تاریخ انتشار: 1400/08/04     
النفس

النفس من كتاب الشفاء

النفس من كتاب الشفاء، ص: 5

مقدّمة التحقيق‏

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏ الحمد للّه الذي خلق ملكه على مثال ملكوته، و أسّس ملكوته على مثال جبروته، ليستدلّ بملكه على ملكوته، و بملكوته على جبروته.

و الصّلوة و السلام على ممدّ الهمم رسوله الخاتم، و آله الموازين القسط أئمّة الأمم، و من سلكوا نهجهم الهادين الى الطريق الأمم.

و بعد فلا يخفى على من لم يهمل نفسه و لم ينسها أن معرفة النفس هى السبيل الى معرفة الواجب تعالى شأنه، و الطريق إلى الإيقان بالمعاد المفضى الى تحصيل السعادة الأبديّة، فهى أفضل المعارف و أنفعها. قوله سبحانه: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.

قال الوصيّ الإمام أمير المؤمنين على- عليه السلام-: «لا تجهل نفسك فان الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شي‏ء».

و قال عليه السلام: «من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة و علم».

و قال عليه السلام: «من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة و خبط في الضلال و الجهالات».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 6

و قال عليه السلام: «معرفة النفس انفع المعارف».

و قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربّه».

و قد اعتنى اساطين العلم من قديم الدهر بتصنيف الصحف النورية في معرفة النفس الانسانية، و قد عددنا عدة منها فى مفتتح كتابنا الفارسي في معرفة النفس الموسوم ب «گنجينه گوهر روان». و من تلك الصحف الكريمة كتاب نفس الشفاء للشيخ الرئيس- رضوان اللّه عليه- و قد قرأناه عند شيخنا الأعظم و استاذنا الأكرم العلامة الشعرانى- قدس سرّه الشريف- (سنة 1380 ه ق 1340 ه ش).

و بعد ذلك بذلنا الجدّ و الجهد في تصحيحه و تدريسه و التعليق عليه. و قد رزقنا اللّه المفيض الوهّاب و مهيّئ الأسباب و مسبّبها، عدة نسخ من الشفاء مخطوطة و مطبوعة مصحّحة من مشايخ العلم و اساطين الحكمة، و هذا السفر القويم الموشح بتعليقاتنا عليه قد صحّحناه بالعرض عليها، و نهديه إلى النفوس المستعدة للاعتلاء إلى ذرى معارج المعارف. و نسأل اللّه العصمة و السداد، و أن يجعله ذخرا ليوم المعاد.

و ترى في آخر الكتاب نماذج من تصاوير بعض صفحات نسخنا المذكورة الموجودة فى مكتبتنا. دعويهم فيها سبحانك اللّهم و تحيّتهم فيها سلام و آخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين.

29/ 3/ 1375 ه ش- غرة الصفر 1417 ه ق- قم.

حسن حسن زاده الآملى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 7

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏

الفن السادس من الطبيعيات‏

قد استوفينا فى الفن الأول الكلام على الأمور العامّة فى الطبيعيات، ثم تلوناه بالفن الثانى فى معرفة الاجرام و السماء و العالم و الصور «1» و الحركات الأولى فى عالم الطبيعة، و حققنا أحوال الأجسام التى لا تفسد و التى تفسد، ثم تلوناه بالكلام على الكون و الفساد و أسطقساتها، ثم تلوناه بالكلام على أفعال الكيفيات الأولى و انفعالاتها و الأمزجة المتولدة منها.

و بقى لنا أن نتكلم على الأمور الكائنة، فكانت الجمادات و ما لا حس له و لا حركة إرادية أقدمها و أقربها تكوّنا من العناصر، فتكلّمنا فيها فى‏

______________________________
(1)- فى معرفة الاجرام و الصور و الحركات الأولى (كما فى نسختين مقروتين مصححتين من الشفاء). و نسخة اخرى مصحّحة أيضا فى غاية الجودة مطابقة لما فى الكتاب اعنى:

«فى معرفة الاجرام السماء و العالم و الصور و الحركات الاولى».

فالسماء و العالم بيان للاجرام كما قال فى اول الفن الثانى ص 159، فى السماء و العالم. و الاجرام السماوية من التصحيحات الخبالية الخيالية. ثم العبارة فى طبع مصر هكذا: «فى معرفة السماء و العالم و الاجرام و الصور ...» و هى حسنة ان لم تكن بالتصحيح القياسى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 8

الفن الخامس.

و بقى لنا من العلم الطبيعى النظر فى أمور النباتات و الحيوانات لما كانت النباتات و الحيوانات متجوهرة الذوات عن صورة هى النفس و مادة هى الجسم و الأعضاء، و كان أولى ما يكون علما بالشى‏ء هو ما يكون من جهة صورته، رأينا أن نتكلم أولا فى النفس، و لم نر أن ننثر «1» علم النفس فنتكلم أولا فى النفس النباتية و النبات، ثم فى النفس الحيوانية و الحيوان، ثم فى النفس الإنسانية و الإنسان. و إنما لم نفعل ذلك لسببين:

أحدهما أن هذا التنثير مما يوعّر «2» ضبط علم النفس المناسب بعضه لبعض.

و الثانى أن النبات يشارك الحيوان فى النفس التى لها فعل النمو و التغذية و التوليد. و يجب لا محالة أن ينفصل عنه‏ «3» بقوى نفسانية تخص جنسه ثم تخص أنواعه. و الذى يمكننا أن نتكلم عليه من أمر نفس النبات هو ما يشارك فيه الحيوان. و لسنا نشعر كثير شعور بالفصول المنوعة لهذا المعنى الجنسى فى النبات؛ و إذا كان الأمر كذلك لم تكن نسبة هذا القسم من النظر إلى أنه كلام فى النبات أولى منه إلى أنه كلام فى الحيوان؛ إذ كانت نسبة الحيوان إلى هذه النفس نسبة النبات إليها «4» و كذلك أيضا حال‏

______________________________
(1)- فى ثلاث نسخ مصحّحة من الشفاء جائت العبارة «نبتّر» من التبتير بمعنى التقطيع، و كذا قوله الآتى: «إن هذا التبتير». و فى هذه النسخة جاءت العبارة «ننثّر» و «التنثير» بالنون و الثاء المثلثة من التفريق مقابل التنظيم. و المآل واحد.

(2)- اى يصعب.

(3)- اى ينفصل الحيوان عن النبات.

(4)- و لا يختص هذا النوع من النظر بالنبات بل هذا النوع من النظر مشترك بين الحيوان و النبات.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 9

النفس الحيوانية بالقياس إلى الإنسان و الحيوانات الأخر.

و إذ كنا إنما نريد أن نتكلم فى النفس الحيوانية و النباتية من حيث هى مشتركة، و كان لا علم بالمخصص إلا بعد العلم بالمشترك، و كنا قليلى الاشتغال بالفصول الذاتية لنفس نفس و لنبات نبات و لحيوان حيوان لتعذر ذلك علينا. فكان‏ «1» الأولى أن نتكلم فى النفس فى كتاب واحد، ثم إن أمكننا أن نتكلم فى النبات و الحيوان كلاما مخصصا فعلنا. و أكثر ما يمكننا من ذلك يكون متعلقا بأبدانها و بخواص من أفعالها البدنية، فلأن نقدّم تعرّف أمر النفس و نؤخّر تعرّف أمر البدن أهدى سبيلا «2» فى التعليم من أن نقدّم تعرّف أمر البدن و نؤخّر تعرّف أمر النفس. فإن معونة معرفة أمر النفس فى معرفة الأحوال البدنية أكثر من معونة معرفة البدن فى معرفة الأحوال النفسانية. على أن كل واحد منهما يعين على الآخر، و ليس أحد الطرفين بضرورى التقديم، إلا أنا آثرنا أن نقدّم الكلام فى النفس لما أمليناه من العذر «3»، فمن شاء أن يغيّر هذا الترتيب فعل بلا مناقشة لنا معه.

و هذا هو الفن السادس، ثم نتلوه فى الفن السابع بالنظر فى أحوال النبات، و فى الفن الثامن بالنظر فى أحوال الحيوان. و هناك نختم العلم الطبيعى، و نتلوه بالعلم الرياضى فى فنون أربعة، ثم نتلو ذلك كله بالعلم الإلهى، و نردفه شيئا من علم الأخلاق، و نختم كتابنا هذا به.

______________________________
(1)- جواب «و اذ كنا».

(2)- لانّ العلم بالشى‏ء من جهة صورته اهدى سبيلا من العلم بذلك الشى‏ء من جهة مادّته.

(3)- من انّ الاولى بالعلم بالشى‏ء هو ما يكون من جهة صورته.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 11

المقالة الأولى‏

خمسة فصول:

الفصل الأول: فى اثبات النفس و تحديدها من حيث هى نفس.

الفصل الثانى: فى ذكر ماقاله القدماء فى النفس فى جوهرها و نقضه.

الفصل الثالث: فى أنّ النفس داخلة فى مقولة الجوهر.

الفصل الرابع: فى تبيين أنّ اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها.

الفصل الخامس: فى تعديد قوى النفس على سبيل التصنيف.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 13

الفصل الاول فى إثبات النفس و تحديدها من حيث هى نفس‏

نقول: إن أول ما يجب أن نتكلم فيه إثبات وجود الشى‏ء الذى يسمى نفسا، ثم نتكلم فيما يتبع ذلك فنقول: إنا قد نشاهد أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة، بل نشاهد أجساما تغتذى و تنمو و تولّد المثل و ليس ذلك لها لجسميتها، فبقى أن تكون فى ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها، و الشى‏ء الذى تصدر عنه هذه الأفعال. و بالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على و تيرة واحدة «1» عادمة للإرادة، فإنا نسمّيه نفسا. و هذه اللفظة اسم لهذا الشى‏ء، لا من حيث هو جوهره، و لكن من جهة إضافة مّا له، أى من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل، و نحن نطلب جوهره و المقولة التى يقع فيها من بعد. ولكنا الآن إنما أثبتنا وجود شى‏ء هو مبدأ لما ذكرنا، و أثبتنا وجود شى‏ء من جهة مّا له عرض مّا و نحتاج أن نتوصّل من‏

______________________________
(1)- و فى تعليقة نسخة: فانه اذا كان آثاره على و تيرة واحدة و عادمة للارادة فهو صورة معدنية لا يسمى نفسا بل المبدأ اما ان يصدر عنه آثاره على و تيرة واحدة مع الارادة فهذا المبدأ هو النفس الفلكى او يصدر عنه آثار مختلفة مع الارادة فالمبدأ هو النفس الحيوانى او يصدر عنه آثار مختلفة مع عدم الارادة فالمبدأ هو النفس النباتى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 14

هذا العارض الذى له إلى أن نحقّق ذاته لنعرف ماهيته، كأنّا قد عرفنا أن لشى‏ء يتحرك محركا مّا. و لسنا نعلم من ذلك أن ذات هذا المحرك ما هو.

فنقول: إذا كانت الأشياء، التى يرى أن النفس موجودة لها، أجساما، و إنما يتم وجودها من حيث هى نبات و حيوان لوجود هذا الشى‏ء لها، فهذا الشى‏ء جزء من قوامها. و أجزاء القوام كما علمت فى مواضع هى قسمان: جزء يكون به الشى‏ء هو ما هو بالفعل، و جزء يكون به الشى‏ء هو ما هو بالقوة، إذ هو بمنزلة الموضوع؛ فإن كانت النفس من القسم الثانى‏ «1»، و لا شك أن البدن من ذلك القسم، فالحيوان و النبات لا يتم حيوانا و لا نباتا بالبدن و لا بالنفس‏ «2» فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا. فذلك هو النفس و هو الذى كلامنا فيه، بل ينبغى أن تكون النفس هو ما به يكون النبات و الحيوان بالفعل نباتا و حيوانا. فإن كان جسما أيضا، فالجسم صورته ماقلنا «3»؛ و إن كان جسما بصورة مّا، فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ، بل يكون كونه مبدأ من جهة تلك الصورة، و يكون صدور تلك الأحوال عن تلك الصورة بذاتها. و إن كان بتوسط هذا الجسم، فيكون المبدأ الأول تلك الصورة، و يكون أول‏

______________________________
(1)- و فى تعليقة نسخة: اى يكون الشى‏ء ما بالقوة.

(2)- قوله و لا بالنفس يعنى بها النفس المفروض فى قوله فإن كانت النفس من القسم الثانى أى يكون الشى‏ء بالقوة. و لا يخفى عليك ان الحيوان و النبات لا يتمّ حيوانا و لا نباتا بهذه النفس المفروضة التى هى بالقوة بعد، و لذا قال: «فيحتاج الى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا». و معنى قوله: «لما قلنا» هو ما قال آنفا: «و انما يتم وجودها- اى وجود الاجسام- من حيث هى نبات و حيوان لوجود هذا الشى‏ء لها». و هو الشى‏ء الذى يصدر عنه هذه الافعال من التغذية و التنمية و التوليد.

(3)- فى تعليقة نسخة: من انّ هذه الاثار ليست للجسمية بل لها مبدأ غير الجسمية.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 15

فعله بوساطة هذا الجسم، و يكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان، لكنه أول جزء يتعلق به المبدأ، و ليس هو بما هو جسم إلا من جملة الموضوع. فتبيّن أن ذات النفس ليس بجسم، بل هو جزء للحيوان و النبات، هو صورة أو كالصورة أو كالكمال.

فنقول الآن: إن النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال قوة «1».

و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من‏ «2» الصور المحسوسة و المعقولة على معنى آخر قوة.

و يصح أن يقال أيضا لها بالقياس إلى المادة التى تحلها فيجتمع منهما «3» جوهر نباتى أو حيوانى صورة.

و يصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة كمال، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم تحصّلها طبيعة الفصل البسيط «4» أو غير البسيط «5» منضافا إليها؛ فإذا انضاف كمل النّوع. فالفصل كمال النوع بما

______________________________
(1)- لا القوة بالمعنى القابل للفعل، بل القوة بمعنى المبدأ للفعل.

(2)- قوله- قدس سره-: «بالقياس الى ما يقبلها» فان قابل الصور المحسوسة النفس الحيوانية، و قابل الصور المعقولة النفس المجردة و هو معنى آخر غير الاول. و اعلم انّ القول بقبول النفس غير مقبول فى الحكمة المتعالية لانه مبنى على انّ النفس تنفعل من صور المحسوسات و المعقولات، و اما الحكمة المتعالية فحاكمة بانّ النفس تنشى‏ء الصور فى مرحلة، و اخرى على النحو الذى فوق الانشاء على ما هو مقرر فى محله و معلوم لاهله.

(3)- اى من النفس و المادة.

(4)- و فى تعليقة نسخة: كالناطق بالنسبة الى الحيوان.

(5)- كالحساس و المتحرّك بالارادة بالنسبة الى الحيوان.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 16

هو نوع و ليس لكل نوع فصل بسيط «1»، قد علمت هذا، بل إنما هو للأنواع المركبة الذوات من مادة و صورة، و الصورة منها هو الفصل البسيط لما هو كماله.

ثم كل صورة كمال‏ «2»، و ليس كل كمال صورة، فإن الملك كمال المدينة، و الربّان كمال السفينة، و ليسا بصورتين للمدينة و السفينة، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة للمادة و فى المادة.

فإن الصورة التى هى فى المادة هى الصورة المنطبعة فيها القائمة بها، اللهم إلا أن يصطلح فيقال لكمال النوع صورة النوع. و بالحقيقة فإنه قد استقر الاصطلاح على أن يكون الشى‏ء بالقياس إلى المادة صورة، و بالقياس إلى الجملة غاية و كمالا، و بالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا و قوة محركة.

و إذا كان الأمر كذلك فالصورة تقتضى نسبة إلى شى‏ء بعيد من ذات الجوهر «3» الحاصل منها، و إلى شى‏ء «4» يكون الجوهر الحاصل هو ما

______________________________
(1)- قوله: «و ليس لكل نوع فصل بسيط» الفصل البسيط هو الفصل الاشتقاقى المنطقى و فى تعليقة نسخة من الشفاء فى المقام ما افاد من قوله: «فيه دلالة على انّ ما له فصل عقلى فله صورة خارجية، و ان الجنس و الفصل يكونان للمركبات الخارجية من المادة و الصورة و قد صرّح بهذا فى عدّة مواضع من كتاب التعليقات» انتهى كلام ذلك المحشى.

(2)- قوله- قدس سره-: «ثم كل صورة كمال» اقول هذا شروع فى بيان امرين الاول منهما بيان ترجيح الكمال على الصورة فى تعريف النفس. و الثانى منهما بيان ترجيح الكمال على القوة فى ذلك التعريف. و هذا يبيّن فى قوله الآتى: «و ايضا إذا قلنا انّ النفس كمال فهو اولى من ان نقول قوة».

(3)- اى النوع.

(4)- اى المادة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 17

هو به‏ «1» بالقوة، و إلى شى‏ء لا تنسب الأفاعيل إليه، و ذلك الشى‏ء «2» هو المادة لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة.

و الكمال يقتضى نسبة إلى الشى‏ء التام الذى عنه تصدر الأفاعيل لأنه كمال بحسب اعتباره للنوع‏ «3». فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال‏ «4» كان أدل على معناها، و كان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها «5»، و لا تشذ النفس المفارقة للمادة عنه.

و أيضا إذا قلنا: إن النفس كمال فهو أولى من أن نقول: قوة، و ذلك لأن الأمور الصادرة عن النفس منها ما هى من باب الحركة، و منها ما هى من باب الإحساس و الإدراك، و الإدراك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ فعل، بل مبدأ قبول. و التحريك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ قبول، بل مبدأ فعل، و ليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنها قوة

______________________________
(1)- متعلق بقوله: «يكون». و الضمير راجع الى «الشى‏ء».

(2)- بيان للاشياء الثلاثة.

(3)- قال الفخر فى المباحث المشرقية: «ان المقيس الى النوع اولى لان فى الدلالة على النوع دلالة على المادة لكونها جزءا منه من غير عكس و لانّ النوع اقرب الى الطبيعة الجنسية من المادة». المباحث المشرقية ج 2 ص 232.

(4)- قوله: «انها كمال» قال العلامة الحلى فى شرح التجريد: «و قد عرّفوا النفس بالكمال دون الصورة لان النفس الانسانية غير حالة فى البدن فليست صورة له و هى كمال له.» كشف المراد ص 182.

اقول: بيانه- قدس سره- على ممشى المشاء تمام. و أما على مبنى الحكمة المتعالية الرصين فالنفس الحيوانية ايضا غير حالّة. فراجع الفصل الثانى من الباب الثانى من نفس الاسفار (ج 4 ص 9 ط 1- ج 8 ص 42 ط 2) حيث يقول: فصل فى بيان تجرد النفس الحيوانية و عليه براهين كثيرة فتبصّر.

(5)- فى تعليقة نسخة: اى سواء كانت مجردة او منطبعة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 18

عليه أولى من الآخر. فإن قيل لها: قوة، و عنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك الاسم. و إن قيل: قوة، و اقتصر على أحد الوجهين، عرض من ذلك‏ «1» ماقلنا.

و شى‏ء آخر و هو أنه لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث هى نفس مطلقا، بل من جهة «2» دون جهة. و قد بينا فى الكتب المنطقية أن ذلك غيرجيد و لا صواب.

ثم إذا قلنا: كمال، اشتمل على المعنيين. فإن النفس من جهة القوة «3» التى يستكمل بها إدراك الحيوان كمال، و من جهة القوة التى تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال، و النفس المفارقة كمال، و النفس التى لا تفارق كمال.

لكنا إذا قلنا: كمال، لم يعلم من ذلك بعد أنها جوهر، أو أن ليست بجوهر لأنّ معنى الكمال هو الشى‏ء الذى بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا و النبات بالفعل نباتا، و هذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك جوهر أو ليس بجوهر.

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: من عدم الاولوية.

(2)- مثل الفعل او الانفعال.

(3)- قال شارح المقاصد: ان القوة لفظ مشترك بين مبدأ الفعل كالتحريك و مبدأ القبول و الانفعال كالاحساس و كلاهما معتبر فى النفس، و فى الاقتصار على احدهما مع انه اخلال بما هو مدلول النفس استعمال للمشترك فى التعريف، شرح المقاصد ج 3 ص 302. قال الامام فلان القوة اسم لها من حيث انها مبدأ الافعال، و الكمال اسم لها من هذه الجهة و من حيث انها مكملة للنوع و ما يعرّف الشى‏ء من جميع جهاته أولى مما يعرّفه من بعض جهاته، فيظهر أن الكمال هو الذى يجب ان يوضع فى حد النفس مكان الجنس. راجع الأسفار الأربعة ج 8 ص 9 ط 2. و المباحث المشرقية ج 2 ص 233.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 19

لكنا نقول: إنه لا شك لنا فى أن هذا الشى‏ء ليس بجوهر بالمعنى الذى يكون به الموضوع جوهرا، و لا أيضا بالمعنى الذى يكون به المركب جوهرا. فأما جوهر بمعنى الصورة فلينظر فيه.

فإن قال قائل: إنى أقول للنفس جوهر و أعنى به الصورة، و لست أعنى به معنى أعم من الصورة، بل معنى أنه جوهر معنى أنه صورة، و هذا مما قاله خلق منهم‏ «1»، فلا يكون معه موضع بحث و اختلاف ألبتة.

فيكون معنى قوله: إن النفس جوهر، أنها صورة؛ بل يكون قوله:

الصورة جوهر، كقوله الصورة صورة أو هيئة و الإنسان إنسان أو بشر، و يكون هذيانا من الكلام.

و إن عنى بالصورة «2» ما ليس فى موضوع ألبتة، أى لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشى‏ء الذى سميناه لك موضوعا ألبتة، فلا يكون كل كمال جوهرا. فإن كثيرا من الكمالات‏ «3» هى فى موضوع لا محالة، و إن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركب، و من حيث كونه فيه ليس فى موضوع، فإن كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون فى موضوع، و كونه فيه لا كالشى‏ء فى الموضوع لا يجعله جوهرا، كما ظن بعضهم. لأنه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شى‏ء على أنه فى موضوع حتى يكون الشى‏ء من جهة ما ليس فى هذا الشى‏ء على أنه فى موضوع جوهرا، بل‏

______________________________
(1)- قوله: «خلق منهم» هذا الخلق هم القائلون بانّ النفس الانسانية من الاجسام اللطيفة فضلا عن النفس الحيوانية و النباتية.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى على تقدير ان النفس جوهر بمعنى الصورة.

(3)- فى تعليقة نسخة: كالسواد و الكتابة و غيرهما فإنها كمالات اولية للمركب منها و من الموضوع كالسواد للأسود بما هو أسود و الكتابة للكاتب بما هو كاتب.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 20

إنما يكون جوهرا إذا لم يكن و لا فى شى‏ء من الأشياء على أنه فى موضوع. و هذا المعنى لا يدفع كونه فى شى‏ء مّا موجودا لا فى موضوع، فإن ذلك ليس له بالقياس إلى كل شى‏ء، حتى إذا قيس إلى شى‏ء يكون فيه لا كما يوجد الشى‏ء فى موضوع صار جوهرا؛ و إن كان بالقياس إلى شى‏ء آخر بحيث يكون عرضا، بل هو اعتبار له فى ذاته. فإن الشى‏ء إذا تأملت ذاته و نظرت إليها فلم يوجد لها موضوع ألبتة كانت فى نفسها جوهرا، و إن وجدت فى ألف شى‏ء لا فى موضوع بعد أن توجد فى شى‏ء واحد على نحو وجود الشى‏ء فى الموضوع فهى فى نفسها عرض. و ليس إذا لم يكن عرضا فى شى‏ء فهو جوهر فيه، فيجوز أن يكون الشى‏ء لا عرضا فى الشى‏ء «1» و لا جوهرا فى الشى‏ء، كما أن الشى‏ء يجوز أن لا يكون واحدا فى شى‏ء و لا كثيرا «2»، لكنه فى نفسه واحد أو كثير. و ليس الجوهرى و الجوهر واحدا، و لا العرض بمعنى العرضى‏ «3» الذى فى إيساغوجى هو العرض الذى فى قاطيغورياس‏ «4». و قد بينا هذه الأشياء لك فى صناعة المنطق.

فبين أن النفس لا يزيل عرضيتها كونها فى المركب كجزء «5»، بل يجب‏

______________________________
(1)- كالسواد بالنسبة الى الاسود.

(2)- و فى تعليقة نسخة: اى كما ان زيدا ليس واحدا فى السماء و لا كثيرا فيها و ان كان فى نفسه و حيّزه واحدا.

(3)- اى العرض العام و الخاص من الكلّيات الخمس.

(4)- و فى تعليقة نسخة: اى المقولات العشر كالحال فى الموضوع مثل المشى و الضحك.

(5)- قال فى الاسفار: «فعلم ان كون النفس كمالا للجسم و الجسم جوهر او كونها جزءا للمركب لا عرضا قائما بالمركب لا يستلزم جوهريتها بل يحتمل ان يكون نفس ما قائمة بالموضوع و هى مع ذلك يكون جزءا للمركب. و يحتمل ان لا يكون فى موضوع فيكون‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 21

أن تكون فى نفسها لا فى موضوع ألبتة، و قد علمت ما الموضوع.

فإن كان كل نفس موجودة لا فى موضوع، فكل نفس جوهر، و إن كانت نفس مّا قائمة بذاتها و البواقى كل واحد منها فى هيولى و ليست فى موضوع فكل نفس جوهر، و إن كانت نفس مّا قائمة فى موضوع و هى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض، و جميع هذا كمال. فلم يتبين لنا بعد أن النفس جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال. و غلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن يجعلها جوهرا كالصورة.

فنقول: إنا إذا عرفنا أن النفس كمال بأى بيان و تفصيل فصلنا الكمال، لم يكن بعد عرفنا النفس و ماهيتها، بل عرفناها من حيث هى نفس؛ و اسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها، بل من حيث هى مدبرة للأبدان و مقبسة إليها. فلذلك يؤخذ البدن فى حدها، كما يؤخذ مثلا البناء فى حد البانى، و إن كان لا يؤخذ فى حده من حيث هو إنسان.

و لذلك صار النظر فى النفس من العلم الطبيعى، لأن النظر فى النفس من حيث هى نفس نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة و الحركة، بل يجب أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس بحثا آخر. و لو كنّا عرفنا بهذا ذات النفس، لما أشكل علينا و قوعها فى أى مقولة تقع فيها. فإن من عرف و فهم ذات الشى‏ء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له لم يشكل عليه وجوده له، كما أوضحناه فى المنطق.

لكن الكمال على وجهين: كمال أول، و كمال ثان. فالكمال الأول‏

______________________________
- جوهرا فلم يتبيّن بعد من مفهوم كون النفس كمالا انّ ذلك الكمال جوهر او عرض».

الاسفار الاربعة ج 4 ص 5 ط 1- ج 8 ص 25 ط 2.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 22

هو الذى يصير به النوع نوعا بالفعل كالشكل للسيف. و الكمال الثانى هو أمر من الأمور التى تتبع وجود نوع الشى‏ء من أفعاله و انفعالاته، كالقطع للسيف، و كالتمييز و الرويّة و الإحساس و الحركة للإنسان. فإن هذه كمالات لا محالة للنوع، لكن ليست أوّليّة، فإنه ليس يحتاج النوع فى أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل، بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صار له هذه الأشياء بالقوة بعد ما لم تكن بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن يحصل قبلها شى‏ء حتى تصير بالحقيقة بالقوة صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل. فالنفس كمال أول.

و لأن الكمال كمال للشى‏ء، فالنفس كمال الشى‏ء، و هذا الشى‏ء هو الجسم، و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسى‏ «1» لا بالمعنى المادى‏ «2»، كما علمت فى صناعة البرهان. و ليس هذا الجسم الذى النفس كماله كل جسم، فإنها ليست كمال الجسم الصناعى كالسرير و الكرسى و غيرهما، بل كمال الجسم الطبيعى. و لا كل جسم طبيعى، فليست النفس كمال نار و لا أرض و لا هواء، بل هى فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها فى أفعال الحياة التى أولها التغذى و النمو. فالنفس التى نحدّها هى كمال أول لجسم طبيعى آلى له أن يفعل أفعال الحياة.

لكنه قد يتشكك فى هذا الموضوع بأشياء، من ذلك أن لقائل أن يقول: إن هذا الحد لا يتناول النفس الفلكية فإنها تفعل بلا آلات. و إن تركتم ذكر الآلات و اقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا، فإن‏

______________________________
(1)- اى لا بشرط.

(2)- اى بشرط لا.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 23

الحياة التى لها ليس هو التغذى و النمو، و لا أيضا الحس. و أنتم تعنون بالحياة التى فى الحد هذا، و إن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكية من الإدراك مثلا و التصور العقلى أو التحريك لغاية إرادية، أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس. و أيضا إن كان التغذى حياة فلم لا تسمون النبات حيوانا.

و أيضا لقائل أن يقول: ما الذى أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا و لم لم يكفكم أن تقولوا: إن الحياة نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى الذى يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس.

فلنشرع فى جواب واحد واحد من ذلك وحله، فنقول: أما الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين: مذهب من يرى أن كل كوكب يجتمع منه و من عدة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد، فتكون حينئذ كل واحدة من الكرات يتم فعلها بعدة أجزاء ذوات حركات، فتكون هى كالآلات. و هذا القول لا يستمر فى كل الكرات‏ «1». و مذهب من يرى أن كل كرة فلها فى نفسها حياة مفردة، و خصوصا ويرى جسما تاسعا، ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه. فهؤلاء يجب أن يروا أن اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكية و على النفس النباتية فإنما يقع بالاشتراك‏ «2»، و أن هذا الحد إنما هو للنفس الموجودة للمركبات، و إنه إذا احتيل حتى تشترك الحيوانات‏ «3» و الفلك فى معنى اسم النفس، خرج‏

______________________________
(1)- و فى تعليقة: بل فى غير الفلك الاطلس.

(2)- اى اللفظى.

(3)- و فى تعليقة نسخة: و انما خصّها بالذكر لوجود الحد المشترك بين النفس الفلكية و الحيوانية و هو مبدأ فعل ما بالقصد و النبات لا قصد له.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 24

معنى النبات من تلك الجملة. على أن هذه الحيلة صعبة، و ذلك لأن الحيوانات و الفلك لا تشترك فى معنى اسم الحياة و لا فى معنى اسم النطق أيضا لأن النطق الذى هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيان‏ «1»، و ليس هذا مما يصح هناك على ما يرى. فإن العقل هناك عقل بالفعل، و العقل بالفعل غير مقوم للنفس الكائنة جزء حد للناطق‏ «2».

و كذلك الحس هاهنا يقع على القوة التى تدرك بها المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها و الانفعال منها، و ليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما يرى.

ثم إن اجتهد فجعل النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة و مدرك من الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات و النفس الفلكية، خرج النبات من تلك الجملة. و هذا هو القول المحصل.

و أما أمر الحياة و النفس فحل الشك فى ذلك على ما نقول له: إنه قد صح أن الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل. فإن سمّى مسمّ هذا المبدأ حياة لم تكن معه مناقشة.

و أما المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران: أحدهما كون النوع موجودا فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه، أو كون الجسم بحيث يصح صدور تلك الأفعال عنه. فأما الأول فمعلوم أنه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه‏ «3». و أما الثانى فيدل على معنى أيضا

______________________________
(1)- اى العقل الهيولانى و العقل بالملكة.

(2)- و فى تعليقة نسخة: يعنى ان النفس التى هى جزء من حد الناطق فى قولنا الناطق نفس ذات نطق ليس مقوّمها العقل بالفعل بل القدر المشترك بينه و بين العقل بالقوة و الا لم يكن الانسان ناطقا فى مرتبة العقل الهيولانى.

(3)- و فى تعليقة نسخة: لانه ليس المفهوم من كون الجسم ذا مبدأ هو المفهوم من ذلك المبدأ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 25

غير معنى النفس.

و ذلك لأن كون الشى‏ء بحيث يصح أن يصدر عنه شى‏ء أو يوصف بصفة يكون على وجهين: أحدهما أن يكون فى الوجود شى‏ء غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل كون السفينة، بحيث تصدر عنه المنافع السفينية. و ذلك مما يحتاج إلى الربان حتى يكون هذا الكون، و الربان و هذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع. و الثانى أن لا يكون شى‏ء غير هذا الكون فى الموضوع مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة، حتى يكون وجود الحرارة فى الحسم هو وجود هذا الكون، و كذلك وجود النفس وجود هذا الكون‏ «1» على ظاهر الأمر.

إلا أن ذلك فى النفس لا يستقيم، فليس المفهوم من هذا الكون و من النفس شيئا واحدا، و كيف لا يكون كذلك و المفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال و مبدأ، ثم للجسم هذا الكون. و المفهوم من الكمال الأول الذى رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر، لأن الكمال الأول ليس له مبدأ و كمال أول فليس إذن المفهوم من الحياة و النفس واحدا إذا عنينا بالحياة ما يفهم الجمهور و إن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس فى الدلالة على الكمال الأول لم نناقش، و تكون الحياة اسما لما كنا وراء إثباته من هذا الكمال الأول.

فقد عرفنا الآن معنى الاسم الذى يقع على الشى‏ء الذى سمى نفسا بإضافة له.

______________________________
(1)- و فى تعليقة: اى كون الجسم بحيث يصدر عنه تلك الافعال‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 26

فبالحرى أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشى‏ء الذى صار بالاعتبار المقول نفسا «1».

و يجب أن نشير فى هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التى لنا إثباتا على سبيل التنبيه و التذكير إشارة شديدة الموقع عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه‏ «2» و قرع‏ «3» عصاه و صرفه عن المغلطات.

فنقول: يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة و خلق كاملا «4»، لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، و خلق يهوى‏ «5» فى هواء أو خلاء هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما مّا يحوج إلى أن يحسّس، و فرّق بين أعضائه‏ «6» فلم تتلاق و لم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته و لا يشك فى إثباته لذاته موجودا و لا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه و لا باطنا من أحشائه و لا قلبا و لا دماغا و لا شيئا من الأشياء من خارج.

______________________________
(1)- و فى تعليقة. اى باعتبار اضافته الى البدن يقال له نفس.

(2)- ثقف ككرم و فرح: صار حاذقا.

(3)- قال الجوهرى فى الصحاح: «و قولهم: «ان العصا قرعت لذى الحلم»، اى انّ الحليم اذا نبّه انتبه و اصله انّ حكما من حكام العرب عاش حتى اهتر- اى صار خرفا- فقال لا بنته اذا انكرت من فهمى شيئا عند الحكم فاقرعى لى المجّن بالعصا لارتدع» الصحاح ج 4 ص 1261 مادة «قرع». و فى القاموس: «لما طعن عامر فى السنّ او بلغ ثلاثمأة سنة انكر من عقله شيئا فقال لبنيه اذا رأيتمونى خرجت من كلامى و اخذت فى غيره فاقرعوا لى المجّن بالعصاء» القاموس المحيط ج 3 ص 66 مادة «قرع».

(4)- سيأتى هذا الدليل فى الفصل السابع من المقالة الخامسة من هذا الفن السادس.

(5)- اى يسقط فى الهواء كانّه معلق فيه.

(6)- و فى تعليقة: اى يكون منفرجة الاعضاء بحيث لا تتلامس اعضائه.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 27

فإن قيل: انّ، المشعور به هو المزاج.

فالجواب: انّ المزاج لا يدرك الا بالانفعال و المنفعل عنه غير المنفعل‏ «1»، بل كان يثبت ذاته و لا يثبت لها طولا و لا عرضا و لا عمقا، و لو أنه أمكنه فى تلك الحالة أن يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته و لا شرطا فى ذاته، و أنت تعلم أن المثبت غير الذى لم يثبت و المقرّ به غير الذى لم يقرّبه، فإذن للذات التى اثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه و أعضائه التى لم تثبت، فإذن المتنبّه له سبيل إلى أن يتنبه على وجود النفس بكونه شيئا غير الجسم بل غير جسم، و أنه عارف به مستشعر له، فإن كان ذاهلا عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه.

______________________________
(1)- هذه الزيادة- من قوله: «فان قيل» ... إلى قوله: «غير المنفعل»- توجد فى نسختين من الشفاء مخطوطتين عندنا. و الشيخ يقول فى آخر الفصل الآتى: «و اما الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم مما سلف بطلان هذا القول». و لم يسلف بطلانه الّا فى هذا الموضع من هذه الزيادة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 28

الفصل الثانى فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها و نقضه‏

فنقول: قد اختلف الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسالك إليه، فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة، و منهم من سلك إليه من جهة الإدراك، و منهم من جمع بين المسلكين، و منهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة «1».

فمن سلك منهم جهة الحركة، فقد كان تخيل عنده أن التحريك لا يصدر إلا عن محرك، و أن المحرك الأول يكون لا محالة متحركا بذاته‏ «2»، و كانت النفس محركة أولية، إليها يتراقى التحريك من الأعضاء و العضل و الأعصاب، فجعل النفس متحركة لذاتها، و جعلها لذلك جوهرا غير مائت، معتقدا أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت. قال: و لذلك ما، كانت الأجسام السماوية ليست تفسد و السبب فيه دوام حركتها.

فمنهم من منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته و منهم من جعلها جسما و طلب الجسم المتحرك بذاته.

______________________________
(1)- اى ملخّصة.

(2)- فى تعليقة نسخة: لانه ظن ان المحرك يجوز ان يتحرك و ان لم يتحرك لا يجوز ان يحرك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 29

فمنهم من جعل ما كان من الأجرام‏ «1» التى لا تتجزأ كرّيا ليسهل دوام حركته، و زعم أن الحيوان يستنشق ذلك بالتنفس، و أن التنفس غذاء للنفس، و أن النفس تستبقى به النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التى هى الأجرام التى لا تتجزأ التى هى المبادئ و أنها متحركة بذاتها، كما يرى من حركة الهباء دائما فى الجو، فلذلك صلحت لأن تحرّك غيرها.

و منهم من قال: إنها ليست هى النفس، بل إن محركها هو النفس و هى فيها، و تدخل البدن بدخولها.

و منهم من جعل النفس نارا و رأى أن النار دائمة الحركة.

و أما من سلك طريق الإدراك:

فمنهم من رأى أن الشى‏ء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه و مبدأ له‏ «2»، فوجب أن تكون النفس‏ «3» مبدأ، فجعلها من الجنس الذى كان يراه المبدأ: إما نارا، أو هواء، أو أرضا، أو ماء. و مال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التى هى مبدأ التكون و بعضهم جعلها جسما بخاريا، إذ كان يرى أن البخار مبدأ الأشياء على حسب المذاهب التى عرفتها «4»، و كل هؤلاء كان يقول: إن النفس إنما تعرف الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها. و كذلك من رأى أن المبادئ هى الأعداد، فإنه‏

______________________________
(1)- اى الاجزاء الصغار الصلبة.

(2)- اى علة له.

(3)- لكونها مدركة.

(4)- الفصل الثانى من الفن الثالث من هذا الكتاب ص 188 من الطبعة الحجرية فى اقتصاص المذاهب. و الثالث منه ص 191 فى نقضها و البحث عن مذهب البخار فى ص 189 و نقضه فى ص 192 فراجع.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 30

جعل النفس عددا.

و منهم من رأى أن الشى‏ء إنما يدرك ما هو شبيهه و أن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس مركبة «1» من الأشياء التى يراها عناصر «2»، و هذا هو قول انباذقلس، فإنه قد جعل النفس مركبة من العناصر الاربعة و من الغلبة و المحبة «3»، و قال: إنما تدرك النفس كل شى‏ء شبهه فيها.

و أما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا: إن النفس عدد متحرك لذاته، فهى عدد لأنها مدركة «4» و هى متحركة لذاتها، لأنها محركة أولية.

و أما الذين اعتبروا أمر الحياة «5» غير ملخص:

______________________________
(1)- لان مدركات النفس مركبة منها

(2)- فى تعليقة نسخة: اى يعتقدها اصولا للكون و البقاء فى العالم فيشمل الغلبة و المحبة فالكون منوط بالعناصر الاربعة و البقاء و بدفع المنافر و جذب الملائم و هما منوطان بالغلبة و المحبة فتدبّر.

(3)- قوله: من الغلبة و المحبة، المحبة بمعنى الباعثة للتركيب. و الغلبة بمعنى الحافظة للتركيب كما فى تعليقة مخطوطة من الأسفار (ج 4 ص 59) عندنا. و قال المتأله السبزوارى فى تعليقته على الاسفار فى المقام ما هذا لفظه: أى يتخذها أصولا للكون و البقاء فى العالم فيشمل الغلبة و المحبة فالكون منوط بالعناصر الاربعة و البقاء بدفع المنافر و جذب الملائم و هما منوطان بالغلبة و المحبة. و قد مضى الكلام فى المحبة و الغلبة فى الفصل الخامس من الفن الثالث ص 198.

و فى تعليقة نسخة: من الغلبة و المحبة اى من الغضب و الشهوة كذا قال المحقق اللاهيجى.

(4)- و فى تعليقة نسخة: أى النفس مدركة و كل مدرك يجب أن يكون مبدأ لمدركه و المبدأ هو العدد، فيجب أن يكون النفس عددا.

(5)- و فى تعليقة نسخة: اى هولاء لما وصلوا الى معرفة النفس من مسلك الحياة فجعلوها من سنخ الحياة و مقوماتها و لوازمها و معداتها و ممداتها.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 31

فمنهم من قال: إن النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها.

و منهم من قال بل برودة و أن النّفس مشتقة من النّفس و النّفس هو الشى‏ء المبرد و لهذا ما، يتبرد بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس.

و منهم من قال بل النفس هو الدم؛ لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة.

و منهم من قال بل النفس مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم تتغير صحة الحياة.

و منهم من قال بل النفس تأليف و نسبة بين العناصر و ذلك لأنا نعلم أن تأليفا مّا يحتاج إليه حتّى يكوّن من العناصر حيوان، و لأن النفس تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم و الاراييح و الطعوم و تلتذبها.

و من الناس من ظن أن النفس هو الإله- تعالى عما يقوله الملحدون- و أنه يكون فى كل شى‏ء بحسبه فيكون فى شى‏ء طبعا و فى شى‏ء نفسا و فى شى‏ء عقلا سبحانه و تعالى عما يشركون.

فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس‏ «1»، و كلها باطلة.

فأما الذين تعلقوا بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا

______________________________
(1)- قال صدر المتألهين فى الاسفار- بعد نقل هذه الاقول-: «اقول: نقض ظواهر هذه الاقوال و ابطالها فى غاية السهولة بعد ان ثبت ان النفس جوهر مفارق الذات عن الاجسام، و كل من له ادنى بضاعة فى الحكمة يعلم ان النفس جوهر شريف ليس من نوع الاجسام الدنية كالنار و الهواء و الماء و الارض و لا من باب النسب و التأليفات. كيف يذهب على الحكماء السابقين كانباذقلس و غيره أن يجهلوا ما يعلمه من له أدنى معرفة فى علم النفس و أحوالها فان التأويل و التعديل لكلامهم أولى من النقض و الجرح».

فشرع فى التأويل و من أراد الإطلاع على التأويلات فليرجع الى الاسفار ج 4 ص 59 ط 1 ج 8 ص 244 ط 2.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 32

السكون‏ «1»، فإن كانت النفس تحرّك بأن تتحرّك فكان لا محالة تحرّكها علة للتحريك، فلم يخل تسكينها إما أن يصدر عنها و هى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى التسكين و التحريك واحدة. فلم يمكن أن يقال: إنها تحرك بأن تتحرك‏ «2»، و قد فرضوا ذلك. أو يصدر عنها و قد سكنت، فلا تكون متحركة بذاتها.

و أيضا فقد عرفت مما سلف أنه لا متحرك إلا من محرك و أنه ليس شى‏ء متحركا من ذاته فلا تكون النفس شيئا متحركا من ذاته.

و ايضا فإن هذه الحركة لا يخلو إما أن تكون مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك‏ «3». فإن كانت مكانية فلا يخلو إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية، فإن كانت طبيعية فتكون إلى جهة واحدة لا محالة، فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط. و إن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها، و لا يكون أيضا تحريكها بذاتها، بل الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول و أن يكون هو النفس. و إن كانت نفسانية فالنفس قبل النفس‏ «4» و تكون لا محالة بإرادة فتكون إما

______________________________
(1)- قوله: انهم نسوا السكون، هكذا فى جميع النسخ المخطوطة عندنا و بعضها مصحّحة بالعرض و المقابلة و القرائة غاية الاتقان. و نسوا من: «ن- س- ى» ناقص يائى. إلا أن صدر المتألهين نقل عبارة الشيخ فى الاسفار (ج 4 ص 62 ط 1- ص 255 ج 8 ط 2) هكذا: «انهم نسبوا السكون الى النفس» بالباء و زيادة «الى النفس»، و نسخ الاسفار التى عندنا متفقة ايضا فى ذلك. و الظاهر بل المتيقن انّ عبارة الاسفار محرّفة فتدبر.

(2)- و فى تعليقة نسخة: فكونها علة للحركة لا يكون علة لكونها متحركة، و يصلح ان يقال ان النفس تسكن فيجب ان تكون ساكنة.

(3)- اى وضعية.

(4)- لانّ المحرك قبل المتحرك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 33

واحدة لا تختلف، فيكون تحريكها على تلك الجهة الواحدة، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت سكونات لا محالة، فلا تكون متحركة لذاتها.

و أما الحركة من جهة الكم فأبعد شى‏ء من النفس، ثم لا يكون شى‏ء متحركا من جهة الكم بذاته، بل لدخول‏ «1» داخل عليه أو استحالة فى ذاته.

و أما الحركة على سبيل الاستحالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا «2» فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا، و إما حركة فى عرض من الأعراض لا فى كونها نفسا، فأول ذلك أن لا يكون تحركها، من نحو تحريكها، بل تكون ساكنة فى المكان حين تتحرّك فى المكان. و الثانى أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك العرض، و إذا حصل فقد وقفت الاستحالة.

و أيضا فقد تبين لك أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما و المحرك الذى‏

______________________________
(1)- فان كان بدخول الداخل فهى الحركة الاغتذائية او السّمن و ان كان بالاستحالة فهى الحركة التخلخلية او التكاثفية و ان كان بخروج شى‏ء فهى الذبولية و الهزالية.

(2)- اقول: العبارة منقولة فى الاسفار (ص 63 من ج 4 ط 1- ص 256 ج 8 ط 2) هكذا:

«عن كونها نفسا»- اى جائت كلمة عن مكان فى- و نسخ الاسفار من المخطوطات و المطبوعات المصحّحة جدّا عندنا كلها متفقة فى ذلك و اما نسخ الشفاء التى عندنا فهى مطبقة على فى. و بعضها مصحح غاية التصحيح بالقرائة و المقابلة و الإجازة. كما ان بعض نسخ اسفارنا ايضا كذلك. الا ان واحدة من نسخة الشفاء جعلت كلمة عن اصلا و فى فوقها كلمة فى نسخة بدلا عنها. و عبارة الكتاب على كلمة عن ظاهرة المعنى و لا غبار عليها. و اما معناها على كلمة فى فهو ان النفس اذا حركت فى كونها نفسا الخ فمعناه انها لم تكن قبل الحركة نفسا. و ان لم تخل عن تكلف فتبصر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 34

يحرك فى المكان بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة فلو كان للنفس الحركة و الانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم تعود إليه. و هؤلاء يجعلون مثل النفس مثل زيبق يجعل فى بعض الأجسام، فإذا ترجرج تحرك ذلك الجسم و يدفعون أن تكون الحركة حركة اختيارية.

و أيضا فقد علمت أن القول بالهباء «1» هذر باطل، و علمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى جزاف.

ثم من المحال ما قالوه من أن الشى‏ء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ماوراءه، فإنا نعلم و ندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادئ لها.

و أما إثبات ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات، فهو أنا نعلم أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها، و لا هى مبدأ للأسطقسات و هو أن كل شى‏ء إما أن يكون حاصلا فى الوجود و إما أن لا يكون، و أن الأشياء المساوية لشى‏ء واحد متساوية. فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال: إن النار و الماء و غير ذلك مبادئ لها فنعلمها بها، و لا بالعكس.

و أيضا إما أن تكون معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عين ذلك المبدأ، أو تتناول الأشياء التى تحدث عن المبدأ و ليست هى المبدأ، أو تكون بكليهما. فإن كانت إنما تتناول ذلك المبدأ أو تتناول كليهما، و كان العالم بالشى‏ء يجب أن يكون مبدأ له فتكون النفس أيضا مبدأ للمبدأ و ايضا مبدأ لذاتها، لأنها تعلم ذاتها، و إن كانت ليس تعلم المبدأ، و لكن تعلم‏

______________________________
(1)- بالهباءات باطل كما فى اكثر النسخ، بالهباءات هذر باطل بالذال المعجمة كما فى بعضها. و الهباء: الأجزاء التى لا تتجزّأ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 35

الأحوال و التغيرات التى تلحقه. فمن الذى يحكم‏ «1» بأن الماء و النار أو أحد هذه مبدأ.

و أما الذين جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا لأن المبدأ لكل شى‏ء عدد، بل قالوا ماهية كل شى‏ء عدد، وحدّه عدد، و هؤلاء و إن كنا قد دللنا على بطلان رأيهم فى المبدأ فى موضع أخر، و سندلّ فى صناعة الفلسفة الأولى‏ «2» أيضا على استحالة رأيهم هذا و ما أشبهه، فإن مذهبهم هاهنا نزيّفه من حيث النظر الخاص بالنفس، و ذلك بأن ننظر و نتأمل هل النفس إنما تكون نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة، أو بأنها مثلا زوج أو فرد أو شى‏ء أعم من عدد معين.

فإن كانت النفس إنما هى ما هى بأنها عدد معين، فما يقولون فى الحيوان المخرز «3» الذى إذا قطع تحرك كل جزء منه و أحسّ، و إذا أحسّ فلا محالة هناك تخيل مّا «4»، و كذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة و تلك الحركة من تخيل ما لا محالة. و معلوم أن الجزءين يتحركان عن قوتين فيهما، و أن كل واحد منهما أقل من العدد الذى كان فى الجملة، و إنما كان النفس عندهم العدد الذى فى الجملة لا غير، فيكون هذان الجزءان يتحركان لا عن نفس و هذا محال، بل فى كل واحد منهما نفس من نوع نفس الآخر، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل، متكثرة

______________________________
(1)- كما فى جميع النسخ التى عندنا. و ذلك لأن الحكم فرع ادراك الطرفين فاذا لم يدرك احدهما فكيف يحكم على شي‏ء بشي‏ء.

(2)- ج 2 ص 70- ط 1.

(3)- المخرز كمعظّم: كل طائر على جناحيه نمنمة أى نقش.

(4)- اى فاعل بالقصد، اذ ليس عن طبع و الّا لما اختلفت، و لا عن قسر لعدم القاسر فهو عن التخيل و القصد.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 36

بالقوة تكثرا إلى النفوس.

و إنما تفسد فى الحيوان المخرز نفساه‏ «1» و لا تفسد فى النبات، لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية لاستبقاء فعل النفس و لا كذلك فى الحيوان المخرز، بل بعض بدن الحيوان المخرز لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس. و فى بعضه الآخر ذلك المبدأ، و لكنه يحتاج فى استبقائه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر، فيكون بدنه متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج.

فإن لم تكن النفس عددا بعينه، بل كانت عددا له كيفية مّا و صورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس كثيرة. فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا و فى كثير من الأفراد أفرادا، و فى كثير من المربعات مربعات، و كذلك سائر الاعتبارات.

و أيضا فإن الوحدات المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع‏ «2»، أو لا يكون لها وضع، فإن كان لها وضع فهى نقط، و إن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة «3» تلك النقط أو لا تكون كذلك، بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك. لكنهم جعلوا الطبيعة النفسية مجرد عددية، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس، فيكون كل جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس، فكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت، فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس لفرض النقط فيه.

______________________________
(1)- بعد مهلة و فى بعضها بلا مهلة فان بعض الحيوان يموت بلا مهلة بعد الجزو القطع و فى بعضها يبقى قليلا ثم يموت.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى قابل للاشارة الحسية.

(3)- عدد، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 37

و إن كانت عددا لا وضع له، و إنما هى‏ «1» آحاد متفرقة، فبماذا تفرقت‏ «2» و ليس لها مواد مختلفة و لا قرن بها صفات اخر و فصول أخرى و إنما تتكثر الأشياء المتشابهة فى المواد المختلفة. فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع و لها أبدان شتى.

ثم فى الحالين‏ «3» جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا، لأنه إن كان ارتباطها بعضها ببعض و التئامها للطبيعة الوحدية و النقطية، فيجب أن تكون الوحدات و النقطات مهرولة إلى الاجتماع من أى موضع كانت، و إن كان لجامع فيها جمع واحدة منها إلى الأخرى و ضامّ ضمّ بعضها إلى بعض حتى ارتبطت و هو يحفظها مرتبطة، فذلك الشى‏ء أولى أن يكون نفسا.

و أما الذين قالوا إن النفس مركبة من المبادئ حتى يصح أن تعرف المبادئ و غير المبادئ بما فيها منها، و إنه انّما يعرف كل شى‏ء بشبهه فيه، فقد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء التى تحدث عن المبادئ مخالفة لطبيعتها. فإن الاجتماع قد يحدث هيئات فى المبادئ و صورا لا توجد فيها مثل العظمية و اللحمية و الإنسانية و الفرسية و غير ذلك، فيجب أن تكون هذه الأشياء مجهولة للنفس، إذ ليس فيها هذه الأشياء، بل إنما فيها أجزاء المبادئ فقط، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا و فرسا و فيلا، كما فيه نار و أرض و غلبة و محبة، و قال إن فيها هذه الأشياء، فقد ارتكب العظيم.

______________________________
(1) و (2)- اى النفس.

(3)- فى تعليقة نسخة: اى الوضع و عدم الوضع.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 38

ثم إن كان فى النفس إنسان، ففى النفس نفس، ففيه مرة أخرى إنسان و فيل، و يذهب ذلك إلى غير النهاية «1». و قد يشنّع عليه من جهة أخرى هى أنه يجب على هذا الوضع أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء و إما مركبا من الأشياء، و كلاهما كفر، و مع ذلك يجب أن يكون غير عالم بالغلبة، لأنه لا غلبة فيه. فإن الغلبة توجب التفريق و الفساد فيما تكون فيه، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادئ، و هذا شنيع و كفر.

ثم يلزم من هذا أن تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض؛ و الماء بالماء، و أن تكون الأرض لا تعلم الماء، و الماء لا يعلم الأرض، و يكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد.

و يجب أن تكون الأعضاء التى فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض و ليست هى كذلك، بل هى غير حساسة لا بالأرض و لا بغيرها، و ذلك كالظفر و العظم. و لأن ينفعل الشى‏ء و يتأثر عن ضده، أولى من أن يتأثر عن شكله‏ «2». و أنت تعلم أن الإحساس تأثر مّا و انفعال مّا و «3» يجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد فيكون السواد و البياض ليس يدركان بحاسة واحدة، بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض، و السواد بجزء منه هو أسود، و لأن الألوان لها تركيبات بلانهاية، فيجب‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: قوله: «و يذهب الى غير النهاية» لان المفروض انّ فى نفس الانسانى يكون جميع الاشياء، ففى النفس يكون على هذا الفرض الانسان و للانسان الحاصل فى النفس ايضا نفس و فى هذه النفس ايضا انسان و له نفس و فى هذه النفس الثالثة ايضا جميع الاشياء و من الأشياء الانسان فيحصل نفس رابعة و هكذا الى غير النهاية.

(2)- أى عن مشاكله.

(3)- الواو حالية، اى و الحال يجب أن لا تكون على هذا الوضع هاهنا قوّة ....

النفس من كتاب الشفاء، ص: 39

أن يكون قد أعدّ للبصر أجزاء بلانهاية مختلفة الألوان.

و إن كان لا حقيقة للوسائط، و ما هو إلا مزج الضدين بزيادة و نقصان من غير اختلاف آخر، فيجب أن يكون مدرك البياض يدرك البياض صرفا، و مدرك السواد يدرك السواد صرفا، إذ لا يمكن أن يدرك غيره، فيجب أن لا تشكل علينا بسائط الممتزج و لا تتخيل إلينا الوسائط التى لا يظهر فيها بياض و سواد بالفعل.

و كذلك يجب أن يدرك المثلث بالمثلث، و المربّع بالمربّع، و المدوّر بالمدوّر، و الأشكال الأخرى التى لا نهاية لها، و الأعداد أيضا بأمثالها، فتكون فى الحاسّة أشكال بلا نهاية، و هذا كله محال. و أنت تعلم أن الشى‏ء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا للأضداد تعرف به، كالمسطرة المستقيمة يعرف بها المستقيم و المنحنى جميعا، و أنه لا يجب أن يعلم كل شى‏ء بشى‏ء خاص.

و أما الذين جعلوا النفس جسما يتحرك بحركته المستديرة التى تتحرك على الأشياء لتدرك بها الأشياء، فسنوضح بعد فساد قولهم حين يتبيّن أن الإدراك العقلى لا يجوز أن يكون بجسم.

و أما الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم مما سلف بطلان هذا القول‏ «1» و على أنه ليس كل ما يفسد بفساده الحياة يكون نفسا، فإن كثيرا من الأشياء و الأعضاء و الأخلاط و غير ذلك بهذه الصفة. و ليس بمنكر أن يكون شى‏ء «2» لا بد منه حتى تكون للنفس علاقة بالبدن، و لا يوجب ذلك‏

______________________________
(1)- فقد علم فى آخر الفصل الاول ص 27 من قوله: فان قيل المشعور به هو المزاج الخ.

(2)- اى المزاج فى ما نحن فيه.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 40

أن يكون ذلك الشى‏ء نفسا.

و بهذا يعلم خطأ من ظن أن النفس دم، فكيف يكون الدم محرّكا و حسّاسا.

و الذى قال: إن النفس تأليف فقد جعل النفس نسبة معقولة بين الأشياء، و كيف تكون النسبة بين الأضداد محركا و مدركا و التأليف يحتاج إلى مؤلف لا محالة، فذلك المؤلف أولى أن يكون هو النفس.

و هو الذى إذا فارق وجب انتقاض التأليف. ثم سيتضح فى خلال ما نعرفه من أمر النفس بطلان جميع هذه الأقاويل بوجوه أخرى. فيجب الآن أن نكون نحن وراء طلب طبيعة النفس. و قد قيل فى مناقضة هذه الآراء أقاويل ليست بالواجبة و لا اللازمة و إنما تركناها لذلك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 41

الفصل الثالث فى أنّ النفس داخلة فى مقولة الجوهر

فنقول نحن إنك تعرف مما تقدم لك أن النفس ليست بجسم، فإن ثبت لك أن نفسا مّا يصح لها الانفراد بقوام ذاتها، لم يقع لك شك فى أنها جوهر «1» و هذا إنما يثبت لك فى بعض ما يقال له نفس. و أما غيره مثل النفس النباتية و النفس الحيوانية، فإن ذلك لا يثبت لك فيه.

لكن المادة «2» القريبة لوجود هذه الأنفس‏ «3» فيها إنما هى ما هى بمزاج خاص و هيئة خاصة، و إنما تبقى بذلك المزاج الخاص بالفعل موجودا مادام فيها النفس. و النفس هى التى تجعلها بذلك المزاج، فإن النفس هى لا محالة علة لتكوّن النبات و الحيوان على المزاج الذى لهما إذ كانت النفس هى مبدأ التوليد و التربية كما قلنا: فيكون الموضوع القريب للنفس مستحيلا أن يكون هو ما هو بالفعل إلا بالنفس، و تكون النفس علة لكونه كذلك.

______________________________
(1)- فى انها جوهرة، نسخة.

(2)- هذا بيان الاستدلال على كون النفوس الحيوانية و النباتية جوهرا لا عرضا.

(3)- اى الانفس التى لا تثبت لك انها جوهر كالنباتية و الحيوانية.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 42

و لا يجوز أن يقال: إن الموضوع‏ «1» القريب حصل على طباعه موجودا لسبب غير النفس، ثم لحقته النفس لحوق ما لا قسط له بعد ذلك فى حفظه و تقويمه و تربيته، كالحال فى أعراض يتّبع وجودها وجود الموضوع لها اتباعا ضروريا، و لا تكون مقومة لموضوعها بالفعل. و أما النفس فإنها مقومة لموضوعها القريب موجدة إياه بالفعل، كما تعلم الحال فى هذا إذا تكلّمنا فى الحيوان.

و أمّا الموضوع البعيد «2» فبينه و بين النفس صور أخرى تقومه. و إذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب‏ «3». صيّر الموضوع لحالة أخرى‏ «4»، و أحدث فيه صورة جمادية، كالمقابلة للصورة المزاجية الموافقة للنفس و لتلك الصور «5». فالمادة التى للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها ألبتة، بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذى به كان موضوعا للنفس، أو تخلف النفس فيها صورة تستبقى المادة بالفعل على طبيعتها، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعى كما كان، بل تكوّن له صورة و أعراض أخرى، و يكون أيضا قد تبدّل بعض أجزائها و فارق مع تغير الكل‏

______________________________
(1)- اى البدن.

(2)- فى تعليقة نسخة: كما لمادة المنى.

(3)- كناية عن جسم مباين للنفس و فى مجمع البحرين ج 2 ص 134 مادة «غلب»: «الغلب الغلاظ يقال شجرة غلبا اى غليظة».

(4)- فراقها يحدث بغالب صير الموضوع بحالة اخرى. كما فى نسخة مصحّحة مقروة عندنا. يعنى ان يحدث من الاحداث و كلمة صير فى «صير الموضوع» منصوب على المفعولية لقوله «يحدث». فهى مصدر لا فعل. اى يحدث ذلك الفراق بغالب كمرض او ضربة او قطع صير الموضوع بحالة اخرى اى صيرورة الموضوع بحالة اخرى و سياق العبارة و المطلب يصدّق هذه القرائة.

(5)- فى تعليقة نسخة: اى الصور التى بين الموضوع البعيد و بين النفس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 43

فى الجوهر، فلا تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هى كانت موضوعة للنفس، و الآن هى موضوعة لغيرها. فإذن ليس وجود النفس فى الجسم كوجود العرض فى الموضوع. فالنفس إذن جوهر لأنها صورة لا فى موضوع.

لكن لقائل أن يقول: لنسلم أن النفس النباتية هذه صورتها، فإنها علة لقوام مادتها القريبة؛ و أما النفس الحيوانية فيشبه أن تكون النباتية تقوّم مادتها ثم تلزم‏ «1» هذه النفس الحيوانية إياها، فتكون الحيوانية متحصلة الوجود فى مادة تقومت بذاتها، و هى علة لقوام هذه التى حلّتها أعنى الحيوانية، فلا تكون الحيوانية لا قائمة فى موضوع.

فنقول فى جواب ذلك: إن النفس النباتية بما هى نفس نباتية لا يجب عنها إلا جسم متغذ مطلقا، و لا النفس النباتية مطلقة لها وجود إلا وجود معنى جنسى، و ذلك فى الوهم فقط؛ و أما الموجود فى الأعيان فهو أنواعها.

و الذى يجب أن يقال: إن النفس النباتية سبب واحد و له شى‏ء أيضا عام كلى غير محصل، و هو الجسم المتغذى النامى المطلق الجنسى غير المنوّع.

و أما الجسم ذو آلات الحس و التمييز و الحركة الإرادية، فليس مصدره عن النفس النباتية بما هى نفس نباتية، بل بما ينضم إليها فصل آخر تصير به طبيعة أخرى، و لا يكون ذلك إلا أن تصير نفسا حيوانية.

بل يحب أن نبتدى‏ء فنزيد هذا شرحا.

______________________________
(1)- يلزم اتباع، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 44

فنقول: إن النفس النباتية.

إما أن يعنى به النفس النوعية التى تخص النبات دون الحيوان، أو يعنى بها المعنى العام الذى يعم النفس النباتية و الحيوانية من جهة ما تغذى و تولّد و تنمى، فإن هذا قد يسمى نفسا نباتية، و هذا مجاز من القول، فإن النفس النباتية لا تكون إلا فى النبات، و لكن المعنى الذى يعم نفس النبات و الحيوان يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات و وجوده، كما يوجد المعنى العام فى الأشياء.

و إما أن يعنى بها القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها أفعال التغذية و التربية و التوليد.

فإن عنى بها النفس النباتية التى هى بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعية، فذلك يكون فى النبات لا غير، ليس فى الحيوان.

و إن عنى بها المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى خاص، فإن الصانع العام هو الذى ينسب إليه المصنوع العام، و الصانع النوعى كالنجار هو الذى ينسب إليه المصنوع النوعى، و الصانع المعين هو الذى ينسب إليه المصنوع المعين. فهذا شى‏ء قد مرلك تحقيقه. فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة من أمر الجسم أنه نام عام، و أما أنه نام بحيث أنه يصلح لقبول الحس أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى النفس النباتية من حيث هى عامة، و لا هذا المعنى يتبعه.

و أما القسم الثالث‏ «1» فيستحيل أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية

______________________________
(1)- و فى تعليقة نسخة: و هو الذى قال «و اما ان يعنى به القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها افعال التغذية و التربية و التوليد».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 45

تأتى وحدها فتفعل بدنا حيوانيا و لو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمّم جسما نباتيا، و ليس كذلك، بل إنما كانت تتمّم جسما حيوانيا بآلات الحس و الحركة، فتكون هى قوة لنفس‏ «1» لتلك النفس قوى أخرى. و هذه القوة من قواها تتصرف على المثال الذى يؤدى إلى استعداد الآلة للكمالات الثانية التى لتلك النفس التى هذه قوتها و تلك النفس هى الحيوانية.

و يتضح من بعد أن النفس واحدة، و أن هذه قوى تنبعث عنها فى الأعضاء، و يتأخر فعل بعضها و يتقدم بحسب‏ «2» استعداد الآلة. فالنفس التى لكل حيوان هى جامعة أسطقسات بدنه، و مؤلّفتها و مركّبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها، و هى حافظة لهذا البدن على النظام الذى ينبغى، فلا تستولى عليه المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه و لو لا ذلك لما بقيت على صحتها.

و لاستيلاء النفس عليها «3» ما يعرض من قوة القوة النامية وضعفها عند استشعار النفس قضايا تكرهها أو تحبها كراهة و محبة ليست ببدنية ألبتة، و ذلك عند ما يكون الوارد على النفس تصديقا مّا، و ليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد، بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من سرور أو غم‏ «4»،

______________________________
(1)- قوله: فتكون هى قوة لنفس الخ، اى فتكون القوة النباتية قوة لنفس، يعنى بناء على الشق الثالث و هو ان يعنى بالنفس النباتية القوة من قوى النفس الحيوانية. فتكون النباتية قوة لنفس اى لنفس حيوانية لتلك النفس قوى اخرى و هذه القوة النباتية من قواها ايضا، تتصرف تلك النفس على المثال الخ. و قوله التى هذه قوتها يعنى ان هذه القوة النباتية قوة تلك النفس الحيوانية.

(2)- متعلق بقوله تنبعث.

(3)- و فى تعليقة نسخة: اى على تلك القوة النباتية و الحيوانية.

(4)- كلّيات قانون- ص 195- ط ناصرى. فصل 6 نمط 3 اشارات.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 46

و ذلك أيضا من المدركات النفسانية، و ليس مما يعرض للبدن بما هو بدن فيؤثّر ذلك فى القوة النامية الغاذية حتى يحدث فيها من العارض الذى يعرض للنفس أولا- و ليكن الفرح النطقى- شدة و نفاذا «1» فى فعلها، و من العارض المضاد لذلك- و ليكن الغم النطقى الذى لا ألم بدنىّ فيه- ضعفا و عجزا حتى يفسد فعلها، و ربما انتقض المزاج به انتقاضا.

و كل ذلك مما يقنعك فى أن النفس جامعة لقوى الإدراك و استعمال الغذاء، و هى واحدة لها، ليست هذه منفردة عن تلك‏ «2».

فبيّن أن النفس هى مكمّلة البدن الذى هى فيه، و حافظته على نظامه الذى الأولى به أن يتميّز و يتفرّق، إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق مكانا آخر و يتسوجب مفارقة لقرينه، و إنما يحفظه على ما هو عليه شى‏ء خارج عن طبيعته، و ذلك الشى‏ء هو النفس فى الحيوان.

فالنفس إذن كمال لموضوع، ذلك الموضوع يتقوّم به، و هو أيضا مكمّل النوع و صانعه، فإن الأشياء المختلفة الأنفس تصير بها مختلفة الأنواع، و يكون تغايرها بالنوع لا بالشخص. فالنفس إذن ليست من الأعراض التى لا تختلف بها الأنواع، و لا يكون لها مدخل فى تقويم الموضوع. فالنفس إذن كمال كالجوهر لا كالعرض، و ليس يلزم هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق. فإنه ليس كل جوهر بمفارق، فلا الهيولى بمفارقة و لا الصورة، و قد علمت أنت أن الأمر كذلك، فلندلّ الآن دلالة مّا مختصرة على قوى النفس و أفعالها ثم نتبعها بالاستقصاء.

______________________________
(1)- مفعول لقوله يحدث.

(2)- و فى تعليقة نسخة: اى ليست قوة التغذية منفردة عن قوة الادراك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 47

الفصل الرابع فى تبيين أنّ اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها «1»

نقول: إن للنفس أفعالا تختلف على وجوه:

فيختلف بعضها بالشدة و الضعف، و بعضها بالسرعة و البطء. فإن الظن اعتقاد مّا يخالف اليقين بالتأكيد و الشدة، و الحدس يخالف التلقين التفكّر (خ ل) بسرعة الفهم.

و قد تختلف أيضا بالعدم و الملكة، مثل أن الشك يخالف الرأى، فإن الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض، و الرأى اعتقاد أحد طرفى النقيض؛ و مثل التحريك و التسكين.

و قد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادة مثل الإحساس بالأبيض و الإحساس بالأسود و إدراك الحلو و إدراك المر.

و قد تختلف بالجنس مثل إدراك اللون و إدراك الطعم، بل مثل الإدراك و التحريك.

و غرضنا الآن أن نعرف القوى التى تصدر عنها هذه الأفاعيل،

______________________________
(1)- راجع ص 12 ج 4 من الاسفار و ص 239 ج 2 من المباحث المشرقية للفخر الرازى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 48

و أنه هل يجب أن تكون لكل نوع من الفعل قوة تخصه أو لا يجب ذلك.

فنقول: أما الأفعال المختلفة بالشدة و الضعف فإن مبدأها قوة واحدة، لكنها تارة تكون أتم فعلا، و تارة تكون أنقص فعلا. و لو كان النقصان يقتضى أن تكون هناك للأنقص قوة غير القوة التى للأتم، لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان و الزيادة التى لا تكاد تتناهى، بل القوة الواحدة يعرض لها تارة أن تفعل الفعل أشد و أضعف بحسب الاختيار، و تارة بحسب مؤاتاة الآلات، و تارة بحسب عوائق‏ «1» من خارج أن تكون أو لا تكون و أن تقل أو تكثر.

فأمّا الفعل و عدمه فقد سلف لك فى الأقاويل الكلية أن مبدأ ذلك قوة واحد.

و أما اختلاف أفعالها التى من باب الملكة بالجنس كالإدراك و التحريك أو كإدراك و إدراك، فذلك مما بالحرى أن يفحص عنه فاحص، فينظر مثلا هل القوى المدركة كلها قوة واحدة، إلا أن لها إدراكات مّا بذاتها هى العقليات، و إدراكات مّا بآلات مختلفة بسبب اختلاف الآلات. فإن كانت العقليات و الحسيات مثلا لقوتين، فهل الحسيات كلها التى تتخيل من باطن و التى تدرك فى الظاهر لقوة واحدة، فان كانت التى فى الباطن لقوة أو لقوى، فهل التى فى الظاهر لقوة واحدة تفعل فى آلات مختلفة أفعالا مختلفة. فإنه ليس بممتنع أن تكون قوة واحدة تدرك أشياء مختلفة الأجناس و الأنواع، كما هو مشهور من‏

______________________________
(1)- و فى تعليقة نسخة: اى العوائق فى الفعل و الترك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 49

حال العقل عند العلماء و مشهور من حال الخيال عندهم، بل كما أن المحسوسات المشتركة «1» التى زعموا أنها العظم و العدد و الحركة و السكون و الشكل قد تحسّ بكل واحدة من الحواس أو بعدة منها و إن كانت بوساطة محسوس آخر.

ثم هل قوة التحريك هى قوة الإدراك، و لم لا يمكن ذلك. و هل قوة الشهوة بعينها هى قوة الغضب، فإذا صادفت اللذة انفعلت على نحو، و إن صادفت الأذى انفعلت على نحو آخر، بل هل الغاذية و النامية و المولدة شى‏ء من هذه القوى، و إن لم تكن فهل هى قوة واحدة، حتى إذا كان الشى‏ء لم يتم بصورة حرّكت الغذاء إلى أقطاره على هيئة و شكل، فإذا استكمل حرّكت ذلك التحريك بعينه. إلا أن الشكل قد تم فلا يحدث شكل آخر، و العظم قد بلغ مبلغا لا تفى القوة بأن تورد من الغذاء فيه أكثر مما يتحلل منه فتقف. و هناك يفصل من الغذاء فضل يصلح للتوليد لتنفذه إلى أعضاء التوليد، كما تنفذ الغذاء إليها لتغذوها به، لكنه يفصل عما

______________________________
(1)- قوله المحسوسات المشتركة. سيأتى كلامه فى ذلك فى آخر الفصل الثامن من المقالة الثالثة: فهذه هى المحسوسات التى تسمى مشتركة، اذ قد تشترك فيها عدة من الحواس الخ. و كذا فى الفصل الثانى عشر من الباب الثالث فى الابصار من المباحث المشرقية للفخر الرازى ص 319 ج 2. فى المحسوسات المشتركة. و الغرض فى عنوان البحث عن المحسوسات المشتركة ان العظم و العدد و الحركة و اخواتها مما لا تكون من الملموسات و المذوقات و المشمومات و المسموعات و المبصرات تشترك فى ادراكها الحواس الظاهرة او تشترك فى ادراكها عدة من الحواس فلا تحتاج فى الاحساس الى قوة اخرى كما توهم بعض الناس انه لا بد من حس آخر غير هذه الخمسة لادراك تلك الأمور المعدودة فتبصر و ارجع الى الفصل الثانى عشر و هو الفصل الاخير من الباب الرابع من نفس الاسفار (ص 49 ج 4). و الى ص 123 من نفس ارسطو.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 50

تحتاج إليه أعضاء التوليد من الغذاء فضل يصلح لباب آخر، فتصرفه تلك القوة بعينها إليه، كما تفعل بفضول كثيرة من الأعضاء، ثم تعجز هذه القوة فى آخر الحياة عن إيراد بدل ما يتحلّل مساويا لما يتحلّل، فيكون ذبول. فلم تفرض قوة نامية و لا تفرض قوة مذبلة، و اختلاف الأفعال ليس يدل على اختلاف القوى، فإن القوة الواحدة بعينها تفعل الأضداد، بل القوة الواحدة تحرك بإرادات مختلفة حركات مختلفة، بل القوة الواحدة قد تفعل فى مواد مختلفة أفاعيل مختلفة.

فهذه شكوك يجب أن يكون حلها مهيئا عندنا، حتى يمكننا أن ننتقل و نثبت قوى النفس؛ و أن نثبت أن عددها كذا «1»، و أنّ بعضها مخالف للبعض، فإن الحق عندنا هذا.

فنقول: أما أولا، فإن القوة من حيث هى قوة بالذات و أوّلا، هى قوة على أمر مّا و يستحيل أن تكون مبدأ لشى‏ء آخر غيره، فانّه من حيث هو قوة عليه مبدأ له، فإن كان مبدأ لشى‏ء آخر فليس هو من حيث هو مبدأ لذلك الأول فى ذاته. فالقوى من حيث هى قوى إنما تكون مبادئ لأفعال معينة بالقصد الأول.

لكنه قد يجوز أن تكون القوة مبدأ لأفعال كثيرة بالقصد الثانى، بأن تكون تلك كالفروع، فلا تكون مبدأ لها أوّلا، مثل أن الإبصار أنّما هو قوة أولا على إدراك الكيفية التى بها يكون الجسم بحيث إذا توسّط بين جسم قابل للضوء و بين المضى‏ء لم يفعل المضى‏ء فيه الإضاءة، و هذا هو اللون، و اللون يكون بياضا و سوادا.

______________________________
(1)- الاسفار، ط 1، ج 4- ص 12؛ و المباحث المشرقية، ط 1، ج 2، ص 239.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 51

و أيضا القوة المتخيلة هى التى تستثبت صور الأمور المادية من حيث هى مادية مجردة عن المادة نوعا من التجريد غير بالغ، كما نذكره بعد. ثم يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما أو صوتا أو غير ذلك. و القوة العاقلة هى التى تستثبت صور الأمور من حيث هى بريّة عن المادة و علائقها، ثم يتفق أن يكون ذلك شكلا، و يتفق أن يكون عددا.

و قد يجوز أن تكون القوة معدّة نحو فعل بعينه، لكنها تحتاج إلى أمر آخر ينضم إليها حينئذ، حتى يصير لها ما بالقوة حاصلا بالفعل، فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل، فيكون مثل هذه القوة تارة مبدأ للفعل بالفعل و تارة غير مبدأ له بالفعل، بل بالقوة، مثل القوة المحركة فإنها إذا صح الإجماع من القوة الشوقية بسبب داع من التخيل أو المعقول إلى التحريك حرّكت لا محالة، فإن لم يصح لم تحرّك.

و ليس يصدر عن قوة محركة واحدة بآلة واحدة إلا حركة واحدة، إذ الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة التى هى العضل فينا و فى كلّ عضلة قوة محركة جزئية لا تحرّك إلا حركة بعينها.

و قد تكون القوة الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة أو الآلات المختلفة، و هذا ظاهر.

فنقول الآن: إن أول أقسام أفعال النفس ثلاثة:

أفعال يشترك فيها الحيوان و النبات كالتغذية و التربية «1» و التوليد.

و أفعال تشترك فيها الحيوانات أكثرها أو جلّها و لا حظّ فيها للنبات مثل الإحساس و التخيل و الحركة الإرادية.

______________________________
(1)- التربية اشارة الى النموّ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 52

و أفعال تختص بالناس مثل تعقل المعقولات‏ «1» و استنباط الصنائع‏ «2» و الرويّة فى الكائنات و التفرقة بين الجميل و القبيح.

فلو كانت القوى النفسانية واحدة و كانت الأفعال النباتية تصدر عن القوة التى تصدر عنها الحيوانية صدورا أوليا لكان عدم الأجسام النباتية و أعضاء الحيوان التى تغذى و لا تحس مما هو صلب‏ «3» أو ليّن للإحساس إما أن يكون بسبب عدم القوة، أو بسبب أن المادة ليست تنفعل عنها.

و محال أن يقال: إن المادة ليست تنفعل عن الحر و البرد و لا تتأثر عنهما و عن الطعوم القوية و الروائح القوية، فإنها تنفعل عنها، فبقى أن يكون ذلك بسبب عدم القوة الفعالة لذلك‏ «4»، و «5» قد وجدت القوة الغاذية، فإذن القوتان مختلفتان.

و أيضا فإن تحريك النفس لا يخلو إما أن يكون على سبيل نقل مطلق و كل جسم قابل للنقل مطلقا، و إما أن يكون لنقل على سبيل قبض و بسط، و فى أجسامنا أعضاء هى أقبل لذلك‏ «6» من العضل و فيها حياة للتغذى، و ليس يمكن تحريكها. فالسبب فى ذلك ليس من جهتها «7»، بل من جهة فقدانها للقوة المحركة.

______________________________
(1)- اشارة الى القوة النظرية.

(2)- اشارة الى القوة العملية.

(3)- فى تعليقة نسخة: كالعظام و الرباطات التى تربط بين المفاصل. و للاحساس متعلق بقوله عدم الأجسام.

(4)- فى تعليقة نسخة: اى للاحساس.

(5)- حالية.

(6)- اى للقبض أو البسط.

(7)- اى من جهة تلك الاعضاء بل من جهة فقدان تلك الاعضاء للقوة المحركة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 53

و كذلك بعض الأعصاب تنفذ فيها قوة الحس فقط دون الحركة، و بعض الأعصاب تنفذ فيها قوة الحركة و لا تتفاضل بشى‏ء يعتد به، بل قد يوجد ما يشاكل ما ينفذ فيه الحس و يزيد عليه فى الكيف و ينقص، و قد تنفذ فيه قوة الحركة، و قد يوجد ما هو كذلك و ليس تنفذ فيه قوة الحس.

و كذلك يمكنك أن تعلم أن العين ليست دون اللسان فى أن تنفعل عن الطعوم المجاورة، و لا تحس العين بالطعم من حيث هو مذوق؛ لست أقول من حيث هو كيفية و لا بالصوت.

و أما القوة الإنسان فسنبين من أمرها أنها مبرّئة الذات عن الانطباع فى المادة، و نبيّن أن جميع الأفعال المنسوبة إلى الحيوان يحتاج فيها إلى آلة. فإذن الحواس و التخيلات لقوة أخرى مادية غير القوة المحركة و إن كانت تفيض عنها. و قوى الحركة أيضا متعلقة من وجه، كما سنبين، بقوى الحسن و التخيل. فإذا فهمت هذا و ما أعطيناك من الأصول سهل عليك أن تعرف فرقان ما بين القوى التى نحن فى ترتيبها و تعديدها، و تعلم أن كل قوة لها فعل أوّلى فلا تشارك قوة أخرى لها فعل أوّلى مخالف لفعلها الأوّلى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 54

الفصل الخامس فى تعديد قوى النفس‏ «1» على سبيل التصنيف‏ «2»

______________________________
(1)- راجع ص 11 ج 4 من الاسفار و ص 31 منه (- ج 8 ص 53 و 129 ط 2)

(2)- قوله: على سبيل التصنيف، لا يخفى عليك ان تلك القوى ليست اصنافا على معنى الصنف الحقيقى ايضا. و لذا عبر المحقق الطوسى فى شرحه على الاشارات بقوله فكانّها اصناف، فالصنف بمعناه الاوسع من ذلك كالقسم و الشأن و نحوهما. و للمحقق آقا حسين الخوانسارى فى تعليقاته على الاشارات كلام آخر فى المقام و هو ان التصنيف بمعنى المصادرة و الوضع، و ان شئت تفصيل ذلك فارجع الى تعليقاته عليها.

و قال الشيخ فى الفصل العاشر من النمط الثالث من الاشارات: «و اما نظير هذا التفصيل فى قوى النفس الانسانية على سبيل التصنيف فهو ان النفس الانسانية التى لها ان تعقل جوهر له قوى و كمالات». و قال المحقق الطوسى فى شرحه: «يريد ذكر القوى التى يختص الانسان بها و انما قال «على سبيل التصنيف» لان القوى الحيوانية المذكورة كانت متباينة بالذوات لكونها مبادئ افعال مختلفة فكان تفصيلها على سبيل التنويع و هذه غير متباينة بالذوات لكونها متعلقة بذات واحدة مجردة انما هى تختلف بحسب الاعتبارات التى هى بالقياس الى تلك الذات عوارض فكانها اصناف» شرح الاشارات ج 2 ص 351، ط دفتر نشر كتاب.

و قال بهمنيار فى التحصيل: «فصل فى تعديد القوى النفسانية على سبيل التصنيف و معنى التصنيف هو ما لا يتميز بالمقومات بل بالعوارض و هاهنا فانّ النفوس الثلاث اصناف لا انواع للنفس الانسانية مثلا. و قد بان انّ النفس الانسانى تنقسم انقساما ثلاثة: النفس النباتية، و النفس الحيوانية، و النفس الانسانية». و قال صدر المتألهين فى سفر النفس من الاسفار: «فصل فى الاشارة الى تعديد القوى النفسانية و ما دونها على‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 55

لنعدّ الآن قوى النفس عدّا على سبيل الوضع‏ «1»، ثم لنشتغل ببيان حال كل قوة فنقول: القوى النفسانية تنقسم بالقسمة الأولى أقساما ثلاثة:

أحدها النفس النباتية، و هى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يتولد و ينمى و يغتذى، و الغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذى قيل إنه غذاء له فيزيد فيه مقدار ما يتحلّل أو أكثر أو أقل.

و الثانى النفس الحيوانية، و هى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يدرك الجزئيات و يتحرك بالإرادة.

و الثالث النفس الإنسانية، و هى كمال أول لجسم طبيعى آلى من جهة ما ينسب إليه أنه يفعل الأفاعيل الكائنة بالاختيار الفكرى و الاستنباط بالرأى، و من جهة ما يدرك الأمور الكلية.

و لو لا العادة لكان الأحسن أن يجعل كل أول شرط «2» مذكورا فى رسم الثانى إن أردنا أن نرسم النفس لا القوة النفسانية التى للنفس بحسب ذلك الفعل. فإن الكمال مأخوذ فى حد النفس لا فى حد قوى النفس.

و أنت ستعلم الفرق بين النفس الحيوانية و بين قوة الإدراك و التحريك،

______________________________
- سبيل التصنيف و معنى التصنيف هاهنا ان هذه القوى لا يتميز بعضها عن بعض بفصول ذاتية كما فى الانواع النباتية و الحيوانية بل امتيازها بعوارض انسانية من تقدم بعضها على بعض و استخدام بعضها قبل بعض» اسفار ج 4 ص 31 ط 1- ج 8 ص 129 ط 2.

(1)- قوله: على سبيل الوضع، أى على سبيل المصادرة و الوضع اى الاصول الموضوعة من دون استعمال حجة و برهان. نحو قوله فى عنوان الفصل الثانى من المقالة الأولى من الطبيعات (ص 5): «فى تعديد المبادى للطبيعيات على سبيل المصادرة و الوضع» فهذا الفصل كالذى قبله كالفهرس لمطالب كتاب النفس. و سيبيّنها و يفصّلها فى المقالة الثانية إلى آخر كتاب النفس. فتبصّر.

(2)- اى النبات يجعل شرطا للنفس الحيوانى، و الحيوانى شرطا للنفس الانسانى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 56

و بين النفس الناطقة و بين القوة على الأمور المذكورة من التميّز و غيره.

فإن أردت الاستقصاء فالصواب أن تجعل النباتية جنسا للحيوانية، و الحيوانية جنسا للإنسانية «1»، و تأخذ الأعم فى حد الأخص. و لكنك إذا التفت إلى النفس من حيث القوى الخاصة لها فى حيوانيتها و إنسانيتها، فربما قنعت بما ذكرناه.

و للنفس النباتية قوى ثلاث:

الغاذية و هى قوة تحيل جسما غير الجسم الذى هى فيه إلى مشاكلة الجسم الذى هى فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.

و القوة المنمية و هى قوة تزيد فى الجسم الذى هى فيه بالجسم المتشبه به زيادة متناسبة فى أقطاره طولا و عرضا و عمقا ليبلغ به كمال النشوء.

و القوة المولدة و «2» هى قوة تأخذ من الجسم الذى هى فيه جزءا «3» هو شبيهه بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشبه به من التخليق و التمزيج ما يصيّره شبيها به بالفعل.

و للنفس الحيوانية بالقسمة الأولى قوتان: محركة، و مدركة.

و المحركة على قسمين: إما محركة بأنها باعثة على الحركة، و إما محركة بأنها فاعلة:

______________________________
(1)- فيقال كمال نباتى و كمال حيوانى.

(2)- فى تعليقة نسخة: أما المولدة فهى قوتان: إحداهما ما يجعل فضلة الهضم الرابع منيّا و هذه القوة فعلها فى الأنثيين لانّ ذلك الام يصير منيّا فيهما. و ثانيهما ما يهيؤ كل جزء من المنى الحاصل من الذكر و الأنثى فى الرحم لعضو مخصوص بأن يجعل بعضه مستعدا للعظميّة و بعضه للعصبيّة مثلا. و فعل هذه القوة إنما يكون حال كون المنى فى الرحم لتصادف ذلك فعل القوة المصورة.

(3)- أى مادة كالبذر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 57

و المحركة على أنها باعثة هى القوة النزوعية الشوقية، و هى القوة التى إذا ارتسمت فى التخيل الذى سنذكره بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها بعثت القوة المحركة «1» الأخرى التى نذكرها على التحريك، و لها شعبتان:

شعبة تسمى قوة شهوانية و هى قوة تبعث على تحريك تقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية كانت أو نافعة طلبا للذة. و شعبة تسمى غضبية و هى قوة تبعث على تحريك تدفع به الشى‏ء المتخيل ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة.

و أما القوة المحركة على أنها فاعلة فهى قوة تنبعث فى الأعصاب و العضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب‏ «2» الأوتار «3» و الرباطات المتصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ «4» أو ترخيها «5» أو تمدها طولا، فتصير الأوتار و الرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

و أما القوة المدركة فتنقسم قسمين: منها قوة تدرك من خارج، و منها قوة تدرك من داخل.

______________________________
(1)- أى فاعل الحركة.

(2)- لجذب الملائم.

(3)- فى تعليقة نسخة: الاوتار هى اجسام تنبت من اطراف اللحم من العضل شبيهة بالعصب فيلاقى الاعضاء المتحركة فتارة تجذبها بانجذابها و تارة ترخيها بارخائها.

و الرباط هى اجسام شبيهة بالعصب فى البياض و الليانة تاتى من العظم الى العظم توصل بين طرفى العظم من المفاصل كرباطات الزندين او بين اعضاء آخر كالرباط الذى يربط العصب بالليف و قد يخص هذا باسم العقب و ليس لشى‏ء من الروابط حس لئلا يتاذى بكثرة ما يلزم من الحركة.

(4)- اى الدماغ فسّر بهمنيار فى التحصيل المبدأ بالقلب حيث قال: «فهى التى تجذب الاوتار و الرباطات المتصلة بالاعضاء الى نحو جهة المبدأ و هو القلب او ترخيها».

ص 818.

(5)- لدفع المنافر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 58

فالمدركة من خارج هى الحواس الخمس أو الثمانى‏ «1»:

فمنها البصر و هى قوة مرتبة فى العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع فى الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية فى الأجسام‏ «2» الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة.

و منها السمع و هى قوة مرتّبة فى العصبة المتفرقة فى سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليها من تموّج الهواء المنضغط بين قارع و مقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه صوت فيتأدى تموّجه إلى الهواء المحصور الراكد فى تجويف الصماخ، و يحرّكه بشكل حركته، و تماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع.

و منها الشم‏ «3» و هى قوة مرتبة فى زائدتى مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتى الثدى تدرك ما يؤدى إليها الهواء المستنشق من الرائحة الموجودة فى البخار المخالط له أو الرائحة المنطبعة فيه بالاستحالة من جرم ذى رائحة.

و منها الذوق و هى قوة مرتّبة فى العصب المفروش على جرم اللسان‏

______________________________
(1)- اذا كانت قوة اللمس اربعة كما سيجيئ.

(2)- قوله: المتأدية فى الأجسام الخ المتأدية صفة للاشباح. و قوله: الى سطوح الاجسام، متعلق بالمتأدية. و قوله فى الاجسام الشفافة، بيان للواسطة فى الرؤية كالهواء الشاف. ثم انّ قوله سطوح الاجسام الصقيلة كلى له افراد منها الرطوبة الجليدية فكما تتأدى اشباح الاجساد ذوات اللون فى الهواء الشفاف بالفعل الى سطح المرآة الصقيلة كذلك تتادى فيه الى الرطوبة الجليدية.

(3)- فى شرح الموجز: قوة الشم هى قوة مرتّبة فى الزائدتين الشبيهتين بحلمتى الثدى من شانها ادراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق بتكيف الهوى بذى الرائحة على ما هو الحق. او بانفصال اجزاء لطيفة بخارية من ذى الرائحة و اتصالها بالة الشم انتهى.

فقول الشيخ قدس سره اشارة الى اختلاف المذهبين.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 59

تدرك الطعوم‏ «1» المتحللة من الأجسام المماسة له المخالطة للرطوبة العذبة التى فيه مخالطة محيلة.

و منها اللمس و هى قوة مرتّبة فى أعصاب جلد البدن كله و لحمه تدرك ما يماسه و يؤثر فيه بالمضادة المحيلة للمزاج أو المحيلة لهيئة التركيب. و يشبه أن تكون هذه القوة عند قوم لا نوعا أخيرا، بل جنسا لقوى أربع أو فوقها «2» منبثة معا فى الجلد كله.

واحدتها حاكمة فى التضاد الذى بين الحار و البارد.

و الثانية حاكمة فى التضاد الذى بين الرطب و اليابس.

و الثالثة حاكمة فى التضاد الذى بين الصلب و اللين.

و الرابعة حاكمة فى التضاد الذى بين الخشن و الأملس. إلا أن اجتماعها فى آلة واحدة يوهم تأحّدها فى الذات‏ «3».

و أما القوى المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات، و بعضها تدرك معانى المحسوسات. و من المدركات ما يدرك و يفعل معا، و منها ما يدرك و لا يفعل، و منها ما يدرك إدراكا أوليا، و منها ما يدرك إدراكا ثانيا.

و الفرق بين إدراك الصورة و إدراك المعنى أن الصورة هو الشى‏ء الذى يدركه الحس الباطن و الحس الظاهر معا. لكن الحس الظاهر يدركه أولا

______________________________
(1)- الطعوم تسعة و هى: الحرافة و المرارة و الملوحة و الحموضة و العفوصة و القبض و الدسومة و الحلاوة و التفاهة. هذا ان جعلت التفاهة من الطعوم و الافثمانية.

(2)- قوله: او فوقها، كالقوة الحاكمة بين الثقيل و الخفيف.

(3)- ص 48 من نفس الاسفار (ج 4 ط 1- ص 200 ج 8 ط 2) فى انحصار الحواس فى هذه الخمس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 60

و يؤديه إلى الحس الباطن مثل إدراك الشاة لصورة الذئب أعنى تشكّله و هيئته و لونه، فإن الحس الباطن من الشاة يدركها، لكن إنما يدركها أوّلا حسها الظاهر. و أما المعنى فهو الشى‏ء الذى تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أوّلا، مثل إدراك الشاة للمعنى المضاد فى الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إياه، و هربها عنه من غير أن يدرك الحس ذلك ألبتة. فالذى يدرك من الذئب أولا الحس الظاهر ثم الحس الباطن فإنه يخصّ فى هذا الموضع باسم الصورة «1». و الذى تدركه القوى الباطنة دون الحس فيخص فى هذا الموضع باسم المعنى.

و الفرق بين الإدراك مع الفعل و الإدراك لا مع الفعل، أن من أفعال بعض القوى الباطنة أن يركّب بعض الصور و المعانى المدركة مع بعض و يفصّله عن بعض، فيكون قد أدرك و فعل أيضا فيما أدرك.

و أما الإدراك لا مع الفعل فهو أن تكون الصورة أو المعنى يرتسم فى الشى‏ء فقط من غير أن يكون له أن يفعل فيه تصرفا ألبتة.

و الفرق بين الإدراك الأول و الإدراك الثانى أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو مّا من الحصول و قد وقع للشى‏ء من نفسه؛ و الإدراك الثانى هو أن يكون حصولها للشى‏ء من جهة شى‏ء آخر أدّى إليها.

فمن القوى المدركة الباطنة الحيوانية قوة بنطاسيا «2» و الحس المشترك‏

______________________________
(1)- قوله: يخص فى هذا الموضع باسم الصورة. و سيأتى قوله فى ذلك فى آخر الفصل الاول من المقالة الرابعة: «قد جرت العادة بان يسمى مدرك الحس المشترك صورة، و مدرك الوهم معنى».

(2)- بنط: بتقديم الباء على النون بمعنى اللوح. و السيا بمعنى النفس يونانى. يعنى لوح النفس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 61

و هى قوة مرتبة فى التجويف الأول‏ «1» من الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة فى الحواس الخمس المتأدية إليه، ثم الخيال‏ «2» و المصورة «3» و هى قوة مرتبة أيضا فى آخر التجويف المقدم‏ «4» من الدماغ تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الجزئية الخمس، و يبقى فيه بعد غيبة تلك المحسوسات.

و اعلم أن القبول لقوة غير القوة التى بها الحفظ فاعتبر ذلك من الماء، فإن له قوة قبول النقش و الرقم‏ «5»، و بالجملة الشكل، و ليس له قوة حفظه؛ على أنا نزيدك لهذا تحقيقا من بعد.

و إذا أردت أن تعرف الفرق بين فعل الحس العام‏ «6» و فعل الحس المشترك و فعل المصورة فتأمل حال القطرة التى تنزل من المطر فترى خطا مستقيما، و حال الشى‏ء المستقيم الذى يدور فترى طرفه دائرة، و لا يمكن أن يدرك الشى‏ء خطا أو دائرة إلا و يرى فيه‏ «7» مرارا. و الحس الظاهر

______________________________
(1)-

سه تجويف دارد دماغ بشر

 

ز احساس باطن دهندت خبر

مقدم ز تجويف اول بدانك‏

 

بود حاسه مشترك را مقرّ

مؤخر از او شد محل خيال‏

 

كه ماند در او از تصور اثر

پس اندر نخستين اوسط بود

 

تخيل ز حيوان و فكر از بشر

اخير وسط جاى و هم است و، حفظ

 

ز تجويف آخر نباشد بدر

     

 

(2)- قوله: ثم الخيال، الخيال على اصطلاح الحكما، و المصورة على اصطلاح الاطباء.

فهذه المصورة غير القوة المصورة لتصوير الاعضاء فهما مشتركتان لفظا.

(3)- على اصطلاح الاطباء.

(4)- التجويف الاول، نسخة.

(5)- النقش و الرسم له، نسخة.

(6)- الظاهر، نسخة.

(7)- اى فى الحس المشترك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 62

لا يمكن أن يراه مرتين، بل يراه حيث هو، لكنه إذا ارتسم فى الحس المشترك و زال قبل أن تنمحى الصورة من الحس المشترك أدركه الحس الظاهر حيث هو، و أدركه الحس المشترك كأنه كائن حيث كان فيه و كائن حيث صار إليه، فرأى امتدادا مستديرا أو مستقيما. و ذلك لا يمكن أن ينسب إلى الحس الظاهر ألبتة.

و أما المصورة فتدرك الأمرين و تتصورهما، و إن بطل الشى‏ء و غاب.

ثم القوة التى تسمى متخيلة «1» بالقياس إلى النفس الحيوانية، و متفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية، و هى قوة مرتّبة فى التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة «2»، من شأنها أن تركّب بعض ما فى الخيال مع بعض و تفصّل بعضه عن بعض، بحسب الإرادة.

ثم القوة الوهمية و هى قوة مرتبة فى نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعانى غير المحسوسة الموجودة فى المحسوسات الجزئية كالقوة الموجودة فى الشاة الحاكمة بأن هذا الذئب مهروب عنه و أن هذا الولد هو المعطوف عليه. و يشبه‏ «3» أن تكون هى أيضا المتصرفة فى المتخيلات تركيبا و تفصيلا.

ثم القوة الحافظة الذاكرة و هى قوة مرتبة فى التجويف المؤخر من‏

______________________________
(1)- اى المتصرفة.

(2)- قوله عند الدودة. الدودة هى البطن الاوسط من الدماغ فقط. و فى بحر الجواهر للهروى: الدودة هى البطن الاوسط من الدماغ، و انما سمى بها لانها يتقلص و يتمدد فى الانبساط و الانقباض كالدودة. و من خواصها ان ينسد زمان الانبساط و ينفتح زمان الانقباض.

(3)- قوله: و يشبه، و سيأتى قوله فى ذلك فى آخر الفصل الاول من المقالة الرابعة (ص 334) و يشبه ان تكون القوة الوهمية هى بعينها المفكرة و المخيلة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 63

الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعانى غير المحسوسة فى المحسوسات الجزئية.

و نسبة القوة الحافظة إلى القوة الوهمية كنسبة القوة التى تسمى خيالا إلى الحس المشترك. و نسبة تلك القوة إلى المعانى كنسبة هذه القوة إلى الصور المحسوسة. فهذه هى قوى النفس الحيوانية.

و أما النفس الناطقة الإنسانية فتنقسم قواها إلى قوة عاملة و قوة عالمة «1».

______________________________
(1)- قال المحاكم: لا شك ان للنفس الانسانية ادراكا للاشياء و تصرفا فى البدن و هو فعل منه فاثبتوا للنفس قوتين مبدأ الادراك و مبدأ فعل من جهتين: الادراك من الملاء الاعلى، و الفعل فى العالم الادنى و فى بدنه. فبالجهة الاولى متأثرة و بالجهة الثانية مؤثرة. فالقوة التى بها تدرك النفس الاشياء تسمى العقل النظرى و القوة التى بها صارت مصدرا للافعال تسمى العقل العملى. و اطلاق العقل على القوتين بالاشتراك اللفظى لاختلافهما من حيث ان الاولى مبدأ الانفعال و الثانية مصدر الفعل، او بطريق التشابه لاشتراكهما فى كونهما قوى النفس.

و لما انقسم الادراك الى قسمين ادراك بامور لا تتعلق بالعمل و ادراك لآراء متعلقة بالعمل لا جرم انقسم العقل النظرى الى قوتين او الى وجهين: قوة ادراك الامور التى لا تتعلق بالعمل كالعلم بالسماء و الارض، و مبنى الحكمة النظرية على هذه القوة. و قوة ادراك لآراء التى تتعلق بالعمل كالعلم بانّ العدل حسن و الظلم قبيح، و مبنى الحكمة العملية على هذه القوة لان مرجعهما العلم. و اما العقل العملى فانما يصدر عنه الافعال بحسب استنباطه ما يجب ان يفعل من راى كلى مستنبط من مقدمة كلية و لما كان ادراك الكلى و استنباطه من المقدمات الكلية انما هو للعقل النظرى فهو مستعين فى ذلك بالعقل النظرى.

اذا العمل لا يتأتى بدون العلم مثلا لهما مقدمة كلية و هى أنّ كلّ حسن ينبغى ان يؤتى به و قد استخرجنا منه ان الصدق ينبغى ان يؤتى به لان الصدق حسن و كل حسن ينبغى ان يؤتى به ينتج ان الصدق ينبغى ان يؤتى به، و هذا رأى كلى ادركها العقل النظرى.

ثم ان العقل العملى لما اراد ان يوقع صدقا جزئيا فهو انما يعقل بواسطة استخراج ذلك الجزئى من الرأى كانه يقول هذا صدق و كل صدق ينبغى ان يؤتى به فهذا الصدق ينبغى أن يؤتى به فهذا الصدق ينبغى أن يؤتى به و هذا رأى جزئى ادركها العقل النظرى ايضا

النفس من كتاب الشفاء، ص: 64

و كل واحدة من القوتين تسمى عقلا باشتراك الاسم‏ «1» أو تشابهه‏ «2».

فالعاملة قوة هى مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرويّة على مقتضى آراء تخصها اصطلاحية «3»، و لها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية و اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة و المتوهمة، و اعتبار بالقياس إلى نفسها.

فاعتبارها بحسب القياس إلى القوة الحيوانية النزوعية هو القبيل الذى تحدث منه فيها هيئات تخص الإنسان يتهيأ بها لسرعة فعل و انفعال مثل الخجل و الحياء و الضحك و البكاء و ما أشبه ذلك.

و اعتبارها الذى بحسب القياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة و المتوهمة هو القبيل الذى تنحاز إليه‏ «4» إذا اشتغلت باستنباط التدابير فى الأمور الكائنة الفاسدة، و استنباط الصناعات الإنسانية.

و اعتبارها الذى بحسب القياس إلى نفسها هو القبيل الذى تتولد فيه بين‏ «5» العقل العملى‏ «6» و العقل النظرى الآراء التى تتعلق بالأعمال و تستفيض ذائعة مشهورة مثل: أن الكذب قبيح، و الظلم قبيح، لا على‏

______________________________
لكن العقل العملى انما يفعل هذا لصدق العلم بذلك الجزئى، فالعقل العملى بل النفس انما يصدر منه الافعال لآراء جزئية تنبعث من آراء كلية عندها مستنبطة من مقدمات بديهية او مشهورية او تجربية.

(1)- و فى تعليقة نسخة: لاختلافهما فى ان احداهما مبدأ الفعل و الاخرى مبدأ الانفعال.

(2)- و فى تعليقة نسخة: اى الحقيقة و المجاز بعلاقة المشابهة يعنى بطريق التشابه لاشتراكهما فى كونهما قوى النفس.

(3)- صفة لقوله اراء. اصطلاح: با همديگر صلح‏كردن. (كنز).

(4)- اى تجمع إليه.

(5)- من، نسخة.

(6)- فى تعليقة نسخة: القوة التى بها صارت النفس مصدرا للافعال تسمى العقل العملى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 65

سبيل التبرهن، و ما أشبه ذلك من المقدمات المحدودة الانفصال عن الأوليات العقلية المحضة فى كتب المنطق. و إن كانت إذا برهن عليها صارت من العقلية أيضا على ما عرفت فى كتب المنطق.

و هذه القوة يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة الأخرى التى نذكرها حتى لا تنفعل عنها «1» ألبتة؛ بل تنفعل تلك عنها و تكون مقموعة دونها، لئلا تحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية. و هى التى تسمى أخلاقا رذيلة، بل يجب أن تكون غير منفعلة ألبتة و غير منقادة، بل متسلطة، فتكون لها أخلاق فضيلة و قد يجوز أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية أيضا، و لكن إن كانت هى الغالبة، تكون لها هيئة فعلية، و لهذا العقل هيئة انفعالية. و لنسّم كل هيئة خلقا فيكون شى‏ء واحد يحدث منه خلق فى هذا «2» و خلق فى ذلك‏ «3»؛ و إن كانت هى المغلوبة تكون لها هيئة انفعالية، و لذلك هيئة فعلية غير غريبة «4»، فيكون ذلك أيضا هيئتين و خلقين، أو يكون الخلق واحدا له نسبتان‏ «5».

و إنما كانت الأخلاق التى فينا منسوبة إلى هذه القوة لأن النفس الإنسانية كما يظهر من بعد جوهر واحد، و له نسبة و قياس إلى جنبتين:

جنبة هى تحته، و جنبة هى فوقه، و له بحسب كل جنبة قوة بها تنتظم‏

______________________________
(1)- اى حتى لا تنفعل تلك القوة عن سائر قوى البدن بل تنفعل تلك- اى سائر قوى البدن- عن تلك القوة و تكون سائر قوى البدن مقموعة عند تلك القوة اى ذليلة عندها.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى فى البدن و هو الفعلية.

(3)- فى تعليقة نسخة: اى فى العقل و هو الانفعالية.

(4)- لأن التسلّط شأن النفس.

(5)- نسبة الى البدن و نسبة الى العقل.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 66

العلاقة بينه و بين تلك الجنبة. فهذه القوة العملية هى القوة التى لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التى دونها و هو البدن و سياسته.

و أما القوة النظرية فهى القوة التى لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التى فوقه لتنفعل و تستفيد منها و تقبل عنها. فكأنّ للنفس منا وجهين: وجه إلى البدن، و يجب أن يكون هذا الوجه غير قابل ألبتة أثرا من جنس مقتضى طبيعة البدن، و وجه إلى المبادئ العالية. و يجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هناك و التأثر منه. فمن الجهة السفلية تتولد الأخلاق، و من الجهة الفوقانية تتولد العلوم، فهذه هى القوة العملية.

و أما القوة النظرية فهى قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، فإن كانت مجردة بذاتها فأخذها بصورتها فى نفسها أسهل، و إن لم تكن فإنّها تصير مجردة بتجريدها إياها، حتى لا يبقى فيها عن علائق المادة شى‏ء، و سنوضح كيفية هذا من بعد.

و هذه القوة النظرية لها إلى هذه الصور نسب مختلفة، و ذلك لأن الشى‏ء الذى من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة قابلا له و قد يكون بالفعل قابلا له.

و القوة تقال على ثلاثة معان، بالتقديم و التأخير: فتقال قوة للاستعداد المطلق الذى لا يكون خرج منه بالفعل شى‏ء، و لا أيضا حصل ما به يخرج، كقوة الطفل على الكتابة. و تقال قوة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشى‏ء إلا ما يمكنه به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل بلاواسطة، كقوة الصبى الذى ترعرع‏ «1» و عرف الدواة و القلم و بسائط

______________________________
(1)- ترعرع الصبى: تحرك و نشأ، و غايته ثلاثة عشر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 67

الحروف على الكتابة «1». و تقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة، و حدث مع الآلة أيضا كمال الاستعداد بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلاحاجة إلى اكتساب، بل يكفيه أن يقصد فقط، كقوة الكاتب المستكمل للصناعة إذا كان لا يكتب. و القوة الأولى تسمى مطلقة و هيولانية، و القوة الثانية تسمى قوة ممكّنة، و القوة الثالثة تسمى كمال القوة.

فالقوة النظرية إذن:

تارة تكون نسبتها إلى الصور المجردة التى ذكرناها نسبة ما بالقوة المطلقة، و ذلك حين ما تكون هذه القوة التى للنفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذى بحسبها، و حينئذ تسمى عقلا هيولانيا، و هذه القوة التى تسمى عقلا هيولانيا موجودة لكل شخص من النوع، و إنما سميت هيولانية تشبيها إياها باستعداد الهيولى الأولى التى ليست هى بذاتها ذات صورة من الصور، و هى موضوعة لكل صورة.

و تارة نسبة ما بالقوة الممكّنه، و هى أن تكون القوة الهيولانية قد حصل فيها من المعقولات الأولى التى تتوصل منها و بها إلى المعقولات الثانية، أعنى بالمعقولات الأولى المقدمات التى يقع بها التصديق لا باكتساب و لا بأن يشعر المصدّق بها أنه كان يجوز له أن يخلو عن التصديق بها وقتا ألبتة، مثل اعتقادنا بأن الكل أعظم من الجزء و أن الأشياء المتساوية لشى‏ء واحد بعينه متساوية. فما دام انه يحصل فيه‏ «2» من معنى مّا بالفعل هذا القدر بعد فانّه يسمى عقلا بالملكة. و يجوز أن يسمى هذا عقلا بالفعل بالقياس إلى الأولى، لأن القوة الأولى ليس لها أن تعقل شيئا بالفعل،

______________________________
(1)- متعلق بقوله على الكتابة.

(2)- التذكير باعتبار ان هذه القوة عقل. و فى نسخة: فمادام انما يحصل فيها.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 68

و أما هذه فإن لها أن تعقل إذا أخذت تبحث‏ «1» بالفعل.

و تارة تكون نسبة مّا بالقوة الكمالية و هو أن يكون حصل فيها أيضا الصور المعقولة المكتسبة بعد المعقولة الأولية، إلا أنه ليس تطالعها و ترجع إليها بالفعل، بل كأنها عنده مخزونة فمتى شاء طالع تلك الصور بالفعل فعقلها، و عقل أنه قد عقلها. و سمّى عقلا بالفعل لأنه عقل يعقل متى شاء بلا تكلف اكتساب و إن كان يجوز أن يسمّى عقلا بالقوة بالقياس إلى ما بعده.

و تارة تكون النسبة نسبة مّا بالفعل المطلق، و هو أن تكون الصورة المعقولة حاضرة فيه و هو يطالعها بالفعل فيعقلها بالفعل و يعقل أنه يعقلها بالفعل فيكون ما حصل له حينئذ يسمى عقلا مستفادا. و إنما سمى عقلا مستفادا، لأنه سيتضح لنا أن العقل بالقوة إنما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو دائما بالفعل و أنه إذا اتصل العقل بالقوة بذلك العقل الذى بالفعل نوعا من الاتصال انطبع فيه نوع من الصور تكون مستفادة من خارج.

فهذه أيضا مراتب القوى التى تسمى عقولا نظرية. و عند العقل المستفاد يتم الجنس الحيوانى و النوع الإنسانى منه. و هناك تكون القوة الإنسانية قد تشبهت بالمبادئ الأولية للوجود كله.

فاعتبر الآن و انظر إلى حال هذه القوى كيف يرءس بعضها بعضا و كيف يخدم بعضها بعضا، فإنك تجد العقل المستفاد رئيسا و يخدمه الكل و هو الغاية القصوى.

ثم العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة.

______________________________
(1)- اخذت ببحث- نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 69

و العقل الهيولانى بما فيه من الاستعداد يخدم العقل بالملكة.

ثم العقل العملى يخدم جميع هذه. لأن العلاقة البدنية كما سيتضح بعد لأجل تكميل العقل النظرى و تزكيته و تطهيره، و العقل العملى هو مدبر تلك العلاقة.

ثم العقل العملى يخدمه الوهم.

و الوهم تخدمه قوتان: قوة بعده و قوة قبله. فالقوة التى بعده هى القوة التى تحفظ ما أداه الوهم أى‏ «1» الذاكرة، و القوة التى هى قبله هى جميع القوى الحيوانية.

ثم المتخيلة تخدمها قوتان مختلفتا المأخذين: فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار لأنها تبعثها على التحريك نوعا من البعث، و القوة الخيالية تخدمها لعرضها الصور المخزونة فيها المهيّأة لقبول التركيب و التفصيل. ثم هذان رئيسان لطائفتين، أما القوة الخيالية فتخدمها بنطاسيا، و بنطاسيا تخدمها الحواس الخمس.

و أما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة و الغضب، و الشهوة و الغضب تخدمهما القوة المحركة فى العضل، فهاهنا تفنى القوى الحيوانية.

ثم القوى الحيوانية تخدمها النباتية و أولها و رأسها المولدة. ثم النامية تخدم المولدة. ثم الغاذية تخدمهما جميعا. ثم القوى الطبيعية الأربع‏ «2» تخدم هذه، و الهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة و الجاذبة من جهة، و الدافعة تخدم جميعها.

ثم الكيفيات الأربع تخدم جميع ذلك. لكن الحرارة تخدمها

______________________________
(1)- تفسير للقوة الحافظة.

(2)- اى الجاذبة و الهاضمة و الماسكة و الدافعة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 70

البرودة «1»، فإنها إما أن تعدّ للحرارة مادة أو تحفظ ما هيّأتها الحرارة، و لا مرتبة للبرودة «2» فى القوى الداخلة فى الأعراض الطبيعية إلا منفعة تابع و تال، و تخدمهما جميعا اليبوسة و الرطوبة «3»، و هناك آخر درجات القوى.

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: لكن الحرارة تخدمها البرودة فانها اما ان تعدّ للحرارة مادة او تحفظ ما افادت الحرارة من التحليل و حاجة الجاذبة و الدافعة الى اليبوسة من وجهين الاول تمكين الروح الحاملة للقوة فى الحركة. الثانى تجويد هيئة الالة و تقويتها و الهاضمة انما تحتاج الى الرطوبة لتسييل الغذاء و تهيئته للنفوذ فى المجارى و القبول للاشكال. كذا فى القانون.

(2)- فى تعليقة نسخة: البرودة تنفع الماسكة فى الامساك بالعرض بان يحتبس الليف على هيئة الاشتمال الصالح للامساك و كذا الماسكة تنفع الدافعة بالبرودة لأنها يمنعها تحليل الريح المعينة للدفع كذا فى القانون.

(3)- قوله: «و تخدمهما جميعا اليبوسة و الرطوبة»، اقول: كانت العبارة و تخدمها بافراد الضمير، و الصواب تثنية الضمير كما فى النسخ المصحّحة من الشفاء التى عندنا. على ان الافراد مستلزم للتكرار لان الشيخ صرح اولا بان الكيفيات الاربع تخدم جميع ذلك. فراجع الفصل الثالث من التعليم السادس من كليات القانون (ص 141 من الطبع الناصرى) و الى شرح المواقف ص 426 طبع القسطنطنية، و ان كان كلام الايجى و المير فى المقام انموزجا من القانون. قال الايجى: و هذه القوى الاربع تخدمها الكيفيات الاربع فاشد القوى حاجة إلى الحرارة، الهاضمة ثم الجاذبة ثم الدافعة ثم الماسكة. و اشد القوى حاجة الى اليبوسة الماسكة ثم الجاذبة ثم الدافعة و الهاضمة لا حاجة لها الى اليبس بل الى الرطوبة. و قال الشارح: و البرودة مع كونها منافية بالذات لافعال هذه القوى تخدم بالعرض الماسكة باعانتها على حبس الليف المورب على هيئة الاشتمال الصالح للامساك. و تخدم كذلك الدافعة بانها تمنع تحليل الريح المعينة على الدفع. و ايضا تغلظها، و كلما كانت الريح اغلظ كانت اعون. و ايضا تجمع الليف العاصر و تكثفه فتكون اقوى فى الدفع، فظهر مما ذكر ان الحرارة تخدم جميع هذه القوى. و البرودة لا تخدم الا الماسكة و الدافعة و أن اليبوسة تخدم ما سوى الهاضمة و الرطوبة تخدمها فقط. انتهى نقلناها باختصار.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 71

المقالة الثانية

و هى خمسة فصول:

الفصل الاول: فى تحقيق القوى المنسوبة الى النفس النباتية.

الفصل الثانى: فى تحقيق اصناف الادراكات التى فينا.

الفصل الثالث: فى الحاسّة اللمسية.

الفصل الرابع: فى الذوق و الشمّ.

الفصل الخامس: فى حاسّة السمع.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 73

الفصل الأول فى تحقيق القوى المنسوبة إلى النفس النباتية

فلنبدأ بتعريف حال القوى المذكورة قوة قوة، و لنعرّفها من جهة أفعالها. و أول ذلك أفعال القوى النباتية، و أولها حال التغذية. فنقول:

قد علمت فيما سلف نسبة الغذاء إلى المغتذى و حد كل واحد منهما و خاصيته. فنقول الآن: إن الغذاء ليس إنما يستحيل دائما إلى طبيعة المتغذّى دفعة، بل أولا يستحيل استحالة مّا عن كيفيته و يستعدّ للاستحالة إلى جوهر المغتذى، فتفعل فيه قوة من خدم القوة الغاذية و هى الهاضمة، و هى التى تذيب الغذاء فى الحيوان و تعده للنفوذ المستوى، ثم إن القوة الغاذية تحيله فى الحيوان الدموى أول الإحالة إلى الدم و الأخلاط التى منها قوام البدن على ما بينا فى مواضع أخرى. و كل عضو فإنه يختص بقوة غاذية تكون فيه و تحيل الغذاء إلى مشابهته الخاصة فتلصقه به.

فالقوة الغاذية تورد البدل، أى بدل ما يتحلل و تشبه و تلصق. فانّه و إن كان الغذاء أكثر منافعه أنه يقوم بدل ما يتحلل، فإنه ليست الحاجة إلى الغذاء لذلك فقط، بل قد تحتاج إليه الطبيعة فى أول الأمر للتربية، و إن كان بعد ذلك إنما يحتاج إلى وضعه موضع المتحلل فقط. فالقوة

النفس من كتاب الشفاء، ص: 74

الغاذية من قوى النفس النباتية تفعل فى جميع مدة بقاء الشخص و هى مادامت موجودة تفعل أفاعيلها وجد النبات و الحيوان باقيين، و ان بطلت لم يوجد النبات و الحيوان باقيين. و ليس كذلك حال سائر القوى النباتية «1».

و النامية تفعل فى أول كون الحيوان فعلا ليس هو التغذية فقط، و ذلك لأن غاية التغذية ما «2» حدّدناه، و أما هذه القوة فإنها توزّع الغذاء على خلاف مقتضى القوة الغاذية، و ذلك لأن الذى للقوة الغاذية لذاتها أن تؤتى كل عضو من الغذاء بقدر عظمه و صغره و تلصق به من الغذاء بمقداره الذى له على السواء.

و أما القوة النامية فإنها تسلب جانبا من البدن من الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة فى جهة أخرى فتلصقه بتلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أخرى مستخدمة للغاذية فى جميع ذلك. و لو كان الأمر إلى الغاذية لسوّت بينهما أو لفضّلت الجهة التى نقصتها النامية. مثال ذلك أن الغاذية إذا انفردت و قوى فعلها و كان ما يورد أكثر مما يتحلل فإنها تزيد فى عرض الأعضاء و عمقها زيادة ظاهرة بالتسمين‏ «3»، و لا تزيد فى الطول زيادة

______________________________
(1)- يتم فعل الغاذية بامور ثلاثة: الاول تحصيل الخلط الذى هو بالقوة القريبة من الفعل شبيهة بالعضو. الثانى الالزاق و هو ان يلصق ذلك الحاصل بالعضو و يجعله جزءا منه بالفعل. الثالث ان يجعله بعد الالصاق شبيها به من كل جهة حتى فى قوامه و لونه.

شرح المواقف ج 7 ص 179.

(2)- فى تعليقة نسخة: من ايراد البدل و التشبه و الالصاق.

(3)- و السمن قد يكون بعد كمال النشوء ايضا و ان السمن لا يكون الا فى قطرين و من انه مخصوص باللحم و ما فى حكمه دون الاعضاء الاصلية كالعظم و نظائره. شرح المواقف ج 7 ص 179.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 75

يعتد بها. و أما المربية فإنها تزيد فى الطول أكثرا كثيرا مما تزيد فى العرض، و الزيادة فى الطول أصعب من الزيادة فى العرض، و ذلك لأن الزيادة فى الطول يحتاج فيها إلى تنفيذ الغذاء فى الأعضاء الصلبة من العظام و العصب تنفيذا فى أجزائها طولا لتنميها و تبعد بين أطرافها. و الزيادة فى العرض قد تغنى فيها تربية اللحم و تغذية العظم أيضا عرضا من غير حاجة إلى تنفيذ شى‏ء كثير فيه و تحريكه. و ربما كانت أعضاء هى فى أول النشوء صغيرة و أعضاء هى فى أول النشوء كبيرة، ثم يحتاج فى آخر النشوء أن يصير ما هو أصغر أكبر و ما هو أكبر أصغر؛ فلو كان التدبير إلى الغاذية لكان يستمر ذلك على نسبة واحدة. فالقوة الغاذية «1» من حيث هى غاذية تأتى بالغذاء و تقتضى إلصاقه بالبدن على النحو المستوى أو القريب من المستوى، و على الوجه الذى فى الطبع‏ «2» أن تفعله عند الإسمان.

و أما النامية فتوغر «3» إلى الغاذية بأن تقسم ذلك الغذاء و تنفذه إلى حيث تقتضى التربية خلافا لمقتضى الغاذية، و الغاذية تخدمها فى ذلك‏ «4»، لأن الغاذية لا محالة هى الملصقة؛ لكنها تكون متصرفة تحت تصريف القوة المربية. و القوة المربية إنما تنحو نحو تمام النشوء.

______________________________
(1)- قال الرازى فى المباحث المشرقية: «الاجزاء الزائدة من الغذاء فى النمو تنفذ فى جواهر الاعضاء فلاجرم تمدها و تزيد فى جوهرها و اما فى السمن فانها لا تنفذ فى جواهر الاعضاء بل كانّها تلتصق بها.» المباحث المشرقية ج 2، ص 272.

(2)- فى طبعه، نسخة.

(3)- او غره الى كذا أى الجأه إليه.

(4)- و الغاذية تخدم القوة المربية، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 76

و أما المولدة فلها فعلان‏ «1»: أحدهما تخليق البزر و تشكيله و تطبيعه، و الثانى إفادة أجزائه فى الإستحالة الثانية صورها من القوى و المقادير و الأشكال و الأعداد و الخشونة و الملاسة و ما يتصل بذلك متسخرة تحت تدبير المتفرد بالجبروت‏ «2»، فتكون الغاذية تمدها بالغذاء، و النامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة فهذا الفعل يتم فيها فى أول تكون الشى‏ء ثم يبقى التدبير مفوضا إلى النامية و الغاذية.

فإذا كان فعل النامية يستتم فحينئذ تنبعث القوة المولدة فى توليد البزر و المنى ليسكنهما «3» القوة التى هى من جنسها «4» مع الخادمتين‏ «5». و بالجملة فإن القوة الغاذية مقصودة ليحفظ بها جوهر الشخص، و القوة النامية مقصودة ليتم بها جوهر الشخص، و القوة المولدة مقصودة ليستبقى بها

______________________________
(1)- قوله قدس سره: «و اما المولدة فلها فعلان»، اقول: القوة المولّدة من حيث فعلها الاول تسمى بالمغيرة الاولى و من حيث فعلها الثانى تسمى بالمغيرة الثانية، كما انها تسمى من حيث فعلها الثانى مصورة ايضا، فكلام الشيخ و هو قوله: و الثانى افادة اجزائه فى الاستحالة الثانية صورها من القوى و المقادير الخ بيان للمولدة من حيث انها مغيرة ثانية مصورة. و قوله: الاستحالة الثانية ناظر الى كونها مغيرة ثانية. و قوله: صورها- و هو منصوب على المفعولية لقوله افادة- ناظر الى كونها مصورة. و قوله: متسخرة تحت تدبير المتفرد بالجبروت اشارة الى ان المصورة- اعم من هذه المصورة. و من القوة المصورة التى سنشير اليها- ليست مستقلة فى فعلها بل هى متسخرة تحت تدبير المتفرد بالجبروت. و القائل بأنّ المتصورة باطلة كما ذهب الى بطلانها المحقق الطوسى فى التجريد يريد هذا المعنى اعنى بطلان استقلالها لا أن المصورة باطلة رأسا.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى المصورة تكون آلة فى هذا الفعل لوجود مجرد لا ان تكون مستقلة فى هذه الافعال.

(3)- فى تعليقة نسخة: اى يكون مسكنا و منزلا لهما.

(4)- اى المولدة.

(5)- فى تعليقة نسخة: اى الغاذية و النامية.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 77

النوع‏ «1» إذ كان حب الدوام‏ «2» أمرا فائضا من الإله تعالى على كل شى‏ء، فما لم يصلح أن يبقى بشخصه و يصلح أن يبقى بنوعه فإنه تنبعث فيه قوة إلى استجلاب بدل يعقبه ليحفظ به نوعه. فالغاذية تورد بدل ما يتحلل من الشخص، و المولدة تورد بدل ما يتحلل من النوع.

و قد ظن بعضهم‏ «3» أن الغاذية نار، لأن النار تغتذى و تنمو.

و قد أخطأ من وجهين: أحدهما من جهة أن الغاذية ليست تغتذى بنفسها، بل تغذى البدن و تنميه، و النار إن كانت تغتذى فهى إنما تغتذى و تنمى بنفسها «4». و من وجه آخر أن النار ليست تغتذى، بل تتولد شيئا بعد شى‏ء و تطفأ ما تقدم. ثم لو كانت تغتذى و كان حكمها حكم غذاء الأبدان، لما كان يجب أن يكون للأبدان وقوف فى النمو. فإن النار

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: قال الامام فى المباحث: اما اللتان لبقاء النوع فاوليهما المولدة و هى التى تفصل جزء من فضل الهضم الاخير للمغتذى و تودعه قوة من سنخها، و ثانيتهما المصورة.

(2)- قوله قدس سره: إذ كان حب الدوام الى آخره: هذه الكلمة التامة فى غاية الجودة.

و الطبيعى الذى اخلد الى الارض و يقول ما يهلكنا الا الدهر و ينكر دار الخلود و البقاء لم يحب بقائه فى هذه العاجلة و يهرب عما يهلكه و يفنيه لولا البقاء كان اصلا ثابتا سرمديا ابديا ارتكز فى جبلة النفوس حبّه؟! و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. قال صدر المتألهين فى الاسفار (ص 163 ج 4 ط 1- ص 241 ج 9 ط 2): ان الله تعالى قد جعل لواجب حكمته فى طبع النفوس محبة الوجود و البقاء و جعل فى جبلتها كراهة الفناء و العدم، و هذا حق لما علمت ان طبيعة الوجود خير محض و نور صرف و بقائه خيرية الخير و نورية النور. الخ.

(3)- ذلك البعض هو هراكليتوس. راجع ص 22 ج 4 من الاسفار ط 1- ج 8 ص 97 ط 2.

و ص 106 من نفس ارسطو.

(4)- نفسها، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 78

مادامت تجد مادة لم تقف، بل تزيد «1» إلى غير نهاية.

 

النفس من كتاب الشفاء       78     الفصل الأول فى تحقيق القوى المنسوبة إلى النفس النباتية ..... ص : 73

أعجب من ذلك ما قال صاحب هذا القول: إن الأشجار تعرّق من أسفل لأن الأرضية تتحرك إلى أسفل و تفرّع إلى فوق، لأن النار تتحرك إلى فوق. فأول غلطه هو أن كثيرا من النبات أغصانه أثقل من عروقه.

و ثانيا أنه لم لا ينفصل بهذه الحركة فيفارق الثقيل الخفيف. فإن كان ذلك لتدبير النفس فليجعل التعريق و التفريح أيضا للنفس، و على أنه يشبه أن يكون الفوق‏ «2» فى النبات حيث رأسه، و رأس النبات عروقه و منه منشؤه.

ثم إن آلة هذه القوة «3» الأولية «4» هى الحار الغريزى، فإن الحار هو المستعد لتحريك المواد و يتبعها البرد لتسكينها «5» عند الكمالات من الخلق محتوية عليها «6». و أما من الكيفيات المنفعلة فآلتها الأولية الرطوبة، فإنها هى التى تتخلق و تتشكل، و تتبعها اليبوسة فإنها تحفظ الشكل و تفيد التماسك.

و القوة النباتية «7» التى فى الحيوان فإنها تولد جسما حيوانيا، و ذلك لأنها نباتية تتعلق بها قوة الحيوان، و هى الفصل الذى لهما مما يشاركها فى كونها ذات قوة التغذية و النمو، فتمزّج الأركان و العناصر مزاجا يصلح‏

______________________________
(1)- تذهب، نسخة.

(2)- ان يكون العرق فى النبات- ظ.

(3)- اى الغاذية.

(4)- صفة الآلة.

(5)- و يتبعها البرد و يسكنّها، كما فى نسخة مصحّحة مقرؤة من الشفاء.

(6)- مختومة، نسخة.

(7)- يعنى النباتية الحيوانية. فافهم.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 79

للحيوان. إذ ليس تتولى مزاجها القوة المشتركة بين النبات و الحيوان من حيث هى مشتركة، فإنها من حيث هى مشتركة لا توجب مزاجا خاصا، بل إنما توجب مزاجا خاصا فيها لأنها مع أنها غاذية هى أيضا حيوانية فى طباعها أن تحس و تتحرك إذا حصلت الآلة «1»، و هى بعينها حافظة لذلك التأليف و المزاج حفظا، إذا أضيف إلى ذوات التأليف كان قسريا، لأنه ليس من طباع العناصر و الأجسام المتضادة أن تأتلف لذاتها، بل من طباعها الميل إلى جهات مختلفة، و إنما تؤلفها النفس الخاصة. مثلا فى النخلة نفس نخليّة، و فى العنب نفس عنبيّة. و بالجملة النفس التى تكون صورة لتلك المادة. و النفس إذا صارت نخلية كان لها مع أنها نفس النمو زيادة أنها نفس نخلية، و فى العنب أنها نفس عنبية، و ليست النخلة تحتاج إلى نفس نباتية و نفس أخرى تكون بتلك النفس نخلة، و إن كان ليس لها أفعال خارجة عن أفعال النبات، بل تكون نفسها النباتية فى نباتيتها أنها نخلية.

و أما النفس النباتية التى فى الحيوان فإنها تعّد خلقة الحيوان نحو أفعال غير أفعالها وحدها من حيث هى نباتية، فهى مدبرة نفس حيوانية، بل هى بالحقيقة غير نفس نباتية، اللهم إلا أن يقال إنها نفس نباتية بالمعنى الذى ذكرنا أعنى العام. فالفصل المقوم لنوعية نفس نفس من النفوس النباتية أعنى الفصول التى لنبت مّا دون نبت مّا لا يكون إلا مبدأ فعل نباتى مخصص فقط.

و أمّا النفس النباتية الحيوانية ففصلها القاسم إياها المقوّم لنوع نوع تحتها

______________________________
(1)- اى البدن.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 80

هو قوة النفس الحيوانية المقارنة لها التى تعّد لها البدن، و هو فصل على نحو الفصول التى تكون للبسائط لا التى تكون للمركبات.

و أما النفس الإنسانية فلا تتعلق بالبدن تعلقا صوريا كما نتبين‏ «1»، فلا يحتاج أن يعدّ لها عضو. نعم قد تتميز الحيوانية التى لها، عن سائر الحيوانات، و كذلك الأعضاء المعدة لحيوانيتها أيضا.

______________________________
(1)- نبيّن، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 81

الفصل الثانى فى تحقيق أصناف الإدراكات التى لنا

فلنتكلم الآن فى القوى الحاسة و الدراكة، و لنتكلم فيها كلاما كليا فنقول: يشبه أن يكون كل إدراك أنما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء، فإن كان الإدراك إدراكا لشى‏ء مادى فهو أخذ صورته مجردة عن المادة تجريدا ما، إلا أن أصناف التجريد مختلفة و مراتبها متفاوتة، فإن الصورة المادية تعرض لها بسبب المادة أحوال و أمور ليست هى لها بذاتها من جهة ما هى تلك الصورة فتارة يكون النزع عن المادة نزعا مع تلك العلائق كلها أو بعضها، و تارة يكون النزع نزعا كاملا. و ذلك بأن يجرد المعنى عن المادة و عن اللواحق التى لها من جهة المادة.

مثاله أن الصورة الإنسانية و الماهية الإنسانية طبيعة لا محالة تشترك فيها أشخاص النوع كلها بالسوية، و هى بحدها شى‏ء واحد و قد عرض لها أن وجدت فى هذا الشخص و ذلك الشخص فتكثرت. و ليس لها ذلك من جهة طبيعتها الإنسانية. و لو كان للطبيعة الإنسانية ما يجب فيها التكثر لما كان يوجد إنسان محمولا على واحد بالعدد و لو كانت الإنسانية موجودة لزيد لأجل أنها إنسانيته، لما كانت لعمرو، فإذن أحدى العوارض التى‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 82

تعرض للإنسانية من جهة المادة هى هذا النوع من التكثر و الانقسام‏ «1».

و يعرض لها أيضا غير هذا من العوارض‏ «2»، و هو أنها إذا كانت فى مادة مّا حصلت بقدر من الكم و الكيف و الوضع و الأين، و جميع هذه أمور غريبة عن طبائعها، و ذلك لأنه لو كانت الإنسانية هى على هذا الحد أو حد آخر من الكمّ و الكيف و الأين و الوضع لأجل أنها إنسانية، لكان يجب أن يكون كل إنسان مشاركا للآخر فى تلك المعانى. و لو كانت لأجل الإنسانية على حد آخر وجهة أخرى من الكم و الكيف و الأين و الوضع، لكان كل إنسان يجب أن يشترك فيه. فإذن الصورة الإنسانية بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شى‏ء من هذه اللواحق العارضة لها، بل من جهة المادة، لأن المادة التى تقارنها تكون قد لحقتها هذه اللواحق.

فالحس يأخذ الصورة عن المادة مع هذه اللواحق، و مع وقوع نسبة بينها «3» و بين المادة، إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ، و ذلك لأنه لا ينزع الصورة عن المادة مع جميع لواحقها، و لا يمكنه أن يستثبت تلك الصورة إن غابت المادة، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة إن غابت المادة، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن المادة «4» نزعا محكما، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضا فى أن تكون تلك الصورة موجودة لها.

و أما الخيال و التخيل فإنه يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة تبرئة أشد،

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى الانقسام الى الافراد.

(2)- غير هذه العوارض، نسخة. و فى نسخة اخرى: غير هذه العوارض و هى أنّها ....

(3)- نسبة بينها، كما فى جميع النسخ التى عندنا، فالضمير راجع الى الحس باعتبار انها قوة.

(4)- فى تعليقة نسخة: فحضور المادة شرط فى الاحساس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 83

و ذلك لأنه يأخذها عن المادة بحيث لا تحتاج فى وجودها فيه إلى وجود مادتها، لأن المادة و إن غابت عن الحس أو بطلت، فإن الصورة تكون ثابتة الوجود فى الخيال، فيكون أخذه إياها قاصما العلاقة «1» بينها و بين المادة قصما تاما «2»، إلا أن الخيال لا يكون قد جردها عن اللواحق المادية، فالحس لم يجردها عن المادة تجريدا تاما و لا جردها عن لواحق المادة. و أما الخيال فإنه قد جردها عن المادة تجريدا تاما، و لكن لم يجردها ألبتة عن لواحق المادة، لأن الصورة التى فى الخيال هى على حسب الصورة المحسوسة، و على تقدير مّا و تكيّف مّا و وضع مّا. و ليس يمكن فى الخيال ألبتة أن تتخيل صورة هى بحال يمكن أن يشترك فيها جميع أشخاص ذلك النوع، فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس، و يجوز أن يكون ناس موجودين و متخيلين ليسوا على نحو ما تخيّل الخيال‏ «3» ذلك الإنسان‏ «4».

و أما الوهم فإنه قد يتعدى قليلا هذه المرتبة فى التجريد، لأنه ينال المعانى التى ليست هى فى ذاتها بمادية، و إن عرض لها أن تكون فى مادة.

و ذلك لأن الشكل و اللون و الوضع و ما أشبه ذلك أمور لا يمكن أن تكون إلا لمواد جسمانية و أما الخير و الشر و الموافق و المخالف و ما أشبه ذلك، فهى أمور فى أنفسها غير مادية، و قد يعرض لها أن تكون مادية. و الدليل على أن هذه الأمور غير مادية، أن هذه الأمور لو كانت بالذات مادية لما كان‏

______________________________
(1)- اى العلاقة التى بينها ...

(2)- فى تعليقة نسخة: فحضور المادة لا يكون شرطا فى ادراكه.

(3)- خيال، نسخة.

(4)- فى تعليقة نسخة: بل يكونون على شكل آخر و كيف آخر فلا يكونون مشتركين فيما يخيل خيال ذلك الانسان.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 84

يعقل خير و شر أو موافق و مخالف إلا عارضا لجسم، و قد يعقل ذلك بل يوجد «1». فبيّن أن هذه الأمور هى فى أنفسها غير مادية، و قد عرض لها إن كانت مادية. و الوهم إنما ينال و يدرك أمثال هذه الأمور.

فإذن الوهم قد يدرك أمورا غير مادية، و يأخذها عن المادة، كما يدرك أيضا معانى غير محسوسة و إن كانت مادية. فهذا النزع إذن أشد استقصاء و أقرب إلى البساطة من النزعين الأولين، إلا أنه مع ذلك لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة، لأنه يأخذها جزئية و بحسب مادة مادة، و بالقياس إليها، و متعلقة بصورة محسوسة مكنوفة بلواحق المادة و بمشاركة الخيال فيها.

و أما القوة التى تكون الصورة المثبتة «2» فيها، إما صور موجودات ليست بمادية ألبتة و لا عرض لها أن تكون مادية، أو صور موجودات مادية و لكن مبرأة عن علائق المادة من كل وجه، فبيّن أنها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجردا عن المادة من كل وجه. فأما ما هو متجرد بذاته عن المادة فالأمر فيه ظاهر، و أما ما هو موجود للمادة إما لأن وجوده مادى، و إما عارض له ذلك فتنزعه عن المادة و عن لواحق المادة معه، فتأخذه أخذا مجردا، حتى يكون مثل الإنسان الذى يقال على كثيرين، و حتى تكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة، و تفرزه عن كل كم و كيف و أين و وضع مادى.

و لو لم تجرّده عن ذلك لما صلح أن يقال على الجميع.

فبهذا يفترق إدراك الحاكم الحسى، و إدراك الحاكم الخيالى، و إدراك الحاكم الوهمى، و إدراك الحاكم العقلى. و إلى هذا المعنى كنا نسوق‏

______________________________
(1)- اى تعقل مجردة و توجد مجردة فى الخارج.

(2)- المستثبة- خ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 85

الكلام فى هذا الفصل.

فنقول: إن الحاس فى قوته أن يصير مثل المحسوس بالفعل، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشى‏ء مجردة عن مادته فيتصور بها الحاس، فالمبصر «1» هو مثل المبصر بالقوة «2»، و كذلك الملموس و المطعوم و غير ذلك، و المحسوس الأول بالحقيقة هو الذى يرتسم فى آلة الحس و إياه يدرك، و يشبه أن يكون إذا قيل: أحسست الشى‏ء الخارجى كان معناه غير معنى أحسست فى النفس، فإن معنى قوله: أحسست الشى‏ء الخارجى، أن صورته تمثّلت فى حسى، و معنى أحسست فى النفس أن الصورة نفسها تمثلت فى حسى. فلهذا «3» يصعب إثبات وجود الكيفيات المحسوسة فى الأجسام.

لكنا نعلم‏ «4» يقينا أن جسمين و أحدهما يتأثر عنه الحس شيئا، و الآخر لا يتأثر عنه ذلك الشى‏ء أنه مختص فى ذاته بكيفية هى مبدأ إحالة الحاسة دون الآخر.

و أما ذيمقراطيس و طائفة من الطبيعيين فلم يجعلوا لهذه الكيفيات وجودا ألبتة، بل جعلوا الأشكال التى يجعلونها للأجرام التى لا تتجزأ أسبابا لاختلاف ما يتأثر فى الحواس باختلاف ترتيبها و وضعها. قالوا:

و لهذا ما يكون الإنسان الواحد قد يحس لونا واحدا على لونين مختلفين:

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى المبصر بالفعل.

(2)- المبصر بالكسر و هو الحاس مثل المبصر بالقوة بالفتح و هو الشى‏ء الخارجى المحسوس بالعرض.

(3)- فى تعليقة نسخة: اى فلانّ الشى‏ء الخارجى لا يدرك بالذات.

(4)- قوله: «لكنا نعلم»، يريد بذلك ان يثبت ان الكيفيات المحسوسة موجودات خارجية لها حقائق فى الخارج.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 86

بحسب و قوفين منه تختلف بذلك نسبتهما من أوضاع المرئى الواحد، كطوق الحمامة «1» فإنها ترى مرة شقرا «2» و مرة أرجوانية و مرة على لون الذهب، بحسب اختلاف المقامات، فلهذا ما يكون شى‏ء واحد عند إنسان صحيح حلوا، و عند إنسان مريض مرا. فهؤلاء هم الذين جعلوا الكيفيات المحسوسة لا حقائق لها فى أنفسها، إنما هى أشكال‏ «3».

و هاهنا قوم آخرون أيضا «4» ممن لا يرون هذا المذهب لا يجعلون لهذه الكيفيات حقيقة فى الأجسام، بل يرون أن هذه الكيفيات إنما هى انفعالات للحواس فقط من غير أن يكون فى المحسوسات شى‏ء منها. و قد

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: قال المحققون طوق الحمامة ليس المرئى منه شيئا واحدا بل هناك اطراف ريش ذوات جهات و كل جهة لها لون يسترلون جهة الاخرى بالقياس الى القائم الناظر.

(2)- بعيرا شقر: شتر سخت سرخ موى. شقراء: ماديان. صراح اللغة.

(3)- فى المباحث: قال بعض القدماء ان الكيفيات المحسوسة لا حقيقة لها فى انفسها بل هى انفعالات تعرض للحواس فقط. قيل لهم و لولا اختصاص الملوّن بكيفية مخصوصة لا توجد فى غيره لم يكن انفعال الحس عن الملون اولى من انفعاله عن الشفاف.

قال الامام: فنقول الآثار الحاصلة فى الحواس اشكال او غير اشكال؟ فان كانت اشكالا و كل شكل ملموس فالاثر الحاصل فى العين ملموس هذا خلف. و ان لم يكن اشكالا فقد ثبت القول بوجود كيفيات وراء الاشكال فاذا جاز ذلك فاىّ مانع يمنع من اثباتها فى الجسم الخارجى. الوجه الثانى فى اثبات الكيفيات: ان الالوان و الطعوم و الروائح فيها مضادة و الاشكال ليس فيها مضادة. الوجه الثالث: الاحساس بالشكل يتوقف على وجود اللون فلو كان اللون نفس الشكل لتوقف الاحساس بالشى‏ء على الاحساس به.

قال صدر المتألهين فى الاسفار: و هذا المذهب سهل الدفع فان ما فى الحواس صورة المحسوسات و مثالها و مثال الشكل غير مثال الطعم و اللون و غيرهما.

(4)- راجع ص 21 ج 2 ط 1- ص 67 ج 4 ط 2 من الاسفار.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 87

بينا فساد هذا الرأى، و بينا أن فى بعض الأجسام خاصية تؤثر فى حاسّة اللسان، مثلا الشى‏ء الذى نسميه إذا ذقناه حلاوة، و لبعضها خاصية أخرى من جنسها، و هذه الخاصية نسميها الطعم لا غير.

و أما مذهب أصحاب الأشكال فقد نقضنا أصله فيما سلف‏ «1».

ثم قد يظهر لنا سريعا بطلانه، فإنه لو كان المحسوس هو الشكل لكان يجب إذا لمسنا الشكل و أدركناه خصوصا بالحدقة «2» أن نكون رأينا أيضا لونه، فإن الشى‏ء الواحد من جهة واحدة يدرك شيئا واحدا، فإن أدرك من جهة و لم يدرك من جهة، فالذى لم يدرك منه غير المدرك، فيكون اللون إذن غير الشكل، و كذلك أيضا الحرارة غير الشكل، اللهم إلا أن يقال: إن الشى‏ء الواحد يؤثر فى شيئين أثرين مختلفين، فيكون أثره فى شى‏ء مّا ملموسا و أثره فى شى‏ء آخر مرئيا. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل نفسه محسوسا، بل أثر مختلف يحدث عنه فى الحواس المختلفة غير نفسه.

و الحاس أيضا جسم‏ «3»، و عنده أنه لا يتأثر إلا بالشكل، فيكون أيضا

______________________________
(1)- ص 190، 198 من الفصل الأولى الى السادس من الفن الثالث.

(2)- كما فى الاجسام البعيدة عنا اذا ادركنا منها شكلا.

(3)- فى تعليقة نسخة: قوله: «و الحاس ايضا جسم» اى كالمحسوس و الجسم الحاس عنده لا يتأثر الا بالشكل عند الادراك. فان قيل ان الشكل المحسوس هو الشكل لكن يختلف الاشكال بحسب المدارك و الحواس. فشكل يكون مرئيا و شكل يكون ملموسا و هكذا فى الباقى. قلنا يمكن ان يكون شى‏ء واحد مرئيا و ملموسا و غيرهما و كيف يكون الشى‏ء الواحد و الشكل الواحد يؤثر فى آلة شكلا و فى آلة اخرى شكلا آخر مع ان كل شكل عنده ملموس و لا يكون عنده شكل مخصوص بالرؤية، و شكل مخصوص بالذوق مثلا. فعلى هذا يجوز أن يلمس هذا المرئى او هذا المذوق مثلا لان المرئى او المذوق كلاهما شكل و الشكل ملموس اىّ شكل كان.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 88

الحاس إنما يتأثر بالشكل‏ «1»، فيكون الشى‏ء الواحد يؤثر فى آلة شكلا مّا و فى آلة أخرى شكلا آخر لكن لا شى‏ء من الأشكال عنده إلا و يجوز أن يلمس، فيكون هذا المرئى‏ «2» أيضا يجوز أن يلمس. ثم من الظاهر البين أن اللون فيه مضادة و كذلك الطعم و كذلك أشياء اخرى، و لا شى‏ء من الأشكال بمضاد لشى‏ء، و هؤلاء بالحقيقة يجعلون كل محسوس ملموسا، فإنهم يجعلون أيضا البصر ينفذ فيه شى‏ء و يلمس، و لو كان كذلك لكان يجب أن يكون المحسوس فى الوجهين‏ «3» جميعا هو الشكل فقط.

و من العجائب غفلتهم عن أن الأشكال لا تدرك إلا أن تكون هناك ألوان أو طعوم أو روائح أو كيفيات أخرى؛ و لا تحس ألبتة بشكل مجرد.

فإن كان لأن الشكل المجرد إذا صار محسوسا أحدث فى الحس أثرا من هذه الآثار غير الشكلية، فقد صح وجود هذه الآثار. و إن لم تكن هذه الآثار إلا نفس الشكل، وجب أن يحس شكل مجرد من غير أن يحس معه شى‏ء آخر.

و قال قوم من الأوائل: إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلاوسائط ألبتة و لا آلات، أما الوسائط فمثل الهواء مثلا للإبصار و امّا الآلات فمثل العين للإبصار.

و قد بعدوا عن الحق، فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات لكانت هذه الآلات معطلة فى الخلقة لا ينتفع بها، و أيضا فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم و لا ذات وضع فيستحيل أن يكون بعض‏

______________________________
(1)- لانه جسم.

(2)- قوله: «فيكون هذا المرئى» اى المرئى بالذات و هو الشبح المنطبع فى الجليدية.

(3)- اى فى اللمس و البصر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 89

الأجسام قريبا منها و متجها إليها فيحس، و بعضها بعيدا منها محتجبا عنها فلا يحس. و بالجملة يجب أن لا يكون اختلاف فى أوضاع الأجسام منها و حجب و إظهار «1»، فإن هذه الأحوال تكون للأجسام عند الأجسام.

فيجب أن تكون النفس إما مدركة لجميع المحسوسات و إما غير مدركة، و أن لا تكون غيبة المحسوس تزيله عن الإدراك. لأن هذه الغيبة عند شى‏ء لا محالة هى خلاف الحضرة منه. فيكون عند ذلك الشى‏ء لهذا الشى‏ء غيبة مرة و حضور مرة، و ذلك مكانى وضعى فيجب أن تكون النفس جسما؛ ليس ذلك بمذهب هؤلاء؛ و سنبين لك من بعد أن الصورة المدركة لا يتم نزعها عن المادة و علائق المادة يستحيل أن تستثبت بغير آلة جسدانية؛ و لو لم تحتج النفس فى إدراك الأشياء إلى المتوسطات لوجب أن لا يحتاج البصر إلى الضوء و إلى توسط الشاف، و لكان تقريب المبصر من العين لا يمنع الإبصار، و لكان سد الأذن لا يمنع الصوت، و لكانت الآفات العارضة لهذه الآلات لا تمنع الإحساس.

و من الناس من جعل المتوسط عائقا، و قال إنه لو كان المتوسط كلما كان أرّق كان أدلّ‏ «2»؛ فلو لم يكن، بل كان خلأ صرفا، لتمت‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى لا تكون حجب و اظهار للاجسام منها.

(2)- ص 318 ج 2 من المباحث المشرقية للفخر: قال الشيخ من الناس من قال المتوسط كلما كان ارقّ كان ادلّ فلو كان خلأ صرفا لكان الابصار اكمل حتى يمكن ابصار النملة على السماء الخ. و المذكور فى الاسفار منقول من المباحث. و لكن عبارة الفخر منقولة بالمعنى. و قوله: لا بصر عطف على قوله لتمت الدلالة. و المعنى و لابصر الشى‏ء اكثر من المسافة الّتى يبصر ذلك الشى‏ء حتى يمكن ان تبصر نملة فى السماء. و قال صدر المتألهين فى الاسفار (ج 4 ص 48 ط 1- ج 8 ص 200 ط 2): «فعلى هذا يظهر فساد قول من قال: المتوسط كلما كان ارق كان اولى فلو كان خلأ صرفا لكان الابصار اكمل‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 90

الدلالة، و لأبصر الشى‏ء أكبر مما يبصر، حتى كان يمكن أن تبصر نملة فى السماء.

و هذا كلام باطل، فليس إذا أوجب رقته زيادة، يجب أن يكون عدمه يزيد أيضا فى ذلك، فإن الرقة ليس هى طريقا إلى عدم الجسم. و أما الخلأ فهو عدم الجسم عندهم، بل لو كان الخلأ موجودا لما كان بين المحسوس و الحاس المتباينين موصل ألبتة، و لم يكن فعل و لا انفعال ألبتة.

و من الناس من ظن شيئا آخر و هو أن الحاس المشترك أو النفس متعلق بالروح، و هو جسم لطيف، سنشرح حاله بعد، و أنه آلة الإدراك، و أنه وحده يجوز أن يمتد إلى المحسوسات فيلاقيها أو يوازيها أو يصير منها بوضع ذلك الوضع يوجب الإدراك.

و هذا المذهب أيضا فاسد، فإن الروح لا يضبط جوهره إلا فى هذه الوقايات‏ «1» التى تكتنفه، و أنه إذا خالطه شى‏ء من خارج أفسد جوهره مزاجا و تركيبا. ثم ليس له حركة انتقال خارجا و داخلا، و لو كان له هذا

______________________________
- حتى كان يمكن ابصارنا النملة على السماء، لا بما ذكروه فى جوابه بانّ هذا باطل فليس اذا اوجب رقة المتوسط زيادة قوة فى الابصار لزم ان يكون عدمه يزيد ايضا فى ذلك فان الرقة ليست طريقا الى عدم الجسم، لأنّ اشتراط الرقة فى الجسم المتوسط لو كان لاجل ان لا يمنع نفوذ الشعاع فصح انه اذا كان رقة الجسم منشأ سهولة النفوذ كان عدم الجسم فيما بين اولى فى ذلك و كانت الرقة على هذا التقدير طريقا الى العدم، بل فساده لانه لو لم يكن بين الرائى و المرئى امر وجودى متوسط موصل رابط لم يكن هناك فعل و انفعال.»

(1)- تلك الوقايات هى اوعية الروح و لكن كل وعاء ليس بواق كالغدير للماء فان الماء لا يفسد بالخروج عنه بخلاف الروح و تلك الاوعية و لذا عبر عنها بالوقايات اى الواقيات.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 91

لجاز أن يفارق الإنسان و يعود إليه، فيكون للإنسان أن يموت و أن يحيا باختياره فى ساعته و لو كان الروح بهذه الصفة لما احتيج إلى الآلات البدنية.

فالحق أن الحواس محتاجة إلى الآلات الجسدانية، و بعضها إلى وسائط، فإن الإحساس انفعال مّا، لأنه قبول منها لصورة المحسوس، و استحالة إلى مشاكلة المحسوس بالفعل، فيكون الحاس بالفعل مثل المحسوس بالفعل، و الحاس بالقوة مثل المحسوس بالقوة، و المحسوس بالحقيقة القريب هو ما يتصور به الحاس من صورة المحسوس، فيكون الحاس من وجه مّا يحس ذاته لا الجسم المحسوس، لأنه المتصور بالصورة التى هى المحسوسة القريبة منها «1». و أما الخارج فهو المتصور بالصور التى هى المحسوسة البعيدة، فهى‏ «2» تحس ذاتها لا الثلج، و تحس ذاتها لا القار، إذا عنينا «3» أقرب الإحساس الذى لا واسطة فيه. و انفعال الحاس من المحسوس ليس على سبيل الحركة، إذ ليس هناك تغير من ضد إلى ضد، بل هو استكمال. أعنى أن يكون الكمال الذى كان بالقوة قد صار بالفعل‏ «4» من غير أن بطل فعل إلى القوة.

و إذ قد تكلمنا الآن على الإدراك الذى هو أعم من الحس، ثم تكلمنا فى كيفية إحساس الحس مطلقا، فنقول: إن كل حاسة فإنها تدرك محسوسها و تدرك عدم محسوسها، أما محسوسها فبالذات، و أما عدم‏

______________________________
(1)- راجع الى الحاس باعتبار القوة.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى القوة تحس نفس ذاتها لا شيئا خارجا عن ذاتها.

(3)- بالاحساس و المحسوس.

(4)- فى تعليقة نسخة: اى يكون استكمال من العدم الى الوجود لا ابطال امر وجودى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 92

محسوسها كالظلمة للعين و السكوت للسمع و غير ذلك فإنها «1» تكون بالقوة لا بالفعل. و أما إدراك أنها أدركت فليس للحاسة، فإن الإدراك ليس هو لونا فيبصر أو صوتا فيسمع، و لكن إنما يدرك ذلك بالفعل العقل أو الوهم على ما يتضح من حالهما بعد.

______________________________
(1)- اى الحاسة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 93

الفصل الثالث فى الحاسة اللمسية «1»

و أول الحواس الذى يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس، فإنه كما أن‏

______________________________
(1)- راجع الفصل الثانى من الباب الرابع من نفس «الاسفار فى اللمس و احواله ص 39 ج 4 ط 1- ج 8 ص 159 ط 2.

قال العلامة الشيرازى فى شرح حكمة الاشراق ص 454: «لكن اللمس اهمّ للحيوان فانهّ لمّا كان مركبا من العناصر و كان صلاحه باعتدالها و فساده بتغالبها وجب ان يكون له قوة سارية فى كليته بها يدرك المنافى من الكيفيات».

و قال صدر المتألهين فى تعليقاته عليه: «يرد عليه ان ما ذكره لا يدل على كون اللامسة قوة سارية فى البدن كله و لا على عدم صحة بقاء الحيوان بدون اللامسة، و لو تم ما ذكره لدلّ على وجودها فى النباتات بل فى الجمادات فانها ايضا مركبة من العناصر صلاحها ببقاء الاعتدال و فسادها بزواله و الذى يصلح ان يقال فى اثبات هذا المطلب ان قوة اللامسة لما كانت من شأنها ادراك كيفيات العناصر و هى اوائل المحسوسات من باب الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و موضوع هذه القوة ايضا مركب كالحيوان من العناصر بحسب صورتها التى تلزمها هذه الاوائل لا بحسب مادتها المشتركة بين الكل فقوام هذه القوة ايضا بما به قوام الحيوان بما هو حيوان اعنى كيفية الصورة العنصرية المتوسطة بين الاربع لاعتداله فلهذا سرت هذه القوة فى كل البدن الحيوانى لان طبيعتها كطبيعة الحيوان و مادتّها كمادّته و كذا كل عضو من الاعضاء الحيوانية كاصل البدن مركب من صورة هذه الكيفيات اعنى المعتدل المتوسط فاذن صلاحهها كصلاحه ببقاء الاعتدال و فسادها بفساده بزوال ذلك الاعتدال. فافهم يا حبيبى هذا فانه مع وضوحه دقيق.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 94

كل ذى نفس أرضية فإن له قوة غاذية، و يجوز أن يفقد قوة قوة من الأخرى و لا ينعكس، كذلك حال كل ذى نفس حيوانية فله حس اللمس، و يجوز أن يفقد قوة قوة من الآخرى و لا ينعكس. و حال الغاذية عند سائر قوى التى للنفس الأرضية، حال اللمس عند سائر قوى الحيوان. و ذلك لأن الحيوان تركيبه الأول هو من الكيفيات الملموسة، فإن مزاجه منها و فساده باختلالهما.

و الحس طليعة للنفس، فيجب أن تكون الطليعة الأولى، هو ما يدل على ما يقع به الفساد و يحفظ به الصلاح و أن تكون قبل الطلائع التى تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام أو مضرة خارجة عن الفساد.

و الذوق، و إن كان دالا على الشى‏ء الذى به تستبقى الحياة من المطعومات، فقد يجوز أن يعدم الذوق و يبقى الحيوان حيوانا، فإن الاحساس الأخر ربما أعان على ارتياد «1» الغذاء الموافق و اجتناب المضارّ.

و أما الحواس الأخرى فلا تعين على معرفة أن الهواء المحيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد. و بالجملة فإن الجوع شهوة اليابس الحار و العطش شهوة البارد الرطب. و الغذاء بالحقيقة ما يتكيف بهذه الكيفيات التى يدركها اللمس. و أما الطعوم فتطييبات، فلذلك كثيرا ما يبطل حس الذوق لآفة تعرض فيكون الحيوان باقيا، فاللمس هو أول الحواس و لا بد منه لكل حيوان أرضى.

و أما الحركة فلقائل أن يقول: إنها أخت اللمس للحيوان، و كما أن من‏

______________________________
(1)- فان الحواس الاخرى ربما اعانت على ارتياد، نسخة. الارتياد اى الطلب.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 95

الحس نوعا متقدما كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدم.

و أما المشهور فهو أن من الحيوان ما له حس اللمس و ليس له قوة الحركة، مثل ضروب من الأصداف.

لكنا نقول: إن الحركة الإرادية على ضربين: حركة انتقال من مكان إلى مكان، و حركة انقباض و انباسط للأعضاء من الحيوان و إن لم يكن به انتقال الجملة من موضعه فيبعد أن يكون حيوان له حس اللمس و لا قوة حركة فيه ألبتة، فإنه كيف يعلم أنه له حس اللمس إلا بأن يشاهد فيه نوع هرب من ملموس و طلب لملموس. و أما ما يتمثلون هم به من الأصداف و الإسفنجات‏ «1» و غيرها، فإنا نجد للأصداف فى غلفها حركات انقباض و انبساط و التواء و امتداد فى أجوافها؛ و إن كانت لا تفارق أمكنتها، و لذلك يعرف أنها تحس بالملموس. فيشبه أن يكون كل ما له لمس فله فى ذاته حركة مّا إرادية إما لكليته و إما لأجزائه.

و أما الأمور التى تلمس‏ «2»، فإن المشهور من أمرها أنها الحرارة

______________________________
(1)- فى بحر الجواهر للهروى: اسفنج جسم بحرى رخو متخلخل كاللبد، و عامة الفرس تقولون انه «ابر مرده».

و اذا القى فى الماء نشفه و حمل منه قريبا من حبشه و هو جسم خفيف يميل الى السواد غالبا ينبت فى صخور السواحل و منهم من يظن انه حيوان لانقباضه و تجمعه إذا لمس.

(2)- قوله: و اما الامور التى الخ، هذا شروع فى بيان الاشياء الملموسة و ذكر اولا انّ المشهور ذهب الى انها ثمانية اشياء، و هى الحرارة و اخواتها السبعة. و البواقى تلمس تبعا لهذه الثمانية. مثلا ان الصلابة تلمس تبعا لليبوسة، و اللزوجة تبعا للرطوبة. ثم تعرض لقول المشهور فى الملموس بذاته و الملموس بالعرض بان المشهور يظن ان الحرارة و البرودة تلمسان بذاتهما بلادخالة انفعال عضو حاس عبر عنه بالآلة. و اما البواقى‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 96

و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و الخشونة و الملاسة و الثقل و الخفة. و أما الصلابة و اللين و اللزوجة و الهشاشة «1» و غير ذلك فإنها تحس تبعا لهذه المذكورات. فالحرارة و البرودة كل منهما يحس بذاته، لا لما يعرض فى الآلة من الانفعال بها. و أما الصلابة و اللين و اليبوسة و الرطوبة فيظن‏ «2» أنها لا تحس بذاتها، بل يعرض للرطوبة أن تطيع‏ «3» لنفوذ ما ينفذ فى جسمه، و يعرض من اليبوسة أن تعصى فتجمع العضو الحاس و تعصره، و الخشونة أيضا يعرض لها مثل ذلك بأن تحدث الاجزاء الناتية «4» منه عصرا و لا تحدث الغائرة شيئا، و الأملس يحدث ملاسة و استواء، و أما الثقل فيحدث تمددا إلى أسفل، و الخفة خلاف ذلك.

فنقول لمن يقول هذا القول: إنه ليس من شرط المحسوس بالذات أن يكون الإحساس به من غير انفعال يكون منه، فإن الحار أيضا ما لم يسخّن لم يحسّ. و بالحقيقة ليس إنّما يحس ما فى المحسوس بل ما يحدث منه فى الحاس حتّى انّه ان لم يحدث ذلك لم يحس به. لكن المحسوس بالذات هو الذى تحدث منه كيفية فى الآلة الحاسة مشابهة لما فيه فيحس. و كذلك الانعصار عن اليابس و الخشن و التملس من‏

______________________________
- سواء كانت توابع و غيرها فهى تحسّ بدخالة عضو حاس. و بعد نقل ظن المشهور اخذ فى ردهم حيث قال: فنقول لمن يقول هذا القول ....

(1)- فى تعليقة نسخة: الهشاشة ما يصعب تشكيله و يسهل تفريقه لغلبة اليابس و قلة الرطب مع ضعف المزاج و اللزوجة مقابلة لها.

(2)- اى المشهور.

(3)- اى ان تطيع الرطوبة لنفوذ العضو الحاس ينفذ فى جسم المحسوس البعيد اى المحسوس بالعرض.

(4)- الاجزاء الناتية من النتو و الناتية تقابل الغائرة. منه، اى من الجسم الخشن.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 97

الأملس و التمدد إلى جهة معلومة من الثقيل و الخفيف، فإن الثقل و الخفة ميلان و التمدد أيضا ميل إلى نحو جهة مّا. فهذه الأحوال إذا حدثت فى الآلة أحس بها لا بتوسط حر أو برد، أو لون أو طعم، أو غير ذلك من المحسوسات، حتى كان يصير لأجل ذلك المتوسط غير محسوس أوّلى أو غير محسوس بالذات، بل محسوسا ثانيا أو بالعرض. و لكن هاهنا ضرب آخر «1» مما يحس مثل تفرق الاتصال الكائن‏

______________________________
(1)- قوله: و لكن هيهنا ضرب آخر، حاصل السؤال ان تفرق الاتصال امر عدمى و ادراك ألمه امر وجودى فكيف يلمس التفرق و هو ليس بشى‏ء من الامور المعدودة التى تلمس، و كذا السؤال فى نحو لذة الجماع؟ فاجاب بان الحيوان متحقق اى متكون من المزاج و التركيب و المراد من التركيب هو مقابل التفرق اى الاتصال. و لكل واحد منهما صحة و مرض و المرض ايضا قد يكون مفسد المزاج اى قد يكون مهلكا وقد لا يكون و كذلك المرض العارض للتركيب قد يكون مهلكا و قد لا يكون. و اللمس حس يتقى به ما يفسد به المزاج و التركيب ايضا. فالالم و الراحة من الالم من المحسوسات اللمسية.

ثم اورد فى الاثناء بعض الآراء تسديدا للسؤال و قال: و خصوصا و قد ظن بعض الناس الخ. و ردّه بقوله: ليس كذلك، لان الحار و البارد يتغير بكل واحد منهما المزاج و بذلك التغير يحس كل واحد منهما و الحال انّ المزاج باق على استوائه و اتصاله و اعتداله. يعنى ان ذلك المزاج مع تغيره الانفعالى لا يخرج عن الاستواء، يعنى لا يتحقق تفرق الاتصال لانه لو تحقق ذلك التفرق لا يكون جميع اجسام العضو اللامس متشابها مستويا، و الحال انّ جميع اجسام العضو مستو متشابه مع صدق ذلك التغير الانفعالى فلا يكون سائر الكيفيات اى جميعها انما تحس بتوسط ما يحدث من تفرق الاتصال.

و بعد ذلك اجاب عن سؤال مقدر و هو انّ بعض الامراض مع شدته لا يحس كالدق يعنى حمى الدق و بعضها مع كونه ليس بتلك الشدة يحسّ كالغب اى حمى الغب.

فاجاب عنه بقوله: و نقول انّ كل حال الخ.

ثم اعلم انّ لصدر المتألهين فى الفصل الخامس من القسم الثالث من الجواهر و الاعراض من الاسفار تحقيقا انيقا فى المقام (ص 41 ج 2 ط 1 ص 125 ج 4 ط 2) فراجع.

و راجع ايضا العين الثامنة عشرة من عيون مسائل النفس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 98

بالضرب و غير ذلك، و ذلك ليس بحرارة و لا برودة و لا رطوبة و لا يبوسة و لا صلابة و لا شى‏ء من المعدودات، «1» و كذلك أيضا الإحساس بالملذات اللمسية مثل اللذة التى للجماع و غير ذلك، فيجب أن ننظر أنها كيف هى و كيف تنسب إلى القوة اللمسية و خصوصا و قد ظن بعض الناس أن سائر الكيفيات إنما تحس بتوسط ما يحدث من تفرق الاتصال. و ليس كذلك‏ «2»، فإن الحار و البارد من حيث يتغير به المزاج يحس على استوائه، و تفرق‏ «3» الاتصال لا يكون مستويا متشابها فى جميع الاجسام.

لكنا نقول‏ «4»: إنه كما أن الحيوان متكون بالامتزاج الذى للعناصر، كذلك هو متكون أيضا بالتركيب. و كذلك الصحة و المرض، فإن منهما ما ينسب إلى المزاج و منهما ما ينسب إلى الهيئة و التركيب. و كما أن من فساد المزاج منه ما هو مفسد كذلك من فساد التركيب منه ما هو مهلك؟

و كما أن اللمس حس يتقى به ما يفسد المزاج، كذلك هو حس يتقى به ما يفسد التركيب. فاللمس أيضا يدرك به تفرق الاتصال و مضاده و هو عوده إلى الالتئام.

و نقول: إن كل حال مضادة لحال البدن فإنها يحس بها عند الاستحالة و عند الانتقال إليها، و لا يحس بها عند حصولها و استقرارها. و ذلك لأن الإحساس انفعال مّا أو مقارن لانفعال مّا، و الانفعال إنما يكون عند زوال‏

______________________________
(1)- فى المطبوعة بمصر: و لا صلابة و لالين و لا شى‏ء من المعدودات. و لكن المتن موافق لنسخنا الثلاثة المخطوطة.

(2)- جواب عن ذلك الظن.

(3)- الواو حالية.

(4)- جواب عن قوله: و لكن هيهنا ضرب آخر الخ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 99

شى‏ء و حصول شى‏ء، و أما المستقر فلا انفعال به. و ذلك فى الأمزجة الموافقة و الرديئة معا، فإن الأمزجة الرديئة إذا استقرت و أبطلت الأمزجة الأصلية حتى صارت هذه الرديئة كانها أصلية لم يحس بها، و لذلك لا تحس بحرارة الدق و إن كانت أقوى من حرارة الغب. و أما إن كانت الأصلية موجودة بعد و هذه الطارئة مضادة لها أحس بها، و هذا يسمى سوء المزاج المختلف، و هذا المستقر يسمى سوء المزاج المتفق، فالألم و الراحة من الألم أيضا من المحسوسات اللمسية.

و يفارق اللمس فى‏ «1» هذا المعنى سائر الحواس، و ذلك لأن الحواس‏

______________________________
(1)- قوله: و يفارق اللمس، اقول: اللمس لانغماره فى الطبيعة كان ادراكه فى منغمره و كذا الذوق و الشم. فهذه الثلاثة احكام الطبيعة غالبة عليها فلا يتحقق ادراكها الا بمماسة محسوساتها الخارجية اعنى بها المحسوس بالعرض فتلتذ و تالم كل واحدة منها من محسوساتها القريبة اعنى بها الذاتية فى موطنها و منغمرها. بخلاف البصر و السمع فانّ لهما شأنا من التفوق و الاستعلاء على الطبيعة فلالذة و لا الم لهما من محسوساتهما المبصرة و المسموعة. بل النفس تلتذ و تتالم من داخل.

فان قلت: ان النفس مطلقا مدركة لان تلك القوى كلها فروعها فلافرق من هذه الحيثية بين تلك الثلاثة و بين هاتين.

قلت: لا مشاحة فى ذلك و انما الكلام فى ان اللمس الذى من فروع النفس انما هو مدرك فى موطنه و إنما يلتذ او يالم من ملموسه فى موطنه و منغمره من حيث انه ملموسه و كذا الذوق و الشم. بخلاف البصر و السمع فانهما لا يلتذان و لا يتألمان من مدركاتهما من حيث انها مبصرة او مسموعة و انما ذلك الالتذاذ و التألم للنفس من داخل لا فى موطنهما. فان اصابتهما لذة او الم فانما تلك الاصابة من حيث اللمس السارى فيهما كسائر اللوامس.

و بالجملة اللمس منغمر فى الطبيعة و ان كان فى الرتبة فوقها. يعنى ان الطبيعة اذا صوعدت صارت لمسا و اللمس اذا صوعد صار ذوقا و هكذا الذوق اذا صوعد صار شمّا، و الشم سمعا و السمع بصرا و البصر خيالا و الخيال عقلا و ان للنفس فى كل واحدة

النفس من كتاب الشفاء، ص: 100

الأخرى: منها ما لا لذة لها فى محسوسها و لا ألم. و منها ما يلتذ و يألم بتوسط أحد المحسوسات. فأما التى لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان‏

______________________________
- منها حكما بحسبها. و لكل واحدة منها بحسب انغمارها فى الطبيعة و انقهارها عليها حكما آخر و ان كان حكمها حكمها فافهم.

ثم ان لصدر المتألهين كلاما فى المقام فى الاشراق السادس من الشاهد الاول من المشهد الثالث من الشواهد الربوبية (ص 133 ط 1- 191 ط 2) قال: «حكمة عرشية: و مما ذكره الشيخ فى القانون: ان هاتين القوتين [السمع و البصر] لا لذة لهما فى محسوسيها و لا الم بخلاف البواقى. فعجزت عن دركه شرّاح القانون و اعترضوا عليه و طال الكلام بينهم جرحا و تعديلا و لم يأتوا عن آخرهم بشى‏ء يطمئن به القلب. و فيما قسم لنا من الملكوت ان الحيوان بما هو حيوان تتقوم مادة حياته من الكيفيات الملموسة و هذه اولى مرتبة الحيوانية التى لا يخلو منها حيوان. كما لا يخلو حيوان من قوة اللمس لانّ المدرك من كل شى‏ء و الشاعر من كل حىّ قوة من باب ما يدركه و آلة من جنس ما يشعر به و يحضر عنده اذ به يخرج من القوة الى الفعل فالملايم و المنافر للحيوان بما هو حيوان و لأدنى الحيوانات اولا و بالذات انّما هما من مدركات قوة اللمس لانها يتقوم بها بدنه.

ثم مدركات الذائقة فى الحيوانات المرتفعة درجتها قليلا عن ادنى المراتب فيفتقر الى اغذية مخصوصة و الى قوة من شأنها تمييز النافع عن الضار فيما يتغذى و يزداد به بدنه من المذوقات و تالى الكيفيتين فى الملايمة و المنافرة مدركات الشامة حيث يتغذى بها لطائف الاعضاء كالارواح البخارية.

و اما مدركات السامعة و الباصرة فليس للحيوان بما هو حيوان اليها حاجة قريبة لانّ بدنه ليس مركبا من الاصوات و لا من الاضواء و لا الالوان و لا شك فى أن الآلات الحساسة جسم حيوانى و اللذة هى ادراك الملايم و الملايم للجسد الحيوانى اما الملموس او المذوق او المشموم لا الاصوات و الانوار بل هى ملايمة للنفس التى هى من عالم النور كما سيجى‏ء و قس عليها حال الالم. و مما يؤكد ما ذكرنا ان جنس الحيوان مدة مديدة فى الموضع المظلم الخالى عن الصوت لا يوجب موته بخلاف حبسه عن الملموس لحظة و عن المطعوم ايّاما قلائل و الشم ضرب من الطعم قد يصير بدلا منه فى بعض الحيوان احيانا و فى الجنّ دائما». انتهى كلامه.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 101

و لا يتألم، بل النفس تتألم من ذلك و تلتذ من داخل. و كذلك الحال فى الأذن، فإن تألمت الأذن من صوت شديد و العين من لون مفرط كالضوء فليس تألم من حيث تسمع أو تبصر، بل من حيث تلمس، لأنه يحدث فيه ألم لمسى، و كذلك تحدث فيه‏ «1» بزوال ذلك لذة لمسية. و أما الشم و الذوق فتتألمان و تلتذان إذا تكيفتا بكيفية منافرة أو ملائمة. و أما اللمس فإنه قد يتألم بالكيفيية الملموسة و يلتذ بها، و قد يتألم و يلتذ بغير توسط كيفية هى المحسوس الأول، بل بتفرق الاتصال و التئامه.

و من الخواص التى للمس أن الآلة الطبيعية التى يحس بها و هى لحم عصبى أو لحم و عصب تحس بالمماسة، و إن لم يكن متوسط «2» ألبتة، فإنه لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات؛ و إذا استحال عنها أحس، و لا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها. و ليس يجب أن يظن أن الحساس هو العصب فقط، فإن العصب بالحقيقة هو مؤد للحس اللمسى إلى عضو غيره و هو اللحم. و لو كان الحساس نفس العصب فقط، لكان الحساس فى جلد الإنسان و لحمه شيئا منتشرا كالليف، و كان حسه ليس بجميع‏ «3» أجزائه، بل أجزاء ليفية فيه، بل العصب الذى لحس‏ «4» اللمس مؤد و قابل معا. و العصبة المجوفة مؤدية للبصر لكنها غير

______________________________
(1)- لانه يحدث فيها الم لمسى و كذلك تحدث فيها (كما فى المطبوعة بمصر). و مخطوطاتنا موافقة للمتن اى يحدث فى كل واحد منهما ....

(2)- بتوسط. كما فى عدة نسخ.

(3)- ليس لجميع اجزائه نسخة. قال الهروى فى بحر الجواهر: ليف بالكسر: پوست درخت خرما. و در طب عبارتست از ريشهاى پى و رباط. و فيه ايضا: البردية هى الرطوبة الجليدية.

(4)- الذى يحس اللمس. كما فى عدة نسخ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 102

قابلة، إنما القابل ما إليه تؤدى و هو البردية أو ما هو مستول‏ «1» عليه و هو الروح.

فبين إذن أن من طباع اللحم أن يقبل الحس، فان كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر و من قوة عضو آخر توسط بينهما العصب. و أما إن كان المبدأ موجودا فيه فهو حساس بنفسه و إن كان لحما، و ذلك كالقلب. و إن انتشر فى جوهر القلب ليف عصبى‏ «2»، فلا يبعد أن يكون ليلتقط عنه الحس و يؤديه إلى أصل واحد يتأدى عنه إلى الدماغ، و عن الدماغ إلى أعضاء أخرى، كما سيتضح بعد. و كالحال فى الكبد من جهة انبثاث عروق ليفية فيه لتقبل عنه و تؤدى إلى غيره، و يجوز أن يكون انبثاث الليف فيه ليقوى قوامه و يشتد لحمه، و سنشرح هذه الأحوال فى مواضع آخر مستقبلة.

و من خواص اللمس أن جميع الجلد الذى يطيف بالبدن حساس باللمس و لم يفرد له جزء منه. و ذلك لأن هذا الحس لما كان طليعة تراعى الواردات على البدن التى تعظم مفسدتها إن تمكنت من أى عضو وردت عليه، وجب أن يجعل جميع البدن حساسا باللمس؛ و لأن الحواس الأخرى قد تتأدى إليها الأشياء من غير مماسة و من بعيد، فيكفى أن تكون‏

______________________________
(1)- مشتمل، نسخة.

(2)- قال فى الفصل الاول من التعليم الخامس من كليات القانون ص 46 و 47 من الطبع الناصرى و ص 16 من الطبع الرحلى: قال كبير الفلاسفة: العضو المعطى الغير القابل هو القلب و هو الاصل الاول لكل قوة و هو يعطى لساير الاعضاء القوى التى بها تغذو و التى بها تحس و التى بها تدرك و تحرك. قال الآملى فى شرحه: و انما قيد الاصل بالاول لان الدماغ اصل ثان و كذا الكبد فى اعطائهما قوة الحس و الحركة و التغذية بعد قبولهما من القلب.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 103

آلتها عضوا واحدا إذا أورد عليه المحسوس‏ «1» الذى يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته و تنحت بالبدن عن جهته. فلو كانت الآلة اللامسة بعض الأعضاء، لما شعرت النفس إلا بما يماسها وحدها «2» من المفسدات. و يشبه أن تكون قوى اللمس قوى كثيرة «3» كل واحد واحد منها تختص بمضادة، فيكون ما تدرك به المضادة التى بين الحار و البارد غير الذى تدرك به المضادة التى بين الثقيل و الخفيف. فإن هذه أفعال أولية للحس يجب أن تكون لكل جنس منها قوة خاصة، إلا أن هذه القوى لما انتشرت فى جميع الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة، كما لو كان اللمس و الذوق منتشرين فى البدن كله انتشارهما فى اللسان لظن مبدآهما «4» قوة واحدة، فلما تميزا فى غير اللسان عرف اختلافهما.

و ليس يجب ضرورة أن تكون لكل واحدة من هذه القوى آلة تخصها،

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اما كون اللمس بهذه الحالة اى بأن لا يحس الا بالمماسة و القوى الاخرى لا تحتاج اليها لشدة تأدية هذه القوة دون ساير القوى.

(2)- فى تعليقة نسخة: دون باقى الاعضاء.

(3)- فى تعليقة نسخة: الملموسات لما كانت حقايق مختلفة محسوسة من حيث حقايقها المختلفة فان الثقل من حيث هو ثقل و البرودة من حيث هى برودة ملموسان لا من حيث انه امر مشترك بينهما يكون هو ملموس بذاته و يكون الثقل و البرودة و صفين لا حقين به فلا محالة يجب ان تكون القوة اللامسة متعددة بخلاف المبصرات فانها ليست محسوسة من حيث خصوصياتها المتمايزة التى هى السوادية و البياضية و غيرهما بل من حيث الاشتراك بينهما و هو كونها لونا فقط بحيث لو وجد اللون لما هولون فقط مجردا عن جميع الخصوصيات لكان مبصرا لا محالة فلذلك لم يجعل محلها الاقوة واحدة و فى آخر الفصل الخامس الاتى قال الشيخ ما مفاده هذا.

(4)- المبدأ ان على التثنية أضيف إلى الضمير. و اعلم أن صدر المتألهين ذكر فى ص 48 ج 4 ط 1- ص 200 ج 8 ط 2 من نفس الأسفار إنحصار الحواس فى هذه الخمس فراجع.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 104

بل يجوز أن تكون آلة واحدة مشتركة لها، و يجوز أن يكون هناك انقسام فى الآلات غير محسوس، و قد اتفق فى اللمس أن كانت الآلة الطبيعية «1» بعينها هى الواسطة. و لما كان كل واسطة يجب أن يكون عادما فى ذاته لكيفية ما يؤديه، حتى إذا قبلها و أدّاها أدّى شيئا جديدا، فيقع الانفعال عنه فيقع‏ «2» الإحساس به. و الانفعال لا يقع إلا عن جديد كان كذلك أيضا آلة اللمس.

لكن المتوسط الذى ليس هو مثلا بحار و لا بارد يكون على وجهين:

أحدهما على أنه لا حظّ له من هاتين الكيفتين أصلا؛ و الثانى ما له حظ منهما و لكن صار فيه إلى الاعتدال، فليس بحار و لا بارد، بل معتدل متوسط.

ثم لم يمكن أن تكون آلة اللمس خالية أصلا عن هذه الكيفيات، لأنها مركبة منها، فوجب أن يكون خلوها عن هذه الأطراف بسبب المزاج و الاعتدال لتحسّ ما يخرج عن القدر الذى لها. و ما كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى الاعتدال، كان ألطف إحساسا. و لما كان الإنسان أقرب الحيوانات كلها من الاعتدال كان ألطفها لمسا. و لما كان اللمس أول الحواس، و كان الحيوان الأرضى لا يجوز أن يفارقه، و كان لا يكون إلا بتركيب معتدل ليحكم به بين الأضداد؛ فبيّن‏ «3» من هذا أنه ليس للبسائط

______________________________
(1)- يعنى العصب هو الواسطة فى تأدية الحس اللمسى إلى عضو آخر هو اللحم.

(2)- ليقع الإحساس به، نسخة.

(3)- جواب «لما كان». و فى تعليقة نسخة: قوله «فبيّن من هذا»: اى من انّ اعتدالا ما موجب للحكم بين الأضداد فالبسائط التى لا تركيب فيها اصلا فضلا عن الاعتدال تكون خالية عن القوة و كذلك ما يشبه البسائط كالجماد و النبات من المركبات خالية عن القوة لعدم الاعتدال فيهما.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 105

و ما يقرب منها «1» حس ألبتة و لا حياة إلا النمو فى بعض ما يقرب من البسائط. فليكن هذا مبلغ ما نقوله فى اللمس.

______________________________
(1)- كالجماد و النبات.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 106

الفصل الرابع فى الذوق و الشم‏

و أما الذوق فإنه تال للّمس، و منفعته أيضا فى الفعل الذى به يتقوم البدن و هو تشهية الغذاء و اختياره، و يجانس اللمس فى شى‏ء و هو فى أن المذوق يدرك فى أكثر الأمر «1» بالملامسة، و يفارقه فى أن نفس الملامسة لا تؤدى الطعم، كما أن نفس ملامسة الحار مثلا تؤدى الحرارة، بل كأنه محتاج إلى متوسط يقبل الطعم و يكون فى نفسه لا طعم له و هو الرطوبة اللعابية المنبعثة من الآلة المسماة بالملعبة «2». فإن كانت هذه الرطوبة عديمة الطعوم أدت الطعوم بصحة و إن خالطها طعم، كما يكون للممرورين من المرارة، و لمن فى معدته خلط حامض من الحموضة شابت ما تؤديه بالطعم الذى فيه فتحيله مرا أو حامضا.

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: قوله «فى اكثر الامر» لعل مراده ان الذايق قد يمكن أن يلمس بعض المذوقات و لا يحس منه طعم.

(2)- قوله- قدس سره- «من الآلة المسماة بالملعبة» الملعبة بتقديم الميم و كسرها من: ل- ع- ب اسم آلة كالمكنسة اى آلة تورث الرطوبة اللعابية. و القرائة بتقديم الباء على اللام من: ب- ل- ع ملحونة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 107

و مما فيه موضع نظر هل هذه الرطوبة إنما تتوسط بأن تخالطها أجزاء ذى الطعم مخالطة تنتشر فيها ثم تنفذ فتغوص فى اللسان حتى تخالط اللسان فيحسه، أو تكون نفس الرطوبة تستحيل إلى قبول الطعم من غير مخالطة، فإن هذا موضع نظر. فإن كان المحسوس هو المخالط فليست الرطوبة بواسطة مطلقة، بل واسطة تسهّل وصول الجوهر المحسوس الحامل للكيفية نفسها إلى الحاس و أما الحس نفسه فإنما هو بملامسة الحاس للمحسوس بلاواسطة. و إن كانت الرطوبة تقبل الطعم و تتكيف به فيكون المحسوس بالحقيقة أيضا هو الرطوبة و يكون أيضا هو الرطوبة و يكون أيضا بلاواسطة «1»، و يكون الطعم إذا لاقى آلة الذوق أحسته، فيكون لو كان للمحسوس الوارد من خارج سبيل إلى المماسة الفائضة من غير هذه الواسطة لكان ذوق، لا كالمبصر الذى لا يمكن أن يلاقى آلة الإبصار بلاواسطة. و إذا مست الآلة المبصر لم يدرك ألبتة «2»، لكنه بالحرى أن تكون هذه الرطوبة للتسهيل و أنها تتكيف و تختلط معا، و لو كان سبيل إلى الملامسة المستقصاة من غير هذه الرطوبة لكان يكون ذوق.

فإن قيل: ما بال العفوصة تذاق و هى تورث السدد و تمنع النفوذ؟

فنقول: إنها أولا تخالط بوساطة هذه الرطوبة ثم تؤثّر أثرها من التكثيف و قد خالطت. و الطعوم التى يدركها الذوق هى الحلاوة «3» و المرارة «4»

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى كما فى الاول او كما يكون محسوسا بالذات.

(2)- و اذا مست الآلة المدركة لم تدرك ألبتة. (كما فى نسختين من الشفاء و نسخة اخرى كما فى المتن).

(3)- شيرينى.

(4)- تلخى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 108

و الحموضة «1» و القبض‏ «2» و العفوصة «3» و الحرافة «4» و الدسومة «5» و البشاعة «6» و التفه‏ «7». و التفه يشبه أن يكون كأنه عدم الطعم، و هو كما يذاق من الماء و من بياض البيض. و أما هذه الأخرى فقد تكثرت بسبب أنها متوسطات‏ «8» و أنها أيضا مع ما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا، فيتركب من الكيفية الطعمية و من التأثير اللمسى شى‏ء واحد لا يتميز فى الحس، فيصير ذلك الواحد كطعم محض متميز، فإنه يشبه أن يكون طعم من الطعوم المتوسط بين الأطراف يصحبه طعم و تفريق و إسخان و تسمى جملة ذلك حرافة، و آخر يصحبه طعم و تفريق من غير إسخان و هو الحموضة، و آخر يصحبه مع الطعم تجفيف و تكثيف و هو العفوصة.

و على هذا القياس ما قد شرّح فى الكتب الطبية.

و أما الشم فإنه و إن كان الإنسان أبلغ حيلة فى التشمم من سائر

______________________________
(1)- ترشى.

(2)- خشكى.

(3)- دبش، گلوگير. و فى تعليقة نسخة العفص و القابض متقاربان فى الطعم لكن القابض يقبض ظاهر اللسان و العفص باطنه ايضا.

(4)- تندى، تيزى.

(5)- چربى.

(6)- بدمزه. قال السيد فى شرح المواقف ص 284 ج 5: فمن الطعوم المركبة ما له اسم على حدة نحو البشاعة المركبة من مرارة و قبض كما فى الحضض. قال الجوهرى: شى‏ء بشع اى كريه الطعم يأخذ بالحلق (بحر الجواهر). و قال صدر المتالهين فى الاسفار: قد تتركب طعمان فى جرم واحد مثل اجتماع المرارة و القبض و يسمى بشاعة. (الأسفار ج 2 ص 33 ط 1- ج 4 ص 103 ط 2).

(7)- بى‏مزه.

(8)- اى بين الاطراف يعنى المتوسط بين عديم الطعم و شديد الطعم الذى اذا ورد على القوة يبطلها.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 109

الحيوانات‏ «1» فإنه يثير الروائح الكامنة بالدلك، و هذا ليس لغيره، و يتقصى فى تحسّسها بالاستنشاق، و هذا لا يشاركه فيه غيره. فإنه لا يقبل الروائح قبولا قويا حتى يحدث فى خياله منها مثل ثابتة كما تحصل للملموسات و المطعومات. بل تكاد أن تكون رسوم الروائح فى نفسه رسوما ضعيفة. و لذلك لا تكون للروائح عنده أسماء إلا من جهتين:

إحداهما من جهة الموافقة و المخالفة بأن يقال طيبة و منتنة، كما لو قيل للطعم إنه طيّب و غير طيّب من غير تصور فصل أو تسمية.

و الجهة الأخرى أن يشتق لها من مشاكلتها للطعم اسم فيقال رائحة حلوة و رائحة حامضة، كأنّ الروائح التى اعتيد مقارنتها لطعوم مّا تنسب إليها و تعرف بها.

و يشبه أن يكون حال إدراك الروائح من الناس كحال إدراك أشباح الأشياء و ألوانها من الحيوانات الصلبة العين، فإنها تكاد أن تكون إنما تدركها كالتخيل غير المحقق و كما يدرك ضعيف البصر شبحا من بعيد.

و أما كثير من الحيوانات الصلبة العين فإنها قوية جدا فى إدراك الروائح مثل النمل، و يشبه أن لا تحتاج أمثالها إلى التشمم و التنشق، بل تتأدى إليها الروائح فى الهواء.

و واسطة الشم أيضا جسم لا رائحة له كالهواء و الماء و هى التى تحمل رائحة المشمومات‏ «2».

______________________________
(1)-- قال الرازى: الانسان يكاد ان يكون ابلغ الحيوانات فى الشم إلا أنه أضعفها فى بقاء متمثله فى خياله فانّ رسوم الروائح فى نفس الانسان ضعيفة جدا و لذلك لا يكون للروائح عنده اسماء إلا من وجهين.

(2)- اى الواسطة هى التى تحمل رائحة المشمومات، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 110

و قد اختلف الناس فى الرائحة: فمنهم من زعم أنها تتأدى بمخالطة شى‏ء من جرم ذى الرائحة متحلل متبخر فيخالط المتوسط. و منهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من المتوسط من غير أن يخالطه شى‏ء من جرم ذى الرائحة متحلل عنه. و منهم من قال إنها تتأدى من غير مخالطة شى‏ء آخر من جرمه و من غير استحالة من المتوسط. و معنى هذا أن الجسم ذا الرائحة يفعل فى الجسم عديم الرائحة و بينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل فى المتوسط، بل يكون المتوسط ممكّنا من فعل ذلك فى هذا، على ما يقال فى تأدى الأصوات و الألوان.

فحرى بنا أن نحقق هذا و نتأمله.

و لكن لكل واحد من المذعنين‏ «1» بشى‏ء من هذه المذاهب حجة.

فالقائل بالبخار و الدخان يحتج و يقول: إنه لو لم تكن الرائحة تسطع بسبب تحلل شى‏ء، ما كانت الحرارة و ما يهيج الحرارة من الدلك و التبخير و ما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح و لما كان البرد ممّا يحتبسها «2».

فبين أن الروائح أنما تصل إلى الشم ببخار يتبخر من ذى الرائحة، يخالطه الهواء و ينفذ فيه، و لهذا إذا استقصيت تشمّم التفاحة ذبلت لكثرة ما يتحلل منها.

و القائلون بالاستحالة احتجوا و قالوا: إنه لو كانت الروائح التى تملأ المحافل أنما تكون بتحلل شى‏ء لوجب أن يكون الشى‏ء ذو الرائحة ينقص وزنه و يقلّ حجمه مع تحلل ما يتحلل منه.

و قال أصحاب التأدية: خصوصا إنه لا يمكننا أن نقول إن البخار

______________________________
(1)- المدعين، نسخة.

(2)- لا كان البرد يخفيها، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 111

يتحلل من ذى الرائحة فيسافر مائة فرسخ فما فوقه، و لا أيضا يمكننا أن نحكم أن ذا الرائحة أشد إحالة للأجسام من النار فى تسخينها، و النار القوية إنما تسخن ما حولها إلى حد، و إذا بلغ ذلك غلوة «1» فهو أمر عظيم، و قد نجد من وصول الروائح إلى بلاد بعيدة ما يزيل الشك فى أن وصولها لم يكن بسبب بخار انتشر أو استحالة فشت. فقد علم أن بلاد اليونانيين و المغاربة لا ترى فيها رخمة «2» ألبتة و لا تأوى إليها و بينها و بين البلاد المرخمة مسافة كثيرة تقارب ما ذكرناه‏ «3». و قد اتفق فى بعض السنين أن وقعت ملحمة «4» بتلك البلاد فسافرت الرخم إلى الجيف و لا دليل لها إلا الرائحة، فتكون الرائحة قد دلت من مسافة بعدها بعد لا يجوز معه أن يقال إن الأبخرة أو الاستحالات من الهواء وصلت إليه.

فنقول نحن: إنه يجوز أن يكون المشموم هو البخار، و يجوز أن يكون الهواء نفسه يستحيل عن ذى الرائحة فيصير له رائحة فيكون حكمه أيضا حكم البخار فيكون كل شى‏ء لطيف الأجزاء من شأنه أن ينفذ إذا بلغ آلة الشم و لاقاها كان بخارا أو هواء مستحيلا إلى الرائحة أحس به‏ «5». و قد علمت أن كل متوسط يوصل إليه بالاستحالة، فإن المحسوس أيضا لو تمكّن من ملاقاة الحاسّ لأحسّ به بلاواسطة.

______________________________
(1)- غلوة: مقدار يك تير انداختن راه.

(2)- كركس، لاشخوار.

(3)- اى تقارب مائة فرسخ.

(4)- الملحة: الواقعة العظيمة القتل.

(5)- بالرائحة: نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 112

و مما يدل على أن الاستحالة لها مدخل فى هذا الباب، أنا مثلا نبخر الكافور تبخيرا يأتى على جوهره كله‏ «1»، فتكون منه رائحة منتشرة انتشارا إلى حد و قد يمكن أن تنتشر منه تلك الرائحة فى أضعاف ذلك الموضع بالنقل، و الوضع جزءا جزءا من ذلك المكان كله حتى يتشمم منه فى بقعة ضيقة صغيرة من تلك الأضعاف مثل تلك الرائحة. فإذا كان فى كل واحدة من تلك البقاع الصغيرة يتبخر منه شى‏ء فيكون مجموع الأنجرة التى تتحل منه فى جميع تلك البقاع التى تزيد على البقعة المذكورة أضعافا مضاعفة للبخار كله الذى يكون بالتبخير أو مناسبا له، فيجب أن يكون النقصان الوارد عليه فى ذلك‏ «2» قريبا من ذلك‏ «3» أو مناسبا له و لا يكون.

فبين أن هاهنا للاستحالة مدخلا.

و أما حديث التأدية «4» المذكورة فأمر بعيد، و ذلك لأن التأدية لا تكون إلا بنسبة مّا و نصبة «5» للمؤدى عنه إلى المؤدى إليه. و أما الجسم ذو الرائحة فليس يحتاج إلى شى‏ء من ذلك، فإنك لو توهمت الكافور قد نقل إلى حيث لا تتأدى إليك رائحته، بل قد عدم دفعة، لم يمنع أن تكون رائحته بعده‏ «6» باقية فى الهواء، فذلك لا محالة لاستحالة أو مخالطة.

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى بحيث يفنى كله.

(2)- اى النقل.

(3)- فى تعليقة نسخة: اى التبخير الذى وقع على جوهره.

(4)- و هو المذهب الثالث.

(5)- كما فى جميع النسخ التى عندنا و هذا هو الصواب. فمعنى العبارة على قرائة الصاد فى النسبة الثانية ظاهر. و على قرائة السين بيان للنسبة الأولى و التأسيس أولى من التأكيد.

(6)- اى بعد النقل و العدم.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 113

و أما حديث الرخم فإنّه قد يجوز أن تكون رياح قوية تنقل الروائح و الأنجرة المتحللة عن الجيف إلى المسافة المذكورة فى أعلى الجو فيحسّ بها ما هو أقوى حسا من الناس و أعلى مكانا مثل الرخم و غيره. و أنت تعلم أن الروائح و إن كانت قد تصل إلى كثير من الحيوانات فوق ما تصل إلى الناس بكثير، فقد تتأدى إليها المبصرات من مسافاة بعيدة و هى تحلّق‏ «1» فى الجو حتى يبلغ إبصارها فى البعد مبلغا بعيدا جدا، و حتى يكون ارتفاعها أضعاف ارتفاع قلل الجبال الشاهقة. و قد رأينا قلل جبال شاهقة جدا و قد جاوزتها النسور «2» محلقة، حتى يكاد أن يكون ارتفاعها ضعف ارتفاع تلك الجبال. و قلل تلك الجبال قد ترى من ست أو سبع مراحل، و ليس نسبة الارتفاع إلى الارتفاع كنسبة بعد المرئى إلى بعد المرئى‏ «3»، فإنك ستعلم فى الهندسة أن النسب فى الأبعاد التى منها يرى أعظم و أكبر. فلا يبعد أن تكون الرخم قد علت فى الجو بحيث ينكشف لها بعد هذه المسافة فرأت الجيف، فإن كان يستنكر تأدى أشباح هذه الجيف إليها

______________________________
(1)- تحليق الطائر: ارتفاعه فى طيرانه. ص‏

(2)- نسر: كركس، ج: نسور.

(3)- الرائى، نسخة. و فى تعليقة نسخة: «قوله: و ليس نسبة الارتفاع الى الارتفاع كنسبة بعد المرئى الى بعد المرئى، لأنه يمكن أن يكون الارتفاع مثلا عشرة أذرع و يرى بعد المرئى من العمود الخارج عن البصر الى السطح بهذا الارتفاع خمسين ذراعا مثلا. فاذا صار الارتفاع خمسة عشر ذراعا مثلا يرى هذا المرئى بعيدا عن العمود المذكور عشرة اذرع مثلا. فلا تكون نسبة الارتفاع الى الارتفاع كنسبة بعد المرئى من العمود الى بعد المرئى من العمود.

و بيان ما ذكره: ان الابعاد ترى من المواضع البعيدة اقصر فان كل مرئى واقع فى سطح يرتفع عنه البصر فانه يرى اقرب اذا صار البصر ارفع. فليكن السطح «ا- ب»، و المرئى «ب»، و البصر هو «ه» مرتفع عنه بقدر «ا- ج».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 114

فتأدى روائحها التى هى أضعف تأديا أولى بالاستنكار. و كما أنه ليس يحتاج كل حيوان فى تحريك الجفن و المقلة إلى أن يبصر كذلك ليس يحتاج كل حيوان إلى استنشاق حتى يشم، فإن كثيرا منها يأتيها الشم من غير تشمم.

______________________________
- فنقول: انّ «ب» يرى اقرب من «الف» موقع العمود الخارج من البصر الى السطح اذا صار «ج» «د» بقدر «ا- ج». لان زاوية «ا- ب- د» اعظم من زاوية «أ- ب- ج» و زاوية «الف» بحاله. فتكون زاوية «ا ج ب» اعظم من زاوية «ا د ب». و ايضا زاوية «ا ج ب» خارجة عن مثلث «د ج ب». و له وجوه اخرى.

ثم انّ فى تعليقة اخرى توضيح على هذه التعليقة السابقة ذكرها و هو: «قوله فان كل مرئى واقع فى سطح يرتفع عنه البصر فانه يرى اقرب اذا صار البصر ارفع»: اى اقرب من موقع العمود الخارج من البصر الى السطح كما يظهر من عبارته فيما بعد».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 115

الفصل الخامس فى حاسة السمع‏

و إذ قد تكلمنا فى أمر اللمس و الذوق و الشم، فبالحرى أن نتكلم فى أمر السمع. فنقول: إن الكلام فى أمر السمع يقتضى الكلام فى أمر الصوت و ماهيته، و قد يليق بذلك الكلام فى الصدى. فنقول:

إن الصوت ليس أمرا قائم الذات موجودا ثابت الوجود يجوز فيه ما يجوز فى البياض و السواد و الشكل من أحكام الثبات على أن يصح فرضه ممتد الوجود و أنه مثلا لم يكن له مبدأ وجود زمانى كما يصح هذا الفرض فى غيره، بل الصوت بيّن واضح من أمره أنه أمر يحدث و أنه ليس يحدث إلا عن قلع أو قرع. أما القرع فمثل ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت. و أما القلع فمثل ما يقلع أحد شقى مشقوق عن الآخر كخشبة تنحى عليها بأن يبين أحد شقيها عن الآخر طولا. و لا تجد أيضا مع كل قرع صوتا، فإن قرعت جسما كالصوف بقرع لين جدا لم تحس صوتا، بل يجب أن تكون للجسم الذى تقرعه مقاومة مّا، و أن يكون للحركة التى للمقروع به إلى المقروع عنيف صادم‏ «1»، فهناك تحس. و كذلك أيضا إذا

______________________________
(1)- و ان يكون للحركة التى للمقروع به الى المقروع عنف صادم. (كما فى النسخ التى‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 116

شققت شيئا يسيرا و كان الشى‏ء لا صلابة له لم يكن للقلع صوت ألبتة.

و القرع بما هو قرع لا يختلف، و القلع أيضا بما هو قلع لا يختلف. لأن أحدهما إمساس و الآخر تفريق، لكن الإمساس يخالف الإمساس بالقوة و السرعة، و التفريق أيضا يخالف التفريق بمثل ذلك. و لأن كل صائر إلى مماسة شى‏ء فيجب أن يفرغ لنفسه مكان جسم آخر كان مماسا له لينتقل إليه، و كل مقلوع عن شى‏ء فقد يفرغ مكانه حتى يصار إليه.

و هذا الشى‏ء الذى فيه هذه الحركات شى‏ء رطب سيال لا محالة إما ماء و إما هواء، فتكون مع كل قرع و قلع حركة للهواء و ما يجرى مجراه إما قليلا قليلا و برفق، و إما دفعة على سبيل تموج أو انجذاب بقوة. و قد وجب هاهنا شى‏ء لا بد أن يكون موجودا عند حدوث الصوت و هو حركة قوية من الهواء أو ما يجرى مجراه.

فيجب أن يتعرف هل الصوت هو نفس القرع أو القلع، أو هو حركة «1» موجيّة تعرض للهواء من ذلك، أو شى‏ء ثالث يتولد من ذلك أو يقارنه. أما القلع و القرع فإنهما يحسان بالبصر بتوسط اللون و لا شى‏ء من الأصوات يحس بتوسط اللون، فليس القلع و القرع بصوت، بل إن كان‏

______________________________
- عندنا و لكن الاصح بل الصواب هو ما فى المتن) اى تكون الحركة التى للمقروع به الى المقروع عنيف صادم.

(1)- فى تعليقة نسخة: مدت حركت صوت در هواى معتدل در هر ثانيه سيصد و چهل متر است. يعنى مسافتى را كه طى مى‏كند در مدت يك ثانيه مساوى است با 340 متر.

و انتشار صوت در اجسام جامده اسرع از اجسام هوائى و موايع است از قرارى كه تجربه شده و ضبط كرده‏اند در يك ثانيه صوت در آب هزار و چهارصد و سى و پنج متر مسافت را طى مى‏كند و بتوسط آهن هزار و پانصد و هفتاد متر مسافت را در مدت يك ثانيه طى مى‏كند. از ترجمه كتب فرنگى نوشته شد.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 117

و لا بد فسببا الصوت‏ «1».

و أما الحركة فقد يتشكك فى أمرها، فيظن أن الصوت نفس تموج الهواء. و ليس كذلك أيضا، فإن جنس الحركة يحس أيضا بسائر الحواس، و إن كان بتوسط محسوسات أخر. و التموج الفاعل للصوت قد يحس حتى يؤلم، فإن صوت الرعد يعرض منه أن تدك الجبال‏ «2»، و ربما ضرب حيوانا فأفسده. و كثيرا ما يستظهر على هدم الحصون العالية بأصوات البوقات؛ بل حس اللمس، كما أشرنا إليه قبل أيضا قد ينفعل من تلك الحركة من حيث هى حركة و لا يحس الصوت، و لا أيضا من فهم أن شيئا حركة فهم أنه صوت. و لو كانت حقيقة الصوت حقيقة الحركة، لا أنه أمر يتبعها و يلزم عنها، لكان من عرف أن صوتا عرف أن حركة.

و هذا ليس بموجود، فإن الشى‏ء الواحد النوعى لا يعرف و يجهل معا إلا من جهتين و حالين، فجهة كونه صوتا فى ماهيته و نوعيته، ليس جهة كونه حركة فى ماهيته و نوعيته. فالصوت إذن عارض يعرض من هذه الحركة الموصوفة يتبعها، و يكون معها، فإذا انتهى التموج من الهواء أو الماء إلى الصماخ- و هناك تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهى إليه و وراءه كالجدار مفروش عليه العصب الحاس للصوت- أحس بالصوت.

______________________________
(1)- قال الرازى: و يدل على بطلان المذهبين و جهان: الاول ان التموج محسوس باللمس لان الصوت الشديد ربما ضرب الصماخ فافسده و القلع و القرع يحسان بالبصر بتوسط اللون و لا شى‏ء من الاصوات يحس باللمس و البصر فليس التموج و القلع و القرع بصوت. الثانى: ان الشى‏ء قد يعلم منه انّه تموّج او قرع او قلع و يجهل كونه صوتا و قد يعلم الصوت عندما يكون الامور الثلاثة مجهولة فتلك الامور الثلاثة مغايرة للصوت.

(2)- دكّ: كوفتن و هموار كردن. راجع الفصل 14 من المقالة 4 من الفن الاول من طبيعيات الشفاء- ط 1- ص 154.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 118

و مما يشكل من امر الصوت هل هو شى‏ء موجود من خارج تابع من خارج لوجود الحركة أو مقارن أو إنما يحدث من حيث هو صوت إذا تأثر السمع به، فإنه لمعتقد أن يعتقد أن الصوت لا وجود له من خارج، و أنه يحدث فى الحس من ملامسة الهواء المتموج، بل كل الأشياء التى تلامس ذلك الموضع بالمسّ أيضا تحدث صوتا فيه، فهل ذلك الصوت حادث بتموج الهواء الذى فى الصماخ أو لنفس المماسة.

و هذا أمر يصعب الحكم عليه، و ذلك لأن نافى وجود الصوت من خارج لا يلزمه ما يلزم نافى باقى الكيفيات الأخرى المحسوسة، لأن هذا له أن يثبت للمحسوس الصوتى خاصية معلومة هى تفعل الصوت، و تلك الخاصية هى التموج، فتكون نسبة التموج من الصوت نسبة الكيفية التى فى العسل إلى ما يتأثر منه فى الحس. لكنه يختلف الأمر هاهنا، و ذلك لأن الأثر الذى يحصل من العسل فى الحاسة و من النار فى الحاسة هو من جنس ما فيهما. و لذلك فإن الذى يمس الحرارة قد يسخن أيضا غيره إذا ثبت فيه الأثر. و ليس الصوت و التموج حالهما كذا، فإن التموج شى‏ء و الصوت شى‏ء، و التموج يحس بآلة أخرى و تلك الكيفية لا تحس بآلة أخرى. و ليس يجب أيضا أن يكون كل ما يؤثر أثرا ففى نفسه مثل ذلك الأثر.

فيجب أن تتعرف حقيقة الحال فى هذا فنقول:

مما يعين على معرفة أن العارض المسموع له وجود من خارج‏ «1» أيضا أنه لو كان إنما يحدث فى الصماخ نفسه لم يخل إما أن يكون التموج‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى خارج الصماخ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 119

الهوائى يحس بالسمع من حيث هو تموج أو لا يحس. فإن كان التموج الهوائى يحس بالسمع- لست أقول يحس بلمس آلة السمع- حسا من حيث هو تموج، فإما أن يحس به أوّلا أو بتوسط الصوت.

فلو كان يحس به أوّلا، و المحسوس الأوّل بالسمع هو الصوت و هذا مما لا شك فيه، كان التموج من حيث هو تموج صوتا، و قد أبطلنا هذا.

و لو كان يحس به بتوسط الصوت، لكان كل من سمع الصوت علم أن تموجا، كما أن كل من أحس لون المربع و المربع بتوسطه علم أن هناك مربعا و ليس كذلك.

و إن كان إنما يحس باللمس أيضا عرض منه ما قلنا «1». فإذن ليس بواجب أن يحس التموج عند سماع الصوت. فلننظر ما يلزم بعد هذا.

فنقول: إن الصوت كما يسمع تسمع له جهته، فلا يخلو إما أن تكون الجهة تسمع لأن الصوت مبدأ تولده و وجوده فى تلك الجهة و من هنالك ينتهى، و إما لأن المنتقل المتأدى‏ «2» إلى الأذن الذى لا صوت فيه بعد أن يفعل الصوت‏ «3» إذا اتصل بالأذن ينتقل من تلك الجهة و يصدم من تلك الجهة فيخيل أن الصوت ورد من تلك الجهة، و إما للأمرين جميعا.

فإن كان لأجل المنتقل وحده، فمعنى هذا هو أن المنتقل نفسه محسوس، فإنه إذا لم يشعر به‏ «4» كيف يشعر بجهة مبدئه. فيلزم أن يحس‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: من ان كل من احس الصوت علم انّ تموجا ....

(2)- اى التموج الفاعل للصوت.

(3)- لا صوت فيه بعد بل يفعل الصوت الخ، كما فى نسخة مصحّحة.

(4)- اى بالصوت. هذا ايضا مقدمة لا ثبات انّ للصوت وجودا فى الخارج.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 120

بالسمع عند إدراك جهة الصوت تموج الهواء. و قد قلنا: إن ذلك ليس بواجب.

و إن كان لأجلهما جميعا، عرض من ذلك هذا «1» المحال أيضا، و صح أن الصوت كان يصحب التموج‏ «2».

فبقى أن يكون ذلك لأن الصوت نفسه تولد هناك و من هناك انتهى.

و لو كان الصوت إنما يحدث فى الأذن فقط، لكان سواء أتى سببه من اليمين أو اليسار، و خصوصا و سببه‏ «3» لا يحس به. و هاهنا «4» مؤثر فيه مثل نفسه فلا تدرك جهته‏ «5» لأنه إنما يدرك‏ «6» عند وصوله فكيف ما لا حدوث له إلا عند وصول سببه. فقد بان أن للصوت وجودا مّا من خارج لا من حيث هو مسموع بالفعل، بل من حيث هو مسموع بالقوة، و أمر كهيئة مّا من الهيئات للتموج غير نفس التموج.

و يجب أن نحقق الكلام فى القارع و المقروع فنقول:

إنه لا بد فى القرع من حركة قبل القرع و حركة تتبع القرع، فأما الحركة قبل القرع فقد تكون من أحد الجسمين و هو الصائر إلى الثانى، و قد تكون من كليهما، و لا بد من قيام كل واحد منهما أو أحدهما فى وجه الآخر

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى ان يحس بالسمع عند ادراك جهة الصوت تموج الهواء.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى ادراك الصوت مستلزم لادراك التموج.

(3)- و هو التموج.

(4)- اى فى الاذن.

(5)- و هيهنا مؤثر مثل نفسه و قد لا تدرك جهته. كما فى ثلاث نسخ. و هيهنا مؤثر فيه مثل نفسه فلا تدرك الخ كما فى نسخة اخرى.

(6)- اى السبب عند وصوله الى الصماخ فكيف ما لا حدوث له الا عند وصول سببه و هو الصوت مع الجهة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 121

قياما محسوسا. فإنه إن اندفع أحدهما كما يمس‏ «1»، بل فى زمان‏ «2» لا يحس، لم يكن صوت. و القارع و المقروع كلاهما فاعلان للصوت، لكن أوليهما به ما كان أصلبهما و أشدهما مقاومة، فإن حظه فى ذلك أشد، و أما الحركة الثانية فهو انفلات الهواء و انضغاطه بينهما بعنف، و الصلابة تعين على شدة ضغط الهواء و الملاسة أيضا لئلا ينتشر الهواء فى فرج الخشونة. و التكاثف أولى بذلك لئلا ينفذ الهواء فى فرج التخلخل.

و ربما كان الجسم المقروع فى غاية الرطوبة و اللين، لكنه إذا حمل عليه بالقوة و كلف الهواء المتوسط أن ينفذ فيه أو ينضغط فيما بينهما لم يكن ذلك الجسم أيضا بحيث يمكّن الهواء المتوسط أن ينفذ فيه و يشقه فى زمان قصير، بل قاوم ذلك فلم يندفع فى وجه ذلك الهواء المتوسط، بل و قاوم أيضا القارع، لأن القارع كان يسومه‏ «3» انخراقا كثيرا فى زمان قصير جدا.

و ليس ذلك‏ «4» فى قوة القابل و لا فى قوة الفاعل القارع، فامتنع من الانخراق، فقام فى وجه القارع و ضغط عن المتوسط «5» فكانت المقاومة فيه مكان الصلابة. و أنت تعلم هذا إذا اعتبرت إمرارك السوط فى الماء برفق، فإنه يمكنك أن تشقه شقا من حيث لا تلزمك فيه مؤونة، فإن استعجلت استعصى عليك و قاوم. فالهواء أيضا كذلك، بل قد يجوز أن يكون الهواء نفسه يصير جزء منه مقاوما و جزء بينه و بين المزاحم القارع‏

______________________________
(1)- اى فى اول وقت اللمس.

(2)- اى زمان قليل.

(3)- يسوقه، نسخة. سام فلان الامر: كلّفه اياه. (القاموس).

(4)- فى تعليقة نسخة: اى انخراق الكثير فى الزمان القليل.

(5)- فى نسخة: وضغظ معه المتوسط. و فى اخرى: و ضغط هواء المتوسط.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 122

منضغطا، بل يجوز أن يصير الهواء أجزاء ثلاثة: جزء منه قارع كالريح، و جزء مقاوم، و جزء منضغط فيما بينهما على هيئة من التموج. و ليست الصلابة و التكاثف علة أولية لإحداث هذا التموج، بل ذلك من حيث يعينان على المقاومة. و العلة الأولية هى المقاومة.

فالصوت يحدث من تموج الجسم الرطب السيال منضغطا بين جسمين متصاكّين متقاومين من حيث هو كذلك. و كما أن الماء و الهواء و الفلك تشترك فى طبيعة هى أداء الألوان، و تلك الطبيعة لها اسم و هو الشفيف، فكذلك الماء و الهواء لهما معنى يشتركان فيه من حيث يحدث فيهما الصوت، و ليكن اسمه قبول التموج، و ليس ذلك من حيث المتوسط ماء أو هواء كما أن الإشفاف لم يكن من حيث المتوسط فلكا أو هواء. و يشبه أن يكون الماء و الهواء لهما أيضا من حيث يؤديان الرائحة أو الطعم معنى كذلك لا اسم له. فلتكن للرطوبة المؤدية للطعم العذوبة، و أما ما يشترك فيه نقل الرائحة فلا اسم له.

و أما الصدى فإنه يحدث من تموج يوجبه هذا التموج، فإن هذا التموج إذا قارنه‏ «1» شى‏ء من الأشياء كجبل أو جدار حتى وقّفه، لزم أن ينضغط أيضا بين هذا التموج المتوجه إلى قرع الحائط أو الجبل، و بين ما «2» يقرعه هواء آخر يردّ ذلك‏ «3» و يصرفه إلى خلف بانضغاطه فيكون شكله الشكل‏

______________________________
(1)- قاومه، نسخة.

(2)- من الجبل او الحائط.

(3)- فى تعليقة نسخة: قوله يردّ ذلك اى هذا الهواء الاخر ذلك اى المتموج المتوجه الى حريم الحائط و يصرفه الى خلف بانضغاطه اى بانضغاط ذلك الهواء الاخر الذى يكون بين هذا المتموج المتوجه الى القرع و بين ما يقرعه و هذا المنضغط ينبسط فيردّ الهواء القارع.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 123

الأول و على هيئته، كما يلزم الكرة المرمى بها الحائط أن تضطر الهواء إلى التموج فيما بينهما و أن ترجع القهقرى. و قد بينا فيما سلف‏ «1» ما العلة فى رجوع تلك الكرة قهقرى، فلتكن هى العلة فى رجوع الهواء.

و قد بقى علينا أن ننظر «2» هل الصدى هو صوت يحدث بتموج الهواء الذى هو التموج الثانى‏ «3»، أو هو لازم لتموج الهواء الأول المنعطف النابى نبوا «4» فيشبه أن يكون هو تموج الهواء المنعطف النابى، و لذلك يكون على صفته و هيئته، و أن لا يكون القرع الكائن من هذا الهواء يولد صوتا من تموج هواء ثان يعتد به. فإن قرع مثل هذا الهواء قرع ليس بالشديد، و لو كان شديدا بحيث يحدث صوتا لأضر بالسمع. و يشبه أن يكون لكل صوت صدى و لكن لا يسمع، كما أن لكل ضوء عكسا، و يشبه أن يكون السبب فى أن لا يسمع الصدى فى البيوت و المنازل فى أكثر الأمر أن المسافة إذا كانت قريبة بين المصوّت و بين عاكس الصوت لم يسمعا فى زمانيين متباينين، بل يسمعان معا كما يسمع صوت القرع‏

______________________________
(1)- فى الفصل الرابع عشر من المقالة الرابعة من طبيعيات الشفاء ص 154 الطبع الرحلى.

(2)- قوله بقى علينا ان ننظر. قال صاحب المواقف: «الظاهر ان الصدى- اى سبب الصدى- تموج هواء جديد لا رجوع الهواء الاول. و ذلك لان الهواء اذا تموج على الوجه الذى عرفته حتى صادم التموج جسما يقاومه و يردّه الى خلف لم يبق فى الهواء المصادم ذلك التموج الذى كان حاصلا له بل يحصل فيه بسبب مصادمته و رجوعه تموج شبيهة بالتموج الاول. فهذا التموج الجديد الحاصل بالمصادمة و الرجوع هو سبب للصدى الشبيه بالصوت الاول و قد يظن ان الهواء المصادم يرجع متصفا بتموجه الاول بعينه فيحمل ذلك الصوت الاول الى السامع الا ترى ان الصدى يكون على صفته و هيئته و هذا و ان كان محتملا الّا انّ الاول هو الظاهر.»

(3)- فى تعليقة نسخة: و هو الهواء المنضغط بين التموج الاول و بين الجدار بعد الرجوع.

(4)- نبوه و نباوه: برآمدن و بلند شدن.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 124

معه و إن كان بعده بالحقيقة. و أما إذا كان العاكس بعيدا فرّق الزمان بين الصوتين تفريقا محسوسا، و إن كان صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس منه بسبب قوة النبو يبقى زمانا كثيرا كما فى الحمامات. و يشبه أن يكون هذا هو السبب فى أن يكون صوت المغنى فى الصحراء أضعف و صوت المغنى تحت السقوف أقوى لتضاعفه بالصدى المحسوس معه فى زمان كالواحد.

و يجب أن يعلم أن التموج ليس هو حركة انتقال من هواء واحد بعينه، بل كالحال فى تموج الماء يحدث بالتداول‏ «1» بصدم بعد صدم مع سكون قبل سكون، و هذا التموج الفاعل للصوت سريع لكنه ليس بقوى الصك.

و لمتشكك أن يتشكك فيقول: إنه كما قد تشككتم فى اللمس فجعلتموه قوى كثيرة لأنه يدرك متضادات كثيرة، فكذلك السمع أيضا يدرك المضادة التى بين الصوت الثقيل و الحاد، و يدرك المضادة التى بين الصوت الخافت و الجهير و الصلب و الأملس و المتخلل و المتكاثف، و غير ذلك. فلم لا تجعلونه قوى؟

فالجواب عن ذلك أن محسوسه الأول هو الصوت، و هذه أعراض تعرض لمحسوسه الأول بعد أن يكون صوتا. و أما هناك فكل واحدة من المتضادات تحس لذاتها، لا بسبب الآخر. فليكن هذا المبلغ فى تعريف الصوت و الإحساس به كافيا.

______________________________
(1)- تداولته الايدى: اى اخذته هذه مرّة و هذه مرّة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 125

المقالة الثالثة فى الإبصار

ثمانية فصول الفصل الأول: فى الضوء و الشفيف و اللون.

الفصل الثانى: فى مذاهب و شكوك فى امر النور و الشعاع و ان النور ليس بجسم بل هو كيفية يحدث فيه.

الفصل الثالث: فى تمام مناقضة المذاهب المبطلة لان يكون النور شيئا غير اللون الظاهر و كلام فى الشفاف و اللامع.

الفصل الرابع: فى تأمل مذاهب قيلت فى الالوان و حدوثها.

الفصل الخامس: فى اختلاف المذاهب فى الرؤية «1» و ابطال المذاهب الفاسدة بحسب الامور نفسها.

______________________________
(1)- راجع لتوضيح كلام القوم فى الرؤية كشكول الشيخ البهائى ص 262 طبع نجم الدولة. و ايضا الجمع بين رأيين للفارابى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 126

الفصل السادس: فى ابطال مذاهبهم من الاشياء و المقولة فى مذاهبهم.

الفصل السابع: فى حلّ الشبه التى اوردوها، و فى اتمام القول فى المبصرات التى لها اوضاع مختلفة من مشفّات و من صقيلات.

الفصل الثامن: فى سبب رؤية الشى‏ء الواحد كشيئين.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 127

الفصل الأول فى الضوء و الشفيف و اللون‏

و حرّى بنا الآن أن نتكلم فى الإبصار، و الكلام فيه يقتضى الكلام فى الضوء و فى المشف و فى اللون و فى كيفية الاتصال الواقع بين الحاس و المحسوس البصرى، فلنتكلم أولا على الضوء فنقول:

إنه يقال ضوء و يقال نور و يقال شعاع، و يشبه أن لا يكون بينها فى وضع اللغة كثير تفاوت، لكنا نحتاج فى استعمالنا إياها أن نفرّق بينها لأن هاهنا معانى ثلاثة متقاربة:

أحدها الكيفية التى يدركها البصر فى الشمس و النار من غير أن يقال إنه سواد أو بياض أو حمرة أو شى‏ء من هذه الألوان.

و الثانى الأمر الذى يسطع من هذا الشى‏ء فيتخيل أنه يقع على الأجسام فيظهر بياض و سواد و خضرة، و الآخر الذى يتخيل على الأجسام كأنه يترقرق‏ «1» و كأنه يستر لونها و كأنه شى‏ء يفيض‏ «2» منها، فإن كان فى جسم قد استفاد ذلك من جسم آخر سمى بريقا كما يحس فى‏

______________________________
(1)- كأنه يترفرف و كأنه يستر، كما فى غير واحدة من النسخ. (ترقرق: درخشيدن).

(2)- يفيض اى يسيل.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 128

المرآة و غيرها، و إن كان فى الجسم الذى له بذاته سمى شعاعا. و لسنا نحتاج الآن إلى الشعاع و البريق، بل نحتاج إلى القسمين الأولين.

فليكن أحدهما- و هو الذى للشى‏ء من ذاته- ضوءا و ليكن المستفاد نورا.

و هذا الذى نسميه ضوءا مثل الذى للشمس و النار، فهو المعنى الذى يرى لذاته. فإن الجرم الحامل لهذه الكيفية إذا وجد بين البصر و بينه شى‏ء كالهواء و الماء رؤى ضرورة من غير حاجة إلى وجود ما يحتاج إليه الجدار الّذى لا يكفى فى أن يرى على ما هو عليه وجود الهواء و الماء و ما يشبههما بينه و بين البصر، بل يحتاج إلى أن يكون الشى‏ء الذى سميناه نورا قد غشيه حتى يرى حينئذ، و يكون ذلك النور تأثيرا من جسم ذى ضوء فيه إذا قابله و كان بينهما جسم ليس من شأنه أن يحجب تأثير المضى‏ء فى قابل النور كالهواء و الماء فإنه يعين‏ «1» و لا يمنع‏

فالأجسام بالقسمة الأولى على قسمين:

جسم ليس من شأنه هذا الحجب المذكور و ليسم الشاف.

و جسم من شأنه هذا الحجب كالجدار و الجبل.

و الذى من شأنه هذا الحجب:

فمنه ما من شأنه أن يرى من غير حاجة إلى حضور شى‏ء آخر بعد وجود المتوسط الشاف، و هذا هو المضى‏ء كالشمس و النار و مثله فانّه غير شفاف، بل هو حاجب عن إدراك ماوراءه. فتأمل إظلال‏ «2» المصباح عن‏

______________________________
(1)- قوله: يعين، اى يعين على رؤية قابل النور.

(2)- قوله: فتامل اظلال، الاظلال على المصدرية من اظل، لو فرضنا المصباحين فيما بين جدارين متقابلين فان كل واحد منهما يمنع الآخر عن ان يفعل فى الجدار اى ان يضيأه لانهما مضيئان غير شفافين و لذلك يظل كل واحد منهما عن الثانى اى عن الآخر. ثم‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 129

المصباح، فإن أحدهما يمنع عن أن يفعل الثانى فيما هو بينهما، و كذلك يحجب البصر عن رؤية ماوراءه.

و منه ما يحتاج إلى حضور شى‏ء آخر يجعله بصفة و هذا هو الملون.

فالضوء «1» كيفية القسم الأول من حيث هو كذلك، و اللون كيفية القسم الثانى من حيث هو كذلك. فإن الجدار لا يمكّن المضى‏ء أن ينير شيئا خلفه، و لا هو بنفسه منير، فهو الجسم الملون بالقوة، و اللون بالفعل‏ «2»

______________________________
- لو فرضنا جدارا واحدا ايضا كان المصباح الاقرب يمنع الابعد عن ان يفعل فى الجدار.

فالعبارة معناها هكذا: فان احد المصباحين و هو الاقرب الى الجدار يمنع الثانى اى المصباح الاخر و هو الابعد منه ان يفعل ذلك الابعد فى الجدار. فالمصباح الاقرب المانع واقع بين احد المصباحين و بين الجدار. فضمير «هو» راجع الى احدهما. و قوله:

«و مثله فانه غير شفاف» يعنى ان مثل هذا الجسم الحاجب المضى‏ء فانه غير شفاف الخ فكل واحد من المصباحين من افراد هذا المثل.

(1)- قال الرازى فى الضوء: حدّه انه كيفية هى كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف المباحث المشرقية ج 1 ص 414. و فى تعليقة نسخة: الاولى ان يقال: انها الكيفية التى لا يتوقف الابصار بها على الابصار بشى‏ء آخر. و قال حكماء الافرنج النور جسم محسوس غير ملموس ممتنع الاخذ ارائة الاشياء مختصة به.

(2)- قوله قدس سره: و اللون بالفعل انما يحدث بسبب النور. اقول ذهب الفارابى و الشيخ الى انّ الضوء شرط وجود اللون و هذا هو المراد من قوله: «و اللون بالفعل». و ذهب المحقق الطوسى الى انّ الضوء شرط ادراك اللون لا شرط الوجود. فراجع المسألة السادسة من الفصل الخامس من المقصد الثانى من التجريد فى الاعراض.

و الشيخ ناظر فى اللون كلام الفارابى كما هو دأبه فى كتبه و آرائه، و قد كان يعتقد فيه اعتقادا راسخا و نقل الشهزورى فى نزهة الارواح فى شرح الاسكندر الافروديسى (ص 308 ج 1): و ابو على سينا يفخمه- يعنى الاسكندر- و يثنى عليه. و كذلك ثامسطيوس يمدحه الشيخ و يبالغ فى شكره- الى ان قال: ثم يقول بعده- يعنى يقول الشيخ- و اما ابو نصر الفارابى فيجب ان يعظم فيه الاعتقاد و لا يجرى مع القوم فى ميدان فيكاد ان يكون افضل من سلف من سلف. انتهى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 130

______________________________
- و غرضنا فى المقام ان الفارابى- رضوان الله تعالى عليه- قال فى التعليقات (ص 7 من طبع حيدر آباد): «الالوان انما تحدث فى السطوح من حصول المضى‏ء و ليست فى ذاتها موجودة، و هى اعراض تحصل بواسطة المضى‏ء، و سبب كونها مختلفة و ان بعضها ابيض و بعضها اسود اختلاف الاستعدادات فى المواد». انتهى كلامه.

و قوله: «فى السطوح» ردّ على انباذ قلس حيث ذهب الى انّ الالوان تحدث فى الحدقة من قوة نارية فى البدن ثم إذا صارت الحدقة محاذية لجسم يخرج اللون منها الى الجسم و يحيط به فيرى اللون على الجسم. و قوله: «اختلاف الاستعدادات» خبر لقوله:

«سبب كونها».

و قال المعلم الثانى الفارابى فى تعليقاته ص 7: الالوان انما تحدث فى السطوح من حصول المضى‏ء و ليست فى ذاتها موجودة و هى اعراض تحصل بواسطة المضى‏ء و سبب كونها مختلفة و ان بعضها ابيض و بعضها اسود اختلاف الاستعدادات فى المواد.

و فى تعليقة نسخة: «پيروان فيثاغورث را عقيده بر اين است كه الوان موجود هستند در سطح خارجى اجسام بحيثى كه از محل خود امتداد يافته و به مردمك چشم فرو روند و در آنجا تحريك حسّى نمايند كه بر وجود الوان شهادت دهد.

آمپدوكسل كه يكى از معروفترين فلاسفه قديم است و در چهار صد و چهل و چهار قبل از مسيح- عليه السلام- متولد شده بر اين رفته كه كليه الوان در خود چشم است كه از قوه ناريه بدن موجود شده‏اند و چون حدقه با جسمى محاذى شود بمناسبت آن جسم لونى از حدقه بيرون آمده آن جسم را احاطه كند و رنگ پديد آيد.

افلاطون چنين فرموده كه الوان جوهر سيالى چند است در كمال رقت و لطافت كه از سطح خارجى اجسام فوران كنند و نسبتى با عضو باصره دارند كه بنابر آن نسبت احساس بعمل آيد كه درك الوان كنند.

اپيكور كه فيلسوف معروف است از فلاسفه قديم يونان و در سيصد و چهل و يك قبل از حضرت عيسى- عليه السلام- متولد شده معتقد است كه الوان وجود خارجى ندارند و محض از هيئت خاص عضو باصره و كيفية ابصار و رؤيت اجسام متخيل مى‏شوند. و اين رأى از اين حكيم نتيجه تفصيلاتى است كه در تشريح عضو باصره و كيفيت تركيب اجسام نوشته است.

ارسطو فرموده است كه الوان در نفس اجسام موجود نيستند و عمل روشنائى را در آنها

النفس من كتاب الشفاء، ص: 131

إنما يحدث بسبب النور، فإن النور إذا وقع على جرم مّا حدث فيه بياض بالفعل أو سواد أو خضرة أو غير ذلك. فإن لم يكن كان أسود فقط مظلما، لكنه بالقوة ملون إن عنينا باللون بالفعل هذا الشى‏ء الذى هو بياض و سواد و حمرة و صفرة و ما أشبه ذلك. و لا يكون البياض بياضا و الحمرة حمرة إلا أن تكون على الجهة التى نراها و لا تكون على هذه الصفة «1» إلا أن تكون منيرة.

و لا تظننّ أن البياض على الجهة التى نراها و الحمرة و غير ذلك يكون موجودا بالفعل فى الأجسام، لكن الهواء المظلم يعوق من إبصاره، فإن الهواء نفسه لا يكون مظلما إنما المظلم هو الذى هو المستنير. و الهواء نفسه و إن كان ليس فيه شى‏ء مضى‏ء فإنه لا يمنع إدراك المستنير و لا يستر اللون إذا كان موجودا فى الشى‏ء. تأمل كونك فى غار و فيه هواء كله على الصفة التى تظنه أنت مظلما، فإذا وقع النور فى جسم خارج موضوع فى الهواء الذى تحسبه نيرا فإنك تراه، و لا يضرك الهواء المظلم الواقف بينك و بينه، بل الهواء عندك فى الحالين كأنه ليس بشى‏ء.

______________________________
- با اعمالى كه در ساير اجسام دارد فرقى نيست باين معنى كه روشنائى را در آنها مدخلى نيست بغير از ارائه آنها چنانكه ساير اجسام را.

مشائين را در اين باب آراء مختلف شد:

بعضى معتقد شدند كه الوان خاصه اصليه اجسام است.

گروهى قائل شدند كه در اجسام ظاهر مى‏شوند بواسطه اختلاط و تركيب نور و ظلمت.

و جمعى ديگر بر اين شدند كه الوان در اجسام از تركيب املاح و فلزات حاصل مى‏شود. از ترجمه كتب فرنگيان نوشته شده».

(1)- قوله: على هذه الصفة، فى عدة نسخ جائت العبارة: على هذه الجهة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 132

و أما الظلمة فهى حال أن لا ترى شيئا و هو أن لا تكون الكيفيات‏ «1» التى إذا كانت موجودة فى الأجرام التى لا تشف صارت مستنيرة فهى مظلمة «2»، و بالقوة فلاتراها، و لا ترى الهواء فيتخيل لك ما يتخيل لك إذا غمضت عينيك و سترتهما فتتخيل لك ظلمة مبثوثة تراها، كما يكون من حالك و أنت محدّق‏ «3» فى هواء مظلم و ليس كذلك، و لا أنت ترى و أنت مغمض هواء مظلما أو ترى ما ترى من الظلمة شيئا فى جفونك إنما ذلك أنك لا ترى.

و بالجملة فإن الظلمة عدم الضوء فيما من شأنه أن يستنير، و هو الشى‏ء الذى قد يرى، لأن النور مرئى و ما يكون فيه النور مرئى، و الشاف لا يرى ألبتة، فالظلمة هى فى محل الاستنارة و كلاهما أعنى المحلين جسم لا يشف. فالجسم الذى من شأنه أن يرى لونه إذا كان غير مستنير كان مظلما، و لم يكن فيه بالحقيقة لون بالفعل، و لم يكن ما يظن أن هناك ألوانا و لكنها مستورة بشى‏ء، فإن الهواء لا يستر و إن كان على الصفة التى يرى مظلما إذا «4» كانت الألوان بالفعل.

و لكنه إن سمى إنسان الاستعدادات المختلفة التى تكون فى الأجسام التى إذا استنارت صار واحد منها الشى‏ء الذى تراه بياضا و الآخر حمرة ألوانا «5»، فله ذلك، إلا أنه يكون باشتراك الاسم. فإن البياض بالحقيقة

______________________________
(1)- لا تكون الكيفيات اى لا توجد، فتكون تامة لا ناقصة.

(2)- اى عند عدم الرؤية.

(3)- تحديق: تيز نگريستن.

(4)- قيد لقوله: «لا يستر».

(5)- مفعول ثان لقوله: «سمّى».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 133

هو هذا الذى يكون على الصفة التى ترى، و هذا لا يكون موجودا و بينك و بينه شفاف لا يشف، لأن الشفاف قد يكون شفافا بالفعل و قد يكون شفافا بالقوة، و ليس يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى استحالة فى نفسه، بل إلى استحالة «1» فى غيره أو إلى حركة فى غيره. و هذا مثل المسلك و المنفذ فإنه لا يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى أمر فى نفسه، بل إلى وجود السالك و النافذ بالفعل. و امّا «2» الاستحالة التى يحتاج إليها الشفاف بالقوة إلى أن يصير شفافا بالفعل، فهى استحالة الجسم الملون إلى الاستنارة و حصول لونه بالفعل.

و أما الحركة فأن يتحرك الجسم المضى‏ء إليه من غير استحالة فيه، فقد عرفت كنهه فيما سلف. فإذا حصل أحد هذين تأدى المرئى ايضا فصار هذا شفافا بالفعل لوجود غيره.

فحرى بنا أن نحقق أمر هذا المتأدى، إلا أن الواجب علينا أن نؤخر الأمر فيه إلى أن نذكر شكوكا تعرض فيما قلناه يسهل من حلّها تصحيح ما قلناه.

______________________________
(1)- اى بل يحتاج الى استحالة ....

(2)- فاما الاستحالة، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 134

الفصل الثانى فى مذاهب و شكوك فى امر النور و الشعاع. و فى ان النور ليس بجسم بل هو كيفية تحدث فيه‏

و من الناس من ظن أن النور الذى يشرق من المضى‏ء على الأجسام ليس كيفية تحدث فيها بل هو أجسام صغار تكون منفصلة من المضى‏ء فى الجهات ملازمة لأبعاد مفروضة عنه تنتقل بانتقاله فتقع على الأجسام فتستضى‏ء بها.

و من الناس من ظن أن هذا النور لا معنى له ألبتة و إنما هو ظهور من الملون.

بل من الناس من ظن أن الضوء فى الشمس ليس إلا شدة ظهور لونه، لكنه يغلب البصر.

فيجب علينا أولا أن نتأمل الحال فى هذه المذاهب. فنقول:

إنه لا يجوز أن يكون هذا النور و الشعاع الواقع على الأجسام من الشمس و النار أجساما «1» حاملة لهذه الكيفية المحسوسة، لأنها إما أن تكون‏

______________________________
(1)- قال الرازى: كونها انوارا اما ان يكون عين كونها اجساما و اما ان يكون مغايرا لها،

النفس من كتاب الشفاء، ص: 135

شفافة فلا يخلو إما أن يزول شفيفها بتراكمها كما تكون الأجزاء الصغار من البلور شفافة و يكون الركام منها غير شفاف، و إما أن لا يزول شفيفها.

فإن كانت شفافة لا يزول شفيفها لم تكن مضيئة، إذ قد فرغنا من الفرق بين الشفاف و بين المضى‏ء؛ و إن كانت تعود بالارتكام غير شفافة كان ارتكامها يستر ما تحتها، و كلما ازدادت ارتكاما ازدادت سترا، و الضوء كلما ازداد ارتكاما- لو كان له ارتكام- ازداد إظهارا للضوء «1». و كذلك إذا كانت هذه المضيئات فى الأصل مضيئات غير شفافة، كالنار و ما أشبهها. فبين إن الشعاع المظهر للألوان ليس بجسم.

ثم لا يجوز أن يكون جسما و يتحرك بالطبع إلى جهات مختلفة. ثم إن كانت هى أجساما تنفصل من المضى‏ء و تلقى المستنير، فإذا غمّت‏ «2» الكوة لم يخل إما أن يتفق لها أن تعدم أو تستحيل أو تسبق الغام‏ «3».

و القول بسبق الغام‏ «4» اعتساف‏ «5»، فإن ذلك أمر يكون دفعة. و العدم‏

______________________________
- و الاول باطل لان المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية و لذلك يعقل جسم مظلم و لا يعقل نور مظلم. و اما ان يقال بانها اجسام حاملة لتلك الكيفية ينفصل عن المضى‏ء، و تتصل بالمستضى‏ء فهذا ايضا باطل لان تلك الاجسام الموصوفة بتلك الكيفيات اما ان تكون محسوسة و اما ان لا تكون محسوسة فان لم تكن محسوسة لم يكن الضوء محسوسا، و ان كانت محسوسة ساترة لما تحتها يجب انّها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الامر بالعكس فان الضوء كلما ازداد قوة ازداد اظهارا (المباحث المشرقية ج 1 ص 410).

(1)- اظهارا للّون- خ.

(2)- الغمة: السترة.

(3)- اى الى الخروج.

(4)- فى تعليقة نسخة: اى سبق النور الى الخروج من الكوة على الغام.

(5)- الاعتساف: الاخذ على غير الطريق و بفارسى: بيراهه رفتن.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 136

أيضا بالستر من ذلك الجنس‏ «1»، فإنه كيف يحكم أن جسما إذا تخلل بين جسمين عدم أحدهما.

و أما الاستحالة فتوجب ما قلناه و هى أنها تستنير بمقابلة النير، فإذا غم استحالت. فما الحاجة إن كان الأمر على هذا «2» إلى مسافرة أجسام من جهة النير، و لم لا تكون هذه الأجسام‏ «3» تستحيل بنفسها بالمقابلة تلك الاستحالة.

و أما الحجة التى يتعلق بها أصحاب الشعاع فمن ذلك قولهم: إن الشعاع لا محالة ينحدر من عند الشمس و يتجه من عند النار، و هذه حركة، و لا حركة إلا للجسم. و أيضا فإن الشعاع ينتقل بانتقال المضى‏ء و الانتقال للجسم. و أيضا فإن الشعاع يلقى شيئا فينعكس عنه إلى غيره و الانعكاس حركة جسمانية لا محالة.

و هذه القياسات كلها فاسدة، و مقدماتها غير صحيحة، فإن قولنا: الشعاع ينحدر أو يخرج أو يدخل، ألفاظ مجازية ليس من ذلك شى‏ء، بل الشعاع يحدث فى المقابل دفعة. و لما كان يحدث من شى‏ء عال توهم كأنه ينزل، و أن يكون على سبيل الحدوث فى ظاهر الحال أولى من النزول، إذ لا يرى ألبتة فى الطريق و لا يحتاج إلى زمان محسوس. فلا يخلو: إما أن يكون البرهان دل على انحداره، و أنى لهم بذلك. و إما أن يكون الحس هو الدال عليه، و عليه معولهم.

و كيف يدل الحس على حركة متحرك لا يحس بزمانه و لا يحس فى‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اى من جنس الاعتساف.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى حدوث الكيفية بمقابلة المستنير.

(3)- اى الاجسام المستنيرة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 137

وسط المسافة.

و أما حديث انتقال الشعاع، فليس هو بأكثر من انتقال الظل. فيجب أن يكون الظل أيضا جسما ينتقل، و ليس و لا واحد منهما بانتقال، بل بطلان و تجدد. فإنه إذا تجددت الموازاة تجدّد ذلك، فإن ارتكب مرتكب أن الظل أيضا ينتقل فليس يخلو إما أن ينتقل على النور و إما أن يكون النور ينتقل أمامه و خلفه، فإن كان ينتقل على النور و يغطى النور، فلنفرض النور المغشى لجميع الأرض لا انتقال له و إنما يغطيه الظل، فيكون دعوى انتقال النور قد فسد. و إن كان النور ينتقل أمام الظلمة حتى تنتقل الظلمة فلنفرض المضى‏ء واقفا، و معلوم أنه إذا كان واقفا وقف معه النور، و هذا يدعو إلى‏ «1» أن تكون حركة ذى الظل سببا لطرد النور، و يمكن عدة منهم أن يطردوا النور أيضا من الجهات المختلفة و المضى‏ء واقف فيظلم الموضع حينئذ، أو يكون النور إذا هرب من الظل ظفر «2» من خلف‏ «3» فعاد إلى حيث فارقه الظل، و هذه كلها خرافات، بل لا الظل يفسخ النور و لا هو و لا النور بجسم، و إن كان لهما انتقال فذلك بالتجدد لا أن شيئا واحدا بعينه ينتقل.

و انعكاس الشعاع أيضا لفظ مجازى، فإن من شأن الجسم إذا استنار و كان صقيلا أن يستنير عنه أيضا جسم يحاذيه من غير انتقال ألبتة.

و أما المذهب الآخر و هو المذهب الذى لا يرى لهذا النور معنى، بل‏

______________________________
(1)- يتسدعى له، نسخة.

(2)- اى وثب.

(3)- او يكون للنور اذا هرب من الظل ظفر من خلف، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 138

يجعله اللون نفسه‏ «1» إذا ظهر ظهورا بينا، فإن لأصحابه أن يقولوا: إن الذى يغرّ «2» فى هذا الباب‏ «3» ما يتخيل مع اللون من بريق الملونات و ليس ذلك البريق شيئا فى المرئى نفسه، بل أمر يعرض للبصر بالمقايسة بين ما هو أقل ضوءا و ما هو أشد ضوءا. و شدة ظهور اللون لشدة تأثير الشى‏ء المضى‏ء، فإن الإنارة التى من السراج أقل قليلا من الإنارة التى من القمر، و الإنارة التى من القمر الذى هو «4» الفخت أقل قليلا من الإنارة التى فى البيوت المستورة نهارا عن الشمس، بل عن المواضع ذوات الظل التى ليس فيها شعاع الشمس. و ذلك لأن الفخت يبطل فى ظل البيوت إذا طلعت الشمس فيتلاشى، و يكون ما يبصر فيها أقوى مما يبصر فى الفخت، و الناس لا يرون ما كان فى الظل و إن كان منيرا براقية و شعاعية ألبتة، و يرون أن نور السراج يفعل فى الأجسام بريقا، و نور القمر فى الليل يفعل ذلك، و ذلك بالقياس إلى الظلمة الليلية. فإن الظلمة الليلية تخيل ذلك القدر أنه شعاع برّاق، و ليس ذلك إلا ظهورا مّا من اللون. و الذى للشمس أقوى و أشد تأثيرا. فليرنا مر من مثبتى النور شيئا سوى اللون أن على الحائط الأبيض شيئا غير البياض و غير ظهوره يسمى ذلك الشى‏ء شعاعا. فإن قايس مقايس ذلك بالظل على الحائط، فذلك الظل بسبب ظلمة مّا يخفى بها من البياض ما «5» كان يجب أن يظهر. و كأنه خلط من‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: فصاحب هذا المذهب ينكر الضوء، بل اللون هو الضوء عنده و لا يكون غير اللون شى‏ء يسمى بالضوء.

(2)- فريب مى‏دهد.

(3)- من ان اللون غير الضوء.

(4)- التى هى، نسخة. و الفخت هو ضوء القمر.

(5)- فاعل يخفى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 139

الظلمة التى لا معنى لها إلا خفاء أو زيادة خفاء. كما أن النور لا معنى له إلا ظهور أو زيادة ظهور.

و من هؤلاء قوم‏ «1» يرون أن الشمس ليس ضوؤها إلا شدة ظهور لونها، و يرون أن اللون إذا بهر البصر لشدة ظهوره رؤى بريق و شعاع يخفى اللون لعجز البصر لا لخفائه فى نفسه، و كأنه يفتر البصر عن إدراك الجلى، فإذا انكسر ذلك رؤى لون.

قالوا: و الحيوانات التى تلمع فى الليل إذا لمعت لم يحس لونها ألبتة و إذا كان نهارا كان لها لون ظاهر و لم يكن فيها لمعان، فذلك اللمعان هو بسبب شدة ظهور ألوانها لا غير حتى رؤى‏ «2» فى الظلمة، و يكون فى غاية القوة حين‏ «3» يظهر فى الظلمة فيبهر البصر إذا كانت الظلمة أضعفته، فإذا أشرقت الشمس غلب ظهورها ظهور ذلك فعاد لونها. و البصر لم يتحير له‏ «4»، لأن البصر قد اعتاد لقاء الظاهرات و اشتد بطلوع الشمس.

و منهم من قال: ليس الأمر على هذه الصفة، بل الضوء شى‏ء و اللون شى‏ء. لكنه من شأن الضوء إذا غلب على البصر أن يسترلون ما فيه.

و الشمس أيضا لها لون، و مع اللون ضوء فيستر الضوء اللون باللمعان كما

______________________________
(1)- قال الرازى: ثم من هؤلاء من بالغ حتى قال ضوء الشمس ليس الا ظهور التام للونها و لذلك يبهر البصر فحينئذ يخفى اللون لعجز البصر لا لخفائه فى نفسه كما انا نحسّ بلمعان اللوامع و لا نحسّ بالوانها لان الحس ضعيفة فى الليل يبهره ظهور تلك الالوان فلا جرم لا يحس بها ثم اذا قوى فى النهار بنور الشمس لم يصر مغلوبا لظهور تلك الالوان فلا جرم تحسّ بهما (المباحث المشرقية ج 1 ص 412).

(2)- اى اللمعان.

(3)- حتى، نسخة.

(4)- بل ادرك لونه. و فى نسخة: لم ينجر له.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 140

للقمر، و كما للسنجة «1» السوداء الصقيلة إذا لمعت رؤيت مضيئة و لم يرسوادها.

قالوا: و هذا غير النور، فإن النور هو ظهور اللون لا غير، و الضوء ليس ظهور اللون بل شى‏ء آخر و قد يخفى اللون. و إن هذه اللوامع فى الليل يظهر نورها فى الظلمة فيخفى لونها، و إذا ظهرت الشمس غلب نورها «2» و خفى و ظهر لونها. فبالحرى أن نتأمل هذا المذهب مع فروعه المذكورة.

______________________________
(1)- السنج بالسين المهملة فالنون و فى آخره جيم معرّب سنگ و المراد به حجر الميزان.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى غلب نور الشمس نور اللوامع و خفى نور اللوامع و ظهر لون اللوامع.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 141

الفصل الثالث فى تمام مناقضة المذاهب المبطلة لأن يكون النور شيئا غير اللون الظاهر «1» و كلام فى الشفاف و اللامع‏

فنقول: إن ظهور اللون يفهم منه فى هذا الموضع معنيان:

أحدهما صيرورة اللون بالفعل.

و الآخر ظهور لون موجود بنفسه بالفعل‏ «2» للعين.

______________________________
(1)- قال صدر المتألهين فى الاسفار ص 30 ج 2 ط 1- ص 93 ج 4 ط 2: وقع الاستدلال على مغايرة النور و اللون بوجوه: الاول ان ظهور اللون اشارة الى تجدد امور فهو اما اللون او صفة نسبية او صفة غير نسبية. و الاول باطل لان النور اما ان يجعل عبارة عن تجدد اللون او اللون المتجدد و الاول يقتضى ان يكون مستنيرا الّا فى آن تجدده. و الثانى يوجب ان يكون الضوء نفس اللون و لا يبقى لقولهم الضوء هو ظهور اللون معنى و ان جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات الملون و سموّه بالظهور فذلك نزاع لفظى.

و ان زعموا ان ذلك الظهور تجدد حال نسبيته فهذا باطل لان الضوء امر غير نسبى فلا يمكن تفسيره بالحالة النسبية». انتهى و هذه بعينه عبارة الرازى فى المباحث المشرقية ص 412 ج 1.

«الثانى: ان البياض قد يكون مضيئا و مشرقا و كذلك السواد فان الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كل واحد منهما مضيئا نفس ذاته لزم ان يكون الضوء بعضه مضادا للبعض و ذلك محال فان الضوء لا يقابله الا الظلمة.»

(2)- متعلق بظهور.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 142

و المعنى الأول يدل على حدوث اللون أو وجوده‏ «1» لونا.

و المعنى الثانى يدل على حدوث نسبة اللون‏ «2» أو وجود تلك النسبة.

و هذا الوجه الثانى ظاهر الفساد. فإن ظنّ أن النور نفس نسبة اللون إلى البصر، فيجب أن يكون النور نسبة أو حدوث نسبة و لا قوام و لا وجود له‏ «3» فى نفسه‏ «4». و إن عنى به أنه مصير اللون بحيث لو كان بصرا لرآه أو كونه كذلك، فإما أن يكون هذا نفس اللون أو معنى يحدث إذا زال معنى من خارج كزوال ستر أو غيره. فإن كان نفس اللون كان هذا هو الوجه الأول، و إن كان حالا تعرض له به يظهر فيكون الضوء غير اللون‏ «5».

و أما المعنى الأول فلا يخلو أيضا، إما أن يعنى بالظهور خروج من القوة إلى الفعل فلا يكون الشى‏ء مستنيرا بعد ذلك الآن الواحد «6»، و إما أن يعنى به نفس اللون، فيكون قوله الظهور لا معنى له أيضا، بل يجب أن يقال: إن الاستنارة هو اللون، أو يعنى به حال تقارن اللون إما دائما و إما وقتا مّا، حتى يكون اللون شيئا يعرض له النور تارة و تعرض له الظلمة أخرى. و اللون فى الحالين موجود بالفعل، فإن كان نفس نسبته إلى ما يظهر له عاد إلى المذهب الآخر، و إن كان شيئا آخر عاد إلى‏

______________________________
(1)- يعنى الجعل المركب بان يكون قبل الظهور موجودا لكنه غير اللون.

(2)- اى الى البصر.

(3)- و لا قرار وجود له، نسخة.

(4)- فى الشوارق: لانه يوجب ان يكون النور نسبة او حدوث نسبة و لا قوام وجود له فى نفسه.

(5)- فى تعليقة نسخة: و الحال انهم قالوا ان الضوء ليس شيئا عليحدة بل الضوء نفس اللون الظاهر.

(6)- فى تعليقة نسخة: لانه صار بالفعل فلا يصير ثانيا بالفعل.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 143

ذلك أيضا «1».

فإن قررنا الأمر على أن الضوء و إن كان نفس اللون فيكون كأن الضوء هو اللون نفسه إذا كان بالفعل‏ «2»، فلا يخلو إما أن يكون الضوء مقولا على كل لون بالفعل، أو يكون البياض وحده ضوءا. فيكون السواد ظلمة. فيستحيل أن يكون الجسم الأسود مشرقا بالضوء، لكن هذا ليس بمستحيل، فإن الأسود يشرق و ينوّر غيره فليس الضوء هو البياض وحده، و إن لم يكن الضوء هو البياض وحده، بل كل لون كان بعض ما هو ضوء يضاد بعض ما هو ضوء، و لكن الضوء لا يقابله إلا الظلمة، هذا خلف.

و أيضا فإن المعنى الذى به الأسود مضى‏ء غير سواده لا محالة، و كذلك هو غير البياض، و اللون أعنى طبيعة جنسه الذى فى السواد هو نفس السواد، و اللون الذى فى البياض هو نفس البياض لا عارضا له، فليس اللون المطلق الجنسى هو الضوء.

و أيضا فإن الضوء قد يستنير به الشفاف، كالماء و البلّور إذا كان فى ظلمة فوقع عليه الضوء وحده‏ «3» دل عليه و أشف، فبهذا هو ضوء و ليس بلون.

و أيضا فإن الشى‏ء يكون مضيئا و ملوّنا، فتارة يشرق منه على شى‏ء آخر الضوء وحده كما يشرق على ماء أو حائط، و تارة يشرق منه إذا كان قويّا الضوء مع اللون جميعا حتى يحمّر الماء أو الحائط الذى يشرق عليه أو يصفّره. فلو كان الضوء ظهور اللون و كانت الظلمة خفاء اللون، لكان‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: و هو كون الضوء غير اللون و هو احد شقوق المذهب الاخر.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى اللون نفس الضوء لا خروج اللون من القوة الى الفعل.

(3)- بلالون.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 144

تأثير اللون الأحمر فيما يقابله حمرة لا بريقا ساذجا، فإن كان هذا ظهور لون آخر «1»، فلم إذا اشتد فعل فيما يقابله إخفاء لونه بأن ينتقل لون هذا القوىّ اللون إليه‏ «2».

و على أن مذهب هذا الإنسان يوجب أن الخضرة أو الحمرة و غير ذلك مختلطة من ظهورات بياضية و خفاءات سوادية. فيلزم من ذلك أنه إذا كان جسم ظاهر اللون بشعاع وقع عليه ثم انعكس على المعنى الذى تفهمه ضوء جسم آخر ذى لون أن لا يقع لونه عليه، لأنه لا يخلو إما أن يكون هذا المستنير المنير لغيره الأجزاء الظاهرة اللون وحدها أو مع غيرها، فإن كانت وحدها فهى إنما توجب ظهور اللون فى تلك بأن تبيّض لإخفاء اللون بأن تحمّر أو تخضّر. و إن كانت مع غيرها حتى كانت الظاهرة اللون و الخفية اللون تفعلان جميعا هذا خفاء و ذلك ظهورا. فيكون لخفاء اللون تأثير فى المقابل، لكن خفاء اللون ليس له هذا التأثير، ألا ترى أنه إذا كان خفاء لون مجرد لم يؤثر فيما يقابله كما يؤثر ظهور اللون الذى يقولون به لو كان مفردا.

فإن قالوا: إن اللون ظهور الحمرة أيضا و الخضرة و غير ذلك من حيث‏

______________________________
(1)- قوله: «فان كان هذا ظهور لون آخر» كلمة هذا اشارة الى قوله: «و تارة يشرق منه اذا كان قويا الضوء مع اللون جميعا» فلا تغفل.

(2)- اى الى المقابل. قال الرازى: الثالث ان اللون يوجد من غير الضوء فان السواد قد لا يكون مضيئا و كذلك ساير الالوان. و كذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء و البلور اذا كانا فى ظلمة و وقع الضوء عليه وحده فانه حينئذ يرى ضوئه فذلك ضوء و ليس بلون و اذا وجد كل منهما دون الاخر فلابد من التغاير. قال شارح المواقف الضوء الذى فى البياض يماثل فى الماهية الضوء الذى فى السواد كما يشهد به الحس. و هما لا يتماثلان فى الحقيقة قطعا فلا يكون ضوء كل منهما عينه بل امر زايد عليه.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 145

هو حمرة و خضرة و إن الخضرة إذا اشتد ظهورها فعلت مثل نفسها ففعلت خضرة و حمرة. فيقال: ما باله إذا كان قليل الظهور أظهر اللون‏ «1» فى الذى يقابله على ما هو عليه على المعنى الذى هو ضوء مجرد فقط، و فعل مثل ما يفعله مضى‏ء لو لم يكن له لون، فإذا اشتد ظهوره أبطله أو أخفاه بلون نفسه، فكان يجب أول الأمر أن يكون إنما يفعل فيه لونا من لونه قليلا، ثم إذا اشتد فعل فيه كثيرا، فكان كل فعل يفعله إنما هو إخفاء لون ذلك‏ «2» بمزجه بلونه و ليس كذلك، بل يظهر أول شى‏ء لونه‏ «3» إظهارا شديدا. و إنما يظهر فيه اللون الذى فى استعداده مالو حضر مضى‏ء لا خضرة و لا حمرة فى فعله، ثم يعود بعد ذلك إذا صار أقوى ظهورا آخذا فى إبطال لونه و إخفائه و إلباسه لونا آخر ليس فى جبلّته و لا طبيعته.

فيكون إذن أحد الفعلين عن شى‏ء غير الآخر، فيكون مصدر أحد الفعلين‏ «4» عن الضوء الذى لو كان الجسم لا لون له و له ضوء لكان يفعل ذلك مثل بلورة مضيئة، و الفعل الآخر يكون من لونه إذا اشتد ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار متعديا.

فإنا و إن كنا نقول: إن الضوء ليس هو ظهور اللون، فلا نمنع أن يكون الضوء سببا لظهور اللون و سببا لنقله. و نقول: إن الضوء جزء من جملة هذا المرئى الذى نسميه لونا و هو شى‏ء إذا خالط اللون بالقوة «5» حدث‏

______________________________
(1)- اى اظهر لون مقابله.

(2 و 3)- اى المقابل.

(4)- فى تعليقة نسخة: احدهما اظهار اللون الذى فى استعداده و الاخر ابطال لونه و اخفائه و الباسه لونا آخر ليس فى جبلته و لا فى طبيعته اذا صار اقوى.

(5)- اى الاستعداد المخصوص.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 146

منهما الشى‏ء الذى هو اللون بالفعل بالامتزاح، فإن لم يكن‏ «1» ذلك الاستعداد كان إنارة و بريقا مجردا «2». فالضوء كجزء من الشى‏ء الذى هو اللون و مزاج فيه، كما أن البياض و السواد لهما اختلاط مّا تحدث منه تلك الألوان المتوسطة.

و أما قول القائل: إن الضوء و اللمعان أيضا ليس إلا ظهور اللون، ثم قوله فى الأشياء اللامعة فى الليل ما قاله، فيبطل بأن السراج و القمر كثيرا ما يبطلان لمعان ذلك و يظهران ألوانها «3». فيجب أن يكون نور السراج أشد ظهور لون‏ «4»، فيجب أن يكون أيضا ما يصير بالسراج ظاهر اللون لا يرى له فى الظلمة لونه. و ليس الأمر كذلك، فإن اللامعات يرى لونها أيضا «5» بالليل كما يرى بريقها. فليس ما قالوه بحق.

و أما القائل بأن للشمس و الكواكب ألوانا و أن الضوء يخفى لونها، فيشبه أن يكون الحق أن بعض الأشياء يكون له فى ذاته لون فإذا أضاء اشتدت إضاءته حتى يبهر البصر فلم يميز اللون، و منه ما يكون له مكان‏

______________________________
(1)- تامة اى لم يوجد.

(2)- بلالون.

(3)- اى الوان الاشياء اللامعة.

(4)- فى تعليقة نسخة: من لمعان الحيوانات اللامعة بالليل.

(5)- فى تعليقة نسخة: قوله: «فان اللامعات يرى ايضا لونها» اى يرى بنور السراج يعنى الاشياء المستضيئة بضوء السراج يرى لونها ايضا كما يرى بريقها بالليل حين كون الرائى فى الموضع المظلم بظلمة الليل فلو كان شدة الضوء تمنع البصر فى الظلمة لا ضعاف الظلمة اياه عن ادراك اللون لوجب ان لا يرى لتلك الاشياء المستضيئة بضوء السراج حين كون الرائى فى الظلمة لون لانّ الضوء الواقع من السراج على تلك الاشياء اشد ظهورا للون من لمعان الحيوانات اللامعة بالليل فكما يمنع ذلك اللمعان لشدة ظهوره البصر عن ادراك لون الحيوانات اللامعة يجب ان يمنع ما هو اشد منه اعنى ضوء السراج.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 147

اللون الضوء و هو الشى‏ء الذى يكون الضوء له طبيعيا لازما غير مستفاد، و بعض الأشياء مختلط الجوهر من ذلك الأمر، إما اختلاط تركيب أجزاء مضيئة و أجزاء ذوات ألوان كالنار، و إما اختلاط امتزاج الكيفيات كما للمريخ و لزحل. و ليس يمكننى أن أحكم فى أمر الشمس الأن بشى‏ء.

فقد عرفنا حال الضوء و حال النور و حال اللون و حال الإشفاف. فالضوء هو كيفية هى كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف، و هو أيضا كيفية مّا للمبصر بذاته لا لعلّة غيره. و لا شك أن المبصر بذاته أيضا يحجب عن إبصار ما وراءه. و النور كيفية يستفيدها الجسم الغير الشفاف من المضى‏ء فيكمل بها الشفاف شفافا بالفعل. و اللون كيفية تكمل بالضوء من شأنها أن تصيّر الجسم مانعا لفعل المضى‏ء فيما يتوسط ذلك الجسم بينه و بين المضى‏ء. فالأجسام مضيئة و ملونة و شفافة.

و من الناس من قال: إن من الأجسام ما يرى بكيفية فى ذاتها. و منها ما يرى بكيفية فى غيرها، و جعل القسم الأخير هو الشفاف. و أما القسم الأول فقد جعله أولا قسمين: أحدهما ما يرى فى الشفاف لذاته‏ «1»

______________________________
(1)- قوله: «لذاته» متعلق بقوله: «يرى». و ضمير «لذاته» راجع الى «ما». و «لحضوره» عطف على لذاته و هو ايضا متعلق بفعل «يرى». و ضميره راجع الى «ما». و «المشف» فى الموضعين هو الشفاف القسم الاخير، و هو واسطة عامة لكى تصير الاجسام ملوّنة.

ثم ما يشترط فى مقابل لذاته و هو قسمان: احدهما ما يشترط فى رؤيته الضوء. و ثانيهما ما يشترط فى رؤيته الظلمة. و قوله فى الموضعين «مع شرط المشف» يعنى مع وجود الشفاف الذى هو واسطة عامة لرؤية الاجسام المرئية سواء كان فى الموضعين او غيرهما، كما قال فى القسم الاول احدهما ما يرى فى الشفاف يعنى فى الهوى مثلا و هكذا المراد من قوله مع شرط المشف فى الموضعين.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 148

و لحضوره و هو المضى‏ء، و ثانيهما ماليس كذلك. ثم قسم هذا بقسمين:

أحدهما ما يشترط فى رؤيته الضوء مع شرط المشف و هو الملون، و الثانى ما يشترط فى رؤيته الظلمة مع شرط المشف كالحيوانات التى تلمع فى الليل من حيث تلمع كاليراعة «1»، و بعض الخشب المتعين‏ «2» و بعض الدود. و قد رأيت أنا بيضة دجاجة بهذه الصفة، و جرادة ميتة بهذه الصفة، و صرارة «3» ميتة بهذه الصفة.

و ليست هذه القسمة «4» بمرضية و لا صحيحة، فإن المضى‏ء يرى لذاته فى الظلمة و فى الضوء جميعا. فإن اتفق أن كان الرائى فى الضوء الذى يفعله‏ «5» رؤى، و إن اتفق أن لم يكن فيه رؤى أيضا، كالنار يراها الإنسان فى الضوء سواء كان ضوؤها أو ضوء غيرها و يراها فى الظلمة.

و أما الشمس فإنما ليس يمكننا أن نراها فى الظلمة بسبب أنها حيث تكون مقابلة لبصر الرائى تكون قد ملأت العالم ضوءا و لم تترك مكانا مظلما. و أما الكواكب فإنها إنما ترى فى الظلمة، لأن ضوءها يقصر عن ضوء الشمس فلا تضى‏ء الأشياء و لا تنورها، بل لا يمتنع أن توجد فقد يمكن أن تكون و معها ظلمة فترى فى الظلمة لا لأن الظلمة سبب ان ترى‏

______________________________
(1)- اليراعة ذباب يطير بالليل كانه نار (كرمك شبتاب).

(2)- المتعفن، نسخة.

(3)- الصرّ عصفور او طائر فى قده اصفر اللون، سمى به لصوته من صرر اذا صاح.

مجمع البحرين ج 3 ص 365.

(4)- فى تعليقة نسخة: اى المضيئات طبقة و الملونات طبقة و اللوامع التى تلمع فى الليل طبقة. بل القسمة المرضية هى ان اللوامع داخلة فى المضيئات.

(5)- اى يفعل المضى‏ء الضوء رؤى المضى‏ء و ان اتفق ان لم يكن الرائى فى المضى‏ء رؤى المضى‏ء ايضا.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 149

هى بالذات، بل يجب أن يعلم أن بعض الأنوار يغلب بعضا حتى لا يرى، كما أن ضوء الشمس يغلب ضوء النار الضعيفة و ضوء الكواكب و لا ترى مضيئة عند ضوء الشمس فلا ترى، لا لأجل الحاجة فى رؤيتها إلى الظلمة، بل للحاجة إلى أن تكون فى أنفسها مضيئة غير مظلمة بالقياس إلى أبصارنا. فإذا كانت الشمس غائبة ظهرت و رؤيت، لأنها صارت مضيئة بالقياس إلى أبصارنا و بحال فى أبصارنا.

و ربما كان حكم النار و القمر عند ضوء مّا هو أضعف منهما هذا الحكم بعينه. و يجب فى ذلك الضوء «1» أن لا يكون موجودا بالقياس إلينا عند ظهور نار أو قمر، فيلزم أن تكون ظلمة حتى يظهرا، و يلزم أن لا يكون باهر حتى يرى‏ «2» و يتمكن البصر من إدراكه. فأنت تعلم‏ «3» أن الهباء الذى فى الجو ليس من جنس ما لا يرى المستنير منه إلا فى الظلمة، لكن إن كان الإنسان فى الظلمة و قد وقع على هذه الهباءات شعاع الشمس أمكن أن ترى تلك الهباءات‏ «4»، فإن كان الإنسان فى شعاع لم يمكن، و ذلك‏

______________________________
(1)- اى الضوء الضعيف.

(2)- اى ما كان ضوؤه ضعيفا.

(3)- بيان لقوله او يلزم.

(4)- فى تعليقة نسخة: قالوا البياض انما يتخيّل من مخالطة الهواء المضى‏ء للاجسام الشفافة المتصغرة جدا كما فى الثلج و زبد الماء فانهما مركبان من اجزاء مائية متصغرة جدا و ليس بينها تفاعل يؤدى الى مزاج يترتب عليه لون بل تداخل تلك الاجزاء هواء و اشعة فائضة من أجرام العلوية و تتعاكس تلك الأشعة من سطوح بعضها الى بعض و يتراكم الاشعة بعضها على بعض و الشعاع المنعكس يشبه البياض فان الشمس اذا اشرقت على حوض من الماء و انعكس شعاعها الى جدار غير مستنير يرى ذلك اللون كانه لون بياض فاذا راى الحس الشعاع المتراكم على تلك الاجزاء يغلط لعدم الفرق بين الشى‏ء و شبهه فيحكم بانه بياض.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 150

لأمر فى بصر الإنسان لا لأمر فى ضوء الهباءات، فإن بصر الإنسان إذا كان مغلوبا بضوء كثير لم يرها، و إن لم يكن مغلوبا رآها. و كذلك هذه اللوامع فى الليل ليست جنسا آخر، بل هى المضيئات و يخالفها لا فى جملة الطبع، بل فى الضعف‏ «1»، و لو كانت هذه مخالفة للمضيئات فى جملة الطبع، فالكواكب كذلك.

و لا يتحصل لهذه القسمة محصول صادق، إلا أن يقال: إن بعض المضيئات باهرة لبعض و بعضها مبهورة لبعض. و معنى ذلك البهر ليس تأثيرا منها فيها، بل فى إبصارنا، كما أن بعض الصلابات أصلب و بعضها أضعف فلا يجب إذن أن يقال: إن اللواتى تلمع فى الليل نوع أو جنس مفرد خارج عن الملونات و المضيئات، بل هى من جملة المضيئات التى يبهرها ما فوقها فى الإضاءة فلا ترى معها لعجز أبصارنا حينئذ، بل إنما تقوّى عليها أبصارنا عند فقدان سلطان الباهرة لأبصارنا من المضيئات.

فإن ذهبوا إلى هذا فالقسمة جيدة، إلا أنهم ليسوا يذهبون إلى هذا بل يوهمون أن المضيئات طبقة، و الملوّنات طبقة، و هذه‏ «2» طبقة.

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: بحيث لا يرى فى الضوء القوى.

(2)- اى اللوامع فى الليل.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 151

الفصل الرابع فى تأمل مذاهب قيلت فى الالوان و حدوثها «1»

و مما يجب أن نفرغ عنه تأمل مذاهب اخر فى أمر الألوان و الضوء، ما لم نفرغ عنه لم يكن سبيل إلى أن ندل على صحة ما ذهبنا إليه بطريق القسمة.

فنقول: إن من المذاهب فى أمر الألوان مذهب من يرى أن اللون الأبيض‏ «2» أنما هو تكونه من الهواء و الضوء، و أن الأسود تكوّنه من ضد

______________________________
(1)- راجع ص 28 ج 2 ط 1- ص 85 ج 4 ط 2 من الاسفار. و فى شرح المواقف: قال بعض من القدماء لا وجود للّون اصلا بل كلها متخيّلة.

(2)- قوله: «مذهب من يرى ان اللون الابيض» هذا المذهب يرى ان اللون لا حقيقة له اصلا و الالوان كلها متخيلة، و ذكر امثلة مما ليس بينها تفاعل اصلا كزبد الماء و الثلج سيما المسحوقات من البلور و الزجاج ردا لقول من يقول كالشيخ و الفارابى و من يحذو حذوهما: ان الالوان بالفعل انما يحدث بسبب النور و الاستعدادات الحاصلة فى الاجسام من تفاعلها و بالجملة ان الالوان موجودات لا ان كلها خيالات. ثم ان الشيخ و من سلك سبيله لا ينكرون حدوث الالوان الدفعية المتخيلة كالمسحوقات المشفة و كقوس قزح. قال صدر المتألهين فى الفصل الاول من الباب الثالث من الجواهر و الاعراض من الاسفار (28 ج 2 ط 1- ص 85 ج 4 ط 2): ذهب بعض الناس الى ان لا حقيقة لللون اصلا بل جميع الالوان من باب الخيالات كما فى قوس قزح و الهالة

النفس من كتاب الشفاء، ص: 152

ذلك، و أن حدوث اللون الأبيض هو من الشفاف إذا انقسم إلى أجزاء صغار ثم ارتكم فإنه يعرض هناك أن تقبل سطوحها النور فتضى‏ء، و لأنها شفافة يؤدى بعضها إضاءة بعض. و لأنها صغار يكون ذلك فيها كالمتصل، و لأن المشف لا يرى إلا بلون غيره، فإن شفيفها لا يرى، لكن العكوس عن السطوح المتراكمة منها ترى متصلة و يرى الجميع أبيض.

قالوا: و لهذا ما كان زبد الماء أبيض بمخالطة الهواء، و الثلج أيضا أبيض لأنه أجزاء صغار جامدة شفافة خالطها الهواء و نفذ فيها الضوء، و البلّور المسحوق و الزجاج المسحوق لا يشف‏ «1»، و أىّ هذه اتصلت سطوحها اتصالا لا يبطل به انفراد كل شخص منها بنفسه عادت شفافة، و الشفاف الكبير الحجم إذا عرض فيه شق ادّى‏ «2» ذلك الموضع منه إلى البياض. قالوا: فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم و عمقه الضوء و الإشفاف معا.

و منهم من جعل الماء سببا للسواد. قال: و لذلك إذا بلّت هذه الأشياء مالت إلى السواد. قال: و ذلك لأن الماء يخرج الهواء و لا يشف إشفافه‏

 

النفس من كتاب الشفاء       152     الفصل الرابع فى تأمل مذاهب قيلت فى الالوان و حدوثها ..... ص : 151

______________________________
- و غيرهما فان البياض انما يتخيل من مخالطة الهواء للاجسام الشفافة المتصغرة جدا لكثرة السطوح المتعاكسة عنها النور بعضها من بعض كما فى الثلج. الى ان قال: و المحققون على انها كيفيات متحققة لا متخيلة و ان كانت متخيلة فى بعض المواضع ايضا و ظهورها فى الصور المذكورة بتلك الاسباب لا ينافى تحققها و حدوثها باسباب اخرى التى هى باستحالات المواد.

(1)- «و البلور المسحوق و الزجاج المسحوق لا يشفان بل يريان على لون مع ان سطوحهما عند الاجتماع لم ينفعل بعضها عن بعض حتى يقال حصل هناك لون» (المباحث المشرقية).

(2)- رؤى، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 153

و لا ينفذ فيه الضوء إلى السطح فتبقى مظلمة. و منهم من جعل السواد لونا بالحقيقة و أصل الألوان. قال: و لذلك لا ينسلخ، و أما البياض فعارض للمشف بتراكمه و لذلك يمكن أن يصبغ. و لا يبعد أن يكون المذهب الأول فى السواد يؤدى إلى هذا المذهب أيضا، إذ جعل السواد حقيقة ما لا يشف من جهة ما لا يشف و هو حقيقة اللون المنعكس عنه.

و قال قوم: إن الأسطقسات كلها مشفة، و إنها إذا تركبت حدث منها البياض على الصفة المذكورة، و بأن يكون مايلى البصر سطوحا مسطحة من المشف فينفذ فيها البصر، و أن السواد يعرض إذا كان مايلى البصر من الجسم زوايا تمنع الإشفاف للأطراف التى تقع فيها فهى و إن أضاءت‏ «1» فبما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا فتظلم.

و الذى يصعب من هذه الجملة فصل القول فيه تولد البياض من الضوء، و كون السواد لونا حقيقيا. فإنا نعرف أن المشفات تبيضّ عند السحق و الخلط بالهواء، و كذلك اللخالخ‏ «2»، و الناطف‏ «3» يبيض لاجتماع احتقان الهواء فيه مع الإشفاف الذى فى طبعه، و نعلم أن السواد لا يقبل لونا ألبتة كما يقبل البياض، فكأن البياض لإشفافه موضوع و معرى مستعد، و المعرى عن الكيفيات قابل لها من غير حاجة إلى إزالة شى‏ء،

______________________________
(1)- اضائه: روشن شدن و روشن كردن. لازم متعد. (منتهى الارب) فما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا يظلم- نسخة.

(2)- لخلخه: كف صابون و چوبه كه از دست زدن بهم رسد. و فى بحر الجواهر للهروى:

الخلخة بالفتح هى اشياء مركبة يشم بها. و قيل ظرف يصبّ فيه من مياه الخلاف و الوردة و الكزبرة و امثال ذلك.

(3)- الناطف هو الذى يقال له بالفارسية «قبيده» حلوائى است معروف.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 154

و المشغول بواحدة لا يقبل غيرها إلا بزوالها. فهؤلاء قوم يجعلون مخرج الألوان من الإشفاف و غير الإشفاف.

و بإزاء هولاء قوم آخرون لا يقولون بالإشفاف ألبتة، و يرون أن الأجسام كلها ملوّنة، و أنه لا يجوز أن يوجد جسم إلا و له لون. و لكن الثقب و المنافذ الخالية إذا كثرت فى الأجسام نفذ فيها الشعاع الخارج من المضى‏ء إلى الجهة الأخرى، و نفذ أيضا شعاع البصر فرؤى ماوراءها.

فأما المذهب الأول فإذا نقول: لعمرى إنه قد يظهر من دق المشف و خلطه بالهواء لون أبيض‏ «1»، و لكن إنما يكون ذلك لا فى جسم متصل‏

______________________________
(1)- قال صاحب الشوارق: قال الشيخ ما حاصله انه لا شك فى ان اختلاط الهواء بالمشف سبب لظهور البياض و لكنا ندعى ان البياض قد يحدث من غير هذا الوجه كما فى الجصّ فانه يبيضّ بالطبخ فى النار و قد يبيضّ بالسحق و الدق مع ان تفرق الاجزاء و مداخلة الهواء فيه اكثر و كما فى البيض المسلوق فانه يصير اشد بياضا مع ان النار لم تحدث فيه تخلخلا و هوائية بل اخرجت الهوائية عنه و لو فرض ان هوائية داخلت رطوبته فبيّضته لكان خثورة لا انعقاد و كما فى الدواء الذى يتخذه اهل الحيلة و يسمونه لبن العذراء فانه يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه ثم صفّى حتى بقى الخل فى غاية الاشفاف و البياض و خلط بماء طبخ فيه القليا و صفى غاية التصفية و يبالغ فيها ثم تخلط الماء ان فينعقد المنحل الشفاف من المرداسنج و يصير فى غاية البياض كاللبن الرائب ثم يجف و ما ذلك لحدوث و تفرق فى شفاف و نفوذ هواء فيه فانه كان متفرقا منحلا فى الخل و لا لتقارب اجزاء متفرقة و انعكاس ضوء البعض الى البعض لان حدة ماء القليا بالتفريق اولى. و اعلم ان كون الالوان ذوات حقائق فى الخارج امر ضرورى و ليس الغرض من هذه الوجوه الا التنبيه عليه و ازالة وهم من توهم غيره فلا يرد عليها ما اورده الامام فى المباحث المشرقية من ان لقائل ان يقول على هذه الوجوه جاز ان يكون لتخيل البياض سبب آخر لا نعلمه اذ المفروض انه لا اعتماد على الحس و الا لوجب الحكم بكون الثلج ابيض حقيقة هذا». شوارق الالهام ج 2 ص 403.

و قال الرازى فى المباحث ص 407 ج 1: و اعلم ان الشيخ ذكر فى فصل توابع المزاج من‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 155

و مجتمع، بل إنما يظهر ذلك اللون فى الركام منه، و أنه إذا جمع و بلّ زال عنه البياض عند الاجتماع و الجفوف. و ليس الجص على ما اظنه و يوجبه غالب ظنى أن ما يبيض بياضه لذلك فقط، بل لأن الطبخ يجعله بحيث إذا بل ثم جف ابيض بياضا شديدا لمزاج يحدث فيه.

و الدليل على ذلك أنه لو كان فعل النار فى الجص ليس إلا تسهيل التفريق، و أن تسهيل التفريق قد يوصل إلى الهيئة التى ذكر أنها سبب لكون البياض، لكان السحق الكثير المؤدى إلى غاية تصغير الأجزاء يفعل ذلك الفعل فى الجص و فى النورة و فى غيره، و لكان المهيئ بالسحق و التصويل إذا اجتمع بالماء فعل فعل الجص من البياض، و ليس كذلك.

ثم‏ «1» لنفرض أن الجص يتكوّن فيه ذلك البياض على الصورة المذكورة، فليس كل بياض يحدث على هذه الصفة، فإن البيض إذا سلق‏ «2» يصير بياضه الشفاف‏ «3» أبيض و ليس يمكن أن يقال إن النار زادته تخلخلا و تفرقا فإنها قد زادته تكاثفا على حال، و لا أنه قد حدثت فيه هوائية و خالطته.

فأول ذلك أن بياض البيض يصير عند الطبخ أثقل و ذلك لما يفارقه من الهوائية.

______________________________
- ثانية الفن الرابع من الطبيعيات انه لم يعلم انه هل يصح البياض بغير هذا الطريق ام لا.

و اما فى ثانى المقالة الثانية من علم النفس فقد قطع بوجود ذلك فقال لا شك ان اختلاط الهواء بالمشف سبب لظهور اللون الابيض و لكنا ندعى ان البياض يحدث من غير هذا الوجه و يدل عليه امور اربعة ....

(1)- بل، نسخة.

(2)- اى طبخ.

(3)- سفيده تخم.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 156

و ثانيا أنه لو كانت هوائية داخلت رطوبته فبيضته لكانت خثورة «1» لا انعقادا، و قد علمت هذا قبل.

و أيضا فإن الدواء الذى يتخذه أهل الحيلة و يسمّونه لبن العذراء يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه، ثم صفّى حتى بقى الخل فى غاية الإشفاف و البياض، و خلط بماء طبخ فيه القلى، و صفى غاية التصفية حتى صار كأنه دمعة. فإنه إن قصر فى هذا لم يلتئم منهما المزاج الذى يطلبونه. فكما يخلط هذان الماءان ينعقد فيه المنحل الشفاف من المرتك‏ «2» أبيض فى غاية البياض كاللبن الرائب، ثم يجف، فليس ذلك لأن هناك شفافا عرض له التفرق، فإن ذلك كان متفرقا منحلا فى الخل و لا أجزاء مشفة صغارا جدا تدانت و تقاربت، بل إن كان و لا بد فقد ازدادت فى ماء القلى تفرقا «3» و لا أيضا خالطها هواء من خارج بوجه من الوجوه، بل ذلك على سبيل الاستحالة، فليس كل تولد بياض فيما أحسب على الصفة المذكورة.

و لو لم يكن البياض إلا ضوءا و السواد إلا ما قيل، لم يكن تركيب السواد و البياض إلا آخذا مسلكا واحدا.

بيان هذا: أن البياض يتجه‏ «4» إلى السواد قليلا قليلا من طرق ثلاثة:

______________________________
(1)- غلظت.

(2)- فى تعليقة نسخة: المرتك كمقعد المرداسنج (القاموس).

(3)- فى تعليقة نسخة: قال الامام و لان تلك الاجزاء تقاربت حتى ينعكس ضوء بعضها الى بعض فان حدّة ماء القلى اولى بالتفريق.

(4)- قوله: «بيان هذا ان البياض يتجه ...»، الشيخ- قدس سره- ابطل المذهب الاول بطريقين: طريق الاتجاه و طريق الانعكاس. اما طريق الاتجاه فتنتهى العبارة فى بيانه الى قوله: «و لو كانت هذه لا تكون الا باختلاط الاجسام». و اما طريق الانعكاس فيبدأ من قوله‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 157

أحدها طريق الغبرة و هو الطريق الساذج، فإنه إذا كان السلوك ساذجا يتوجه إلى الغبرة ثم منها إلى العوديّة «1»، و كذلك حتى يسوّد. فيكون سالكا طريقا لا يزال يشتد فيه السواد وحده يسيرا يسيرا حتى يمحضّ.

و الثانى الطريق الآخذ إلى الحمرة، ثم إلى القتمة، ثم إلى السواد.

و الثالث الطريق الآخذ إلى الخضرة، ثم إلى النيلية، ثم إلى السواد.

و هذه الطرق إنما يجوز اختلافها، لجواز اختلاف ما تتركب عنها الألوان المتوسطة. فإن لم يكن إلا بياض و سواد، و لم يكن أصل البياض إلا الضوء و قد استحال ببعض هذه الوجوه، لم يمكن فى تركيب البياض و السواد إلا الأخذ فى طريق واحد لا يقع الاختلاف فيه إلا وقوعا بحسب النقص و الاشتداد فيه فقط، و لم تكن طرق مختلفة. فإن كانت طرق‏

______________________________
- هذا: «و لو كانت هذه لا تكون الاباختلاط الاجسام» الى قوله: «و اما المذهب الثانى.» ثم الاتجاه من البياض الى السواد انما هو على سبيل الحركة و اللون الحاصل منه لون طبيعى باستحالة المادة و ليس من قبيل الالوان الدفعية الحاصلة من المسحوقات المشفة و غيرها مما ذكرها القائل بتخيل الالوان كلها فلا يخفى عليك ما فى التمسك بالاتجاه من ارغام الخصم و ابطال مذهبه و ذلك لانه لا يتمشى القول بتخيل الالوان فى الالوان الطبيعية الحاصلة من الاتجاه، على ان الاتجاه يلزم الخصم بوجوه مذكورة ذكرها الشيخ ايضا فتبصّر.

قال صدر المتألهين فى آخر الفصل الاول من الباب الثالث من الجواهر و الاعراض من الاسفار (ص 29 ج 2 ط 1- ص 88 ج 4 ط 2): اعلم ان كل ما يحدث من الالوان بسبب طبخ صناعى او نضج طبيعى و بالجملة باستحالة للمادة فهو لون طبيعى، و كل ما يحدث دفعة فى محل و ان كان بعد حركة مكانية فهو لون غير طبيعى كالالوان القزحية و الزجاجية و الوان المسحوقات المشفة و كالجمد المسكور باجزاء صغيرة و كلا القسمين موجودان لكن احدهما مادى حاصل بانفعال المادة، و الآخر من تعينات النور الحاصل و اختلاف ظهوره على الابصار حسب اختلاف المظاهر.

(1)- رنگ چوب قندس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 158

مختلفة، فيجب أن يكون شوب من غير البياض و السواد مع أن يكون شوبا من مرئى و ليس فى الأشياء شى‏ء يظن أنه مرئى، و ليس سوادا و لا بياضا و لا مركبا منهما إلا الضوء عند من يجعل الضوء شيئا غيرهما.

فإن بطل مذهبه امتنع استحالة الألوان فى طرق شتى، و إن أمكنه هذه الاستحالة وجب أن يكون مرئى ثالث خارج عن أحكام البياض و السواد، و لا وجه أن يكون هذا المرئى الثالث موجودا إلا أن يجعل الضوء غير اللون.

فمن هاهنا يمكن أن تركب الألوان فيكون البياض و السواد اذا اختلطا وحدهما كانت الطريقة هى طريقة الاغبرار لا غير، فإن خالط السواد ضوء فكان مثل الغمامة التى تشرق عليها الشمس و مثل الدخان الأسود تخالطه النار، فكان حمرة إن كان السواد غالبا، أو صفرة إن كان السواد مغلوبا و كان هناك غلبة بياض مشرق. ثم إن كان هناك صفرة خلطت بسواد ليس فى أجزائه إشراق حدثت الخضرة. و بالجملة إذا كان الأسود أبطن و المضى‏ء أظهر و الحمرة بالعكس‏ «1». ثم إن كان السواد غالبا فى الأول كانت قتمة، و إن كان السواد غالبا فى الثانى كانت كراثية تلك الشديدة التى لا اسم لها، و إن خلط ذلك ببياض كانت كهوبة «2» زنجارية، و إن خلط بالكراثية سواد و قليل حمرة كانت نيلية، و إن خلطت بالحمرة نيلية كانت أرجوانية. فبهذا يمكن تأليف الألوان سواء كان بامتزاج الأجرام أو بامتزاج الكيفيات.

______________________________
(1)- اى اذا كان الاسود اظهر و المضى‏ء ابطن.

(2)- كهبة بالضم مثل قهبه سفيد تيره رنگ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 159

و لو كانت هذه لا تكون إلا باختلاط الأجسام‏ «1» و قد علم أن السواد لا يصبغ منه الضوء بالعكس جسما ألبتة أسود لكان‏ «2» يجب أن تكون الألوان الخضر و الحمر إنما ينعكس منها البياض و لا ينعكس من الأجزاء السود شى‏ء، و خصوصا و هى ضعيفة منكسرة.

فإن قيل: فقد نراها تنعكس عن المخلوط. فالجواب أن ذلك لأن الخلط يوجب الفعل و الانفعال، و يجب بسبب ذلك امتزاج الكيفية سواء فعلته الصناعة أو الطبيعة. على أن الطبيعة تقدر على الامتزاج الذى على سبيل الاستحالة، و الصناعة لا تقدر عليه، بل تقدر على الجمع، فربما أوجبت الطبيعة بعد ذلك استحالة، و الطبيعة تقدر على تلطيف المزج الذى على سبيل الخلط و تصغير الأجزاء، و الصناعة تعجز عن ذلك الاستقصاء.

و الطبيعة لا تتناهى مذاهبها فى القسمة و النسبة قوة و فعلا، و الصناعة لا يمكن أن تخرج جميع ما فى الضمير منها إلى الفعل.

فقد بان من هذا أن البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء.

ثم لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير فى أمر التبييض، و لكن ليس على الوجه الذى يقولون‏ «3»، بل بإحداث المزاج المبيض‏ «4». و لذلك ليس لنا

______________________________
(1)- اى اختلاط الاجسام الشفافة بالضوء.

(2)- الضوء فاعل يصبغ، و جسما مفعوله، و لكان جواب لو كانت.

(3)- قوله: «ليس على الوجه الذى يقولون» يعنى الوجه الذى هو بحسب المخالطة فقط كما سيصرح به بعد سطر.

و قوله: «او على سبيل الصبغ» لا يبعد ان يكون الصبغ فى الموضعين بالنون و العين المهملة بمعنى الصناعة.

و قوله: «مما يكذبهم الشباب و الشيب» كما قيل بالفارسية:

گويند پس از سياه رنگى نبود

 

پس ريش سياه من چرا گشته سفيد

     

- و قوله: «فذلك حال مجاوره» الضمير راجع الى الاسود. و كذا الضمير فى «كيفيته» راجع الى الاسود.

و قوله: «فلا يبعد ان يكون الشى‏ء المسود لا يكون مسوّدا» تعليل لقوله: «فذلك حال مجاوره لا حال كيفيته». و كل واحد من المسوّدين على هيأة اسم الفاعل من التسويد.

يعنى انّ قولهم ان الاسود غير قابل للبياض او اللون الآخر غير صحيح لانّ المجاور اى البياض و غيره من الالوان غير نافذ فى الاسود، لا أنّ الاسود غير قابل لغيره من الالوان.

ثم قال: «على ان ذلك ليس ايضا مما لا يمكن» يعنى ان ارباب الحيل و اصحاب الاكسير يعملون حيلة فى تبييض الاسود فعملهم بالحيلة يكذب القول بان الاسود غير قابل للون آخر.

قال شارح المواقف: و مما استدل فى الشفاء على حصول البياض من غير اختلاط الهواء بالمشف امران: احدهما اختلاط طرق الاتجاه من البياض الى السواد. و ثانيهما انعكاس الحمرة و الخضرة و نحو ذلك من الالوان فانه لو كان اختلاف الالوان لاختلاف الشفاف بغيره لوجب ان لا ينعكس من الأحمر و الاخضر الا البياض لان السواد لا ينعكس بحكم التجربة (شرح المواقف ج 5 ص 239 و المباحث المشرقية ج 1 ص 409).

(4)- التبييض- خ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 160

أن نقول: إن بياض الناطف كله من الجهة التى يقولون، بل من المزاج، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا بحسب المخالطة فقط، بل بحسب الإحالة أيضا.

و لو كان مذهبهم صحيحا لكان يمكن أن يبلغ بالشى‏ء الأبيض و الملون بشدة الترقيق حتى يذهب تراكمه إلى أن يشف أو إلى قريب منه، و هذا مما لا يكون.

و أما قولهم: إن الأسود غير قابل للون آخر، فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة أو على سبيل الصبغ. فإن عنوا على سبيل الاستحالة، فقد كذبوا، و مما يكذبهم الشباب و الشيب. و إن عنوا على سبيل الصبغ،

النفس من كتاب الشفاء، ص: 161

فذلك حال مجاوره لا حال كيفيته. فلا يبعد أن يكون الشى‏ء المسود لا يكون مسودا إلا و فيه قوة نافذ متعلقة قباضة، فيخالط، و ينفذ و يلزم، و أن يكون ما هو موجود فى الأشياء البيض بخلاف ذلك فى طبعه، فلا يمكنه أن يغشى الأسود و يداخله و يلزمه. على أن ذلك ليس أيضا مما لا يمكن، فإنه إذا احتيل بمثل الاسفيذاج‏ «1» و غيره حيلة مّا حتى يغوص و يتخلل السواد صبغه أبيض.

و أما المذهب الثانى‏ «2» فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به إلا إذا فرض الخلأ موجودا، و ذلك لأن المسام التى يذكرونها لا يخلو إما أن تكون مملوءة من جسم أو تكون خالية. فإن كانت مملوءة من جسم، فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام، أو تكون له أيضا مسام، و ينتهى لا محالة: إما إلى مشف لا مسام له، و هذا خلاف قولهم. و إما إلى خلاء، فيكون مذهبهم يقتضى وجود الخلاء، و الخلاء غير موجود.

ثم بعد ذلك فإنهم يقولون: إنه ليس كل مسام تصلح لتخييل الإشفاف، بل يجب أن تكون المسام مستقيمة الأوضاع من غير تعريج‏ «3» حتى تنفذ فيه الشعاعات على الاستقامة. فلنخرّط كرة من جمد، بل من بلور، بل من ياقوت أبيض شفاف، فهذه المسام التى تكون فيها شفافة مستقيمة هبها «4» تكون كذلك طولا، فهل تكون كذلك أيضا عرضا،

______________________________
(1)- سفيد آب.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى الذين لا يقولون بالاشفاف و القائلون بالثقب و المنافذ فى الاجسام.

(3)- اى من غير ميل و انعطاف.

(4)- فى تعليقة نسخة: هب لفظ يونانى بمعنى نعم ثم استعمل بمعنى سلّم. اى سلمناها.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 162

و هل تكون كذلك قطرا و من أى جهة أثبتّ، فكيف تكون مستقيمات تداخل مستقيمات فتكون من أى جهة تأملتها لا تنعرج. فمن الضرورة أن يعرض من بعض الجهات خلاف الاستقامة و وقوف الأجزاء التى لا مسام لها فى سمت الخطوط التى تتوهم خارجة على الاستقامة من العين أو يكون الجسم خلأ كله، و هذا محال. فيجب أن تكون الكرة إذا اختلف منك المقامات فى استشفافها يختلف عليك شفيفها ضرورة.

ثم كيف يكون حال جسم فيه من المسام و المنافذ ما يخفى لونه حتى تراه كأنه لالون له، و له فى نفسه لون، و لا يستر لونه شيئا ملصقا مما وراءه، بل يؤدى ماوراءه بالحقيقة. فإن أحدث سترا فإنما يحدث شيئا، كأنه ليس، فتكون لا محالة الثقب التى فيه أكثر كثيرا من الملأ الذى فيه، فكيف يجوز أن يكون لها استمساك الياقوت و هو كله فرج. و لو أن إنسانا أحدث فى الياقوت منافذ ثلاثة أو أربعة، ثم حمل عليه بأضعف قوة لا نرضّ و لا نكسر؛ فهذا المذهب أيضا محال.

فالألوان إذن موجودات، و ليس وجودها أنها أضواء، و لا الأضواء ظهورات لها، و مع ذلك فليست هى مما هى بالفعل بغير الأضواء.

و المشف أيضا موجود، و هذا ما أردنا بيانه إلى هذه الغاية. و قد بقى علينا أن نخبر عن حال الإبصار أنه كيف يكون، و يتعلق بذلك تحقيق كيفية تأدى الأضواء فى المشف.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 163

الفصل الخامس فى اختلاف المذاهب فى الرؤية «1» و إبطال المذاهب الفاسدة بحسب الأمور أنفسها

فتقول: إن المذاهب المشهورة فى هذا الباب مذاهب ثلاثة، و إن كان‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اعلم ان الابصار بخروج الشعاع لكن لا عن الرائى بل عن المرئى.

و ظنّى ان اعتقاد المتقدمين كان كذلك و لكن لما اطلقوا القول و قالوا ان الابصار بخروج الشعاع و لم يتقيدوا بخروجه عن المرئى توهم ان مرادهم خروج الشعاع عن الرائى. و لما كان كذلك فالاعتراضات التى اوردت على خروج الشعاع كلها مندفعة. و اعلم ايضا ان القائلين بالانطباع ايضا مذهبهم عين هذا المذهب لان الضوء الخارج عن المرئى الحامل لصورة المرئى اذا انطبع فى البصر يتحقق الابصار فالمذهبان يرجعان الى امر واحد. قال ابن هيثم فى المناظر و المرايا فى الفصل السادس من المقالة الاولى: قد تبين مما تقدم ان اضواء الاجسام المضيئة تصدر الى كل جهة يقابلها فاذا قابلت البصر وردت الاضواء الى سطح البصر و قد علم من خاصية الضوء تاثيره فى البصر فاخلق ان يكون ادراكه للاضواء بما يرد منها اليه. و تبين ان صورة لون الاجسام يصحب الضوء دائما ممازجة له انتهى. و اعلم ان لابن هيثم فى تلك الرسالة عبارات كثيرة صريحة دالة على ان الابصار بخروج الشعاع و الضوء عن المرئى و اصلا الى الرائى و من اراد الاطلاع عليه فليراجع تلك الرسالة.

و قال الرازى فى المباحث ص 299 ج 2: المذاهب المشهورة بين الحكماء فى الابصار ثلاثة: الاول قول من يقول انه يخرج من العين جسم شعاعى على هيئة مخروط رأسه‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 164

كل مذهب منها يتفرع:

أحدها مذهب من يرى أن شعاعات خطية تخرج من البصر على هيئة مخروط يلى رأسه العين و قاعدته المبصر، و أن أصحها إدراكا هو السهم منها، و أن تبصّر الشى‏ء هو فعل‏ «1» السهم فيه.

و منها مذهب من يرى أن الشعاع قد يخرج من البصر على هيئة، إلا أنه لا يبلغ كثرته‏ «2» أن يلاقى نصف كرة السماء إلا بانتشار يوجب انتشار الرؤية. لكنه إذا خرج و اتصل بالهواء المضى‏ء، صار ذلك آلة له و أدرك بها.

و منها مذهب من يرى أنه كما أن سائر المحسوسات ليس يكون إدراكها بأن يرد عليها شى‏ء من الحواس بادرا إليها متصلا بها أو مرسلا رسولا إليها، كذلك الإبصار ليس يكون بأن يخرج شعاع ألبتة فيلقى المبصر، بل بأن تنتهى صورة المبصر إلى البصر بتأدية الشفاف إياها.

و قد استدل الفريقان الأولان و قالا: إنما جاز فى سائر الحواس أن تأتيها المحسوسات، لأنها يصح إدراكها بالملامسة كاللمس، و كالذوق،

______________________________
- فى العين و قاعدته يلى المبصر و الادراك التام انما يحصل من المواضع الذى هو موضع سهم هذا المخروط. المذهب الثانى من يقول الشعاع الذى فى العين يتكيف الهواء بكيفيته و يصير الكل آلة فى الادراك. المذهب الثالث ان الابصار انما يحصل بانطباع اشباح المرئيات بتوسط الهواء المشف فى الرطوبة الجليدية انتهى. و قال صدر المتألهين فى شرحه للهداية ص 188: و الاشراقيون قالوا لا شعاع و لا انطباع و انما الابصار بمقابلة المستنير للضوء الباصر الذى فيه رطوبة صقيلة فاذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم حضورى اشراقى على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية.

(1)- نقل، نسخة.

(2)- الا انه لا يبلغ من كثرته، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 165

و كالشم الذى يستقرب الروائح بالتنشق ليلاقيه و ينفعل به، و كالصوت الذى ينتهى به التموج إلى السمع. ثم أن البصر ليس يمكن فيه ذلك لأن المرئى منفصل، و لذلك لا يرى المقرّب منه‏ «1» و لا أيضا من الجائز أن ينتقل إليه عرض موجود فى جسم مرئى أعنى لونه و شكله، فإن الأعراض لا تنتقل. فإذا كانت الصورة على هذا، فبالحرى أن تكون القوة الحاسة ترحل إلى موضع المحسوس لتلاقيه. و محال أن تنتقل القوة إلا بتوسط جسم يحملها فلا يكون هذا الجسم إلا لطيفا من جنس الشعاع و الروح، فلذلك سميناه شعاعا.

و لوجود جسم مثل هذا فى العين ما يرى الإنسان فى حال الظلمة أن نورا قد انفصل من عينيه و أشرق على أنفه أو على شى‏ء قريب يقابله.

و أيضا فإن الإنسان إذا صيح و دعاه دهش الانتباه إلى حك عينيه فإنه يتراءى له شعاعات قدام عينيه.

و أيضا فإن الثقبة العنبيّة تمتلى‏ء من إحدى العينين إذا غمضت الأخرى، و فى التحديق المفرط أيضا فلا محالة أن جسما بهذه الصفة ينصبّ إليها «2».

______________________________
(1)- قال الرازى: و اما البصر فليس كذلك لانه لا يرى ما يكون فى غاية القرب منه فضلا عما يكون مماسا له و لابد من الملاقاة فهى اما ان يكون لانه ينتقل من المحسوس عرض و الانتقال عليه محال فتعيّن الثانى. المباحث المشرقية ج 2 ص 302.

(2)- قال بهمنيار فى التحصيل: الابصار اما بان ينفذ من البصر شى‏ء الى المبصر او بان ينفعل عنه البصر و هذا الشى‏ء الذى يجوز ان يخرج عن البصر لا يصح الا ان يكون جسما اذا الاعراض لا يصح عليها الانتقال و محال ان يخرج عن البصر شى‏ء شعاعى يقع على المبصر لانه اما ان يكون الخارج يصل الى المبصر فيدركه و اما ان يكون الشفاف آلة فى ان يستحيل الى جنسه او فى ان يكون مؤديا. اما القسم الاول فاستحالته ظاهرة

النفس من كتاب الشفاء، ص: 166

ثم أن الفرقة الثانية «1» استنكرت أن يكون جسم مثل العين يسع من الشعاع ما يتصل خطا واحدا بين البصر و الكواكب الثابتة فضلا عن خطوط تنتهى إلى ما يرى من العالم، و خصوصا و لا يرى ما يرى منها إلا متصلا مستوى الاتصال، فيجب أن يكون ما يرى به متصلا.

و استنكرت أيضا أن يتحرك هذا الشعاع الخارج فى زمان غير محسوس حركة من العين إلى الثوابت، و قالت يجب أن تكون نسبة زمان حركتك نحو شى‏ء بينه و بينك ذراعان إلى زمان الحركة إلى الكواكب الثابتة نسبة المسافتين، فيجب أن يظهر بين الزمانين اختلاف.

و ربما احتج بهذا أصحاب المذهب الثالث‏ «2» أيضا على أصحاب الشعاع الخطى.

و لم يعلموا أن هذا فاسد، و ذلك لأنه يمكن أن يفرض زمان غير محسوس قصرا أو أكثر زمان غير محسوس قصرا، فتجعل‏ «3» فيه الحركة

______________________________
- و ذلك لانه من المحال ان يخرج من البصر جسم متصل يملأ نصف العالم و ينتهى الى كرة الكواكب الثابتة ثم كما ينطبق الجفن يعود اليه ثم اذا فتح مرة اخرى خرج مثله كانه واقف على نية المغمض. و ان كان هذا الجسم الخارج منتشرا لم يدرك المبصر بكليته بل انما يدرك ما يقع منه عليه و ايضا فلو كان ادراك الشى‏ء على الصفة المذكورة اعنى بشى‏ء يخرج من البصر لكان وجب ان يرى الشى‏ء البعيد فى غاية البعد بشكله و عظمه و الرؤية تتم بوصوله اليه. و ايضا فانه لو كان هذا الشعاع كخط جسمانى لكان وجب عند هبوب الرياح ان يصرفه عن المحاذات الى غير المحاذات ثم كيف ينفذ هذا الجسم فى الافلاك و هى لا تقبل الخرق. و ايضا فان حركة هذا الجسم يكون طبيعية لا محالة فيجب ان تكون الى جهة واحدة و ليس كذلك عندهم.

(1)- فى تعليقة نسخة: اى القائلون بتكيف الهواء بكيفية الشعاع.

(2)- اى الانطباع.

(3)- فتحصل، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 167

التى للشعاع إلى الثوابت، ثم يمكن أن ينقسم هذا الزمان إلى غير النهاية فيمكن أن يوجد فيه جزء أو بعض نسبته إليه نسبة المسافة المستقصرة إلى المسافة المستبعدة، فيكون الزمانان اللذان بينهما البعد كلاهما غير محسوسين قصرا.

لكن لأصحاب الشعاعات حجة فى حلها أدنى صعوبة و هو قولهم:

إن المرايا تشهد بوجود هذه الشعاعات و انعكاسها، و ذلك أنه لا يخلو: إما أن يكون البصر تتأدى إليه صورة المرآة و قد تتأدى إليها صورة المرئى متمثلة متشبحة فيها، و إما أن يكون ما نقوله من أن الشعاع يخرج فيلقى المرآة و يصير منها إلى أن يلقى ما ينعكس عليه على زاوية مخصوصة «1».

و إذا بطل القول الأول، بقى القول الثانى.

و مما يتضح به بطلان القول الأول أنه لو كانت هذه الصورة متشبحة فى المرآة لكانت لا محالة تتشبّح فى شى‏ء بعينه من سطحها، كما إذا انعكس الضوء و اللون معا فتأديا فى المشف إلى غير الحامل الأول لهما فإنما يتمثّل المتأدى من ذلك فى بقعة واحدة بعينها يرى فيها على اختلاف مقامات الناظرين. و ليس الشبح الذى فى المرآة بهذه الصفة، بل ينتقل فيها بانتقال الناظر، و لو كان إنما ينتقل بانتقال المرئى فقط لم يكن فى ذلك إشكال.

و أما انتقاله بانتقال الناظر فدليل على أنه ليس هناك بالحقيقة موضع تتشبح فيه الصورة. و لكن الناظر إذا انتقل انتقل مسقط الخط الذى إذا انعكس إلى المرئى فعل الزاوية المخصوصة فرأى بذلك الخط بعينه المرئى و رأى جزءا من المرآة آخر، فتخيل أنه فى ذلك الجزء الأخر من المرآة، و كذلك‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: من ذلك الشى‏ء الذى وقع عليه خط الانعكاس.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 168

لا يزال ينتقل‏ «1».

و قالوا: و مما يدل على صحة هذا أن الناظر «2» الذى للإنسان قد ينطبع فيه شبح مرئى ينعكس عنه إلى بصر ناظر حتى يراه هذا الناظر الثانى، و لا يراه صاحب الحدقة التى تمثل فيها الشبح بحسب التخيل، و لو كان لذلك حقيقة انطباع فى ناظره لوجب على مذهب أصحاب الأشباح أن يتساوى كل منهما فى إدراكه، فإن عندهم أن حقيقة الإدراك تمثّل شبح فى الناظر فيكون كل من تمثّل فى ناظره شبح رآه.

قالوا: فمن هذا نحكم و نقول إن الناظر فى المرآة يتخيل له فى المرآة أنه يرى صورته و ليس كذلك، بل الشعاع إذا لاقى المرآة فأدركها كر منعكسا فلاقى صورة الناظر فأدركها، فإذا رأى المرآة و نفسه فى سمت واحد من مخرج الخط الشعاعى يتخيل أن أحدهما فى الآخر.

قالوا: و الدليل على أن ذلك ليس منطبعا فى المرآة أنه يرى المرئى فى المرآة بحيث لا يشك أنه ليس فى سطح المرآة، و إنما هو كالغائر فيه و البعيد عنه. و هذا البعد لا يخلو إما أن يكون بعدا فى غور المرآة، و ليس للمرآة ذلك البعد، و لا أيضا إن كان لها ذلك الغور كانت المرآة مما يرى ما يتشبح فى باطنها، فبقى أن يكون ذلك البعد بعدا فى خلاف جهة غوره فيكون بالحقيقة إنما أدرك الشى‏ء بذلك البعد من المرآة، فلا يكون قد انطبع شبحه فى المرآة.

فيلزمنا أول شى‏ء أن نبطل المذهبين الأولين، فنثبت صحة مذهبنا و هو الثالث، ثم نكّر على هذه الشبهة فنحلها.

______________________________
(1)- اى الشبح بانتقال الناظر. (و لذلك لا يزال ينتقل، خ ل).

(2)- مردمك چشم.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 169

فنقول: إن الشى‏ء الخارج من البصر «1» لا يخلو إما أن يكون شيئا مّا قائم الذات ذا وضع، فيكون جوهرا جسمانيا؛ و إما أن يكون شيئا لا قوام له بذاته و إنما يقوم بالشى‏ء المشف الذى بين البصر و المبصر. و مثل هذا الشى‏ء فلا يجوز أن يقال له بالحقيقة: إنه خارج من البصر، و لكن يجب أن يقال: إنه انفعال للهواء من البصر، و يكون الهواء بذلك الانفعال معينا فى الإبصار. و ذلك على وجهين: إما على سبيل إعانة الواسطة، و إما على سبيل إعانة الآلة.

و قبل الشروع فى التفصيل، فإنى أحكم حكما كليا أن الإبصار ليس يكون باستحالة فى الهواء إلى حالة تعين البصر ألبتة، و ذلك لأن تلك الحالة لا محالة تكون هيئة فى الهواء ليست معنى إضافيا بحسب ناظر دون ناظر. فإنا لا نمنع وجود هذا القسم، بل نقول لابد منه، و لابد من إضافة تحدث للهواء مع الناظر عند نظره بتلك الإضافة يكون الإبصار فانّا إنما نمنع‏ «2» وجود حالة و هيئة قارة فى نفس الهواء و ذاته يصير بها الهواء

______________________________
(1)- قال صدر المتألهين فى تعليقة على شرح حكمة الاشراق: و لقائل ان يقول اذا حصلت المقابلة بين البصر الصحيح و المبصر يحدث بينهما جسم شعاعى دفعة و يكون به الرؤية و هذا الجسم الشعاعى مجرد عن المادة فيداخل و ينفذ فى الاجسام اللطيفة و لا تفاوت فى مداخلته اياها بين ان يكون ليّنة او صلبة بعد ان كانت صافية غير مكدرة لان مداخلته اياها ليست بالحركة و الزمان و لا تفاوت ايضا بين القريب و البعيد فى اصل مواصلته لها لان فيضانه دفعى بلا مادة و حركة و زمان و لفظ الخروج و النفوذ و المداخلة و الانبساط كلها مجازات اطلقها هذا القائل تسامحا و انما الفرض اصل حدوث الشعاع على شكل المخروط الذى راسه عند البصر و قاعدته عند سطح المرئى. (شرح حكمة الاشراق ص 268).

(2)- و انما نمنع، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 170

ذاكيفية «1» أو صفة فى نفسه و إن كانت لا تدوم له و لا توجد عند مفارقة الفاعل أو توجد لأن مثل هذه الهيئة لا يكون له بالقياس إلى بصر دون بصر، بل يكون موجودا له عند كل شى‏ء، كما أن الابيض ليس أبيض بالقياس إلى شى‏ء دون شى‏ء، بل هو أبيض بذاته و أبيض عند كل شى‏ء و إن كان لا يبقى أبيض مع زوال السبب المبيض.

ثم لا يخلو إما أن تكون تلك الهيئة تقبل الشدة و الضعف فتكون أضعف و أقوى، أو تكون على قدر واحد. فإن كان على قدر واحد فلا يخلو: إما أن تكون العلة الموجبة تقبل الأشد و الأنقص أو لا تقبل، فإن كانت طبيعة العلة تقبل الأشد و الأنقص و تلك الطبيعة لذاتها تكون علة، فيجب أن يتبعها المعلول فى قبول الأشد و الأنقص. فإنه من المحال أن يفعل الضعيف الفعل الذى يفعل القوى نفسه إذا كانت قوته و ضعفه أمرا فى طبيعة الشى‏ء بما هى علة. فيجب من ذلك أن القوى المبصرة الفاعلة فى الهواء إذا كثرت و ازدحمت، كان حدوث هذه الحالة و الهيئة فى الهواء أقوى و أن يكون قوىّ البصر أشدّ فى إحالة الهواء إلى هذه الهيئة من ضعيف البصر، و خصوصا و ليس هذا من باب ما لا يقبل الأشد و الأضعف لأنه من باب القوى و الحالات فى القوى. و لا تكون قوتها كما ذكرنا بقياس بصر دون بصر، بل بنفسها كما قلنا، فيجب أن يكون ضعفاء الإبصار إذا اجتمعوا رأوا أقوى و إذا تفرقوا رأوا أضعف، و أن ضعيف البصر إذا قعد بجنب قوىّ البصر رأى أشد، و ذلك لأن الهواء يستحيل إلى تلك الهيئة كيف كانت‏ «2» باجتماع العلل الكثيرة و القوية استحالة

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: مراده انه ليس الابصار لاجل حدوث كيفية فى الهواء.

(2)- اى واسطة كانت او آلة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 171

أشد، فيكون أداؤه لصورة و معونته فى الإبصار أقوى، و إن كان ضعف نفس البصر يزيد خللا فى ذلك فاجتماع الضعفين معا ليس كحصول ضعف واحد، كما أن ضعيف البصر لا يستوى حال إبصاره فى الهواء الكدر و الهواء الصافى، لأن الضعيف إذا وجد معونة من خارج كان لا محالة أقوى فعلا. ثم نحن نشاهد ضعيف البصر لا يزيده اقتران أقوياء البصر به، أو اجتماع كثرة ضعفاء البصر معه شيئا فى إبصاره. فبيّن أن المقدم باطل.

و لنعد إلى التفصيل الذى فارقناه فنقول: إنه لا يخلو الهواء حينئذ إما أن يكون آلة، و إما أن يكون واسطة. فإن كان آلة فإما أن تكون حساسة، و إما أن تكون مؤدية. و محال أن يقول قائل: إن الهواء قد استحال حساسا حتى أنه يحس الكواكب و يؤدى ما أحسّه إلى البصر. ثم ليس كل ما نبصره يلامسه الهواء، فإنا قد نرى الكواكب الثابتة و الهواء لا يلامسها.

و ما أقبح بنا أن نقول: إن الأفلاك التى فى الوسط أيضا تنفعل عن بصرنا و تصير آلة له كما يصير الهواء آلة، فإن هذا مما لا يقبله عاقل محصّل.

أو نقول: إن الضوء جسم مبثوث فى الهواء، و الفلك يتحد بأبصارنا و يصير آلة لها، فإن ساعدنا على هذا القبيح فيجب أن لا نرى كلية جسم الكواكب بعد تسليمنا باطلا آخر و هو أن فى الفلك مسامّ‏ «1»، و ذلك لأنه لا تبلغ مسامهما «2» أن تكون أكثر من نصف جرمهما، فيجب أن تكون الكواكب المنظور إليها إنما ترى منها أجزاء و لا ترى أجزاء. ثم ما أشد قوة

______________________________
(1)- مسام الجسد ثقبه.

(2)- اى الهواء و الفلك.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 172

إبصارنا حتى تحيل الهواء كله و الضياء المبثوث فى أجسام الأفلاك بزعمهم إلى قوة حساسة أو أية قوة شئت.

ثم الهواء و الضوء ليسا متصلين ببصر دون بصر، فلم يؤديان ما يحسّانه إلى بصر دون بصر. فإن كان من شرط البصر الذى يرى أن يقع فى مسامتة المرئى حتى يؤدى حينئذ الهواء إليه ما أحس، فليس إحساس الهواء بعلة لوصول المحسوسات إلى النفس، و لكن وقوع البصر من المبصر على نسبة و توسط الهواء بينهما. فإن كان الهواء يحس بنفسه و يؤدى أيضا فما علينا من إحساسه فى نفسه، بل إنما المنتفع به فى أن نحس نحن تأديته المرئى إلينا. و لا نبالى أنه يحس فى نفسه أو لا يحس فى نفسه، اللهم إلا أن يجعل إحساسه لإحساسنا، فيكون الهواء و الفلك كله يحس لأجلنا.

و أما إذا لم يجعل ذلك آلة، بل واسطة تنفعل أولا من البصر ثم يستتم كونها واسطة، فبالحرى أن نتأمل أنه أى انفعال ينفعل حتى يؤدى؟ أبأن تقبل من البصر قوة حياة و هو أسطقس بسيط، هذا لا يمكن. أو يصير بالبصر شافا بالفعل. فالشمس أقوى من البصر فى تصييره شافا بالفعل و أكفى، فليت شعرى ماذا يفعل البصر بهذا الهواء. و إن كان البصر يسخنه، فيجب إذن برد الهواء أن يمنع الإبصار أو يبرّده، فيجب إذا سخّن أن يمنع الإبصار، و كذلك الحال فى باقى الأضداد. و لجميع الأضداد التى يستحيل بها الهواء أسباب غير البصر إن اتفقت كفت الحاجة إلى إحالة البصر و إن اتفق أضدادها لم تغن إحالة البصر أو عساه لا يحدث إشفافا و لا كيفية ذات ضد من المعلومات، بل يحدث خاصية غير منطوق بها، فكيف عرفها أصحاب هذا المذهب، و من أين توصلوا إليها.

أما نحن فقد قدمنا مقدمة كلية تمنع هذه الاستحالات كلها سواء كانت‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 173

منسوبة إلى خاصية أو طبيعة، منطوق بها أو غير منطوق بها. و بعد ذلك فإنا نظن أن الهواء إذا كان شفافا بالفعل و كانت الألوان ألوانا بالفعل و كان البصر سليما، لم يحتج إلى وجود شى‏ء آخر فى حصول الإبصار.

و لنضع الآن أن الخارج جوهر جسمانى شعاعى كما يميل إليه الأكثر منهم فنقول: حينئذ إن أحواله لا تخلو عن أربعة أقسام:

إما أن يكون متصلا بكل المبصر و غير منفصل عن المبصر.

و إما أن يكون متصلا بكل المبصر و منفصلا عن المبصر.

و أما أن يكون متصلا ببعض المبصر دون بعض كيف كان‏ «1» حاله مع المبصر.

و إما أن يكون خارجا عن المبصر و غيره متصل بالمبصر.

فأما القسم الأول فإنه محال جدا، أعنى أن يخرج من البصر جسم متصل يملأ نصف العالم و يلاقى الأجسام السماوية، ثم كما يطبق الجفن يعود إليه، ثم يفتح فيخرج آخر مثله، أو كما يطبق تعود الجملة إليه، ثم كما يفتح مرة أخرى تخرج عنها «2»، حتى كأنها واقفة على نية المغمض.

ثم كيف لا يرى الشى‏ء البعيد بشكله و عظمه إن كانت الرؤية بوصوله إليه و ملامسته إياه. فإن العظم أولى بأن يدرك بالملامسة بتمامه من اللون، لأن الشعاع ربما يفرّق و يهلهل‏ «3» فرؤى اللون كما يرى الخلط من اللون، و أما القدر فرآه حينئذ كما يرى الخلط من المقدار و الخلط من المقدار الجسمانى، و إن كان متخلخلا كأنه مركب من مقدار جسمانى و من‏

______________________________
(1)- اى سواء كان منفصلا عنه ام لا فهذا قسمان.

(2)- تخرج عنه- ظ- اى تخرج الجملة عن الجفن.

(3)- هلهل كجعفر جامه تنك بافته و موى تنك نرم و شعر رقيق، معرّب است.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 174

لا شى‏ء أو لا جسم لا ينقص من عظم كليته و لا تنفعهم الزاوية التى عند البصر. إنما ينفع ذلك أصحاب الأشباح إذ يقولون: إن الشبح يقع على القطع‏ «1» الواقع فى المخروط الموهوم عند سطح الجليدية الذى رأسه فى داخل. فإن كانت الزاوية أكبر لأن الشى‏ء أقرب كان القطع أعظم و الشبح الذى فيه أعظم، و إن كانت الزاوية أصغر لأن الشى‏ء أبعد كان القطع أصغر و الشبح الذى فيه أصغر. و أما على مذهب من يجعل المبصر ملموسا بآلة البصر فما تغنى هذه الزاوية.

و أما القسم الثانى فهو أظهر بعدا و استحالة، و هو أن يكون ذلك الخارج يفارق المبصر و يمضى إلى الفرقدين و يلمسهما و لا وصلة بينه و بين المبصر فيحسّ المبصر بما أحس هو «2»، و يكون كمن يقول: إنّ لامسا يقدر أن يلمس بيد مقطوعة و أن الحية يتأدى إلى بدنها ما يلمسه ذنبها المقطوع المفصول عنها و قد بقى فيها الحس‏ «3»، إلا أن يقال إنه‏ «4» أحال المتوسط و حمله‏ «5» رسالة إلى المبصر فيكون الهواء مؤديا مستحيلا معا، و قد قلنا على هذا بما فيه كفاية. و إن كان متصلا ببعض المبصر «6» وجب أن لا يراه كله، بل ما يلاقيه منه فقط. فإن جعل مستحيلا «7» إلى‏

______________________________
(1)- فان المخروط حينئذ ناقص اذ رأسه فى داخل العين كما صوّروه.

(2)- اى الخارج المفارق.

(3)- و قد بقى فيه، نسخة. اى فى الذنب. و ارى انّ الصواب «فيهما» بتثنية الضمير اى و قد بقى فى اليد المقطوعة و الذنب المقطوع الحس.

(4)- اى ذلك الخارج المفارق للمبصر بالكسر.

(5)- اى المرئى (المتوسط).

(6)- فى تعليقة نسخة: هذا هو القسم الثالث.

(7)- فان جعل الهواء مستحيلا، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 175

طبيعته‏ «1» و صار معه كشى‏ء واحد فما الذى يقال فى الفلك، إذا أبصرناه، أترى الفلك يستحيل أيضا إلى طبيعة ذلك الشعاع الخارج و يصير حساسا معه كشى‏ء واحد حتى يلاقى كوكب زحل بكليته فيراه و المشترى و سائر الكواكب العظام، و هذا ظاهر الفساد بعيد جدا. ثم قد قلنا فى فساد هذه الاستحالة ما قلنا.

فإن قالوا: إن الهواء المشف ليس يتحد به كشى‏ء واحد و لكن يستحيل إلى طبيعة مؤدية، فما يلاقيه الشعاع يدركه الشعاع، و ما لا يلاقيه يؤدى إليه الهواء صورته باستحالة عرضت له.

فأول جواب ذلك أن الهواء لم لا يستحيل عن الحدقة «2» وحدها و يؤدى إليها إن كان من شأنه الأداء فلا يحتاج إلى جسم خارج‏ «3».

و أما ثانيا فقد فرغنا من بيان استحالة هذه الاستحالات.

و أما ثالثا فإن الهواء المتوسط بين خطين خارجين يجب أن يودى إلى كل خط منهما ما يؤدى إلى الآخر فيكون آخر الأمر قد تأدى إلى جملة الشعاع من جملة الهواء المتخلل للخطوط صورة المحسوس مرتين أو مرارا، فيجب أن يرى المحسوس مرتين أو مرارا و خصوصا «4» إن كان على ما فى بعض مذاهب القوم من أن الخطوط لا تدرك بنفسها، بل بما يؤدى إليها الهواء.

ثم إن كان الأداء إلى الحدقة من الجميع أعنى الخطوط و الهواء معا

______________________________
(1)- اى طبيعة الشعاع.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى عن الشعاع الذى فى الحدقة من غير ان يخرج الشعاع عنها.

(3)- و هو الشعاع الخارج من البصر.

(4)- مرارا خصوصا، نسخة مصحّحة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 176

فالهواء مؤد للأشباح‏ «1» على مثل ما قال المعلم الأول. و من عرف أن لا خلاء و أن أجرام الأفلاك مصمتة لا فرج فيها و لا فطور عرف أن ذلك مستحيل لا يمكن و أنه لا يمكن أن ينفذ فيها هذا الخارج، بل كيف ينفذ هذا الشعاع فى الماء إن لم يكن فيه خلاء حتى يلاقى جميع الأرض تحته و يراه و هو متصل، و الماء لا يربو حجمه لما خالط منه. و إن كان هناك خلأ، فكم يكون مقدار تلك الفرج الخلائية التى تكون فى الماء مع ثقل الماء و نزوله فى الفرج و ملئه إياها. فيرى أن الماء فرج كله أو أكثره أو مناصفه حتى يمكن الخارج أن ينفذ إلى جميع ما فى قعر الماء و يلاقيه و يماسه و هو غير منقطع عن البصر، و إن انقطع فذلك أعجب.

فإن قال قائل: إنا نرى الشى‏ء القليل ينفذ فى الماء الكثير حتى يستولى على كليته مثل الزعفران يصبغ قليله كثيرا من الماء.

فنقول: إن انصباغ الماء الكثير بالزعفران القليل لا يخلو من وجهين:

إما أن يكون الصبغ الحادث فى الماء غير موجود إلا فى الأجزاء الزعفرانية و أجزاء الماء بحالها، و إما أن تكون أجزاء الماء استحالت أيضا فى نفسها إلى الصبغ كما تستحيل إلى الحر و البرد و الرائحة، لا أن جوهرا داخلها، إما استحالة إلى صبغ حقيقى و إما استحالة إلى صبغ خيالى، أعنى بالخيالى كما ترى على سطح الماء شبح شى‏ء ملقى فيه غير محاذ للبصر، و كما يتخيل من الماء أنه على لون إنائه، و ذلك مما إذا كثر و عم أرى جميع وجه الماء بذلك الصبغ و هو فيه قليل.

فإن كان هذا الانصباغ على مقتضى القسم الآخر «2» فلا منفعة لهذا

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: فهذا فى الحقيقة قول بالشبح و الانطباع لا غير.

(2)- القسم الاخير، نسخة. اى القسم الثانى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 177

الاعتراض فى الغرض، لأن الماء يكون قد استحال أو تشبح لا أن الصبغ القليل نفذ فى كله، و قد يستحيل كثير المقدار من كثير القوة قليل المقدار. و بالجملة إن كان حال الهواء فى استحالته عن الأشعة هذه الحال، عرض ما سلف منا منعه، و وجب أن تكون الأشعة إذا كثرت جدا ازداد الهواء استحالة نافعة فى الإبصار. و إن كان على سبيل التأدية دون الاستحالة فطبيعة الهواء «1» مؤدية للأشباح إلى القوابل فليؤد أيضا إلى الإبصار.

و إن لم يكن على مقتضى القسم الثانى، بل على سبيل القسم الأول، فإنا لا يمكننا أن نشك فى أن الماء متجز بين أجزاء الزعفران و الزعفران متجز بين أجزاء الماء، و أن أجزاء الماء لا محالة أعظم حجما من أجزاء الزعفران، و أن بين كل جزئين من أجزاء الزعفران متواليين ماء صرفا «2»، و أن هذه المياه الصرفة فى أكثر المواضع التى بين جزئى الزعفران أعظم كثيرا من أجزاء الزعفران، حتى تكون نسبة الأجزاء إلى الأجزاء إذا أخذت واحدا إلى الآخر كنسبة الكل إلى الكل. فإذا كانت كذلك كانت مقادير أجزاء الزعفران صغارا و لم يجز أن تستولى على الماء كله، فما كان ينبغى أن ينصبغ الماء بالكلية، بل هذا الوجه باطل.

و إنما يرى الماء مصبوغا كله لأحد الأمرين:

إما لأن كل واحد من أجزاء الماء و أجزاء الزعفران من الصغر بحيث لا يدركه الحس متميزا، و ذلك لا يمنع أن يكون أحدهما أكثر كثيرا جدا من‏

______________________________
(1)- و طبيعة الهواء، نسخة.

(2)- مياها صرفة، و ان هذه المياه الصرفة، عدة نسخ.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 178

الآخر لأن الجسم ينقسم إلى غير النهاية فيمكن أن يكون جزء من الماء هو ألف ضعف جزء من الزعفران و هو مع ذلك فى الصغر بحيث لا يحسّ مفردا. فإذا كان كذلك، لم يكد البصر يفرّق بين أجزاء الزعفران و بين أجزاء الماء فيرى منهما صبغا واحدا شائعا بين الأحمر و الشاف، فهذا وجه.

و إما أن تكون الأجزاء المحسوسة من الزعفران ليست على أوضاع متسامتة متوازية «1»، بل إذا حصل بين جزئين من ترتيب بحال جزء من الماء محسوس القدر، فإن أجزاء أخرى من تحت تقع مواقع لو رفعت لغطّت سطحا مع الأول‏ «2»، فيكون بعضها يرى لأنه فى السطح الأعلى، و بعضها يرسل شبحها إلى السطح الأعلى، فتتوافى الأشباح بصبغ واحد إذا الماء يؤدّى لون كل واحد منها لإشفافه، فيرى الجميع متصلا فى سطح واحد، و يتخيل مستوليا على الماء و لا يكون‏ «3». و يصحح هذا القول قلة ما يرى من الصبغ فى الرقيق الذى لا ثحن له، و كثرة ما يرى فى الكثيف العميق.

و إن كانت النسبة متشابهة، و كانت‏ «4» نسبة الزعفران الذى فى الرقيق إلى الرقيق كنسبة الزعفران الذى فى العميق إلى العميق فعلى هذين الوجهين‏ «5» يمكن أن يستولى القليل على الكثير. و أما فى الحقيقة فإن‏

______________________________
(1)- كما فى النسخ التى عندنا، و لكن فى المطبوعة الحجرية: «على اوضاع متشابهة متسامتة متوازية».

(2)- مع الاولى، ظاهرا.

(3)- اى مستوليا.

(4)- فى تعليقة نسخة: بيان التشابه.

(5)- جواب ان كانت.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 179

القليل لا يستولى على الكثير بالكمية، بل عسى بالكيفية المحيلة هذا.

و أما إن جعلوا «1» الخارج ينفذ قليل نفوذ فى الهواء و لا يتصل بالمبصر، ثم الهواء البعيد يؤدى إليه و يؤدى هو إلى المبصر فإما أن يؤدى إليه الهواء لإشفافه فقط من غير استحالة، فلم لا يؤدى إلى الحدقة فيكفى ذلك مؤنة خروج الروح إلى الهواء و تعرّضه للآفات، و إن كان بالاستحالة فقد قيل فى ذلك ما قد قيل ثم لم لا يستحيل من الحدقة من غير حاجة إلى الروح‏ «2».

______________________________
(1)- هذا هو القسم الرابع.

(2)- اى خروج الروح.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 180

الفصل السادس فى إبطال مذاهبهم من الأشياء المقولة فى مذاهبهم‏

و لنقبل الآن على عد بعض المحالات التى تلزمهم بحسب أوضاعهم:

فمن ذلك وضعهم أن أجزاء الخارج عن البصر تنعكس من الأجسام إلى أجسام أخرى، فإذا رأت جسما انعكست عنه إلى جسم آخر فرأته و رأت ذلك الجسم الآخر المنعكس إليه، مثلا لما وصلت إلى المرآة رأت المرآة، ثم لما انعكست عن المرآة إلى جسم آخر رأته أيضا معا، فيكون شى‏ء واحد رأى شيئين معا، فيتخيل أن أحد الشيئين تراه فى الآخر و تلزم وضعهم هذا مباحث عليهم.

من ذلك أن انعكاس هذا الشعاع هو عن الصلب أو عن الأملس أو عن مجتمعهما، لكن هذا العكس مما قد يرونه يقع عن أملس غير صلب مثل الماء فليست الصلابة هى الشرط، بل بقى أن يكون السبب فيه هو الملاسة. فإذا كان السبب فيه هو الملاسة، فلا يخلو إما أن يكفى لذلك أىّ سطح أملس اتفق، أو يحتاج إلى سطح متصل الأجزاء أملس. فإن كان الشرط هو القسم الثانى لم يجز أن ينعكس عن الماء، لأنه لا اتصال لسطحه عندهم لكثرة المسام التى يضعونها فيه التى بسببها يمكن أن يرى‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 181

ماوراءه بالتمام، و إن كان ليس من شرطه الاتصال فيجب أن يوجد هذا العكس عن جميع الأجرام و إن كانت خشنة، لأن سبب الخشونة الزاوية «1» أو ما يشبه الزاوية مما يتقعر عن الحدبة. و لا بد فى كل ذى زاوية من سطح ليست فيه زاوية فيكون أملس، و إلا لذهبت الزوايا إلى غير النهاية أو انتهت قسمة من السطح إلى أجزاء ليست بسطوح، و كلاهما محال. فإذن كل جرم فمؤلف السطح من سطوح ملس، فيجب أن يكون عن كل سطح منها عكس.

أو يقال‏ «2» أمران: أحدهما أن السطوح الصغار لا ينعكس عنها الشعاع، و الثانى أن السطوح المختلفة الوضع ينعكس عنها الشعاع إلى جهات شى‏ء فيتشذب‏ «3» المنعكس. و لا ينال شيئا لعدم الاجتماع.

فأما القسم الأول فباطل، فإن من المعلوم أنه إن كان يخرج من البصر جسم حتى ينتشر فى نصف كرة العالم دفعة أنّه يكون عند الخروج فى غاية تصغر الأجزاء و تشتتها، و أنه إذا انعكس فإنما يلاقى كل جزء صغير منه، و كل طرف خط دقيق منه لا محالة جزءا مساويا له و ينعكس عنه و لا ينفع و لا يضر فى ذلك ماوراءه، عسى أن اتفق أن كان السطح الأملس الذى يلاقيه أصغر منه لم ينعكس عنه.

لكنا إذا تأملنا لم نجد هذا المعنى هو السبب و الشرط فى منع الانعكاس‏

______________________________
(1)- تحقيق ماهية الزاوية و بيان انها من اى مقولة من الاعراض ص 82 من الهيات الشفاء و ص 59 ج 2 ط 1 من الاسفار- ج 4 ص 176 ط 2.

(2)- قوله: «او يقال» اى الا ان يقال فى الجواب امران.

(3)- اى يتفرق.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 182

فى الأشياء الموجودة عندنا «1» لأنه قد يتفق أن يكون شى‏ء خشن نعلم يقينا أن لأجزائه التى لها سطوح ملس‏ «2» مقدارا مّا لا نشك فى أنه أعظم من مقدار أطراف الشعاعات الخارجة و مع ذلك لا تنعكس عنها. و هذا مثل الزجاج المدقوق و الملح الجريش و البلور الجريش الذى نعلم أن سطوح أجزائه ملس و ليس بغاية الصغر حتى تكون أصغر من أجزاء الشعاع الخارج، و إذا اجتمعت لم ينعكس عنها الشعاع، بل و لا من أشياء أكبر من ذلك أيضا.

ثم من البعيد أن تقبل الأجرام الكثيفة الأرضية تجزيئا إلى أجزاء أصغر من الأجزاء التى يقبل إليها الجسم الشعاعى التجزى، حتى يوجد جزء للكثيف أصغر مما ينقسم اللطيف إلى مثله.

ثم إن كان علة العكس عن الأملس عدم‏ «3» المنفذ و هناك حفز «4» من‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اعلم ان الابصار ليس بخروج الشعاع و لا بالتكيف و لا بالانطباع بل اذا اجتمع شرايط الابصار يحصل للنفس علم جزئى بالمبصر على سبيل الحضور و المشاهدة من طريق البصر كما ذهب اليه جماعة من حكماء الاسلام و ليس مقصد افلاطون و ارسطو و اشباههما ايضا من القدماء الا هذا المعنى كما قاله المعلم الثانى الا ان هذا العلم لما كان حصوله بتعلق نور النفس و شعاعها من طريق البصر لشى‏ء خارج منه بتوسط الهواء عبّر عنه قوم بخروج الشعاع من البصر و بتكيّف الهواء و لما كان انما يحصل للنفس و ينكشف بهذا الوجه من طريق البصر شبح المرئى و ظاهره دون باطنه و كنهه عبّر عنه آخرون بحصول الشبح كما هو رأيهم و دأبهم فى التعبير عن اكثر مقاصدهم و تفسير معاظم مطالبهم لكنه خفى على اكثر الناس ذلك لقصور بصائرهم فضلّوا انفسهم و اضلوا كثيرا و نسبوا الى العلماء منكرا من القول و زورا. نقل من ازهار الحكم.

(2)- ملس جمع املس مثل صفر و حمر جمع اصفر و احمر.

(3)- عدمه المنفذ، نسخة.

(4)- حفزه يحفزه دفعه من خلفه.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 183

ورائه، فذلك موجود للخشن‏ «1». و إن كان لا حافز من ورائه و لا عدم منفذ فليس يجب أن ينعكس عن شى‏ء، فإن الجسم لا تكون له بالطبع حركات مختلفة، بل بالقسر. و أنت تعلم أنه إذا كان المضى‏ء قد أماله بالطبع‏ «2» فلا ينعطف الا بالقسر.

ثم الملاسة ليست من الهيئات الفاعلة فى الأجسام فتغير طبيعة ما يلاقيها، و لا هى من القوى الدافعة عن أجسامها شيئا حتى تقسر الأجسام إلى التبعيد عنها، و لو كانت الملاسة علة لتبعيد الجسم عن الجسم لكان تبعّد ما بينهما و إن تماست على أىّ وضع كان، و لكان يجب أن ينعكس البصر عن المرآة التى يلامسها الشعاع الخارج مخطوطا عليها لا إذا لا قاها بالطرف فقط.

و إن كان السبب فى الانعكاس هو الحفز من خلف أو النتوّ كما يعرض للكرة، وجب أن ينعكس عن كل صلب لا منفذ فيه و إن لم يكن أملس.

و أما على مذهب أصحاب الأشباح فلذلك‏ «3» وجه، و هو أنهم يجعلون الملاسة علة لتأدية الشبح، و كل ملاسة عظمت أو صغرت فهى علة لتأدية

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: يعنى ان الانعكاس عن الاملس اما ان يكون لعدم المنافذ و الحفز من خلف او لا بل بمجرد الملاسة. فعلى الاول يلزم ان يعمّ الخشن لعموم علته. و الثانى باطل لان الملاسة ليست من الهيئات الفاعلة حتى يغيّر ما يلاقيها و لا هى من القوى الدافعة عن اجسامها حتى دفع الشعاع عن اجسامها و لا يمكن ان ينعكس الشعاع بطبعه فان الجسم بطبعه لا يقتضى الحركة الى جهات مختلفة و ان فرضت الملاسة دافعة لزم ان يدفع الشعاع على اىّ وضع يلاقى الاملس لان الشعاع اذا وقع على المرآة بخط من السطح لا كخط على السطح لم ينعكس ألبتة. كذا فى التلخيص.

(2)- قوله: «قد اماله» و فى نسخة مصحّحة قد ناله (من النيل) كباعه.

(3)- اى منع الصغر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 184

شبح ما. لكن الأشباح التى تؤديها السطوح الصغار تكون أصغر من أن يميّزها البصر، فلا تحس. فإن الجرم الخشن تختلط فيه الظلمة بالنور فيظلم كل غور، و يكون كلّ نتوّ أصغر من أن يؤدّى شبحا يميز بالحس و لو كان متصلا لم يعرض ذلك. فأما أصحاب العكس فهذا الصغر ليس بعذر لهم فى عدم العكس عنه.

و أما إن لم يجعلوا العلة الصغر «1»، بل التشذّب فإن هذا التشذّب موجود أيضا عن المرايا المشكلة أشكالا ينعكس عنها الشعاع إلى نصف كرة العالم بالتمام مما يعلم فى علم المرايا. و عسى أن لا يكون العكس عن الخشن يبلغ فى تشذّبه للشعاع ما يبلغه تلك المرايا، بل تراكمت خطوط منه على نقطة واحدة، فهذا أحد المباحث.

و البحث الثانى أنه ينعكس عن الماء وقتا و ينفذ تحته وقتا و كذلك عن البلور، فيجب إذن أن يدخل أحد الأمرين نقصان عن الآخر إما أن يكون المبصر تحت الماء لا يرى صحيحا، بل ترى منه نقط عند الحس متفرقة لا صورة كاملة، أو المنعكس إليه لا يرى بالتمام، بل ترى منه نقط عند الحس متفرقة لا صورة كاملة و إن رؤى أحدهما أتم رؤى الاخرى بحسبه أنقص، و ليس الأمر كذلك.

و البحث الثالث هو أن المنعكس عن الشى‏ء الذى قد فارقه و واصل غيره ثم ترى به صورتهما معا لا يخلو إما أن تكون مفارقة الشعاع المنعكس لا توجب انسلاخ صورة المحسوس عن الشعاع أو توجب. فإن كانت لا توجب فكيف لا نرى ما أعرضنا عنه و فارقه الشعاع، فإنا لا نعرف هناك‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: اشارة الى الجواب عن الامر الثانى.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 185

علة إلا أن الشعاع استبدل به موقعا غيره. و إن كانت المفارقة توجب انسلاخ تلك الصورة عنه ففى الوقت الواحد كيف ترى المرآة و الصورة معا، فإن كان القائم‏ «1» على المرآة من الشعاع يرى صورة المرآة و الزائل عنه إلى شى‏ء آخر يرى صورة ذلك الشى‏ء، فقد اختص بكل واحد من المبصرين جزء من الشعاع فيجب أن لا يريا معا، كما أن الشعاع الواقع على زيد و الشعاع الواقع على عمرو فى فتح واحد من العين‏ «2» معا لا يوجب أن يتخيل المرئى من زيد مخالطا للمرئى من عمرو.

فإن قيل: إن السبب‏ «3» فيه أن ذلك الشعاع يؤدى الصورة من طريق ذلك الخط إلى النفس فيكون خط واحد يؤديهما معا و ما يؤدّى من خط واحد يرى واحدا فى الوضع‏ «4».

قيل: أما أولا فقد أبطلت مذهبك و منعت أن يكون الخط الخارج مبصرا من خارج، بل مؤديا؛ و أما ثانيا فإنه ليس يمتنع أن يخرج‏ «5» خط ثان يلاقى الخط المنعكس و يتصل به، فإن كان إنما يؤدى بما يتصل به من الخطوط ثم تحس القوة التى فى العين لا الخارجة، فحينئذ كان يجب أن يرى الشى‏ء من الخطين معا فترى الصورة مع صورة المرآة و مع غير تلك الصورة، و كان يجب أن يتفق مرارا أن يرى الشى‏ء متضاعفا لا بسبب فى‏

______________________________
(1)- اى الشعاع القائم. و قوله: «من الشعاع» بيان للقائم.

(2)- «من العينين» نسخة كما فى المباحث للفخر ايضا ص 311 ج 2.

(3)- أى إن قيل: إن السبب فى ذلك أنّ الشعاع يؤدّى صورتى المرآة و ما يرى فيها الى النفس من طريق خط واحد هو الذى على المرآة لا تصاله بخط الانعكاس فيريان متحدين فى الوضع.

(4)- و ما تأدى من خط واحد رؤى واحدا فى الوضع. نسخة مصحّحة.

(5)- اى من العين.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 186

البصر و لكن لاتصال خطوط شتّى بصريّة بخط واحد، و هذا مما لا يكون و لا يتفق، فإنا إنما يمكننا أن نرى الشى‏ء فى المرآة و نراه وحده إذا كان مقابلا للبصر، و أما إذا لم يكن مقابلا فإنا نراه فى المرآة فقط.

فليكن على أصلهم «ا» نقطة البصر «1» و «ب» موضع المرآة و ليكن خط «ا- ب» خرج من البصر ثم انعكس إلى جسم عند «ج». و ليخرج خط آخر و هو «ا- د» و يقطع خط «ب- ج» على «ه» و يتصل به هناك. فأقول يجب على أصولهم أن يكون شبح «د» يرى مع شبح «ج» و «ب» و يرى شبح «ج» من طرفى «ه» و «ب» من خطى «ه ا» و «ب ا».

و ذلك لأن أجزاء هذه الخطوط «2» الخارجة من الأبصار إما أن تكون متصلة و إما أن تكون متماسة، فإن كانت متصلة و كان من شأن بعضها كما فرضناه أن يقبل الأثر مع بعض إذا اتصلت حتى يؤدّى‏ «3» إلى الحدقة، و كان الأثر فى كلية الجرم الشعاعى نفسه لا فى سطح منه مختص بجهة، و ليس ذلك من التأدية اختياريا و لا صناعيا، بل طبيعيا، فإذا حصل المنفعل‏ «4»

______________________________
(1)

(2)- اى الخطوط الشعاعية.

(3)- حتى يؤدّيا كما فى ثلاث نسخ. حتى تؤدّيه كما فى نسخة.

(4)- و هو الخط الثانى هيهنا.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 187

ملاقيا للفاعل‏ «1» الذى يفعل بالملاقاة وجب أن ينفعل عنه. فإن الحكم فى خروج التهيّآت الطبيعية التى فى جواهر الأشياء إلى الفعل هو أن تكون طبيعة التهيؤ موجودة فى ذات المنفعل و إن لم تكن بسبب شى‏ء من طبيعة الفاعل، و الأمر الذى عنه الفعل موجودا فى ذات الفاعل، و إن لم يوجد مثلا فى المنفعل. و إذا حصل ذلك لم يتوقف الخروج إلى الفعل إلا على وصول أحدهما إلى الآخر. فإذا وصل الفاعل إلى المنفعل و ارتفعت الوسائط، و هذا فيه قوة الفعل و ذاك فيه الانفعال، وجب الفعل و الانفعال الكائن بينهما بالطبع على أى نحو كان الاتصال، و لم يكن للزاوية الكائنة بحال معنى، و لا لفقدان المنفذ و فناء المشف عند المرآة أثر.

فإنه سواء فنى المنفذ و اتصل به خطوط أو كان غير فان و اتصل به خطوط، فإن الفاعل يجب أن يفعل و المنفعل يجب أن ينفعل.

فإن كان الشبح و الأثر «2» مثلا ليس فى الجرم الشعاعى الممتد

______________________________
(1)- و هو الخط الاول هيهنا.

(2)- قوله: «فان كان الشبح و الاثر ...» اقول: عبارة الفخر الرازى فى المباحث المشرقية هكذا: «و ان كان الاثر فى طرف الجسم الشعاعى فقط فيجب ان لا ينفعل ما بين اول الخط و آخره بل يقع الشبح من الطرف الملامس الى الطرف الآخر من غير انفعال الاجزاء فى الوسط، و كان يجب ان يكون الاداء على الخط المستقيم و لا يؤدى على زاوية العكس و هذا مما لا يقال» انتهى (ص 312 ج 2). و لا يخفى عليك ان الفخر بيّن المراد ملخّصا و رأينا نقل كلامه مفيدا لفهم كلام الشيخ- قدس سره.

ثم انّ الشيخ اكثر التدقيق فى المقام حيث قال: «و ليس فى جهة» الخ. يعنى و ليس ذلك الجرم الشعاعى فى جهة ذلك الخط اى خط «ا ه» بحيث يتصل به اى بذلك الجرم الشعاعى. و ان شئت قلت بخط «ا ه» و المآل واحد. ذلك الخط فى تلك الجهة اى خط «ا ب ج» فيتصل به فى «ه». فعلى هذه الدقة يخرج هذا الجرم الشعاعى من «ا» و هى نقطة البصر و ينتهى الى «ج» و يماسه بنقطة منه او بسطح منه. ثم يقال بعد هذا فيجب ان‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 188

نفسه‏ «1» و لكن فى سطح منه أو نقطه‏ «2» هى فناؤه و نهايته، و ليس فى جهة ذلك الخط «3» بحيث يتصل به ذلك الخط من تلك الجهة فينفعل عنه، بل على غير امتداد ذلك الخط، فيجب أن لا ينفعل‏ «4» ما بين أول الخط و آخره، بل يقع الشبح من السطح الملامس إلى السطح الثانى دفعة «5» من غير انفعال الأجزاء فى الوسط. و ذلك لأن المتصل لا مقطع له‏

______________________________
- لا ينفعل الخ.

و قوله: «بل على غير امتداد ذلك الخط» يمكن ان يكون اضرابا عن ليس الثانى. اى بل يكون ذلك الجرم الشعاعى على غير امتداد ذلك الخط و هو خط «ا ه». او يكون اضرابا عن ليس الاول، اى يكون الاثر و الشبح على غير امتداد ذلك الجرم الشعاعى بل فى طرف منه. فتبصّر.

قال بهمنيار فى التحصيل: نقطة فان كان الشبح و الاثر ليس فى الجرم الشعاعى الممتد نفسه و لكن فى سطح منه او نقطة هى فناؤه و نهايته و ليست الى جهة ذلك الخط فيجب ان لا ينفصل ما بين اول الخط و آخره بل يقع الشبح من السطح الملامس الى السطح الثانى دفعة من غير انفعال لاجزاء الوسط و ذلك محال لان المتصل لا مقطع له بالفعل او وجب ان يكون الاداء على الخط المستقيم و لا يؤدى على زاويه ألبتة لان لنقظ الزاوية اعراضا عن الاستقامة و هذا مما لا يقال. و بيّن ان انفعال خط «ه ا» من خط «ج ه» كانفعال. خط «ا ب» من «ه ب» بل هو اقرب و اولى لانه على خط الاستقامة.

و قال الرازى: و ان كان الاثر فى طرف الجسم الشعاعى فقط فيجب ان لا ينفعل ما بين اول الخط و آخره بل يقع الشبح من الطرف الملامس الى الطرف الاخر من غير انفعال للاجزاء فى الوسط او كان يجب ان يكون الاداء على الخط المستقيم و لا يؤدى على زاوية العكس و هذا مما لا يقال.

(1)- تأكيد للجرم.

(2)- اى الشبح و الاثر فى نهايته فقط.

(3)- اى خط: «ه».

(4)- اى على تقدير ان الاثر فى طرف الجسم الشعاعى فقط.

(5)- فى تعليقة نسخة: اى على سبيل الطفرة و هى محال.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 189

بالفعل‏ «1»، أو وجب أن يكون الأداء «2» على الخط المستقيم و لا يؤدى على زاوية ألبتة، لأن لنقطة الزاوية إعراضا عن الاستقامة و هذا مما لا يقال.

فبين من هذا أن انفعال خط «ه ا» من خط «ج ه» كانفعال خط «ب ا» من خط «ه ب» بل هو أولى و أقرب. فيجب أن يتأدى شبح «ج» من كلا خطى «ه ا، ب ا» فيجب أن يرى «ج» حينئذ لا شيئا واحدا بل شيئين اثنين. و أيضا يجب أن يتأدى شبح «د» مع شبح «ج» و يضعون أن شبح «ب» متأد مع شبح «ج»، فيجب أن ترى الأشباح الثلاثة معا، و جميع هذا غير كائن.

و على هذا القياس إن كانت‏ «3» متماسة فإنها إن كان كل جزء منها يقبل الأثر بجميع جرمه وجب بمماسته الفعل و التأثير فى الذى يليه، و إن كان لا إلا فى السطوح التى تقابل المبصر «4» لم يجز فى شى‏ء من الزوايا التى‏

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: قوله: «لا مقطع له بالفعل» حتى يقال لا يقع الشبح من السطح الملامس الى السطح الثانى لانقطاع الخط و عدم اتصال الخط بالبصر و هذا الوقوع محال لان الشبح لا يجوز ان يطفى بل يجب ان يعبر عن الوسط و اذ عبر عن الوسط فالوسط لا محالة ينفصل عن الشبح اذ المراد انه لما لم يكن بين السطح الملامس و السطح التالى انقطاع و فرض ان الشبح يقع من الملامس الى الثانى فلا محالة عبر عن الوسط من غير انفعال الوسط عنه و ذلك محال.

(2)- فى تعليقة نسخة: هذا على تقدير فرض الشبح فى نهاية الخط الشعاعى التى يقع على سطح المرآة اى فى السطح الذى مقابل للبصر و لا يكون للشبح اثر فى الخط الانعكاسى اصلا.

(3)- اى الخطوط الشعاعية.

(4)- قوله: «و ان كان لا الّا فى السطوح التى تقابل المبصر». اقول هكذا كانت العبارة فى النسخ المصحّحة التى عندنا. و كلمة «يؤثر» زائدة. و الصواب بدونها. و معنى العبارة هو هكذا: اى و ان كان كل جزء منها لا يقبل الاثر بجميع جرمه الا فى السطوح التى الخ.

ثم، السائل فى قوله: «فان سئلنا نحن» اصحاب الشعاع، و المسئول اصحاب الانطباع، و هم يقولون ان الهواء مؤد على الاستقامة او على هيئة ما شبح المرئى الى البصر.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 190

تقع حائدة عن ذلك السطح أن يتأدى منها المبصر إلى البصر.

فإن سئلنا نحن: أنكم ما بالكم توجبون أن تقع تأدية هذا الشبح على الاستقامة أو على هيئة مّا و قوعا إلى بعض الأبصار المماسة له دون بعض.

فنقول: أما نحن بالحقيقة فلا نقول: إن الهواء مؤدّ على أنه قابل شى‏ء ألبتة من الرسوم و الأشباح من شى‏ء ليحمله إلى شى‏ء، بل نقول: إن من شأن النيّر أن يتأدى شبحه إلى المقابل له إن لم يكن بينهما عائق هو الملون، بل كانت الواسطة بينهما مشفة. و لو كانت الواسطة قابلة أو لا ثم مؤدية «1» لأدّت إلى الأبصار كلها كيف كان وضعها «2» كما تؤدّى الحرارة إلى الملامس كلها كيف كان وضعها.

ثم من الأمور التى يجب أن يبحث عنها فى هذا الموضع هو أنّ كثيرا ما نرى الشبح و ذا الشبح معا دفعة واحدة و نراهما متميزين، أعنى أنا نرى فى المرآة شبح شى‏ء و نراه أيضا بنفسه من جانب و ذلك معا، و عسى أن ذلك إنما يقع بسبب خطى شعاع أحدهما يصير إليه بالاستقامة، و الآخر على زاوية عكس. و لأن الواقعين على الشى‏ء اثنان‏ «3»، فمن جهة ذلك‏

______________________________
- ثم، اعلم ان عبارات التحصيل فى المقام مطابقة للشفاء و هو نقل العبارة المذكورة ايضا هكذا: «و ان كان لا الّا فى السطوح التى ...» ص 775- ط 1.

(1)- يكون المشف مؤدّيا بمعنى انه شرط لحصول الابصار (ص 294 ج 2 من المباحث المشرقية).

(2)- فى تعليقة نسخة: و لكن ليس كذلك و الواسطة لا تكون قابلة بل تكون مؤدية.

(3)- قال الرازى فى المباحث المشرقية ج 2 ص 312: «اما ان يكون ذلك بسبب انه وقع شعاعان على المرئى او لان احدهما اتصل به على الاستقامة و الاخر اتصل به منعكسا عن المرآة و الاول باطل لوجهين:

اما اولا فلان وقوع الشعاعين على المرئى لا يوجب ان يرى الواحد اثنين فان الاشعة عندهم كلما تراكمت و اجتمعت كان الادراك اشد تحقيقا و ابعد عن الغلط فى العدد و الخصوم معترفون بذلك. و اما ثانيا فلانه لا يمكن ان يلمس شعاعان شيئا واحدا لان‏

النفس من كتاب الشفاء، ص: 191

نراه اثنين فنحصّل الآن هذا هل هو ممكن أو ليس بممكن.

فنقول: إن وقوع جزئين على المبصر لا يوجب أن يرى الشى‏ء الواحد اثنين، فإن الشعاع عندهم كلما اجتمعت أجزائه على المبصر و تراكمت كان إدراكها إياه أشد تحقيقا و أبعد عن الغلط فى العدد. و الخصوم معترفون بهذا و لا يوجبون أن شعاعا واحدا إذا رأى الشى‏ء وحده كان واحدا، فإن وقع عليه شعاع آخر و اتصل به صار فى الرؤية بسببه غلط.

على أنه لا يمكن أن يلمس شيئا واحدا شعاعان معا لا شعاعا أصل و لا شعاعا أصل و عكس. و الشعاع جسم على ما يرونه، لأن الجسم لا ينفذ فى الجسم، بل يجوز أن يقع شعاع على شعاع.

فإن سلكنا هذه السبيل لم يكن الإبصار بكليهما على سبيل اللمس؛ بل يكون أحدهما يلمس و الآخر يقبل منه، و سواء كان الشعاعان طرفى خطين خرجا على الاستقامة أو أحدهما و الآخر من جانب العكس.

فإذن إن كان هاهنا فليس وقوع شعاعين على واحد مطلقا، بل بالشرط «1» و هو أن أحد الشعاعين وقع عليه وحده‏ «2»، و الشعاع الثانى أيضا وقع معه على غيره.

______________________________
- الشعاع جسم و الجسم لا ينفذ فى الجسم.

و القسم الثانى باطل بمرآتين توضعان متقابلتين فان كل شعبة شعاع فهى واقعة على الاثنين جميعا فلا يمكن ان يجعل احد الشعاعين مؤديا للشبح و الاخر لذى الشبح فان كل واحد منهما ادرك ما ادرك الآخر و المدرك واحد فكان يجب ان يكون الادراك منهما واحدا و ليس كذلك». و راجع ايضا ص 776 من التحصيل لبهمنيار.

(1)- بل بشرط، نسخة.

(2)- فى تعليقة نسخة: و هذا هو الشق الذى اشار اليه سابقا بقوله: «و عسى ان ذلك انما يقع بسبب خطى شعاع احدهما يصير اليه بالاستقامة و الاخرى على زاوية عكس».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 192

و هذا القسم يبطل بمرآتين توضعان متقابلتين، فإن الأشعة لا تفترق فيهما «1» من هذه الجهة، بل كل شعوب شعاع فهو واقع على الاثنين جميعا. و مع ذلك فإن البصر يرى كل مرآة و شبحها دفعة. و الشعاعان هاهنا لا يفترقان، و لا يجوز «2» أن يؤدّى شعاع شبحا و الآخر غير ذلك الشبح، فإن كل واحد منهما أدرك ما أدرك الآخر و المدرك واحد فيجب أن لا يكون الإدراك و الأداء اثنين، بل يجب أن يأتى البصر صورة كل مرآة مرة غير مكررة. و إن تكررت بسبب العكس‏ «3» و كان لذلك وجه و عذر

______________________________
(1)- اى لا تفترق فى الادراك و التأدية. و فى نسخة: لا تفترق بينهما.

(2)- فلا يجوز ان يؤدى، كما فى عدة نسخ.

(3)- قال الرازى فى المباحث المشرقية ج 2 ص 324: «فان قيل اذا اتصل بالمرآتين شعاعان على الاستقامة وجب ان ترى ذات كل واحد منهما ثم انه ينعكس الشعاع من كل واحدة الى الاخرى فيجب ان نرى شبح كل واحدة منهما فى الاخرى. فنقول و ان سلّمنا ما ذكر تموه لكنه يبقى الاشكال من وجوه اربعة:

الاول ما السبب فى ان كل واحدة من المرآتين تتأدّى عنها اشباح كثيرة حتى نرى مرارا كثيرة فانه اذا انعكس الشعاع عن مرآة «ا» الى مراة «ب».

رأينا «ب» فى «ا». ثم اذا انعكس من «ب» الى «ا» رأينا «ا» فى «ب» ثم اذا انعكس مرة اخرى من «ا» الى «ب» رأينا «ب» فى «ا» مرة اخرى فحينئذ قد راينا شبح «ب» مرتين و كان يجب ان يمتنع ذلك لان الشعاع اتصل به فى المرآتين على وجه واحد و هو الانعكاس.

و الثانى ما بال المرآتين يرى شبح كل واحدة منهما مرارا كثيرة كل مرة اصغر مما قبلها و ما السبب لذلك التصغر فان قالوا الشعاع اذا تردد طالت مسافته فيستدقّ و كلما ازداد التردد ازداد الاستدقاق فازداد صغر المرئى فنقول ذلك باطل من وجوه ثلاثة:

اما الاول فان كل ما ذكر تموه يقتضى ان تكون تلك الخطوط الشعاعية اذا تراكمت ان لا تصير

النفس من كتاب الشفاء، ص: 193

متكلف لنسامح فى تسليمه، فلا يجب أن يقع تكرار بعد تكرار فما بال كل واحدة من المرآتين تتأدى عنها أشباح كثيرة حتى ترى المرآة الواحدة مرارا كثيرة، مرة واحدة ترى نفسها كما هى و مرارا كثيرة جدا شبحها.

فإن قلنا: إن الشعاع لما انعكس من هذه المرآة إلى الأخرى رأى الاخرى فى هذه المرآة، ثم لما انعكس مرة أخرى إلى الأولى رأى الأولى فى هذه الأخرى، فإذا «1» انعكس مرة أخرى فلم لا يرى كما رآه مرة

______________________________
- كخط واحد بل تبقى خطوطا معطوفة موضوعة بعضها تحت بعض محفوظة التميز.

و اما الثانى فلان الموجب لان يرى الكبير صغيرا تصغّر زاويه الشعاع و معلوم ان البعد المنعرج لا يؤثر فى تصغر الزاوية كما يؤثر فيه البعد المستقيم.

و اما الثالث فلان ما قالوه يبطل بما اذا بعّدنا المراة اضعاف ما تقتضيه الانعكاسات فانه لا يرى ذلك الشى‏ء بذلك الصغر مثلا اذا انعكس الشعاع من «ا» الى «ب» ثم من «ب» الى «ا» هكذا اربع مرات و البعد بينهما شبران فالذى قطعه الشعاع من مسافته المنفرجة ثمانية اشبار فلو انا بعدنا المرآة عن مركزها عشرة اشبار لم نكن نراه بذلك الصغر فبطل ما قالوه.

و الوجه الثالث فى الجواب عن السؤال الاول ان الصورة الماخوذة عن الشى‏ء بذاته و المأخوذة بعكسين كل ذلك يختلف عند البصر و ذلك الاختلاف اما بالماهية او بالعوارض العارضة لها بسبب المادة. اما الاول فباطل لان الصورتين هاهنا واحدة فى الماهية. و الثانى ايضا باطل لان قابلهما و هو العين واحد فاذا يمتنع ان تكون الصورتان اثنتين فضلا عن ان تكونا مختلفتين. و اما عند اصحاب الاشباح فالشناعة غير لازمة لانه الصورتين ماخوذتان عن شيئين احدهما حاملها الاول و الثانى الجسم الصقيل القابل لشبحها نوعا من القبول و الفاعل لها نوعا من الفعل.

و الرابع انه اذا اتصل بالمرئى شعاع على الاستقامة و آخر بالانعكاس فالثانى لا ينفذ فى الاول لامتناع تداخل الاجسام فاما ان يلامس شيئا من اجزاء المرئى غير مالمسه الاول فلا يكون ادراك الشعاعين بشى‏ء واحد بل احدهما يدرك بعض اجزاء المرئى و الثانى يدرك شبح الباقى و اما ان يكون الثانى يلمس اللامس السابق فحينئذ يجب ان يرى ما يرى بحسب الانفعال منه بسبب الاتصال به و بطلت شريطة زاوية العكس».

(1)- جواب ان قلنا.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 194

أولى، إلا أن يقولوا إن الأول رآه بجزء «1» و الآخر رآه بجزء آخر. فإن كانت الأجزاء مؤدية لا رائية فليس تؤدى أشياء أخرى، بل ذلك الشبح بعينه و اختلاف وقوعها عليه بعد كونه واحدا بعينه لا يوجب اختلافا فى الرؤية. فقد بينا ذلك أيضا، فإن عندهم أن أجزاء المنعكس تجتاز على المبصر «2» المنعكس عنه اجتيازا، فيجب أن تتبدل صورته فى تلك الأجزاء. و مع ذلك فليس يجب من تبدلهما عليه أن تزيد فى عدد ما يدرك أولا و ثانيا إذ كان ما يؤدّى من الصورة واحدة «3»، و إن كانت الأجزاء بأنفسها رائية وجب ما قلنا فى امتناع رؤية شبح المنعكس إليه‏ «4» فى شبح المنعكس عنه. ثم لم يجب أن يرى الأشباح عن قليل‏ «5» و قد صغرت‏ «6».

فعسى أن يقولوا: إن الشعاع إذا تردد طالت مسافته فرأى كل مرة أصغر ففارق الأول الثانى بالصغر، فيجب أن يكون أولا الخطوط الشعاعية إذا تراكمت لا تكون كخط واحد أغلظ و أقوى من الأول، بل تبقى خطوطا معطوفة موضوعة بعضها بجنب بعض محفوظة القوام لا تتحد. و هذا «7» الحكم عجيب. و بعد ذلك‏ «8» فإنهم لا يجدون للصغر «9»

______________________________
(1)- من الشعاع.

(2)- فى تعليقة نسخة: اى غير لابثين عليه.

(3)- واحدا، نسخة.

(4)- فى تعليقة نسخة: اى بالتمام بل يتبدل صورة المنعكس اليه كما ان اجزاء شعاع المنعكس تجتاز على المبصر المنعكس عنه و لم ير المنعكس اليه بالتمام.

(5)- اى عن بعد قليل.

(6)- فى تعليقة نسخة: كما يرى فى المرايا المتقابلة كذلك.

(7)- اى عدم الاتحاد.

(8)- اى ثانيا.

(9)- للتصغّر، نسخة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 195

بالبعد المنعرج من عند عدد «1» الزاوية ما يوجد للبعد المستقيم.

ثم ما يقولون فى ذلك المرئى بعينه؟، فإنه إذا بوعد به أضعاف ما تقتضيه المساحة بين الانعكاسات لم ير بذلك الصغر. مثلا إذا انعكس البصر «2» من مرآة «ا» إلى مرآة «ب» فرأى صورة «ب» فى مرآة «ا» ثم انعكس البصر من مرآة «ب» إلى مراة «ا» فرأى صورة «ا» فى مرآة «ب»، ثم انعكس البصر من مرآة «ا» إلى مرآة «ب» فرأى صورة مرآة «ا». ثم كذلك رأى صورة «ب» فى مرآة «ا» و البعد بينهما شبران فيجب أن يكون ما قطعه الشعاع من مسافة المنعرجة ما بين العين و إحدى المرآتين ثمانية أشبار. و لو أنّا بعّدنا مرآة ب من مركزها عشرة أشبار فما فوقها لم يكن نراه بذلك الصغر. على أن العجب فيما ذكرناه هو من افتراق الصورة المأخوذة عن الشى‏ء بذاته، و المأخوذة عنه بالعكس، أو المأخوذة عنه بعكسين، فإن جميع ذلك متفرق عند البصر. و الصورتان المأخوذتان هما عن مادة واحدة فى قابل واحد فبماذا تفترقان. لأن افتراق الصور إما بالحدود و المعانى و إما فى القوابل؛ و الصورتان معنياهما واحد و حاملهما

______________________________
(1)- المنعرج من تحدد الزاوية، نسخة. و فى تعليقة نسخة: و معلوم ان البعد المنعرج لا يؤثر فى تصغر الزاوية كما يؤثر فيه البعد المستقيم.

(2)-

النفس من كتاب الشفاء، ص: 196

الأول واحد «1»، و قابلهما الثانى واحد، فيجب أن لا تكونا اثنين.

أما على مذهبنا، فإن هذه الشناعة غير لازمة، لأن الصورتين عندنا مأخوذتان عن قابلين: أحدهما حاملهما الأول‏ «2»، و الثانى الجسم الصقيل القابل لشبحهما نوعا من القبول و الفاعل‏ «3» بصورهما فى العين نوعا من الفعل.

ثم العجب‏ «4» فى أمر الشعاع بعد الشعاع، فإنه إن كان الأمر على ما قلنا من أن الشعاع الثانى لا يجب أن ينفذ فى الأول، بل يماسه من خارج فكيف يلامس الشعاع المنعكس المرئى‏ «5» فرآه‏ «6»، و إنما يلامس ما غطّاه من لامسه السابق.

فإن كان يرى ما رآه ذلك بحسب الانفعال منه و قبول ما قبله بسبب الاتصال به، بطلت شريطة الانفعال على الزاوية المعينة، و كان أيضا إنما أدرك ما أدرك الأول لا شيئا غيره‏ «7» بالعدد بوجه من الوجوه، و إن كان كل يلامس شيئا من أجزاء الشى‏ء غير ما يلامسه الآخر، فليس و لا واحد منهما بمستقصى الإدراك و لا إدراكهما لشى‏ء واحد «8».

______________________________
(1)- الحامل الاول هو المادة الخارجية، و الحامل الثانى هو الذهن. فراجع ص 57 ج 4 ط 1- ج 8 ص 234 ط 2 من الاسفار.

(2)- فى تعليقة نسخة: الحامل الاول هو الشعاع الذى يقع على المرئى مستقيما و الحامل الثانى هو الشعاع الذى يقع على المرئى منعكسا.

(3)- اى ذلك الجسم الصقيل.

(4)- فى تعليقة نسخة: هذا الايراد ايضا على تقدير رؤية الاشباح فى المرايا المتقابلة.

(5)- مفعول يلامس.

(6)- فيراه، نسخة.

(7)- فى تعليقة نسخة: و الحال انه ليس كذلك.

(8)- بل جزء من شى‏ء واحد.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 197

الفصل السابع فى حلّ الشبه التى اوردوها و فى اتمام القول فى المبصرات التى لها أوضاع مختلفة من مشفّات و من صقيلات‏

فلنحلّ الآن الشبه المذكورة «1». فأما ما تعلّقوا به من أن القرب يمنع الإبصار و أن انتقال الألوان و الأشكال عن موادها مستحيل، فهذا إنما كان يصح لهم لو قيل: إن الإبصار أو شيئا من الإحساسات إنما هو بنزع الصورة عن المادة على أنه أخذ نفس الصورة من المادة و نقلها إلى القوة الحاسة. و هذا شى‏ء لم يقل به أحد، بل قالوا إن ذلك على سبيل‏

______________________________
(1)- تعرض الرازى للرد على القائلين بان الابصار لاجل خروج الشعاع فى المباحث المشرقية ج 2 ص 296: «انا ما نقول انه تنتقل الصورة من المحسوس الى الحس بل نقول ان البصر يقبل فى نفسه صورة من المبصر مشاكلة للصورة التى له و المحسوسات التى لا تحس الا مع المماسة كاللمس و الذوق فليس يسلب الحاس صورها بل يوجد فيها مثل صورها و ليس بمستبعد ان يكون من الاشياء ما لا ينفعل الا عن الملاقى و منها ما لا ينفعل الا عن المحاذى مثل الابصار فانه لاحتياجه الى توسط شفاف و هو الهواء و الى كون المرئى مضيئا و كلاهما لا يوجدان عند ملاقاة الحاس و المحسوس فلا جرم يمتنع ان ينفعل عن الملاقى بل لا ينفعل الا عن المحاذى و لما لم يكن على فساده حجّة لم يجب انكاره».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 198

الانفعال. و الانفعال ليس أن يسلخ المنفعل قوة الفاعل أو كيفيته، بل أن يقبل منه مثلها أو جنسا غيرها.

و نحن نقول: إن البصر يقبل فى نفسه صورة من المبصر مشاكلة للصورة التى فيه لا عين صورته، و هذا الذى يحسّ أيضا بالتقريب كالمشموم و الملموس فليس يسلب الحاس بذلك صورته، بل إنما يوجد فيه مثل صورته.

لكن من الأشياء ما إلى الانفعال منه سبيل بالملاقاة، و منها ما إذا لوقى انقطع عنه شى‏ء يحتاج إليه حتى يؤثر أثره، و هو فى هذا الموضع هو الشعاع المحتاج إلى اتصاله بالصورة المرئية فى أن يلقى ذو الصورة شبحا من صورته فى غيره مناسبا لما نراه إلقائه شبحه المؤكد إذا اشتد عليه الضوء، حتى أنه يصبغ ما يقابله بصبغه قارّا فيه‏ «1» متحققا إذا كان ما يقابله قابلا لذلك و لو بتوسط مرآة أيضا، و مع الاحتياج إلى استضاءة المرئى فإنه يحتاج أيضا إلى متوسط كالآلة تعينه عليه و هو الإشفاف، و أن يكون للمقدار منه حد محدود لا يقع الأصغر منه فيه.

و من الدليل على أن المدرك يأخذ شبحا من المدرك ما يبقى فى الخيال من صورة المرئى حتى يتخيله متى شاء، افترى أن ذلك المتخيل هو صورة الشى‏ء فى نفسه، و قد انتقل إلى الخيال و تجرّد تجرّد الشى‏ء عن صورته، كلّا بل هو شى‏ء غيره مناسب له.

و أيضا فإن بقاء صورة الشمس فى العين مدة طويله إذا نظرت إليها ثم أعرضت عنها يدلّك على قبول العين للشبح، و كذلك تخيل‏

______________________________
(1)- كما فى نسخنا كلّها. و فى المطبوعة بمصر: «فادّاه».

النفس من كتاب الشفاء، ص: 199

القطرة النازلة خطا و النقطة المتحركة على الاستدارة بالعجلة دائرة، و لا يمكنك أن تتخيل ذلك و تراه إلا أن ترى امتدادا مّا، و لا يمكن أن ترى امتدادا من نقطة متحركة فى غير زمان و لا من غير أن تتخيل الشى‏ء فى مكانين.

فيجب أن يكون لكون‏ «1» القطرة فوق ثم تحت و امتدادها ما بين ذلك، و كون النقطة على طرف من المسافة التى تستدير فيها و على طرف آخر، و امتدادها فيما بين ذلك، متصور الشبح‏ «2» عندك. و ليس ذلك بحسب آن واحد، فيجب إذن أن يكون شبح ما تقدم مستحفظا بعده باقيا عقيبه، ثم يلحقه الإحساس بما تأخر و يجتمعان امتدادا كأنه محسوس. و ذلك لأن صورته راسخة و إن كانت القطرة أو النقطة قد زالت عن أىّ حدّ فرضت و لم تبق فيه زمانا.

و أما ما ذكروه من أمر النور الذى يتخيّل بين يدى العين، فالسبب فى غلطهم به أن ذلك عندهم ليس يكون إلا على وجه واحد «3»، حتى ظنوا أنه لا يجوز أن تكون العين شيئا له فى جوهره ضوء كالأشياء اللوامع التى ذكرناها فيما سلف. فإذا كانت ظلمة لمع و أضاء ما قدّامه بكيفية تؤثرها لالشى‏ء ينفصل عنه و كأنّه لا يجوز أيضا أن يكون الحك و اللمس قد يحدث شعاعات نارية لطيفة فى الظلمة، كما يتفق من مس ظهر السنور

______________________________
(1)- كما فى جميع النسخ المخطوطة التى عندنا. و فى المطبوعة بمصر: «يكون تكوّن القطرة».

(2)- خبر يكون.

(3)- راجع ص 290 ج 2 من المباحث المشرقية. و فى تعليقة نسخة: و هو انفصال النور عن العين فقط.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 200

و إمرار اليد على المخدّة و اللحية فى الظلمة.

و قد يظهر لك أنه لا يبعد أن تكون الحدقة نفسها مما يلمع ليلا و يضى‏ء و يلقى شعاعها على ما يقابلها، فإن عيون كثير من الحيوان بهذه الصفة كعين الأسد و الحية. فإذا كانت كذلك جاز أن ينير المظلم. و لهذا ما كان كثير من الحيوانات ترى الظلمة لإنارتها الشى‏ء بنور يفيض من عينيها و لقوة عينها.

و أما حديث امتلاء الحدقة عند تغميض الأخرى فمن الذى ينكر أن يكون فى العصبة المجوّفة جسم لطيف هو مركب القوة الباصرة، و هو الذى يسمى الروح الباصر «1» أنه يتحرك تارة مستبطنا هاربا و تارة مستظهرا محدقا. فإذا غمضت إحدى العينين هربت من التعطل و من الظلمة طبعا، فمالت‏ «2» إلى العين الأخرى، لأن المنفذ فيهما مشترك على ما يعرفه أصحاب التشريح. و ليس إذا امتلأ شى‏ء من شى‏ء، يجب أن يكون فى طبع المالئ بروز و خروج و ذهاب فى الأرض و مسافرة إلى أقطار العالم.

و أما حديث المرآة «3» فيلزم سؤالهم جميع من عنده أن المرآة تنطبع فيها صورة المحسوس. لكن الأجوبة التى يمكن أن يجاب بها عن ذلك ثلاثة:

جواب كأنّه مبنى على مذهب مشهور، و هو أن الصورة لا تنطبع فى‏

______________________________
(1)- فى بعض النسخ: الروح الباصرة. (و الروح يذكر و تؤنث).

(2)- هرب- فمال. نسخة.

(3)- راجع ص 288 و 294 من المباحث المشرقية. و فى تعليقة نسخة: و هو انكار انطباع الصورة فى المرآة.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 201

المرآة على الهيئة التى تنطبع الصورة المادية فى موادها و بحيث لا تجتمع فيه الأضداد، بل هذه الصورة تنطبع كليتها فى كلية المرآة، و لا بأس أن يجتمع فيها شبح بياض و سواد معا لأنهما فيها لا على سبيل التكيف بهما، بل كما يكون فى المعقول. و العقول تعقل السواد و البياض من غير تعاند و لا انقسام. ثم إنما يتأدى إلى البصر ما يكون على نسبة ما بين الثلاث أعنى البصر و المرآة و المبصر. و لا تتفق نسبة الجميع من كل جزء من المرآة، بل يكون جزء منها «1» يؤدى البياض بعينه و جزء آخر يؤدّى السواد بعينه و يتحدد بينهما حدّ فى الرؤية، فتكون جملة الأداء و التحدد محصلة لصورة مثل المبصر فى البصر.

و هذا الجواب مما لا أقول به و لا أعرفه، و لا أفهم كيف تكون الصورة تنطبع فى جسم مادى من غير أن تكون موجودة فيه، و قد يخلو الجسم عنها و هى منطبعة فيه، و كيف يكون غير خال عنها و هو «2» لا يرى فيه، بل ترى صورته التى له، مع أن من شأن ذلك أيضا أن يرى. أو كيف يكون خاليا بالقياس إلى واقف دون واقف و هذا اشتطاط «3» و تكلف بعيد.

و مما فيه من التكلّف أنهم لا يجعلون للشكل انطباعا فيه. فإن جعلوا جعلوا الشكل غير محدود، و مما فيه من التكلف أن يجعلوا صورة السواد فى جسم من غير أن يكون ذلك سوادا للجسم، و أن يجوّزوا أيضا اجتماع البياض فيه فى وقت واحد و يجعلوا صورة السواد غير السواد و صورة

______________________________
(1)- قوله: «بل يكون جزء منه يؤدى» هكذا كانت النسخ المخطوطه التى عندنا. و فى مطبوعة مصر: «بل يكون جزء منها يؤدى» و هو الصواب، لارجاع الضمير الى المرآة.

(2)- و هى. نسخة. و فى تعليقة نسخة: اى المرئى و المبصر الذى يتراى فى المرآة.

(3)- الشطط: الجور و الظلم و البعد عن الحق.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 202

البياض غير البياض.

و أما حديث العقل و المعقول فدعه إلى وقته.

و أما الجوابان الآخران اللذان يمكن أن يجيب بهما مجيب: أحدهما متشدّد فيه و الآخر مقارب فيه‏ «1».

فأما المتشدد فيه فأن يقال: أما أولا فليس يجب إذا كان شى‏ء يحتاج إليه أن يفعل شى‏ء فى شى‏ء أن يكون المحتاج إليه مثل المرآة او المشف هاهنا ينفعل من المبدأ مثل الانفعال الذى ينفعل به الثالث، فيرى أن السيف إذا أولم به الم، و الهدية إذا سر بها سرّت.

و أما ثانيا فليس بيّنا بنفسه و لا ظاهرا لا شك فيه أن كل جسم فاعل يجب أن يكون ملاقيا للملموس، فإن هذا و إن كان موجودا بالاستقراء فى أكثر الأجسام فليس واجبا ضرورة أن يكون كل فعل و انفعال باللقاء و التماس، بل يجوز أن تكون أفعال أشياء فى أشياء من غير ملاقاة. فكما يجوز أن يفعل ما ليس بجسم فى الجسم من غير ملاقاة كالبارى و العقل و النفس، فليس ببدع أن يكون جسم يفعل فى جسم بغير الملاقاة، فتكون أجسام تفعل بالملاقاة و أجسام تفعل لا بالملاقاة.

و ليس يمكن أحدا أن يقيم برهانا على استحالة هذا. و لا على أنه لا يمكن أن يكون بين الجسمين نصبة «2» و وضع يجوز أن يؤثر أحدهما فى الآخر من غير ملاقاة، إنما يبقى هاهنا ضرب من التعجب كما لو كان انفق أن كانت الأجسام كلها إنما يفعل بعضها فى بعض بمثل تلك النصبة «3» المباينة، فكان إذا اتفق أن شوهد فاعل يفعل بالملاقاة يعجب منه كما

______________________________
(1)- متقارب فيه. نسخة. اى مساهل فيه كما سيصرح به.

(2 و 3)- علم و نشانه. نسبة، النسبة- خ ل.

 

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: يعنى اذا نفذ فى الماء لزم ان يمتد منتظما بل انتظامه فى الضيق اولى من انتظامه حيث انتشاره فى سعة العالم كذا فى التلخيص.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 207

فإن كان وضع السطح فى المحاذاة التى بين الرائى و المضى‏ء الفاعل للاستنارة لم ير ذلك السطح كسطح الفلك و الهواء.

و إن كان السطح خارجا عن ذلك كسطح الماء و نحن فى الهواء، و المضى‏ء ليس فى هذه المحاذاة، فإن ذلك السطح ينعكس عنه الضوء الآتى من المضى‏ء إلى البصر، فيرى متميزا، فقد علمت ما نعنى بالعكس. و إن كان فى داخل السطح المنعكس عنه مرئى أراه ما هو فيه على أنه مشف و أراه على أنه مرآة، و كانت المرآة التى هناك مطابقة لما يحاذى المرئى إن كان مكشوفا للرائى.

و إن كان مستورا و كانت المرآة ملتقى الخط الخارج من البصر و العمود الخارج من المرئى الذى فى الماء، فإن شبحه يتأدى عنه على استقامة.

فإنك إن ألقيت خاتما فى الطشت بحيث لا تراه ثم ملأته ماء رأيته.

و إن كان المرئى خارجا عن شفاف متوسط غير الشفاف الذى فيه الرائى و المضى‏ء، فإن المشف المتوسط يريه و إن كان ليس كذلك‏ «1»، بل هو من جهة الرائى، فإن سطح ذلك المشف لا يريه إلا أن يجعل له لون غريب بشى‏ء يوضع من ذلك الجانب حتى يرى ككرة البلور الملون أحد جانبيها.

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: قوله و ان كان ليس كذلك: يعنى ان كان ذلك المشف وقع خلف المرئى بالنسبة الى الرائى فان كان المرئى متوسطا بين البصر و ذلك المشف لم يؤده المشف كذا فى التلخيص.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 208

الفصل الثامن فى سبب رؤية الشى‏ء الواحد كشيئين‏

لنقل فى سبب رؤية الشى‏ء الواحد كشيئين فإنه موضع نظر، و ذلك لأنه أحد ما يتعلق به أصحاب الشعاعات أيضا. و يقولون: إنه إذا كان الإبصار بشى‏ء خارج من البصر يلقى المبصر ثم يتفق أن ينكسر وضعه عند البصر «1»، وجب أن يرى الشى‏ء الواحد لا محالة كشيئين متباينين فيرى اثنين. و ليسوا يعلمون أن هذا يلزمهم الشناعة بالحقيقة، و ذلك لأن الإبصار إن كان بمماسة أطراف الشعاعات و قد اجتمعت عليه، فيجب أن يرى على كل حال واحدا. و لا يضر فى ذلك انكسار أطراف الشعاعات المنكسرة.

بل الحق هو أن شبح المبصر يتأدى بتوسط الشفاف إلى العضو القابل المتهيئ الأملس النيّر من غير أن يقبله جوهر الشفاف أصلا من حيث هو

______________________________
(1)- فى تعليقة نسخة: انكسار النور هو انحراف النور عن جهة مسيره اذا اجتاز الى مادة شفافة اكثف او الطف من التى كان مسيره فيها فاذا اجتاز الى مادة اكثف صار الى نحو خط عمودى فرض فى تلك المادة من ملتقى النور مع سطح تلك المادة على ذلك السطح، و اذا اجتاز الى الطف صار عن العمودى المذكور.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 209

تلك الصورة، بل يقع‏ «1» بحسب المقابلة لا فى زمان، و أن شبح المبصر أوّل ما ينطبع إنما ينطبع فى الرطوبة الجليدية، و أن الإبصار بالحقيقة لا يكون عندها، و إلا لكان الشى‏ء الواحد يرى شيئين لأن له فى الجليدتين شبحين كما إذا لمس باليدين كان لمسين. و لكن هذا الشبح يتأدى فى العصبتين المجوّفتين إلى ملتقاهما على هيئة الصليب، و هما عصبتان نبيّن لك حالهما حين نتكلم فى التشريح.

و كما أن الصورة الخارجة يمتد منها فى الوهم مخروط يستدق إلى أن توقع زاويته وراء سطح الجليدية، كذلك الشبح الذى فى الجليدية يتأدى بوساطة الروح المؤدية التى فى العصبتين إلى ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقى المخروطان و يتقاطعان هناك‏ «2» فتتّخذ منهما صورة شبحية واحدة عند الجزء من الروح الحامل للقوة الباصرة.

ثم أن ما وراء ذلك روحا مؤدّية للمبصر لا مدركة مرة أخرى، و إلا لافترق الإدراك مرة أخرى لافتراق العصبتين. و هذه المؤدّية هى من‏

______________________________
(1)- اى هذا التأدى.

(2)- قوله قدّس سره: «و يتقاطعان هناك» يعنى يتقاطعان ثم ينعطفان كما هو مختاره فى ذلك. و القول الآخر: انهما يتقاطعان على التقاطع الصليبى من غير انعطاف. فقد قال الشيخ فى الفصل الثانى من الجملة الثانية من كليات القانون فى تشريح العصب الدماغى و مسالكه ما هذا لفظه: «قد تنبت من الدماغ ازواج من العصب سبعة فالزوج الاول مبدأه من غور البطنين المقدمين من الدماغ عند جواز الزائدتين الشبيهتين بحلمتى الثدى اللتين بهما الشمّ و هو صغير مجوّف يتيا من النابت منهما يسارا و يتياسر النابت منهما يمينا ثم يلتقيان على تقاطع صليبى ثم ينعطفان و ينفذ النابت يمينا الى الحدقة اليمنى و النابت يسارا الى الحدقة اليسرى و يتسع فوهاتهما حتى يشتمل على الرطوبة التى تسمّى زجاجية. و قد ذكر غير جالينوس انهما ينفذان على التقاطع الصليبى من غير انعطاف». ص 114.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 210

جوهر المبصر و تنفذ إلى الروح المصبوبة فى الفضاء المقدم من الدماغ فتنطبع الصورة المبصرة مرة أخرى فى تلك الروح الحاملة لقوة الحس المشترك فيقبل الحس المشترك تلك الصورة و هو كمال الإبصار «1».

و القوة المبصرة غير الحس المشترك، و إن كانت فائضة منه مدبّرا لها.

لأن القوة الباصرة تبصر و لا تسمع و لا تشم و لا تلمس و لا تذوق، و القوة التى هى الحاسة المشتركة تبصر و تسمع و تشم و تلمس و تذوق على ماستعلم.

ثم إن القوة التى هى الحاس المشترك تؤدى الصورة إلى جزء من الروح يتصل بجزء من الروح الحامل لها فتنطبع فيها تلك الصورة و تخزنها هناك‏

______________________________
(1)- قال الشيخ فى التعليقات: المبصر اما ان يكون المؤدّى له الهواء او الماء فان كان المؤدى له الهواء لا يكون الهواء مرئيا معه فيجب ان يكون قدر ما يحصل منه فى البصر لا يكون زايدا على حقيقته و ذلك يختلف بحسب القرب و البعد فان القريب يجعله اكبر و البعيد يجعله اصغر لان القاعدة يكون فى المبصر و الزاوية فى البصر و اذا بعد المبصر يكون الزاوية احدّ. و ان كان المؤدى له الماء فيجب ان يكون القدر الحاصل منه فى البصر اكبر لان البصر ينتشر فى الماء، و يكون الماء مرئيا فيكون القاعدة جزء من الماء الذى ينتشر فيه البصر ثم يمتد الى البصر على خطين من جرم الماء فيكون الزاوية اعظم و المرئى فى المرايا انما يحصل فيها صورة المبصر بقدر جرم المرآة ثم ينعكس منها الى البصر فيكون على زوايا مختلفة. التعليقات ص 69.

و قال صاحب الشوارق: «قال اصحاب الشعاع يجب ان يلتف المخروطان عند الخروج من العينين بحيث يتحد سهماهما حتى يرى الشى‏ء الواحد واحدا فان عارض عارض يمنع عن التفافهما كذلك بل تعدد السهمان رؤى الشى‏ء الواحد شيئين لان قوة النور فى سهم المخروط و من توهم ان اتحاد سهمى المخروطين غير ممكن بل الصواب ان يقال باتحاد موقعى السهمين و تعددهما فقد غفل عن قيد الالتفات و ما زعمه صوابا فهو خطأ لان اتحاد الموقعين مع تعدد السهمين انما يكفى فى رؤية الشى‏ء واحدا لو كان المرئى نقطة منه و اما اذا كان المرئى ذلك الشى‏ء كله فلا يكفى ذلك». شوارق الالهام ج 2 ص 382.

النفس من كتاب الشفاء، ص: 211

عند القوة المصورة و هى الخيالية- كما ستعلمها- فتقبل‏ «1» تلك الصورة و تحفظها «2». فإن الحس المشترك قابل للصورة لا حافظ، و القوة الخيالية حافظة لما قبلت تلك.

و السبب فى ذلك أن الروح التى فيها الحس المشترك إنما تثبت فيها الصورة المأخوذة من خارج منطبعة مادامت النسبة المذكورة بينها و بين المبصر محفوظة أو قريبة العهد. فإذا غاب المبصر انمحت الصورة عنها و لم تثبت زمانا يعتد به.

و أما الروح التى فيها الخيال فإن الصورة تثبت فيها، و لو بعد حين كثير، على ما سيتضح لك عن قريب.

و الصورة إذا كانت فى الحس المشترك كانت محسوسة بالحقيقة فيه‏ «3»، حتى إذا انطبع فيه‏ «4» صورة كاذبة فى الوجود أحسها كما يعرض للممرورين، و إذا كانت فى الخيال كانت متخيلة لا محسوسة.

ثم إن تلك الصورة التى فى الخيال تنفذ إلى التجويف المؤخر إذا شاءت القوة «5» الوهمية ففتحت الدودة بتبعيد ما بين العضوين المسميين‏

______________________________
(1)- اى قوة الحس المشترك.

(2)- اى قوة الخيال.

(3 و 4)- فيها. نسخة. فالتذكير باعتبار الحس المشترك، و التأنيث باعتبار الروح.

(5)- قوله: «اذا شاءت القوة الوهمية»، اعلم ان القوة المسماة بالوهم هى الرئيسة الحاكمة فى الحيوان و معنى هذا الكلام ان جميع القوى التى دونها من الحس المشترك و الخيال و المتصرفة و الحافظة من شئونها و افعال تلك القوى كلها فى الحقيقة هى فعل هذه القوة الرئيسة. إلا أن لها فى موطن كل واحدة من تلك القوى اسما خاصا، ففى موطن تسمى الحس المشترك، و فى آخر الخيال و هكذا. فوزان الوهم مع تلك القوى وزان النفس الناطقة مع قواها.

ثم لما كان ادراك المعانى الجزئية بين سائر افعال القوى الحيوانية اشرف من غيرها

 

اشتراک گذاری:
نظرات

اطــلاعــات تــمــــاس:

دفـتـر و ساختـمان آموزشـی: قم، خیابان معلم ، بلوار جعفر طیار ، نبش کوچه چهارم 

کدپستی: 3715696797

 

آموزش حضوری و مجازی (ساعت13 تا 18):
09906265794

ارتباطات و روابــط عمــومــی: 09906265794