفعال من حيث كونه خزانة للمعقولات، و إفاضته إيّاها على النفوس الإنسانية.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 258
و بالجملة أنّ المعانى ليست بمنحصرة في الجزئيات، و الحجة ناطقة بأنّ الصور العلمية تحصل للنفس بسبب من الأسباب كالكفر و التعليم و نحوها، ثمّ قد تذهل النفس عنها بحدوث نسيان أو مرض أو اشتغال بأمور، و بعد إزالة المانع تريها حاضرة عندها من غير استيناف ذلك السبب بل هي مكتفية بذاتها فيها. فالحجة على صورة القياس من الشكل الثانى تمام لا ريب فيها و هيأته أن يقال: النفس مكتفية بذاتها و باطن ذاتها في استرجاع صورها المكسوبة العلمية، و لا شيء من المنطبعات بمكتف كذلك، فالنفس ليست بمنطبعة. فالقول بأنّ قوى النفس جسمانية لا تزاحمها، و إن كان الحكم بكونها غير جسمانية تؤكّدها. على أنّ الحق أنّ الوهم عقل ساقط، و سلطان البرهان على ذلك في العين الإحدى و الثلاثين من كتابنا العيون؛ و أنّ البحث عن سهو النفس و نسيانها ثمّ تذكّرها ينجرّ إلى التحقيق في نفس الأمر فراجع العين الرابعة و الثلاثين، و أنّ الصور العلمية حتى المحسوسات بالذات هي لدى النفس كليات مجرّدة على التحقيق في العيون الأخرى من ذلك الكتاب.
بقي في المقام نقل ما أفاده صاحب الأسفار في تقرير الحجة قال:
الحجة الحادية عشرة أنّ كل صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب من الأسباب فإذا زالت عنه و بقي فارغا عنها فيحتاج في استرجاعها إلى استيناف سبب أو سببيته كالماء إذا تسخن بسبب كالنار مثلا ثمّ إذا زالت عنه السخونة لا يمكن عودها إليه إلّا بسبب جديد، و هذا بخلاف النفس في إدراكاتها فإنها كثيرا ما يحدث فيها صورة علمية بسبب فكر أو تعليم معلّم ثمّ يزول عنها تلك الصورة عند الذهول أمكنها استرجاع تلك الصورة لذاتها من غير استيناف ذلك السبب.
و بالجملة النفس من شأنها أن تكون مكتفية بذاتها في كمالاتها، و لا شيء من الجسم مكتف بذاته فالنفس تعالت عن أن تكون جرمية.
لا يقال: الجسم أيضا قد يعود إليه صفته التي كانت فيه بعد زوالها من غير استيناف سبب جديد كالماء إذا زالت عنه البرودة بورود السخونة التي هي ضدّها ثمّ يستعيد طبعه البرودة التي كانت له.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 259
لأنّا نقول: كلامنا في الصفة الطارية للشيء لأجل سبب خارج عن ذات الموصوف، و برودة الماء صفة ذاتية علّتها طبيعة الماء بشرط عدم القاسر، ثمّ إذا عادت البرودة إليه ما عادت إلّا مع سببها أعنى مجموع الطبيعة و عدم المانع. انتهى كلامه.
و على سياق ما في الأسفار تجد الحجة مترجما بالفارسية في أسرار الحكم للحكيم السبزوارى حيث قال: «برهان يازدهم آن است كه هر صورتى يا صفت طارية كه متجدد شود إلخ». و كذلك على السياق المذكور و تجدها في كتابه غرر الفرائد في الحكمة المنظومة هكذا:
و أنّها بذاتها مستكفية |
في عود رسم هي عنه ساهية |
|
و قال في شرحه:
و السابع قولنا و أنّها اى النفس بذاتها مستكفية- أى لا يحتاج إلى أسباب خارجة، و أمّا الاحتياج إلى الأمور الداخلة و مقومات الذات فلا ينافي الاستكفاء- في عود رسم هي أى النفس عنه أى عن ذلك الرسم ساهية. بيانه: أنّ النفس مستكفية بذاتها، و لا شيء من الجسم بمستكف بذاته. أمّا الصغرى فلأنّه قد يزول عن النفس صورة علمية اكتسبتها، و النفس استرجعتها من غير استيناف سبب حصولها. و أمّا الكبرى فلأنّ الماء مثلا إذا تسخّن بسبب فإذا زالت السخونة عنه احتيج في استرجاعها إلى استيناف سبب، و الكلام في الصفة الطارية لعلّة فخرج عود مثل البرودة على الماء بعد زوال السخونة. انتهى.
عبارة الشيخ في رسالة السعادة و الحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق، في تقرير هذه الحجة هكذا:
الحجة التاسعة؛ لو كان العلم عرضا حالا في الجسم لوجب من ذلك أنّه متى زال عنه بنسيان أو غيره أن يعود لا كما حصل أوّلا، إذ فراغ الجسم القابل في الحالتين بمرتبة واحدة، لكنا نرى المرء يعرض به ما يزيل عنه الصورة المعلومة ثمّ إذا زويت عادت بغير حاجة إلى استئناف الجسد. فتبيّن أنّ محلّ العلوم ليس بجسم بل هو جوهر غير جسماني.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 260
و لا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذ ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه و الصورة المعلومة فيه. و ربما تزول عنه هذه الأسباب لإقباله على تصور شيء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له و لا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج، بل يكون في ذاته بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة، بل كقوّة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة؛ ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلي بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد.
و أمّا الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صور مختلفة مدركة و لا استحفاظها بوجه من الوجوه. أ لا ترى أنّ الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة و تقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه و لا معاودته للصورة و قبولها بنوع فعلي بل بنوع انفعالي، فإذا لا يتقرّر هذا القدر. فإذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم و لا قوّة جسمانية لأنّها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلقها فالمسألة قائمة، و إن كفت بذاتها فليست بجسمانية، بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف.
و ذلك ما أردنا أن نبيّن (ص 11، ط حيدرآباد الدكن).
أقول: كون النفس في الصور المدركة على نوع فعلي لا انفعالي، برهان آخر قويم على أنّها جوهر روحانى النسج. و الحجة الرابعة من الرسالة المذكورة في ذلك. و سيأتى تفصيل البحث عن ذلك في البراهين الآتية.
تبصرة: قد دريت بما تقدّم أنّ جوهر النفس الناطقة باق باستقلاله على ما هو عليه من علومه و أعماله، و إن كان قد يعرض عليه أطوار مادّية تشغله عن بعض شأنه، و تحجبها عن الإقبال إلى الأمور التي قبلنا، و الكسب عن العلوم الجديدة. كما قال عزّ من قائل في موضعين من القرآن العظيم: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً (النحل 71). وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً (الحج 6). فإنّ و هن القوى البدنية و فتور محالّها و ضعف مزاجها و اختلالها تمنعها عن أن يعلم و يكسب بعد ما علم علوما جديدة،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 261
بل يصيره الهرم في أرذل العمر مشابه الطفل في نقصان القوى البدنية و إدراك الأمور التي تلينا، و لكن ذلك ليس يضره شيئا و لا ينقصه شيئا. و في الكافي في حديث الأرواح ذكر تلك الآية من النحل ثمّ قال:
فهذا ينتقص منه جميع الأرواح و ليس بالذى يخرج من دين اللّه لأنّ الفاعل به ردّه إلى أرذل العمر فهو لا يعرف للصلاة وقتا، و لا يستطيع التهجّد بالليل و لا بالنهار، و لا القيام في الصف مع الناس فهذا نقصان من روح الإيمان و ليس يضره شيئا.
و الأرواح التي تنقص هي أرواح بخارية مادّية هي مطايا القوى البدنيّة فبضعفها لا يستطيع كسب العلم الذي مشروط بسلامة البدن و لكن ليس يضره ذلك شيئا.
و قد استوفينا البحث عن الأرواح في العين الحادية عشرة من كتابنا: سرح العيون في شرح العيون. و لو تفوه فكر عامّى بزوال ما كسب الإنسان في عمره من العلم و العمل بالهرم و نحوه رأسا لقد توهّم العبث بفطانته البتراء في فعل الحكيم على الإطلاق، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
و قد أفاد القيصرى في شرحه على الفصّ اللوطى من فصوص الحكم بقوله: «قوله تعالى: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، إشارة إلى فناء قابلية الآلة التي بها يظهر العلم في الخارج، لا أنّ الناطقة يطرأ عليها الجهل بعد العلم، و إلّا ما كان يبقى العلم بعد المفارقة (ص 291، ط 1، ايران).
و قد أجاد الجنابذى في تفسير بيان السعادة:
أنّ أرذل العمر يختلف بالنسبة إلى الأشخاص فربّ معمّر لا يصير خرفا في المائة أو أكثر، و ربّ رجل يصير خرفا في الخمس و السبعين، و لذلك اختلف الأخبار في بيان وقت أرذل العمر. لكى لا يعلم من بعد علم شيئا اللام للغاية لأنّ عدم العلم بعد العلم من الغايات العرضيّة لا أنه علة غائية لأن العلة الغائية للإبقاء هي الاستكمال بالعلم و العلم لا زوال العلم بعد الاستكمال به؛ أو هو علّة غائيّة بمعنى أنّ العلوم الدنيويّة و الإدراكات البشرية الحاصلة بالمدارك الدنيوية من الموذيات في الآخرة. و يبقى اللّه بعض عباده لأن يضعف عباده لأن يضعف مداركه الدنيوية و يزول عنها مدركاتها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 262
ليكون على راحة منها في الآخرة، و لذلك كان خير ابن آدم في أن يبقى بعد البلوغ إلى الشيخوخة كما في الخبر لأنّ بقاء الادراكات الدنيوية موذ لصاحبها في الآخرة، و نعم ما قيل:
سينه خود را برو صد چاك كن |
دل از اين آلودگيها پاك كن. |
|
انتهى ما أفاد صاحب بيان السعادة.
و أقول: يسأل المتقشّف القائل بأنّ ما علمه الإنسان و ما عمله يزولان عنه واقعا، عن انّ البالغ إلى أرذل العمر و قد زال عنه ما كسب و اكتسب ثمّ توفي، هل هو مسئول بعد ذلك عن ما فعل أم لا؟ فإن كان مسئولا عنه فكيف يسأل و هو لا يعلم شيئا؟ فالسؤال خلاف العدل الإلهي؛ و إن كان غير مسئول عنه فهو خلاف مقتضى الدين الإلهي بالضرورة فافهم. على أنّه لو لم يكن قوله (تعالى شأنه) لكى لا يعلم من الغايات العرضية، أو علّة غائية للعلوم الدنيوية للزم في فعل الحكيم على الإطلاق.
تبصرة: ما نقلنا عن الشفاء و النجاة، من السؤال و الجواب الشافي، تجده في معارج القدس للغزالي على حذو ما في الكتابين، حتى أنّه قال في آخره: و لنا أن نتوسّع في بيان هذا الباب من أصعب أبواب النفس إلّا أنّه بعد بلوغ الكفاية تنسب الازدياد إلى تكلف ما لا يحتاج إليه. فقد ظهر من أصولنا التي قررنا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن و لا قائمة به فيجب أن تكون علاقتها مع البدن علاقة التدبير و التصرف (ص 34- 36، ط مصر).
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 263
يح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا:
قال الشيخ الرئيس في رسالته في السعادة و الحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق:
لو كانت الصورة المعقولة تحتل جسما من الأجسام و تلابسه لامتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا لأنّ صورتى الضدين هكذا.
و بالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا، و لكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا، فإنّه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحل معه صورة المقابل الثاني إذا علم المتقابلات يكون معا. فتبين أنّ هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى؛ و ذلك ما أردنا أن نبين (ص 8، ط 1، حيدرآباد الدكن).
أقول: هذه الحجة هي الثالثة من الحجج العشر من تلك الرسالة. و يعنى بقوله في النتيجة: «القابل للعلم غير جسم»، العلم بالمتقابلات، و إلّا فالكلام عن مدرك العلم فهو الحجة الأولى من تلك الرسالة الموافقة للبرهان الأوّل من نفس الشفاء كما تقدّم في أثناء بيان ذلك البرهان.
ثمّ قد دريت تفصيل البحث و تحقيقه حول هذه الحجة في الحجة الثالثة من الحجج على تجرّد الخيال بأنّ المتقابلات فيها إذا أخذت على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال، و إذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرد العقلى فيحتجّ تارة بهذه الحجة على التجرد البرزخى الخيالى، و أخرى على التجرد التامّ العقلى.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 264
يط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا:
قال الشيخ في الرسالة المذكورة في السعادة و الحجج العشر:
الحجة الرابعة، الجسم إذا وضعناه محلا للحكمة بذاته أو بمشاركة معنى ما فيه فمن الواجب أن يكون منفعلا عنه قبول الصورة الحكميّة، إذ كل جسم من الأجسام مهما قبل صورة من الصور صحّ عليه جزم القبول بالانفعال؛ ثمّ الجوهر الذي يعقل النتائج أنّما يعقلها بالاستخراج منه لها بالتركيب و التحليل للصورة التي في ذاته، و ذلك فعل لا انفعال؛ و لو كان جسما لكانت هذه المعاني إمّا غير موجودة، و إما انفعالات، قد تبيّن أنّها أفعال موجودة، فإذا ليس بجسم، بل جوهر غير جسمانى. و ذلك ما أردنا أن نبيّن. (ص 9، من ط حيدرآباد الدكن).
و قد حرّره في الفصل التاسع من رسالة اهداها إلى الأمير نوح الساماني بوجه أبسط، و هو البرهان الثالث فيها. فقال:
من البراهين التي تدلّ على هذا المطلوب ما أنا مبيّنه فأقول: حلول الصورة في الجسم انفعال و قبول و لامتناع كون الشيء الواحد فاعلا و منفعلا يتضح لنا أنّ الجسم لا يمكنه أن يلبس بذاته صورة معقولة و يخلع أخرى؛ ثمّ نرى الإنسان قد تدبّر يتصوّر عن صورة معقولة إلى أخرى، و ذلك لا يخلو إمّا أن يكون فعلا خاصّا للجسم، أو فعلا خاصّا للقوّة الناطقة أو فعلا مشتركا بينهما و قد بيّن أنّ الفعل لا يجوز أن تكون إضافته إلى الجسم بالتخصيص.
و أقول: و لا أيضا بالشركة إذ الجسم معاون القوّة على إحلال صورة ما في ذاته و خلع صورة عن ذاته إذ علم أنّ الجسم مع القوّة يصيران موضوعين لهذه الصورة الحاصلة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 265
و الموضوع لا يوسم إلّا بالانفعال المجرّد و كلا هذين فعلان فإذن هذا الفعل خاصّ إلى القوّة و كل شيء لم يحتج في فعله الصادر عن ذاته إلى شيء يعينه فلن يحتاج في قوام ذاته إلى شيء يعينه إذ الانفراد بقوام الذات يتقدّم الانفراد بإصدار الفعل بالذات، فإذن هذه القوّة جوهر قائم بذاته، فإذن النفس الناطقة جوهر.
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 267
الباب الرابع: من الحجج البالغة على أنّ للنفس الناطقة مقام فوق التجرّد العقلي
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 269
قد أشرنا في تضاعيف الحجج السالفة أنّ للنفس الناطقة الإنسانية مقام فوق التجرّد، و نعنى بذلك أنّ النفس كما أنّها جوهر مجرّد عن المادّة الطبيعيّة و أحكامها كذلك لا تقف إلى حدّ بل كلّما زادت علما زادت سعة و قدرة تستعدّ للارتقاء إلى المعارج الأخرى و للاعتلاء إلى المدارج العليا، و هذه خصيصة اختص ذلك الجوهر الفرد بها، و لا تجد موجودا مجرّدا له هذا الشأن الارتقائى اللّايقفى، سبحان اللّه ما أعظم شأن الإنسان و قد قال تعالى شأنه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين، 5). و أشرت إلى ذلك المعنى في غزل من ديواني:
نفس را فوق تجرّد بود از أمر إله |
واحد است ار چه نه آن واحد كمّ عدديست |
|
و لعمرى إنّ قصيدتى التائية العائرة المسمّاة ب ينبوع الحياة لها شأن في بيان مدارج النفس الناطقة و معارجها و مقام فوق تجرّدها العقلى، و هي تنتهى إلى 426 بيتا، و من أبياتها:
تصفّحت أوراق الصحائف كلّها |
فلم أر فيها غير ما في صحيفتى |
|
تجرّدها ممّا هي للطبيعة |
يفيد بقاء النفس للأبديّة |
|
كذاك مقام فوق ذاك التجرّد |
لها ثابت أيضا بحكم الأدلّة |
|
على صورة الرحمن جلّ جلاله |
بدى هذا الإنسان من أمشاج نطفة |
|
و سبحان ربّي ما أعزّ عوالمي |
و أعظم شأني في مكامن بنيتي |
|
و ما آية في الكون منى بأكبرا |
و نفسي كتاب قد حوى كلّ كلمة |
|
عجائب صنع النفس يا قوم ماهية |
و ما يعدل صنع بتلك الصّنيعة |
|
و قد حرّرنا البحث عن هذه البغية القصوى و الغاية العليا- أعنى أن النفس الناطقة
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 270
الإنسانية لها مقام فوق تجرّد- في سائر مصنفاتنا بحث تحقيق و تنقيب، فراجع في ذلك شرح العين الرابعة و العشرين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس؛ و كتابنا الفارسى الموسوم ب إنسان و قرآن (ص 196، ط 1)؛ و كتابنا الفارسى الآخر أيضا الموسوم ب مجموع مقالات (ص 80 و ص 141)؛ و كتابنا الفارسى الآخر أيضا المسمّى ب گنجينه گوهر روان.
و قد شرحنا كلام الوصي الإمام أمير المؤمنين على عليه السّلام في هذا الموضوع الأهم و الأمر المبرم حيث قال: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتسع به» (نهج البلاغة، باب المختار من حكمه عليه السّلام، الحكمة 205)، بالفارسية و جعلنا ذلك الشرح المنيف الكلمة 110 من كتابنا (هزار و يك كلمه) أى ألف كلمة و كلمة، و تلك الكلمة رسالة فريدة قيّمة في ذلك المقصد الأقصى و المرصد الأسنى.
و إن شئت فراجع أيضا في بيان أنّ النفس الناطقة لها ذلك المقام الأشمخ رسالتنا الفارسية الكريمة الأخرى الموسومة ب مدارج و معارج و هي كلمة 254 من كتابنا المذكور هزار و يك كلمه؛ و الدرس التاسع عشر من كتابنا اتحاد عاقل بمعقول، و النكتتين 421 و 658 من كتابنا الف نكتة و نكتة، و الدروس 100 و 102 و 103 من كتابنا دروس معرفت نفس فإنّ كل واحد منها يتضمّن لطائف إشارات إلى أنّ للنفس الناطقة رتبة فوق التجرّد العقلانى.
و كذا الباب الأوّل من رسالتنا الأخرى بالعربية الموسومة ب الصحيفة الزبرجدية في كلمات سجّادية مجد جدّا في الاعتلاء إلى ذروة التحقيق و التدقيق حول موضوع هذا الباب، و اللّه سبحانه وليّ التوفيق.
و من تلك الإشارات المشرقيّة تنتقل إلى أنّ وحدة النفس الناطقة ليست وحدة عدديّة بل وحدة حقّة جمعيّة ظلّية للوحدة الحقّة الحقيقة الإلهيّة، و اللّه سبحانه فتّاح القلوب و منّاح الغيوب.
و ممّا يرشدك إلى أنّ للنفس الناطقة رتبة فوق التجرّد العقلانى ائتلاف حديثين شريفين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحدهما: «ما من مخلوق إلّا و صورته تحت العرش»،
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 271
و الآخر: «قلب المؤمن عرش اللّه الأعظم» فتدبّر.
قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في الأسفار: «إنّ النفس الإنسانية ليس لها مقام معلوم في الهوية، و لا لها درجة معينة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعية و النفسيّة و العقلية التي كل لها مقام معلوم؛ بل النفس الإنسانية ذات مقامات و درجات متفاوتة، و لها نشئات سابقة و لا حقة، و لها في كل مقام و عالم صورة أخرى كما قيل:
لقد صار قلبى قابلا كل صورة |
فمرعى لغزلان و ديرا لرهبان ... |
|
(أوّل الفصل الثالث من الباب الرابع من كتاب النفس، ج 4، ص 83، ط 1).
و لنا تعليقة في المقام على الأسفار بهذه الصورة: قوله قدّس سرّه: «ليس لها مقام معلوم في الهويّة ...» أى ليس لها بحسب الوجود حدّ تقف عنده، و يعبّر عن هذا المعنى بأنّ النفس لها مقام فوق التجرّد، قال المتأله السبزوارى:
و انّها بحت وجود ظلّ حق |
عندى و ذا فوق التجرّد انطلق |
|
فتدبر قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً الآية (الكهف 110)، و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية (لقمان 28)، و القرآن مأدبة اللّه و ما على تلك المأدبة الإلهيّة و هي غير متناهية، طعامك فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ فذاتك ظرف يتسع ما على تلك المأدبة، و قال قدوة الموحّدين مولانا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتّسع»، و هذه كلّها تدل على أنّ النفس ليس لها مقام معلوم في الهوية، و قد قال الأمير عليه السّلام في وصيته لابنه محمّد: «اعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ و ارق» (الوافي، ج 14، ص 56، ط 1، من يه) فافهم. ثمّ إنّ للنفس نشئات سابقة بنحو الجمع، و نشئات لا حقة بنحو الفرق. و البيت من ترجمان الأشواق للشيخ الأكبر (ص 43 من طبع بيروت) و بعده:
و بيت لأوثان و كعبة طائف |
و ألواح توراة و مصحف قرآن |
|
و قد أجاد الشيخ الإشراقى السهروردى في الهيكل الثانى من هياكله في بيان تجرّد النفس الناطقة، و بيان فوق مقام تجرّدها بقوله القويم:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 272
«كيف تتوهم هذه الماهية القدسية جسما و إذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك عالم الأجساد و تسترط عالم ما لا يتناهى؟!».
أقول: هذه الحجة قد نقلها الشيخ البهائى عنه في الدفتر الرابع من كشكوله (ص 398، ط 1). و عبارتها في النسخ مختلفة ففي طبع مصر (ص 13، ط 1335 ه) كيف يتصوّر الإنسان ... جسما و هي إذا طربت ... عالم الأجسام و تطلب عالم ما لا يتناهى.
و في نسخة مخطوطة عندنا من شرح الهياكل للدوانى مطابقة لما اخترناها إلّا أنّ فيها:
«كيف يتوهّم الإنسان هذه الماهية ... عالم الأجسام و يطلب عالم ما لا يتناهى» مكان «و يسترط عالم ما لا يتناهى»؛ و قال في الشرح: «و في نسخة أخرى يسترط» يعنى جاء في نسخة أخرى مكان يطلب، قوله «يسترط».
و عبارتها في الكشكول هكذا:
و كيف تتوهّم هذه الماهية القدسيّة جسما و الحال أنّها إذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك عالم الأجساد و تطلب عالم ما لا يتناهى كما يشهد أرباب الشهود.
و الزيادات في الكشكول كلّها في شرح الدوانى من عبارات الشرح.
قوله: «و يسترط عالم ما لا يتناهى ...» أى يبتلعه، يقال سرطه كطلب و فرح، و استرطه أى ابتلعه.
و الحجة متقنة غاية الإتقان؛ و في الاستراط إيماء إلى أنّ للنفس فوق مقام التجرّد، و كأنّه ناظر إلى قوله (علت كلمته): إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فافهم. و أنّى للجسم هذه الشأنيّة الكبرى و هو مسجون في القيود و الحدود و الأحياز و العوارض و العلائق؟!.
و نسخة الهياكل الفارسية ترجم الاستراط، حيث قال:
و چگونه جسم تواند بود كه گاه باشد كه در طرب آيد و خواهد كه عالم اجسام را فرو برد و طلب عالم بىنهايت كند. (ص 87- ط ايران).
تبصرة: الحجة المذكورة قريبة ممّا أتى به المعلّم الفارابى في الفص الحادى و الثلاثين من فصوصه حيث قال:
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 273
إنّ الروح التي لك من جواهر عالم الأمر لا تتشكّل بصورة، و لا تتخلّق بخلقة، و لا تتعيّن لإشارة، و لا تتردّد بين سكون و حركة، فلذلك تدرك المعدوم الذي فات، و المنتظر الذي هو آت، و تسبح في الملكوت، و تتنفّس من عالم الجبروت.
إن شئت فراجع شرحنا على فصوص الفارابى المسمّى ب نصوص الحكم على فصوص الحكم (ص 179).
و قد أفاد و أجاد المتأله السبزوارى في بيان تجرّد النفس الناطقة و بيان مقام فوق تجرّدها في أوّل شرح الأسماء (ص 4، ط 1) بقوله الرصين:
و لا تستبعدنّ كون النفس وجودا بلا ماهيّة إذ ليس لها حدّ يقف في مراتب الكمال فكلّ مرتبة يصل إليها يتجاوز عنها فلا سكون و طمأنينة لها، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ و كلّ حدّ من الفعليّة تحصل لها تكسّرها خلق الإنسان ضعيفا، و كلّ حياة تفيض عليها تميتها اقتلوا أنفسكم فتوبوا إلى بارئكم فهي شعلة ملكوتيّة لا تخمد نارها، و لمعة جبروتية لا يطفى نورها، لا سيّما النفس المقدّسة الختميّة التي أخبرت عن مقامها في النبويّ المشهور: لي مع اللّه وقت لا يسعنى فيه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل ....
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 275
الباب الخامس: في التبرّك بالتمسّك بطائفة من آيات و روايات في تجرّد النفس الناطقة و فوق تجرّدها العقلي
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 277
قال اللّه (تعالى شأنه): وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 155).
قال البيضاوي في تفسير هذه الآية الكريمة ما هذا لفظه:
و فيها دلالة على أنّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحسّ به من البدن تبقى بعد الموت درّاكة، و عليه جمهور الصحابة و التابعين، و به نطقت الآيات و السنن.
قوله عزّ من قائل: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (القرآن الحكيم، سورة آل عمران، الآية 171).
و قال البيضاوى في تفسير هذه الآية:
الآية تدلّ على أنّ الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن، و لا يتوقف عليه إدراكه و تألمه و التذاذه.
و قال اللّه سبحانه: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (القرآن العظيم، سورة الإسراء، الآية 85).
قال سبط ابن الجوزى في التذكرة (ط 1، من الرحلى الحجرى، ص 87):
في رواية طويلة أنّ ملك الروم كتب إلى أمير المؤمنين على عليه السّلام: علمت أنك من أهل بيت النبوّة و معدن الرسالة و أنت موصوف بالشجاعة و العلم، و أؤثر أن تكشف لي عن مذهبكم الروح التي ذكرها اللّه في كتابكم في قوله: و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّى؟ فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام: أمّا بعد فالروح نكتة لطيفة و لمعة شريفة من صنعة بارئها و قدرة منشئها، أخرجها من خزائن ملكه و أسكنها
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 278
في ملكه، فهي عنده لك سبب و له عندك وديعة، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك، و السلام.
ثمّ قال البسط: «و من هاهنا أخذ ابن سينا فقال:
هبطت إليك من المحلّ الأرفع |
و رقاء ذات تعزّز و تمنّع؛ الأبيات» |
|
.
و أفاد صاحب بيان السعادة في تفسير تلك الكريمة أعنى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...
بقوله:
أي الروح التي بها الحياة الإنسانيّة فإنّ الروح تطلق على البخار المتكوّن في القلب المنتشر في البدن بواسطة الشرايين و تسمّى روحا حيوانيّة؛ و على البخار المتصاعد من القلب إلى الدماغ فتعتدل ببرودته و تسمّى روحا نفسانيّة؛ و على التي بها حياة الحيوان و تسمّى نفسا حيوانية، و على التي بها حياة الإنسان و تسمّى نفسا ناطقة و هذه هي مراد السائلين لأنّها المدركة لهم بالآثار دون سابقتها فإنّها مختفية تحت شعاع نفس الإنسان؛ و تطلق على طبقة من الملائكة و تسمّى في لسان الإشراق بأرباب الأنواع و في لسان الشرع بالصّافات صفّا؛ و على ملك أعظم من جميع الملائكة، و له بعدد كل إنسان وجه و هو ربّ نوع الإنسان، و له الرئاسة و الإحاطة على جميع الأنواع و أربابها، و هو مع كل أفراد الإنسان و ليسوا معه، و ما ورد في بيان الروح أنّها ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل و كان مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله ثمّ مع الأئمة إشارة إلى هذا المعنى. و معنى كونه مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله دون سائر الأنبياء عليهم السّلام أنّ معيّته مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله معه و إلّا فهو مع كل أفراد الإنسان بل مع كلّ ذرات العالم، وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي إشارة إلى تلك الروح فإنّ الروح المنفوخة في آدم عليه السّلام ظل تلك الروح.
و لمّا كانت الروح المسئول عنها أمرا مجرّدا معقولا لا يدركه إلّا ذو و العقول و كان السائلون أهل الحس لا يتجاوز إدراكهم المحسوسات أمره صلّى اللّه عليه و آله بالإجمال في الجواب فقال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أى ناشئة من أمر ربّى من غير سبق استعداد مادّة حتى تكون محسوسة فتدركونها بالحواس الظاهرة أو الباطنة، أو من عالم أمره و لا يصل إدراككم إليه، و لذلك قال: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا منكم أو قليلا من
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 279
العلم و هو العلم بالمحسوس من آثارها و ليس لكم علم عالم الأمر، و لفظة ما نافية أو استفهامية إنكارية.
و قال اللّه عزّ و جلّ في سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...؛ و قال في سورة الشرح: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...؛ و قال: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ...
(سورة النحل، الآية 90)؛ و الإنزال دفعى، و التنزيل تدريجى، و يجب الفرق بين انزال القرآن و بين تنزيله فإنّ إنزاله كان في صدر خاتم الأنبياء دفعة واحدة، و تنزيله كان في مدة ثلاثة و عشرين عاما، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمر كتاب الوحى و غيرهم بجعل السور و الآيات التنزيلية على صورة القرآن الإنزالي؛ مثلا إنّ كريمة وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ آخر آية نزلت من القرآن، و قال جبرئيل ضعها في رأس الثمانين و المائتين من البقرة.
و جملة الأمر أنّ ترتيب السور القرآنية و كذلك ترتيب آياتها كلّها توقيفي، و السور و الآيات التنزيلية رتّبت على صورة القرآن الإنزالى في ليلة القدر بأمر اللّه سبحانه و رسوله؛ و قد حقّقنا ذلك الأمر القويم الحكيم في رسالتنا فصل الخطاب في عدم تحريف كتاب ربّ الأرباب.
و الغرض أنّ كل أثر يحاكى شأن مؤثّره كما قال اللّه سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ (الإسراء، 85) و حيث إنّ وجود الحق سبحانه غير متناه فآثاره الوجودية من الكتاب التكوينى و التدوينى على شاكلته غير متناهية، فالصدر الذي هو وعاء حقائق القرآن الكريم له مقام فوق التجرد العقلى فافهم و تدبّر و راجع الباب الأوّل من رسالتنا المذكورة الصّحيفة الزبرجديّة في كلمات سجّادية.
ما قدّمناها من الآيات الكريمة فإنّما كانت انموذجا في بيان تجرّد النفس الناطقة و فوق تجردها و العقلى، و كذلك نهدى إليك بعض روايات في الأمرين المذكورين؛ و قد ذكرنا عدة آيات و روايات أخرى في آخر كتابنا الفارسى گنجينه گوهر روان فليرجع الطالب الكريم إليه:
روى الآمدي في غرر الحكم و درر الكلم، و ابن شهرآشوب في المناقب أنّ الوصيّ
الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة، ص: 280
الإمام أمير المؤمنين عليا عليه السّلام سئل عن العالم العلوي فقال: صور عارية عن المواد، عالية من القوّة و الاستعداد، تجلّى لها ربّها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، و ألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله؛ و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّيها بالعلم و العقل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
الأرواح طيور سماوية في أقفاص الأشباح البشرية إذا التفتت بالعلم صارت ملائكة، و إذا التفتت بالجهل صارت حشرات الأرض ...».
(مطلع الشمس، ج 2، ص 247، ط 1 من الرحلى).
و إن شئت فراجع شرح الفصّ الخمسين من كتابنا الفارسى نصوص الحكم بر فصوص الحكم (ص 295).
بصائر الدرجات بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبى عبد اللّه عليه السّلام:
مثل روح المؤمن و بدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت الجوهرة منه أطرح الصندوق و لم يعبأ به؛ قال: إنّ الأرواح لا تمازج البدن و لا تواكله و إنّما هي اكليل البدن محيطة به» (البحار، ج 14، ص 398، ط 1).
و اعلم أنّ غرر الروايات الصادرة عن أهل بيت العصمة عليه السّلام في المقام كثيرة جدّا؛ و قد نقلنا أربعين حديثا في معرفة النفس في النكتة الأخيرة من كتابنا ألف نكتة و نكتة، و كذلك عدة روايات في ذلك في كتابنا گنجينه گوهر روان. و نختم الكتاب هاهنا بكريمة وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ مبتهجا بما وعدنا اللّه سبحانه بفضله العميم:
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
و قد فرغنا من تصنيف هذا الكتاب العظيم الحكيم في يوم الجمعة السادس من شهر ربيع الأوّل من سنة 1421 ه ق 20/ 3/ 1379 ه ش.
و أنا العبد: حسن حسن زاده الطبرى الآملى.