«اِقْرَأ باسْمِ ربِّكَ الّذي خَلَق، خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ، اِقْرأ وربُّك الأَكْرَمُ، الّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، علَّم الإنسان ما لَمْ يَعْلَمْ» فَالحَمدُ وَالثَّناءُ لِمَن كَثَّفَ اللَّطِيفَ وَلَطَّفَ الكَثِيفَ في صُنْعِ آدم والعالَم، فَأَتْقَنَ، وأَبْرَمَ، وأَحْسَنَ، وَأحْكَمَ.
والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلي أَئمَّةِ الأُمَم، الخازِنينَ كرائمَ الكَلِمِ مِنْ أَنْوارِ القِدَمِ،
مقدّمة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
وَالحائزِينَ خَزائنَ الحِكَمِ مِنْ الْمَقامِ الأَقْدَمِ، سِيَّما إمامُهُم التَّجلّي الأَعْظَمُ وَالمَجلَي الأتَّمُ، المُنْزَل عَلَيهِ القُرآنُ الْفُرقانْ الَّذي يَهْدي لِلَّتي هي أَقْوَمُ مُحَمَّدٌ النَبيُّ الخاتَمُ، الْمُشيرُ إلي سِرِّ خَتمِيتهِ بِقَولِه: «أُتيتُ جَوامِعَ الْكَلِمِ» فَهُوَ أَدَلُّ دَليلِّ عَلي رَبِّهِ الأكْرَم؛ وَآلِهِ المُصْطَفَينَ مِنْ العَرَبِ وَالعَجَمِ، وَالهادينَ بِأسرارِهِم إلي الطَّريقِ الأمَمَ، وَالرّافِعِينَ بِأَنوارِهِم أَسَتارَ الظُلَّمِ.
و بعد فيقول الراجي فهمَ الخطاب المحمّدي، الحسن بن عبداللّه الطبري الآملي ـ المدعو بحسنزاده آملي ـ متبرّكاً بكلامه (سبحانه): «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالحَقِّ إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»1: إنّ هذه الفرائد ممّا أدّي إليها نظره في شرح عيون مسائل النفس، في تضاعيف تحقيقه وتدقيقه وتفاريق تنميقه و تنقيبه حول معرفة النفس في أمد سنين كثيرة كان يُدرّس، في حوزتي طهران وقم، الكتب الحِكْمية البرهانية، والصحف النورية العرفانية التي هي في الحقيقة التفاسير الأنفسية للكشف الأتمّ المحمّدي وفصل الخطاب الأحمدي صلياللهعليهوآله راجياً من المُفيض الوهّابِ علي الإطلاق أن يجعل كل عين عيناً يَشْرَبُ بِها عِباد اللّه يُفجِّرونها تَفْجيراً. وهي من مواهب اللّه السنيّة وعطاياه الجزيلة، وجوائزه الكريمة النفيسة التي أنعم بها عبده المستكين، وقدّرها له بتفجير تلك العيون الفوّارة المنهمرة، فله الحمد علي ما هدينا وله الشكر علي ما أولينا.
ولمّا رأي رسالته عيون مسائل النفس وجيزةً غريزة المحاسن، وصحيفةً عزيزة المطالب، حاول شرحها علي قدر الوسع والطاقة، مبتهلاً إليه (جلّ شأنه وعلت كلمته) فوفَّقه له وهو وليّ التوفيق، وهو هذا الشرح المسمّي ب·· «سرح العيون في شرح العيون» الذي بين يديك أيها القاريء الكريم مع اصله رسالة عيون مسائل النفس فالكتاب صحيفة من صحف أعماله، فيقول «هآؤُم اقْرءُوا كتبيه» «فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السّمواتِ وَربِّ الأَرْضِ رَبِّ العالَمينَ وَلَهُ الكِبريآءُ في السَّمواتِ
1 . الجاثية:30.
وَالأرْضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيم»1.
اعلم أنّ من سفه نفسه فهو أظلم الناس بنفسه، وأنّ إحياء النفوس من موت الجهل، وايقاظها من نوم الغفلة، واخراجها من الظلمات إلي النور، أنما هي من شأن السفراء الإِلهية، وممّن اقتفي بهم علي هديهم. وقد قال اللّه (علت كلمته): «يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوُا اسْتَجيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسول إِذا دَعاكُمْ لما يُحييكُمْ»2. وقد وصف الوصيّ الامام علي بن ابيطالب عليهالسلام آل محمد (صلوات اللّه عليهم) بأنهم عيش العلم وموت الجهل3.
والعلم حياة الأرواح، كما أن الماء حياة الأشباح. والآيات والروايات ـ في ذلك المرصد الأسني والمقصد الأعلي ـ المدوَّنة علي نضد خاص في الجوامع الروائية، والصحف العلميّة أكثر من أن تحصي.
والعالم إن عرف قدره ولا يخرج عن طوره إلالهي، ولايتجاوز عن زيّه الروحاني فهو علي قدم عيسي روح اللّه عليهالسلام أعني أنه عيسوي المشهد والمشرب في الحقيقة، لأن عمله الصالح أنمّا هو إحياء الموتي بإذن اللّه (تعالي شأنه). يعجبني في المقام نقل ما أفاده الشيخ الأكبر في الفصّ العيسوي من فصوص الحكم، والعلامة القيصري في الشرح. فقال الشيخ:
وأما الاحياء المعنوي بالعلم، فتلك الحياة الإِلهية الذاتية العليّة النورية، التي قال اللّه فيها «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمشي بِهِ في النّاس»4. فكلّ من يحيي نفساً ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللّه فقد أحياه بها، و كانت له نوراً يمشي به في الناس أي بين أشكاله في الصورة.
وقال الشارح القيصري:
إنما جعل الحياة الحاصلة بالعلم حياةً إلهية ذاتيةً لأن حقيقة العلم عين الذات، وكذلك حقيقة الحياة أيضاً.
1 . الجاثية: 37 - 38.
2 . الانفال: 25.
3 . نهج البلاغة، الخطبة 237.
4 . الانعام: 122.
فالعلم والحياة في المرتبة الأحدية شيء واحد. ولمّا كان العلم أشرف الصفات الإِلهية، إذ به تظهر الحقائق الإِلهية والكونية، وصفه بالعلوّ. ومن حيث انه يُظهر الأشياء وصفه بالنورية، إذ النور هو ما يظهر لنفسه ويظهر لغيره. ووصفه (رضي اللّه عنه) اياها بالصفات الكمالية اشارة إلي أنّ الحياة العلمية أشرف من الحياة الحسية لأنّها حياة الروح، والحياة الحسية حياة الجسد، والروح أشرف من الجسد فحياته أيضاً كذلك؛ لكن الحسّية أوقع في النفوس من العلمية لأنها مترتبة علي القدرة التامّة التي هي أيضاً من الخصائص الالهية لذلك صار أعز وجوداً وأعظم وقعاً.
ولمّا كان للعلم مراتب وأعظمها العلم باللّه وأسمائه وصفاته خصّه بالذكر، وإن كان بحسب كل منها يحصل حياة مناسبة لها.
وقد أعطي اللّه أولياءه الكمّل نصيباً تامّاً من الحياة العلمية، ليفيضوا علي نفوس المستعدّين المؤمنين بهم منها فيُحيونهم بالنور الإلهي ويمشون به في الناس كما قال: «أَوَمَن كانَ مَيْتاً»أي بموت الجهل «فَأَحْيَيْناه»أي بالحياة العلمية «وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» وهو العلم «يَمشْي بِهِ في النّاسِ» فيدرك ما في بواطنهم من استعداداتهم وخواطرهم ونيّاتهم؛ وما في ظواهرهم من أعمالهم المخفيّة من الناس، بذلك النور.
و قوله: «أي بين اشكاله في الصورة» المراد بالشكل ماله التشكّل وهو البدن، أي ذلك النور يسري بين ابدان الناس فيدرك ما فيها من النفوس و لوازمها و استعداداتها التي لا يطلع عليها إلا من شاء اللّه من الكمّل.
(38)
ويجوز أن يكون المراد منها الهيئات والأوضاع التي للبدن، الظاهرة في الصورة الإِنسانية، إذ المتفرسون يدركون منها ما في نفوسها وقواها، وما هي عليها من الأعمال والأفعال1.
وأقول: ما قال من بيان أن الحسية أوقع في النفوس من العلمية، وان كان وجهاً وجيهاً، ولكن الأنسب ما أفاده المحقق الطوسي في شرح الإشارات حيث قال في شرح الفصل الرابع من النمط التاسع منه في المعجزات القولية والفعلية: «إنّ الخواص للقولية أطوع، والعوام للفعلية أطوع». وعلي هذاالمنوال، قال العارف الرومي في الدفتر الرابع من المثنوي:
پند فعلي خلق را جذّابتر كو رسد در جان هر باگوش وكر
وأما ما أفاده في بيان قول الشيخ: «أي بين أشكاله في الصورة» فجملة الأمر في ذلك أن عين البصيرة ـ و يعبّرون عنها بالعين البرزخية أيضاً ـ تفتح بنور العلم، فتري الناس علي صورٍ و أشكال تقتضيها ملكاتهم المستجنّة في نفوسهم، كما ستطلع علي برهانه في العيون الجارية، وأشرت إليه في تائيتي المسماة بينبوع الحياة.
وعاملُ فعلٍ كان نفسَ جزائِهِ ألا ملكاتٌ عُجِّنَتْ بالسَّريرةِ
إذا فُتحت عيناهُ في صُقعْعِ ذاتِهِ فإمّا وجوهٌ مِنْ وجوهٍ دميمةٍ
وإما وُجوهٌ مِن حِسانٍ كريمةٍ لَئِن كانَتِ الأفعالُ مِن حُسن شيمةٍ
سرائُرها تُبلي لَه الوَيْلُ لَوْ رأي سَريرَتَهُ مَشْحُونةً بالرَّذيلَةِ
وأنتَتَريالآناسفيالسوققَدْبدي تَجَسُّمُ أعمالٍ فهذا كَحيةٍ
وَهَذا كَخنزيرٍ وذَاك كَثعْلَبٍ وذَا سَبعٌ يَنْحو افتراسَ الفَريسةِ
وشِرذمةٌ كانَت من أَهل السَّعادةِ يَميلُ إليها الطَّبْعُ مِنْ غَيرِ وَحْشَةٍ
وَحَشْرُهُم يَوْمَ النُّشُورِ كَنَشْرِهِمِ هُنا في جَماعاتٍ وسُوقٍ وسِكِّةٍ
ومن افادات المتأله السبزواري في شرح الأسماء أنه:
لمّا كان البيان بمنزلة السحاب، والمعني بمنزلة الروح والحياة، والنفس الجاهلة بمنزلة الأرض الميتة كما في قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذي يُرسِل الريَّاح بُشْراً بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ حَتّي اِذا أَقلَّتْ سَحَاباً ثقالاً سُقْناه
1 . شرح فصوص الحكم، ايران، الطبع الأوّل، ص 329 ـ 328.
لِبَلدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلنا بِهِ الماء فأخرجنا به مِن كُلّ الثّمراتِ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الموْتي لَعَلّكم تَذكَّرونَ»1 فالإنسان إذا أراد أن يتكلم بكلام فمبدء هذه الإِرادة أوّلاً صورة عقلية في القوة الناطقة علي وجه البساطة، وينشأ من هذه القوة أثر في القلب، ثم يظهر في الخيال، ثم يسري أثره بواسطة الروح البخاري إلي الأعصاب ثم إلي العضلات، فيوجد صورة الصوت في لوح الهواء المقروع بواسطة التقاطع العارض له في المخارج، وهذا غاية نزوله من عرش القلب إلي فرش عنصر الهواء. ثم يصعد منه أثر إلي الصّماخ، ومنه إلي العضلات، ومنها إلي الأعصاب والأرواح البخارية، ومنها إلي الدماغ، ومنها إلي الخيال حتي الناطقة، فهذا الترتيب الصعودي علي عكس الترتيب النزولي، كان محيياً للموتي أعني النفوس الجاهلة مخرجاً لثمرات العلوم من أكمامها أعني فطرتها.
ومن أسراره أن مساوقه الذي هو القول الذي عدده مائة وستة وثلاثون، وهو مبلغ عدد مساحة مربع زوج الزوج الأول موافق لعدد محيي كل حي وهو عدد المؤمن. وفي مجمع البيان قال الصادق عليهالسلام : «البيان الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء.»2
بيان: لما كان المربع الوفقي صورة جمعية الأعداد بشرط كمال السوية والاعتدال، وكان مظهر تلك الجمعيّة في موطن الظهور والاظهار آدم، وفي موقف الشعور والاشعار القول، فالعدد ما لم يبلغ إلي عدد آدم أي أربعة وخمسين لم يمكن وضعه في المربع الوفقي، كما أنه ما لم يبلغ إلي عدد القول وهو ستة وثلاثون ومائة، لم
1 . الأعراف: 57.
2 . شرح الأسماء للسبزواري، الطبع الناصري، ص52 - 51.
يمكن أيضاً وضعه في المربع الوفقي الذي أقسام كل ضلع منه يساوي عدد أضلاعه الأربعة أي القول.
ومن بدائع أسرار العدد أن فضل القول علي آدم هو عدد الكمال أي اَحد وتسعون، وهو مقوّم الاسم الشريف محمد (علي مسماه شرائف الصلوات وكرائم التحيات) يعني أن حقيقة آدم ما لم يرتق في المعارج الكمالية إلي الكمال المحمدي لم يصر مهبط القول الكامل أي القرآن الفرقان الذي هو كافل لإِعراب كنه كل شيءٍ كما ينبغي، ولم يصر مبيّن حقائق الأسماء علي ما هي عليها.
والمساحة في الألواح الوفقية هي أن يضرب عدد الوفق ـ ان كان مربعاً فالأربعة، وإن كان مخمساً فالخمسة وهكذا ـ في نفسه ويزاد علي الحاصل واحد، ثم يضرب في نصف عدد الوفق فما حصل فهو مساحة ذلك اللوح الوفقي. مثلاً إن كان اللوح مربعاً فمساحته أربعة وثلاثون (34=2×17=1+16=4×4) وعلي هذا القياس. وزوج الزوج الأول هو الأربعة، والثاني هو الثمانية، والثالث هو الستة عشر، وعلي هذا القياس. ثم في المصباح كلام كامل في القول والقائل وهو ما يلي:
ولما كان اخصّ خواصّ الصورة الإنسانية القول والنطق الظاهري والباطني، حيث لايوجد في سائر الصور، كان مبدأ سلطنة أدوار مظاهر الأسماء لتحقيق كمال الاستجلاء مظهر القول، فاقتضي التجلي الثاني من حيث الاسم القائل بحكم المحبة الأصلية وتحريكها للمفاتيح بحكم السراية فيها بعد تحققها بكمالاتها الاختصاصيّة تخمير طينة آدم عليهالسلام لأنّ هذه المظاهر كلّها أجزاء اليد المضاف إليها تسويته، ثم نفخ فيه بلا واسطة من روحه الأعظم فكان أثرالاسم القائل فيه اقوي لذلك اختص بانباء الأسماء للملائكة، وكان موقفه برزخية
السماء الدنيا بمجاورة الكوكب المختص بمظهرية القائل، وكان فيها بيت العزّة التي هو محلّ نزول القرآن جملة، وغير ذلك؛ فكان صورة آدم الجامعة بين جميع الكمالات أصلاً ومنشئاً لجميع الصور الإنسانية التخطيطية كما كان محمد صلياللهعليهوآله وحقيقته التي هي حقيقة الحقائق منشئاً واصلاً لجميع الحقائق والأرواح الإنسانية وغير الإنسانية.1انتهي.
والغرض أنّا لمّا رأينا أن معرفة النفس مدخل كل خير، وباب سائر أبواب المعارف الحقّة الإلهية، وانّ الإنسان بذلك الباب يلج ملكوت السموات والأرض، ويصل إلي كماله اللائق له، اقتدينا بالعلماء الربانيّين، واهتممنا بتنميق ما تيسّر لنا في ذلك الأمر الخطير ـ أعني معرفة النفس ـ بعون اللّه المفيض الوهاب الملهم إلي الصواب؛ لعلّه يعدّ النفوس المستعدّة لقراءة ما في صحفهم الأنفسية، والفوز بسعادتهم الأبدية؛ ويوجب لنا الخير والبركة فإنّ الدالّ علي الخير كفاعله، وإنّ المعين علي عمل كعامله.
اعلم أنّ باب الغيب يفتح لنا بمعرفة النفس الناطقة؛ وأنّ طريقنا إلي المعاد هو ـ كما سلكه الحكيم ابن مسكويه أيضاً في الفوز الأصغر ـ2 معلّق بإثبات النفس واثبات انها ليست بجسم ولا عرض ولا مزاج، بل جوهر قائم بنفسه، غائب عن الحواس والأوهام، غير مخالط للمادة، روحاني النسج والسوس، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام والعقل، لا يفسد بفساد بدنه العنصري، بل غير قابل للموت، باقٍ ببقائه الأبدي. وأنّ علم الإنسان وعمله جوهران مقوِّمان لذاته وهما يتحدان به اتحاداً وجوديّاً؛ أي الإنسان ليس إلا علمه وعمَله. وأنّ علمه مشخص روحه، وعمله مشخص بدنه الأخروي. وأن جزاءه علي وفق علمه و عمله، بل العلم و العمل نفس
1 . مصباح الانس، الطبع الاوّل، ص280.
2 . الفوز الاصغر لابن مسكويه، طبع مصر لسنة 1325 ه·· ق، ص 27.
الجزاء. و أنّ المعرفة بذر المشاهدة. وأن الملكات موادّ الصور البرزخية من الأبدان المكسوبة والمكتسبة، يعبّرون عن تلك الصور بتجسّم الاعمال من الجسم بمعناه الدهري، وعن الإنسان بأنه في هذه النشأة نوع تحته افراد وفي الآخرة جنس تحته أنواع.
فمبحث النفس من غرر المباحث الحكمية في جميع الصحف العلمية. وألذّ المعارف، وأعزّها بعد معرفة اللّه (تعالي شأنه) معرفة الإنسان نفسه، وهي من أهمّ المعارف وأجلّها، كيف لا ومعرفتها أم الحكمة وأصلها، ومفتاح خزائن الملكوت، ومرقاة معرفة الرب لكونها مثال مفطرها ذاتاً وصفة وفعلاً، ولا طريق إلي وصول معرفة الرب إلا من معرفة الآفاق والأنفس قال (عزّ من قائل): «سَنُريِهم آياتنا في الآفاقِ وَفي أنْفُسِهِم حَتّي يَتَبَيَّن لَهُم أنّه الْحَقُّ، اَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اَنَّه عَلي كُلَّ شيءٍ شَهيد»1 وفي الحديث عنه صلياللهعليهوآله : «ما خَلَقَ اللّهُ شَيْئاً أشْبَهَ به مِنْ آدَمَ» وعنه عليهالسلام أيضاً: «إنَّ اللّه عزّوجلّ خَلَقَ آدَمَ عَلي صُورةِ الرَّحْمن». وفي رواية أُخري: «إنَّ اللّه خَلَقَ آدَمَ وَأَوْلادَهُ عَلي صُورةِ الرَّحْمنِ» وأُخري: «إنَّ اللّه عزّوجلّ خَلَقَ آدَمَ عَلي صُورَتِهِ». والمروي عن الوصي الامام أمير المؤمنين علي عليهالسلام وعن الإمام الصادق عليهالسلام أيضاً:
الصُّورةُ الإنسانيةُ هي أكبرُ حُجَجِ اللّه عَلي خَلْقِه، وَهي الكتابُ الّذي كَتَبَهُ بِيدِه، وهي اَلهيْكَلُ الّذي بَناه بِحِكمَتِهِ، وَهي مَجمُوعة صُور العالَمينَ، وَهي المُختصرةُ مِنْ اللَّوحِ اَلمحفوظِ، وَهي الشاهدةُ علي كُلِّ غائب، وهي الحُجةُ عَلي كُل جاحِدٍ، وهي الطَّريقُ المستقيمُ إلي كُلِّ خَيرٍ، وَهي الجِسْرُ (الصِّراطُ ـ خ) اَلممْدودُ بَينَ اَلجنَّةِ وَالنَّارَ.
بيان: الصورة هي كل معني بالفعل. فالمراد بالصورة في الحديث، الأسماء والصفات الإِلهية؛ أي خلقه موصوفاً بجميع تلك الأسماء والصفات ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإِلهية
1 . فصلت: 54.
التي هي الذات والصفات والأفعال: «إنَّ اللّه خَلَقَ آدَمَ عَلي صُورتِه» وليست صورته سوي الحضرة الإِلهية. فاوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الاسماء الإِلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل، وجعله روحاً للعالم فسخّر له العلو والسفل لكمال الصورة1 وان شئت قلت: بل المراد بالصورة هوية الحق التي اختفت وحقيقته التي تسرّت في الحقيقة الإِنسانية فأظهرت الإِنسان، فهويته عين هوية الحق وحقيقته عين الحقيقة الالهية، وهو اسمه الأعظم الجامع لحقائق الأسماء كلّها و هذا ما نطق به العرفان و البرهان علي تفسير أسرار القرآن من أن الإنسان علي صورة الرحمن وإن كان هو (سبحانه) في هويّته الصمدية في عزّ جلاله، وليس الصمد الحق إلاّ هو، وعنت الوجوه للحيّ القيّوم؛ فهو (تعالي شأنه) صورة الصور كلّها، وإن كان الطباع العاميّة تنبو عن اطلاق لفظ الصورة علي الخير المحض، والوجود البحت إذ لم يفهموا من الصورة إلاّ صورة المحسوسات، ولم يدروا أنه صورة الوجود والخير والبهاء لأنه عالٍ في دنوه ودانٍ في علوه وهو حقيقة الحقائق، بل في الحقيقة لفظ الصورة لايطلق إلاّ عليه إذ هو صورة الوجود كلّه فافهم.
والشيخ الإلهي الأجل أبو علي (رضوان اللّه تعالي عليه) قد ذكر في الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء معاني الصورة2، ونحن قد نقلناها في كتابنا دروس معرفت نفس مع ترجمتها بالفارسية ومزيد إيضاح فإن شئت فراجعه.3
شرح الحديث المذكور علي ما أفاده المتأله السبزواري في الشرح الأسماء:
قوله عليهالسلام : «الصورة الإِنسانية» الصورة ما به الشيء بالفعل، وأحد خدَّيه وهو الأيمن عقله النظري، والآخر وهو الأيسر عقله العملي.
1 . فصوص الحكم،الفص الموسوي.
2 . الشفاء، الطبع الرحلي الحجري، ج2، ص537.
3 . دروس معرفت نفس، الطبع الأوّل، ص518.
وانما كانت اكبر حجج اللّه (تعالي) لأنّها هيكل التوحيد، ولها الوحدة الجمعية ظلّ الوحدة الحقيقية للأحد الواحد البسيط المبسوط متعلمة بجميع أسماء اللّه التنزيهية والتشبيهية فمن يراها كيف ينكر صانعها؟
چوآدم را فرستاديم بيرون جمال خويش بر صحرا نهاديم
وهي الكتاب الذي كتبه بيده؛ يده المباركة العقل الفعّال الذي يفيض منه نقوش الحقائق علي النفس القدسيّة وهذه النفس كتاب الأبرار الذي في علّيّين كما أن النفس المشحونة من الغلط والكذب والجهل المركب كتاب الفجّار الذي في سجّين، المحترق بنار الطبيعة ولوازمها.
وقوله عليهالسلام : «وهي الشاهدة علي كل غائب» مطابق لقول الرضا (عليه آلاف التحية والثناء): «قد علم أُولوا الألباب أن ما هنالك لا يعلم إلا بما هيهنا»؛ فالعلم الحضوري الواجبي شاهده العلم الحضوري للمجرد النفسي؛ والعلم الإِجمالي الواجبي في عين الكشف التفصيلي شاهده العقل البسيط الخلاق للعقول التفصيلية؛ والعلم الفعلي له شاهده العلم التوهمي بالسقوط المنشأله وأقسام الفاعل منطوية فيه، وقس عليه سائر ما في الغيب.
وقوله عليهالسلام : «وهي الجسر» قد ورد أن له وجهين؛ أحدهما أدق من الشعر وهو علم التوحيد، والآخر أحدّ من السيف وهو العدالة المتوسطة بين الأطراف وهذا كسابقه من الكتاب معني و لكل معني صورة، وايضاً حقيقة ولكل حقيقة رقيقة، فكن حافظاً بين الأوضاع جامعاً بين العالمين1. انتهي كلامه
1 . شرح الاسماء للسبزواري، الطبع الاوّل ص12.
(رفع مقامه).
و الإنسان بعد معرفة نفسه يبحث عن ما ينبغي أن يطلبه و يفعله لتحصيل السعادة الأبدية، و هو من أهم الأُمور و ما لم يعرف الإنسان نفسه فكيف يعرف غيره؟ وإذا كان غافلاً عن نفسه فأيّ فائدة له في معرفة الطبيعيات؟
نقل علي بن ربن الطبري صاحب فردوس الحكمة في الطب، في صدر المقالة الثانية من النوع الثاني منه، عن ارسطو أنه قال:
إنّ العلم بالنفس الناطقة أكبر من سائر العلوم، لأن من عرفها فقد عرف ذاته، ومن عرف ذاته قوي علي معرفة اللّه1.
وفي أول كتاب النفس لارسطوطاليس بنقل الدكتور أحمد فؤاد الأهواني إلي العربية، قال ارسطوطاليس:
كل معرفة فهي في نظرنا شيء حسن جليل ومع ذلك فنحن نؤثر معرفة علي أُخري، إما لدقتها، وإما لأنها تبحث عما
1 . فردوس الحكمة، طبع برلين، ص 60.
هو أشرف وأكرم. ولهذين السببين كان من الجدير أن نرفع دراسة النفس إلي المرتبة الأُولي. ويبدو أيضاً أن معرفة النفس تُعين علي معرفة الحقيقة الكاملة، وبخاصة علم الطبيعة، لأن النفس علي وجه العموم مبدأ الحيوانات.
أقول: يشبه أن يكون مفاد ما نقلناه من فردوس الحكمة عن ارسطو، وما في كتاب النفس بترجمة الأهواني عنه، واحداً؛ وكلا النقلين ترجمة عبارة واحدة، إلاّ أن ما في الأول أمتن وأحسن وأوفي. والمرادبالحقيقة الكاملة في ترجمة الأهواني، هو اللّه (سبحانه). وما في الفردوس من أن «مَن عَرفَ ذاتَه قَوي علي معرفة اللّه» هو ما في نقل الأهواني: «ويبدو أيضاً أن معرفة النفس تعين علي معرفة الحقيقة الكاملة». ولكن، أين احدهما من الآخر؟ وليس عندي من كتاب النفس لأرسطو بالعربية غير ترجمة الأهواني؛ وكلّ ما نقل من كتاب ارسطو في كتابنا هذا فانما هو بترجمته ولم يحضرني إلي الآن كتاب النفس لأرسطو بترجمة حنين بن إسحاق. وانما قلت يشبه أن يكون مفادهما واحداً وكلاهما ترجمة عبارة واحدة لأنه لم يعهد في كتاب النفس لأرسطو كلام آخر في ذلك غير ما نقلناه عنه، وأمكن أن يكون كلامه في كتابه الآخر علي النحو الذي في الفردوس، دون كتاب النفس، واللّه (سبحانه) هو العالم.
ونعم ما أفاد صدر المتألهين في الأسفار من أن:
مفتاح العلم بيوم القيامة ومعاد الخلائق هو معرفة النفس ومراتبها1 ومن أن مفتاح هذه المعارف ـ يعني بها أحوال يوم القيامة ـ معرفة النفس لأنها المنشأة والموضوعة لأُمور الآخرة2.
فويل لمن أهمل نفسه، ولم يقرأ كتاب انّيته وصحيفة نفسه؛ قال (عزّ من قائل): «وقد خاب من دسّيها»3 وقال: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْسيهُم أنفسهم أوُلئكَ هُمُ الفَاسِقونَ»4. وقال: «واتَّبعوا أَحسَنَ ما اُنْزِلَ إلَيْكُم مِنْ رَبِّكُم مِنْ قَبلِ أَنْ يأتيَكُم الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأنْتُمْ لا تَشْعُرونَ، أَنْ تَقُولَ نفسٌ يا حسرتي عَلي ما فَرَّطْتُ في جَنب اللّه وَإنّ كنْتُ لَمِنَ الساخِرينَ»5 والتحقيق أنّ الكمال الأخروي ليس إلاّ من ثمرات هذه النشأة موافقاً لقوله تعالي: «وَأَن ليْسَ للإنسان إلاّ ما سَعَي وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُري»6 أي أنّ حقائق ذواتنا وهوياتنا ليست إلاّ ملكاتنا العلمية والعملية، فما لم يستحكم ملكاتنا لم يتمّ تخمير ذواتنا؛ والإِنسان يتحد وجوداً بتلك الملكات، ويتمّ بها؛ فإن الأمر هو اتحاد العلم والعالم والمعلوم واتحاد العمل و العامل والمعمول، وأن صورة كل إنسان في الآخرة نتيجة عمله وغاية فعله في الدنيا، وليس إلاّ؛ ولا يتم ما أشرنا إليه إلاّ بمعرفة النفس. ولعمري ان معرفتها
1 . الأسفار، الطبع الاوّل ج4 ص 173.
2 . المصدر، ج4 ص184.
3 . الشمس: 11.
4 . الحشر: 20.
5 . الزمر: 57،56.
6 . النجم: 41.
قطب جميع المعارف. وقد أجاد الغزالي بقوله:
تقرير النفس وهل هي باقية أم لا كالقطب لسائر العلوم، وله يجدّ المجتهدون ويعمل العاملون؛ ولا فائدة أعظم منه فإن نبوّة الأنبياء والثواب والعقاب والجنة والنار وسائر شئون الدنيا والآخرة المأخوذة عن الرسل لا تثبت متي أبطلت هذه المسألة فإنّ النفس إذا لم يكن لها بقاء فجميع ما أخبرنا به أو طمعنا فيه باطل؛ وبحسب ما نثق به من هذه المسئلة نجتهد، وبحسب ما نغيب منها نغتر. وبهذه المسألة كفر الزنادقة، فأنهم زعموا أن حقيقة الإنسان مزاج معتدل كالنبات متي اعتدلت قواه بقي، ومتي غلب عليه حرّ أو برد فسد ودثر ثم لا يرتجي بعد ذلك موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فاستخفّوا بالخالق والخلق، واستهانوا برسل الحق، فهذا أهمّ المعلومات مطلقاً1.
وقد تصدّي حكماؤنا العارفون بغايتها القصوي لتصنيف كتب ورسائل في معرفتها، وبيان ما ينبغي لها أن تتأدب بها حتي تحوز ما تفوز بها. فقد جعلوا في صحفهم النورية باباً بل كتاباً فيها، بل دوّنوا رسائل علي حدةٍ في معرفتها، واعتنوا غاية الإِعتناء بها لأن معرفتها باب كل خير و مدخل كل معرفة.
والرسائل المصنوعة في معرفة النفس أكثر من أن تحصي وقد عددنا عدة منها في سائر رسائلنا. وذلك لاهتمام الإلهيين من الحكماء في شأن النفس ردّاً علي المتوغلين في ظلمات الأوهام الموهونة، والخيالات الواهية، والتسويلات الشيطانية؛ وهم الذين أخلدوا إلي الأرض واتبعوا أهواءَهم الكاسدة الفائلة القائلة بأنّ الإنسان ليس إلاّ هذه البنية العنصرية الداثرة البائدة فإذا تلاشت بطلت ذات الإنسان
1 . شرح قصيدة ابن سينا للمناوي، طبع مصر ص84 .
برمّتها فلا يبقي منه ما يكون له حشر، ومعاد، وجزاء وثواب، وعقاب. ولم يعلموا أنّ الإِماتة ليست بإعدام، وإفناء، وأنّ الموت ليس بعدم وفناء بل هو رجوع كل شيء إلي أصله، وعود كل صورة إلي حقيقتها، وارتقاء الإنسان إلي بارئه المتوفي إيّاه؛ وأنّ الإنسان حيّ أبديّ لا يموت إلا بإذن اللّه (جلّ شأنه)؛ وأن النفس الناطقة الإنسانية مَظهر مُفطرها لا تأخذها سنة ولا نوم، ولا يعرضها موت ولا فناء. وليس الموت المعهود إلاّ تفريق صفة الوصل. أعني أن الموت يرد علي الأوصاف لا علي الذوات لأنه تفريق لا إعدام ورفع وافناء فهو في الحقيقة انقطاع الإنسان عن غيره وارتقائه إلي بارئه المتوفّي إياه.
علي أن لكلِّ إنسان كغيره جهةً من الحضرة الإلهية هي المشار إليها بقوله (سبحانه): «ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُولّيها»1 فلا معني لانعدام عين الإنسان، وكذلك انعدام اعيان غيره، فلا معني له، فافهم.
وبالجملة البحث عن النفس محور جميع العلوم العقلية والنقلية، ألاتري أن السفير الأعظم الإلهي ربط معرفة الرب بمعرفة النفس فقال: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَه فَقَدْ عَرَفَ ربَّهُ؟» فإن من عرف نفسه فوق ما يعرف بالتنزيه والتشبيه، وجمع في معرفتها بينهما ووجدها موصوفة بهما وغير موصوفة بهما أيضاً، فقد جمع في معرفة ربه بينهما كذلك؛ ونال بمعرفة نفسه درجة الكمال في العلم باللّه (تعالي) في ذاته وصفاته وأفعاله، وذلك لأنّ باطن النفس الإِنسانية تنزيه وظاهرها تشبيه، وهي عاليةٌ في دنوّها ودانية في علوّها. والمروي عن كشاف الحقائق إمام الملك والملكوت صادق آل محمد (عليهم الصلوة والسلام): «الجَمْعُ بِلا تَفرِقَةٍزَنْدَقَةٌ، وَالتَّفرِقَةُ بِدُونِ الجَمعِ تَعْطيلٌ، وَالجمْعُ بَيْنَهُما تَوحيدٌ». فافهم.
والحكيم الطبيعي الإِلهي يسلك لإِثبات الحق (سبحانه) طريق حركة النفس؛ بأنها في أول الأمر بالقوة، ففي خروجها من القوة إلي الفعل لابدّ لها من مخرج فاعلي وهو إما الواجب أو منتهٍ إليه؛ وكذا لابدّ لها من مخرج
1 . البقرة: 148.
غائي فإن الحركة طلب والطلب لابدّ له من مطلوب، وكل مطلوب تناله النفس، لا تقف عنده ولا تطمئنّ دونه حتي تفد علي باب اللّه وترد علي جنابه فلابد أن ينتهي المطالب إلي مطلوب، به تطمئن القلوب، وهوالمطلوب.
ومن لطائف ما في رسالة فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي في حدود الأشياء ورسومها هو ما أتي به في حدّ الفلسفة حيث قال:
الفلسفة ـ حدّها القدماء بعدّةٍ حروف ـ إلي أن أتي بعد نقل حدود أربعة في تحديدها بما هذا لفظه: وحدّوها ايضا فقالوا: الفلسفة معرفة الإنسان نفسه، ثم قال في بيانه:و هذا قول شريف النهاية بعيد الغور مثلاً أقول: إنّ الأشياء إذا كانت أجساماً ولا أجسام، وما لا أجسام إما جواهر واما أعراض، وكان الإنسان هو الجسم والنفس والأعراض، وكانت النفس جوهراً لا جسماً، فإنه إذا عرف ذاته عرف الجسمَ بأعراضه والعرضَ الأول والجوهر الذي هو لا جسم، فإذن إذا علم ذلك جميعاً، فقد علم الكلَّ؛ ولهذه العلة سمي الحكماء الإنسان العالم الأصغر1.
أقول: بيان الحدّ المذكور أرفع بدرجات ممّا قاله الكندي كما ستعلم في تضاعيف مسائل العيون، سيما في العين الثامنة والأربعين في تطابق الكونين. والآن نشير إليه إجمالاً فنقول: الإنسان بالفعل هو الذي بلغ إلي كماله الممكن له وهذا الكمال هو معرفة الكلمات الوجودية التي يعبر عنها بالحقائق النورية علي ما هي عليها بالذوق الوجداني، والشهود الايقاني، والكشف النوراني بالإِلقاء السبّوحي، لا الاطلاع علي مفاهيمها الاصطلاحية فقط، فإن الفلسفة، كما في أول الأسفار:
استكمال النفس الإِنسانية، بمعرفة حقائق الموجودات
1 . رسالة في حدود الأشياء ورسومها للكندي، الطبع الاوّل، مصر، ص 172 - 173.
علي ما هي عليها والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا أخذاً بالظن والتقليد؛ بقدر الوسع الإنساني. وبعبارة أُخري: نظم العالم نظماً عقلياً علي حسب الطاقة البشرية ليحصل التشبّه بالباري (تعالي).
أقول: التعريف الأخير في الأسفار ناظر إلي ما أتي به الشيخ الرئيس في السابع من تاسعة الهيات الشفاء:
من أنّ النفس الناطقة، كمالها الخاص بها أن تصير عالماً عقليّاً مرتسماً فيه صورةُ الكلّ والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكل، مبتدئةً من مبدأ الكل سالكةً إلي الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة، ثم الروحانية المتعلقة نوعاً ما بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها، ثم كذلك حتي تستوفي في نفسها هيأة الوجود كله، فتنقلب عالَماً معقَولاً مُوازياً للعالَم الموجود كلِّه مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق المطلق ومتحدةً به ومنتقشة بمثاله وهيأته ومنخرطة في سلكه وصائرة من جوهره1.
ثم إنّ نظير كلام الشيخ في كمال النفس ما قاله الحكماء في حدّ الفلسفة: «انها التشبّه بالإِله بقدر الطاقة البشرية» وقال صاحب الأسفار في بيانه:
ومفاده أن من يكون علومه حقيقية وصنائعه محكمة وأعماله صالحة وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة وفيضه علي غيره متصلاً يكون قربه إلي اللّه وتشبّهه به أكثر لأن اللّه (سبحانه) كذلك2.
ثم تفكر في هذا الأثر المؤثر المروي في كشكول الشيخ البهائي عن الوصي أمير المؤمنين علي عليهالسلام قال
1 . الشفاء، الطبع الاوّل، ج2، ص546.
2 . الأسفار ، الطبع الاوّل، ج3، ص123.
لحبر من أحبار اليهود وعلمائهم:
مَن اعْتَدَلَ طِباعُهُ صفي مزاجُه، وَمَن صَفي مزاجُه قَويَ أثرُ النَّفس فيهِ، وَمَن قَويَ أثرُ النَّفس فيهِ سمي إلي ما يَرتَقيه ومن سمي إلي ما يرتقيه فَقَد تَخَلَّقَ بالأخلاقِ النّفْسانِيةِ، وَمَنْ تَخلَّقَ بالأَخلاقِ النَفسانِيةِ فَقدْ صارَ مَوجُوداً بِما هُوَ إنسان دُونَ أَنْ يَكونَ مَوجُوداً بِما هُوَ حَيوانٌ وَدَخَلَ في البابِ الْمَلَكي وَلَيسْ لَهُ عَنْ هذِهِ الحالةِ مُغيِّر. فقال اليهودي: «اللّه أكبرُ يا ابنَ أَبي طالبٍ لَقَدْ نَطَقْتَ بِالفَلْسَفَةِ جَميعِها»1.
ومن لطائف كلمات الحكيم الرباني انباذقلس ـ وكان في زمن داود النبي عليهالسلام وقد اخذ الحكمة عن لقمان بالشام، وقيل عن سليمان النبي عليهالسلام ـ ما قاله في معرفة النفس وقد نقله الشهرزوري في نزهة الأرواح بهذه العبارة:
ليس يقدر أحد أن يعرف النفس إلا من كانت نفسه طاهرة زكية مستولية علي بدنه فيعرف حينئذٍ ما النفس، ويراها رؤياً حسناً لأنها روحانية غير متجسمة؛ ويعرف أنها جوهر، لا أشرفَ منه ولا أكرمَ، باقٍ دائم لا يموت ولا يفني؛ فأمّا جلّ الناس فإن نفوسهم ناقصة، كأنها بدن مقطوع الأعضاء فينكرون شرفها وحسنها وبساطتها وعدم موتها وهو خطأ لانه لا ينبغي لأحد أن يقول قولاً في شيء قبل أن يفحص عنه ويعرف علته وباطنه وظاهره ثم يقضي عليه، وإذا أراد أن يفحص عن شيء فلا يلقي بصره خارجاً علي القشر الظاهر بل يحرص علي أن يلقيه علي روحانية الشيء الباطن فإن الشيء الباطن هو الجوهر الخالص والذي هو بعينه، وإلاّ لم ينل
1 . كشكول الشيخ البهائي، الطبع الاوّل،ص 594.
معرفة حقيقة ذلك الشيء فافهم ذلك. وهذا كلام في غاية الحسن. ـ وقال: ـ إنّ من رام أنْ يعرف الأشياء من العلو ـ أعني من الجواهر الأُول ـ عسر عليه إدراكها، ومن طلبها من أسفل عسر عليه إدراك العلم الأعلي، لانتقاله من جوهر كثيف إلي جوهر في غاية اللطف؛ ومن طلبها من المتوسط ـ وعرف المتوسط كنه المعرفة ـ أدرك به علم الطرفين وسهل عليه الطلب.
وقال الشهرزوري بعد نقل كلامه هذا: «وهذا كلام عجيب لا يعرف قدره إلا من عرف المتوسط، أعني النفس الإنسانية». ثمّ قال:
وقال: «إنّ النفس جوهر مبسوط متحرك باق، وليس يعني بالبسيط هذا البسط، ولكن بسط الذهن والوهم، فإن ذلك البسط روحاني، وهذا البسط جرمي مركب عند البسط الأول الوهمي والذهني، وإنما صار عندنا مبسوطاً لأنا ندرك شيئاً من الأقاويل اللطيفة التي هي مدركة في هذا العالم هو الطف من ذلك.إلخ1».
ومن لطائف ما في رسالة هدية الشيخ الرئيس التي أهداها للأمير نوح بن منصور الساماني ـ وهي رسالة في النفس ـ هو قوله في مقدمتها بهذه العبارة:
وكنت قد استنقدت في تصفّح كتب الحكماء جهدي فصادفت المباحث عن القوي النفسانية من أعصاها علي الفكر تحصيلاً وأعماها سبيلاً. ورويت عن إمام الأئمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام أنه قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربه». وسمعت رأس الحكماء ارسطاطاليس يقول علي وفاق قول امير المؤمنين عليهالسلام : «إنّ من
1 . نزهة الارواح، طبع حيدر آباد الدكن، ج1 ص54 - 52.
عجز عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة ربّه. وكيف يري المرء موثقاً به في معرفة شيء من الأشياء بعدما جهل نفسه؟» ورأيت الكتاب يشير إلي مصداق هذا بقوله في ذكر البعداء من رحمته من الضالين: «نَسوُا اللّه فَأَنساهُم أَنْفُسَهم» أليس تعليقه نسيان النفس بنسيانه تنبيهاً علي تقرينه ذكره بذكرها ومعرفته بمعرفتها؟
وقرأت في كتب الأوائل أنهم كُلِّفوا الخوض في معرفة النفس لوحيٍ هبط عليهم ببعض الهياكل الإلهية يقول: «يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربّك».
وقرأت أنّ هذه الكلمات كانت مكتوبة في محراب هياكل اسقلينوس وهو معدود عندهم في الأنبياء واشتهر من معجزاته أنه كان يشفي المريض بصريح دعائه، وكذلك كل من كان يتكهّن بهيكله من الرهابين، ومنه أخذت الفلاسفة علم الطبّ.
أقول: الرسالة المذكورة أعني هدية الرئيس قد طبعت مرة بمصر في سنة 1325ه·· قد عني بضبطها وتصحيحها الفاضل ادورد بن كرنيليوس فنديك؛ ومرة أُخري بمصر أيضاً مع ثلاث رسائل أُخري نفسية للشيخ بتحقيق الفاضل الأهواني؛ ولكنّني نقلت عبارة الشيخ من سفينة مخطوطة محفوظة في خزانة مكتبة آية اللّه المرعشي (دامت بركاته) في دارالعلم قم تنتهي ما فيها إلي ثمان و تسعين رسالةً ومقالة من كبار القدماء، منها رسالة الهدية المذكورة ومصورة هذه السفينة بتمامها موجودة عندنا؛ إلا أنّ عبارات الشيخ في الهدية المطبوعة لا توافق هدية السفينة كاملةً، ففي المطبوعة بعد قوله: «وأعماها سبيلاً» جائت العبارة هكذا:
ورويت عن (أو ورُوي عن) عدّة من الحكماء والأولياء أنهم اتفقوا علي هذه الكلمة وهي (من عرف نفسه عرف
ربه). وسمعت رأس الحكماء يقول علي وفاق قولهم: «من عجز عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة خالقه، وكيف يري الموثوق به في علم شيء من الأشياء بعدما جهل نفسه... .
ثم قال فنديك في تعليقته علي الرسالة في بيان قول الشيخ: «وسمعت رأس الحكماء يقول...» ما هذا لفظه:
رأس الحكماء، لا نعهد معاصراً لابن سينا ينطبق عليه هذا النعت ولا يعهد في مصنّفات ارسطو جملة في هذا المعني. فلذلك زعم المترجم اللاتيني أنه يعني برأس الحكماء سيدنا الإمام عليّ بن أبيطالب المنسوب إليه مائة من الحكم.
أقول: قد صرّح فنديك في مقدمته علي الرسالة باسم المترجم حيث قال:
وعني بنقلها أي الرسالة في النفس إلي اللغة اللاتينية في القرن السادس عشر للميلاد، الايطالي أندراوس ألپاجُس طبعت ترجمته هذه في مدينة البندقية سنة 1546م وموجود نسخة منها في المكتبة اللورنزية بمدينة فلورنزا.
ثم إنّ قول المترجم المذكور: «المنسوب إليه مائة من الحكم» الظاهر منه أنه أراد مائة كلمة أي مائة الحكم التي اختارها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفي 255ه··) من بين كلماته القصار؛ سماها مطلوب كل طالب من كلام أميرالمؤمنين علي بن أبيطالب؛ ووصفها بقوله: «كل كلمة منها تفي بألف من محاسن كلام العرب». ولكن الكلام المذكور، أعني: «من عجز عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة خالقه» غير مذكور فيها، كما ذكر فيها قوله عليهالسلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وهو الكلمة السادسة منها.
بل في غرر الحكم ودرر الكلم التي جمعها عبدالواحد بن محمد بن عبدالواحد الآمدي التميمي المتوفّي 510 ه·· وتنتهي تلك الحكم الرائعة
والدرر الناصعة إلي 11050 كلمة من كلماته القصار، غير مذكورة تلك الكلمة: «ان من عجز...» أيضاً؛ وإن كان ما يشابهما مذكورة فيها. منها قوله عليهالسلام : «لا تَجْهَلْ نَفسَكَ فانَّ الجاهِل مَعرَفة نَفسِهِ جاهِلٌ بِكُلِّ شيءٍ» ومنها قوله عليهالسلام «من جهل نفسه كان بغيره أجهل» ومنها قوله عليهالسلام : «كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟» ومنها قوله عليهالسلام : «عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟». ومنها قوله عليهالسلام : «من عرف نَفْسَهُ فَهُو لِغيرهِ أَعرفُ». وقد اتي ابن أبي الحديد شارح النهج في آخر شرحه عليه بالف كلمة مما نسبت إليه عليهالسلام وقد طبعت ـ علي حدة ـ مرّة في بيروت بعنوان الحكم المنثورة وأُخري في النجف مع كلماته الأخري، وهي أيضاً خالية عن تلك الكلمة المنسوبة إلي رأس الحكماء. مع أن ابن أبيالحديد قال في أولها:
ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه فبعضه مشهور عنه، وبعضه ليس بذلك المشهور لكنّه قد روي عنه وعزي إليه، وبعضه من كلام غيره من الحكماء لكنّه كالنظير لكلامه والمضارع لحكمته... .
وكذا باب المختار من حكمه عليهالسلام من النهج، والرسائل الأُخري في ذلك عندنا، لم يذكر فيها ذلك الكلام اعني: «إنّ من عجز...» ولم نجده في مواضع أُخري مع طول فحصنا.
وجاء في الباب الأول من المقالة الثانية من النوع الثاني من فردوس الحكمة في الطب لأبيالحسن علي بن سهل بن ربن الطبري ـ وهو من قدماء الأطباء وكبارهم ـ ما هذا لفظه:
قال ارسطوطيلس الفيلسوف: «إنّ العلم بالنفس الناطقة أكبر من سائر العلوم؛ لأن من عرفها فقد عرف ذاته ومن عرف ذاته قوي علي معرفة اللّه» وقد صدق الفيلسوف فإن من جهل نفسه وحواسه كان لغير ذلك أجهل1.
1 . فردوس الحكمة، في الطبّ، طبع برلين، ص60.
فقول أرسطو علي نقل الطبري يُشبه كلام أمير المؤمنين عليهالسلام حيث قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»؛ ونظائره. وقول الطبري يشبه كلام الأمير وارسطو حيث قال الأمير: «من جهل نفسه كان بغيره أجهل» وقال ارسطو: «إنّ من عجز عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة ربه» و كأنه اقتبس منهما. ثم ان الشيخ الرئيس قد وصف ارسطو بأفضل الحكماء أيضاً حيث قال في آخر الفصل الأول من المقالة التاسعة من حيوان كتابه الشفاء:
وايضاً فإنه يظن بالمعلم الأول أنه يري أن المنيّ لا يخالط المتكوّن... وفاضل الأطباء ـ يعني به جالينوس ـ ومن يجري مجريه يشنعون علي أفضل الحكماء في ذلك ويناقضونه، يعني به المعلم الأول أرسطاطاليس1.
فالصواب هو ما في المخطوطة المنقول عنها، ولا ضير في أن كلام كل واحد منهما يشابه كلام الآخر في ذلك، وكم له من نظير، ولا إزراء في ذلك.
تبصرة: حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه، قد روي في الجوامع الروائية عن النبي والوصي كليهما: ففي غوالي اللآلي لابن أبي جمهور الأحسائي، قال النبي صلياللهعليهوآله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»2.
وفي مطلوب كل طالب من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ؛ وهو مأة كلمة من كلماته عليهالسلام جمعها أبو عثمان الجاحظ، كانت الكلمة السادسة منه قوله عليهالسلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
وكذا في الغرر والدرر للآمدي، روي الحديث الشريف عن الوصي عليهالسلام 3. وصاحب بحار الأنوار قد نقل حديث «من عرف...» في الرابع عشر منه بلا دغدغة فيه4.
وللشيخ الأكبر محيي الدين العربي
1 . الشفاء لابن سينا، الطبع الحجري، ج1، ص 428.
2 . غوالي اللآلي، الطبع الاوّل، ج4، ص102.
3 . الغرر والدررللآمدي بشرح الخوانساري، كلمة 7946، الطبع الاوّل، ج5، ص194.
4 . بحارالأنوار، طبعة الكمباني، ج14، ص 415.
رسالة موسومة بالرسالة الوجودية في معني قوله صلياللهعليهوآله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، طبعت في القاهرة. وكذا رسالة في معني الحديث للعارف السيد عبداللّه البلياني طبعت مع عدة نسخ أُخري في ايران سنة1352 وهي رسالة فارسية في حديث (من عرف...) ورسالة في معني حديث (من عرف أيضاً) لعماد الدين بن يونس المازندراني البنجهزاري بالعربية لم تطبع بعد والنسخة موجودة عندنا. وللراقم المستكين رسالة بالعربية في معني حديث (من عرف) أيضاً لم تطبع بعد.
قال الراغب الإِصفهاني المتوفي في رأس المأة الخامسة، في رسالته تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ما هذا لفظه:
قد روي أنه ما أنْزل اللّه من كتاب إلا وفيه: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك؛ وهذا معني قوله تعالي: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم» الآية1.
ومن لطائف ما في كتاب الأرواح للشيخ الطنطاوي الجوهري صاحب التفسير ما هذا لفظه:
إنّ مدار كل دين علي أمرين اثنين: وجود اللّه وبقاء الأرواح بعد الموت، ولا فضل لدين إلا بهذين فإذا لم يكونا فلا كفاءة لدين، ولا فضل، ولا مزيةَ لنحلة، بل تكون الحياة باطلة، وهذا الوجود بغير مزيّة ولا ثمرة، وهذا هو اليأس المُبين2.
ومن لطائف ما في تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لابن مسكويه:
أن الإنسان (من بين سائر الموجودات) له فعل خاص به لا يشاركه فيه غيره، وهو ما صدر عن قوته المميزة المرويّة، فكلّ من كان تمييزه أصح، ورويّته أصدق، واختياره أفضل، كان أكمل في إنسانيته. وكما أن السيف
1 . تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين،طبع صيدا، ص 11.
2 . كتاب الارواح للشيخ الطنطاوي، الطبع 3، مصر، ص 15.
والمنشار، وإن صدر عن كل واحد منهما فعله الخاص بصورته الذي من أجله عمل، فأفضل السيوف ما كان أمضي وانضر، وما كفاه يسير من الايماء في بلوغ كما له الذي أعدّ له، وكذلك الحال في الفرس والبازي وسائر الحيوانات، فإنّ الأفراس ما كان أسرع حركة وأشدّ تيقظاً لما يريده الفارس منه في طاعة اللجام وحسن القبول في الحركات، وخفّة العدو والنشاط؛ فكذلك الناس أفضلهم من كان أقدر علي أفعاله الخاصّة به، وأشدهم تمسكاً بشرائط جوهره التي تميز بها عن الموجودات. فإذن الواجب (الذي لا مرية فيه) أن نحرص علي الخيرات التي هي كمالنا والتي من أجلها خلقنا، ونجتهد في الوصول إلي الإِنتهاء اليها، ونتجنّب الشرور التي تعوقنا عنها وتنقص حظّنا منها؛ فإنّ الفرس إذا قصر عن كماله ولم تظهر أفعاله الخاصّة به علي أفضل أحوالها، حطّ عن مرتبة الفرسية، واستعمل بالإكاف كما تستعمل الحمير؛ وكذلك حال السيف وسائر الآلات، متي قصرت ونقصت أفعالها الخاصة بها حُطَّت من مراتبها واستُعملت استعمال ما دونها. والإِنسان إذا نقصت أفعاله وقصرت عمّا خلق له، أعني أن تكون أفعاله التي تصدر عنه وعن رويّته غير كاملة، أحري بأن يحط عن مرتبة الإِنسانية إلي مرتبة البهيمية. هذا إن صدرت أفعاله الإِنسانية عنه ناقصة غير تامّة، فإذا صدرت عنه الأفعال بضدّ ما أعدّ له أعني الشرور التي تكون بالرويّة الناقصة والعدول بها عن جهتها لأجل الشهوة التي يشارك فيها البهيمة أوّلاً، أو الاعتزاز
بالأُمور الحسية تشغله عمّا عرض له، من تزكية نفسه التي ينتهي بها إلي الملك الرفيع والسرور الحقيقي، وتوصله إلي قرة العين التي قال اللّه (تعالي):«فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ اَعْيُنٍ»1 وتبلغه إلي رب العالمين في النعيم المقيم، واللذات التي لم ترها عين، ولا سمعتها أذن، ولا خطرت علي قلب بشر، وانخدع عن هذه الموهبة السرمدية الشريفة بتلك الخساسات التي لا ثبات لها، فهو حقيق بالمقت من خالقه (عزّ وجلّ) خليق بتعجيل العقوبة له وإراحة العباد والبلاد منه2.
ومن لطائف كلمات أفلاطون الإلهي هو ما قال:
إنّ حياة النفس وقوامها لأعمالها المحصنة لها من الآفات حتي لا يدنو منها شيء يميتها فيكون ذلك قتلاً للنفس، فإنّها إنْ لم يقتلها ذلك لم يقدر أحد علي قتلها، لأنها غالبة علي الجسد مرتفعة عنه، وممتنعة بلطفها من أن ينظر إليها الموت الناظر إلي الجسد، فهو لا يراها وهي تراه بفضل لطفها عليه3.
ومن لطائف كلمات المتأله السبزواري:
كم من نفس ككتاب مشحون من الأباطيل والأكاذيب والجهالات المركّبة والهزليات والهذيانات، مستحق للإِحتراق بل محترق بالفعل «اِنَّ الفُجّارَ لَفي جَحيم» وكذا هو في سجين. ورُبّ نفسٍ هي صحيفة إلهية مملوّة من المعارف الآلهية، والمطالب الحقة، والملكات الحميدة، وهي كتاب مرقوم يشهده
1 . السجدة: 17.
2 . تهذيب الاخلاق وتطهير الاعراق، طبع بيروت، ص36.
3 . نزهة الأرواح للشهرزوري، طبع حيدر آباد دكن، ج1، ص180.
المقربون قال تعالي:«إنَّ كِتابَ الأبرار لَفي عِلِّيينَ».1و2
ومن لطائف ما في شواكل الحور للدواني في شرح هياكل النور للسهروردي ما قال في شرح الهيكل الرابع:
هيهنا إشارة إلي حقيقة النفس، فانّ معرفتها أم الحكمة، واصل المعارف، وأجلها كما جاء في الوحي القديم: «اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك». وفي كلام النبي صلياللهعليهوآله : «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه». وفي كلام أفلاطون: «من عرف ذاته تألَّه». وفي كلام ارسطو: «معرفة النفس معينة في كل حق»3.
ومن لطائف كلمات القيصري في تعريف النفس ما قاله في خطبة شرحه علي فصوص الحكم للشيخ الأكبر:
فسبحان الذي تجلّي بذاته لذاته، فأظهر آدم، واستخلفه علي مظاهر اسمائه المنعوتة بالعالم، وأجمل فيه جميع الحقائق وأبهم، ليكون صورة اسمه الجامع العزيز الأكرم.
وما قاله في شرحه علي الفص العيسوي: «المدرك لا يدرك شيئاً ما كان إلاّ بما منه فيه»4.
وما قاله في أول شرحه علي الفص اليونسي من فصوص الحكم:
اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية مظهر الاسم الجامع الآلهي، فهي من حيث انها كذلك برزخ للصفات الآلهية والكونية، وللمعاني الكلية والجزئية. ولهذه البرزخية تعلقت الأبدان إذ البرزخ لابد أن يكون فيه ما في الطرفين، فجمعت بين ما هو روحاني محض ومعني صرف مقدّس عن الزمان والمكان، منزّه عن التغير والحدْثان، وبين ما هو جسماني طلق محتاج إلي
1 . المطففين: 18.
2 . التعليقة علي غرر الفرائد في الحكمة المنظومة، ص346.
3 . نقلناه من نسخة مخطوطةٍ من الشواكل عندنا.
4 . شرح الفصوص، الطبع الاوّل، ص328.
المكان والزمان، متغيرٌ بتغيرات الأزمان والأكوان، فتم لها العالم العلوي الروحاني والسفلي الجسماني فصارت خليفة في ملكه مدبرة لرعاياه1.
أقول: قوله «صورة اسمه الجامع» في الاسم الجامع الدائر في ألسنة هؤلاء الأكابر ومشايخ علماء الحروف سرٌّ وهو أن عدد جامع يساوي عدد سور القرآن، والقرآن المسطور بين الدفّتين صورة الإنسان الكامل الكتبية، كما أن القرآن الكوني صورته العينية، وعدد أسمائه (تعالي) في القرآن من غير تكرير يساوي عدد سوره. وعلي هذا المنوال قولهم الجفر الجامع. وقد قال الشيخ الأكبر محيي الدين ابنالعربي في كتابه الدر المكنون والجوهر المصون في علم الحروف في فائدة الجفر ما هذا لفظه: «وفائدته الإِعتلاء إلي فهم الخطاب المحمدي صلياللهعليهوآله » فتبصّر. وقوله: «لايدرك شيئاً ما كان»؛ أي لا يدرك أيّ شيء كان إلا بما منه فيه، فافهم.
ومن لطائف كلمات الشيخ الأكبر في تعريف النفس ـ وإن كان كلماته كلها في ذلك لطائف ـ ما قاله في الفص الآدمي من فصوص الحكم من أنّ:
جميع ما في الصورة الإِلهية من الأسماء في هذه النشأة الإِنسانية، فحازت رتبة الإِحاطة والجمع بهذه الوجود وبه قامت الحجة لِلّه علي الملائكة.
بيان: لمّا استخلف الحق (سبحانه) الإنسان الكامل ـ ومن شرط الخليفة أن يكون علي صورة المستخلف ـ قال الشيخ:
إنّ احدية جميع الأسماء الإِلهية، وصور اجتماعها في هذه النشأة الإِنسانية الجامعة، بين النشأة الروحانية والعنصرية التي هي أحدية جمع مظهريات تلك الأسماء، فحازت أي اجتمعت هذه النشأة الإِنسانية، وإنْ شئت قلت هذه الصورة الإِلهية رتبة
1 . المصدر، ص379.
الإِحاطة بجميع الأسماء، والجمع أي ورتبة جمعية مظاهرها بهذا الوجود العيني العنصري. وبهذا الجمع قامت حجّة الحق (سبحانه) في ادعائه استحقاقه الخلافة حيث قال: «إنّي جاعِلٌ في الأَرضِ خَليفةً»1 علي القادحين في ذلك الاستحقاق بقولهم: «أَتَجعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها»2.
وقال الشارح القيصري:
أي لمّا استخلف الإنسان وجعله ختماً علي خزائن الدنيا والآخرة، ظهر جميع ما في الصورة الإِلهية من الأسماء في النشأة الإِنسانية الجامعة بين النشأة العنصرية والروحانية أي صارت جميع هذه الكمالات فيها بالفعل. وقد صرّح شيخنا رضياللهعنه في كتاب المفتاح: «أنّ من علامات الكامل أن يقدر علي الإِحياء والإِماتة وامثالهما». واطلاق الصورة علي اللّه مجاز إذ لا يستعمل في الحقيقة إلاّ في المحسوسات ففي المعقولات مجاز، هذا باعتبار اهل الظاهر. وأما عند المحقق فحقيقةٌ لأن العالم بأسره صورة الحضرة الإِلهية تفصيلاً، والإِنسان الكامل صورته جمعاً. قال النبي صلياللهعليهوآله : «إنّ اللّه خلق آدم علي صورته». فالنشأة الإِنسانية حازت رتبة الإِحاطة والجمع بهذا الوجود؛ أي بالوجود العيني، و ذلك لأنه حاز بجسمه رتبة الأجسام، وبروحه رتبة الأرواح. وبه أي بهذا الجمع قامت الحجة علي الملائكة لإِحاطته بما لم يحيطوبه3. انتهي.
أقول: يعني بقوله شيخنا في كتاب المفتاح، العارف صدر الدين محمد بن
1 و 2 . البقرة: 30.
2 . شرح فصوص الحكم، للقيصري، الطبع الأول، ص75.
(63)
اسحاق القونوي وكتاب المفتاح هو مفتاح غيب الجمع والوجود. الذي شرحه ابن الفناري و سمّاه مصباح الانس بين المعقول والمشهود في شرح مفتاح غيب الجمع والوجود. والقيصريّ صرح في ديباجة شرحه علي فصوص الحكم بأنه تلمذ عند العارف عبدالرّزاق القاساني ـ والقاسان هذه قرية بسمرقند ـ و هاهنا صرّح بأن الصدر القونوي أيضاً كان من مشايخه فهو تلمذ عندهما. ثم أن القونوي قد عدّ في آخر المفتاح خواصّ الإنسان الكامل إلي أن قال: «ولنعدّد الآن من علامات هذا الإنسان الحقيقي. الخ».
قوله: «وإطلاق الصورة علي اللّه مجاز» إن اراد من أهل الظاهر نحو أرباب اللغات فله وجه، وإلاّ فإطلاق الصورة علي اللّه (سبحانه) عند الفيلسوف الإِلهي علي الحقيقة أيضاً. كما أن الشيخ في الفصل العاشر من المقالة الأُولي من الفن الأول من طبيعيات الشفاء1، وكذا في الفصل الرابع من المقالة السادسة من الهيات الشفاء أتي بعدّة معاني للصورة أولها أن الصورة يقال لكل معني بالفعل2. ويطلب تفصيل البحث عن ذلك في الدرس السابع والأربعين ومائة من كتابنا دروس معرفت نفس3 ولمّا كان هو (تعالي شأنه) الفعلية الصرفة ومجمع الفعليّات، وكان فعلية كل موجود بفعليته (سبحانه) يقال له: في الصحف التوحيدية صورة الصور، كما يقال له حقيقة الحقائق وكما اطلق عليه فاعل الفواعل وغاية الغايات ومبدء المبادي؛ فالعالم بأسره صورة الحضرة الإِلهية تفصيلاً والإِنسان الكامل صورته جمعاً.
قوله: «قال النبيّ صلياللهعليهوآله : إنّ اللّه خلق آدم علي صورته». في غوالي اللئالي لابن أبيجمهور الأحسائي، روي عنه صلياللهعليهوآله أنه قال: «إنّ اللّه (تعالي) خلق آدم علي صورته».
وكذلك رواه رئيس المحدثين ثقة الإسلام الكليني باسناده إلي محمد بن مسلم:
1 . الشفاء، الطبع الاوّل الحجري ج1، ص22.
2 . المصدر، الطبع الرحلي، ج2، ص537.
3 . دروس معرفت نفس، الطبع الاوّل، ص518.
(64)
قال: سألت أبا جعفر عمّا يروون أنّ اللّه خلق آدم عليهالسلام علي صورته، فقال: «هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه واختارها علي سائر الصور المختلفة فأضافها إلي نفسه كما اضاف الكعبة إلي نفسه، والروح إلي نفسه فقال: بيتي1؛ ونفخت فيه من روحي».2
ولا يخفي عليك أن الإِمام أبا جعفر الباقر عليهالسلام صدّق ورود الحديث عن رسولاللّه صلياللهعليهوآله أولاً، ثم تصدّي لبيانه، والعجب أن بعض المحدّثين حمله علي التقية، وهو كما تري.
والمحقق ابن أبي جمهور بعد نقل الرواية في الغوالي تصدي لبيانها فقال:
اضطرب أهل الكلام في تأويل هذا الحديث، فقال قوم: «أراد خلق آدم علي صورته التي هو عليها». وقال قوم: «إنّ اللّه خلق آدم علي صورته عنده». وقال قوم: «إنّ الحديث، لا تقبّحوا الوجه فإن اللّه خلق آدم علي صورة الوجه».
وزاد قوم في الحديث: «أنه مرّ برجل يضرب وجه آخر، فقال: لا تضربه علي وجهه، فإن اللّه خلق آدم علي صورته؛ أي علي صورة ذلك الوجه». وكل هذه تأويلات بعيدة. وأبعد منها قول بعضهم: «أراد أنَّ اللّه خلق آدم في الجنة علي صورته في الارض». وقول الآخر: «إنّ الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنّما وقع الالف بتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت فيه، ونحن نؤمن بالجميع، من غير أن نقول فيه بحدّ أو كيفية، فان فيه اعترافاً بالعجز عن تأويل الحديث. وأما الذي في القرآن من اليد والعين، فتأويلها في التفاسير مذكور».
3و1 . الاصول من الكافي، من المعرب، باب الروح، ج1، ص104.
(65)
فالأحسن أن يقال: «المراد بالصورة هنا، الصورة المعنوية، كما يقال: صورة المسئلة كذا ويراد بها معناها، ويكون التقدير أن اللّه خلق آدم علي صورة معنوية تشبه به وتناسب المعاني الإِلهية، أي المشابهة في الصفات والكمالات والأفعال فإن آدم مشتمل علي صفات وكمالات مناسبة ومماثلة للصفات الإِلهية من جهة ما».
وقال بعض أهل الإِشارة: «المراد بآدم في الحديث إنّ كان الإنسان الكبير فهو العالم بأسره، وإن كان العالم الصغير فهو ولده الشخصي لقولهم: العالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير، ويكون المراد أنه ليس له (تعالي) غير هذين المظهرين العظيمين. فمعني أنه علي صورته أن فيه تمام المظهرية التي يظهر فيه الصورة الإِلهية المعنوية بجميع صفاتها ولوازمها لأنه ليس شيء أكمل من صورة الإنسان في معرفة اللّه (تعالي)، ولهذا قال عليهالسلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ومراده خلقه علي صورة كمالاته الذاتية الجامعة للكمالات الأسمائية والصفاتية»1.
ابن أبيجمهور هو أبو جعفر محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي الهجري الإمامي المتوفي سنة 940 ه·· ، كان جامعاً في العلوم العقلية والنقلية كما لا يخفي علي العارف بصحفه العلمية، والبصير بالكتب الرجالية. وغواليه يدل علي تبحره في الأحاديث وتدربه في المعرفة بالجوامع الروائية. ويستفاد من قوله في التأويلين الثالث والرابع بتقبيح الوجه وضرب الوجه، ثم التصريح بأنها تأويلات بعيدة؛ أن بعض الروايات الواردة فيهما لا يصحّ عنده انتماؤه الي المعصوم. من تلك الروايات ما روي الصدوق (رضوان اللّه عليه) في عيون
1 . الغوالي، الطبع الاوّل، ج1، ص 53 - 54.
(66)
أخبار الرضا عليهالسلام بإسناده إلي الحسين بن خالد قال:
قلت للرضا عليهالسلام : يا ابن رسول اللّه إنّ الناس يروون أن رسول اللّه صلياللهعليهوآله قال: إنّ اللّه (عزّ وجلّ) خلق آدم علي صورته، فقال: «قاتلهم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث، إنّ رسول الله صلياللهعليهوآله مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك، فقال: يا عبداللّه لا تقل هذا لأخيك، فإن اللّه (عزّ و جلّ) خلق آدم علي صورته»1.
ثم إنّ نحو السؤال في حديث العيون هو سؤال محمد بن مسلم أبا جعفر عليهالسلام في حديث الكافي المقدّم آنفاً، فأجابه عليهالسلام بقوله: «هي صورةٌ مُحَدثَةٌ مَخْلُوقَةٌ اصطَفاها اللّهُ...» وهو يعاضد صاحب الغوالي في عدم انتماء حديث العيون إلي المعصوم. ولا يخفي عليك أنه لو دار الأمر بين ما في الكافي وما في العيون، فالأول متعين.
ومنها ما في مسند ابن حنبل بإسناده إلي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسولاللّه صلياللهعليهوآله :
إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه، ولا تقل قبح اللّه وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن اللّه (تعالي) خلق آدم علي صورته2.
والذي ورد في تفسير إنّ اللّه خلق آدم علي صورته من الأخبار في جوامعنا الروائية الحديثان المذكوران: أحدهما من الكافي والثاني من العيون. ولا يخفي عليك أنه إذا دار الأمر بينهما كان الكافي أقدم وأصح وأمتن.
علي أن للمحدّث الجليل والعالم النبيل السيد نعمة اللّه الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية في معني حديث: «إنَّ اللّه خلق آدم علي صورته» كلاماً يؤيّد به صاحب الغوالي، حيث قال السيد بعد نقل ما جاء في خلق آدم عليهالسلام ما هذا لفظه:
فقد خلق اللّه (سبحانه) آدم
1 . مسند الامام الرضا عليهالسلام ، ج1، ص26.
2 . مسند ابن حنبل، طبع مصر، ج2، ص251.
(67)
علي تلك الصورة التي خلقه عليها من غير أن يتخلق عليه الصور نطفة وعلقة ومضغة وعظاماً كما تداولت علي أولاده. وهذا هو أحد معاني قوله صلياللهعليهوآله : «ان اللّه خلق آدم علي صورته». وقد اجبت بهذا الجواب لما سألني بعض الأفاضل في مجلس بعض الملوك.
وجواب آخر أيضاً خطر بالبال ذلك الوقت، وحاصله: أنّه قد روي أنّ ملائكة التصوير إذا ارادوا تصوير النطفة ذكراً أو أنثي، يقولون يا رب علي أي صورة نصوّره؟ فإن كان ذكراً قال (سبحانه): احضروا صور ابيه إلي آدم وصوِّروه مثل واحدة منها، وإن كان انثي قال: احضروا صور أُمهاته إلي حوّاء فصوّروه علي صورة مثل واحدة منها. ومن ثم قال عليهالسلام :«لا ينبغي لأحد أن يطعن في نسب ولده لأجل أنه لا يشبهه في الصورة فلعلّه انما صوّر مثل واحد من آبائه» وهذا في غير ابينا آدم عليهالسلام وأما هو فليس له آباء ولا أمّهات حتي يصوّر مثل واحدة منها، بل خلق علي تلك الصورة التي خلق عليها.
وقال المحقق صاحب غوالي اللئالي المراد بالصورة الصورة المعنوية كما قال تخلّقوا باخلاق اللّه، فيكون الضمير حينئذ راجعاً إلي اللّه (سبحانه وتعالي)، يعني علي صورة اللّه المعنوية. ومصداقه الحديث القدسي قال فيه: «إذا تقرّب عبدي إليّ بالنوافل كنت سمعه الذي به يسمع، ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي، الحديث».
وقال السيّد المرتضي (نوّر اللّه مضجعه) إنّ «علي» بمعني «مع» يعني أن اللّه (سبحانه) خلق مادته مع صورته. فيكون ردّاً علي ما زعمه
(68)
الطّبيعيون من أن المادة مخلوقة والصورة من مقتضياتها.
والذي ورد في تفسير هذا الحديث من الأخبار حديثان ـ ثم نقل الخبرين المذكورين من الكافي والعيون، ثم قال بعد نقلهما ما هذا لفظه ـ : «وكان المرتضي (طاب ثراه) أنما تكلم علي معني الحديث بما سمعت، من جهة أن هذين الخبرين لم يثبتا عنده بناءً علي أصله من عدم الاعتماد علي العمل بأخبار الآحاد»1.
أقول: عبارته أخيراً: «فيكون رداً علي ما زعمه الطبيعيون...» كانت في الطبع المذكور، وفي مخطوطتين من الأنوار النعمانية، كما نقلناها. ولكن الصواب أن يقال: «علي ما زعمه الطبيعيون من أنّ المادة ليست مخلوقة والصورة من مقتضياتها».
ثم إن شئت فراجع «باب تأويل قوله (تعالي) «ونفخت فيه من روحي»»، و روح منه، وقوله صلياللهعليهوآله : «خلق اللّه آدم علي صورته» من البحار2.
الحديث الاول من كتاب الاستئذان من جامع البخاري عنه صلياللهعليهوآله قال: «خلق اللّه (عزّ وجلّ) آدم علي صورته». ومثله في جامع مسلم3، وكذا في مسند ابن حنبل4.
ولك أن تقول: لكل طائفة في فنّهم اصطلاحات خاصة، وليس بلازم أن يبتني الاصطلاح علي آية أو رواية، كماتري أن اصطلاحات القاريء في قراءة القرآن، والمحدّث في أسامي الحديث، والأصولي في ألفاظ أُصول الفقه، وهكذا اصطلاحات غيرهم في علومهم وصنائعهم ليست مبتنية عليهما. وها هنا أيضاً إطلاق الصورة علي موجود بالفعل، وكونه (تعالي شأنه) صورة الصور أنما هو علي اصطلاح هذه الطائفة في بيان التوحيد
1 . الانوار النعمانية، الطبع الحجري المعروف بطبع حاج موسي، ص75.
2 . بحار الانوار، طبع الكمباني، ج2، ص109و107.
3 . جامع مسلم، كتاب الجنّة، الحديث 28.
4 . مسند ابن حنبل، طبع مصر، ج2، ص323.
(69)
الأصيل الحقاني، والتمسك بالأثر علي نحو الاستحسان أو الاستظهار فإذا كان الحديث كما في العيون فالصواب أن لا يتمسك به في إيفاء ذلك المعني فقط، لا أنّ ذلك المعني علي ذلك الاصطلاح غير صواب رأساً.
وقد أشرنا إلي أن معاني الصورة مذكورة في الموضعين من الشفاء. وهي فيهما يرجع بعضها إلي بعض وإن اختلفت العبارات. ولصدر المتألهين تعليقة مفيدة علي الموضع الثاني منهما. والمعرفة بها توجب زيادة بصيرة فيما نحن بصدده من بيان مطالب العيون وهي ما يلي:
أما في الموضع الأول من الشفاء فقال:
أما الصورة فقد تقال للماهية التي إذا حصلت في المادة قوّمتها نوعاً. وتقال صورة لنفس النوع. وتقال صورة للشكل والتخطيط خاصة. وتقال صورة لهيئة الاجتماع كهيئة العسكر، وصورة المقدمات المقترنة. وتقال صورة للنظام المستحفظ كالشريعة. وتقال صورة لكل هيئة كيف كانت. وتقال صورة لحقيقة كل شيء كان جوهراً أو عرضاً وتفارق النوع فإن هذا قد يقال للجنس الأعلي وربما قيل صورة للمعقولات المفارقة للمادة1.
وأما في الموضع الثاني منه فقال:
وأما الصورة فنقول: قد تقال صورة لكل معني بالفعل يصلح أن يعقل حتي تكون الجواهر المفارقة صوراً بهذا المعني. وقد تقال صورة لكل هيئة وفعل يكون في قابل وحداني او بالتركيب حتي تكون الحركات والأعراض صوراً. وتقال صورة لما تتقوم به المادة بالفعل فلا تكون حينئذ الجواهر العقلية والأعراض صوراً. وتقال صورة لما تكمل به المادة وإن
1 . الشفاء، الطبع الحجري الاوّل في ايران، ج1، ص22.
(70)
لم تكن متقومة بها بالفعل مثل الصحة وما يتحرك إليها بالطبع. وتقال صورة خاصة لما يحدث في المواد بالصناعة من الأشكال وغيرها. وتقال صورة لنوع الشيء ولجنسه ولفصله ولجميع ذلك وتكون كلية الكل صورة في الأجزاء أيضاً1.
وأما تعليقة صدر المتألهين في الموضع الثاني فقال:
قد ذكر للصورة معاني متعددة تقال عليها بالاشتراك اللفظي كما يراه الجمهور، ومن أمعن النظر إلي هذه المعاني الستّة وجدها كلّها متفقة في أمر واحد وهو كون الشيء بالفعل، فيمكن إرجاعها إلي معني واحد هو معني الصورة، ويكون الاختلاف راجعة إلي أُمور أُخري بأن نقول: إنّ الذي هو بالفعل إما بحسب المعني والمفهوم، أو بحسب الوجود والحقيقة والأول هو السادس؛ والثاني إما شرطه أن يقارن أمراً بالقوة أولا والثاني هو المعني الأول وبهذا الوجه يقال للمفارق إنها صورة بلا مادة، وكذا للصورة المنتزعة عن المواد بتجريد مجرد ونزع نازع اياها، ويقال للواجب تعالي إنه صورة الصور لأن فعلية الوجود فيه أقوي وأتم وأشد ارتفاعاً عن ما بالقوة؛ والثاني هو الذي يقارن ما بالقوة فبالضرورة يخرج به ما بالقوة منها إلي الفعل فذلك الخروج إما بصناعة أولا بصناعة والأول هو الخامس، والثاني إما مطلقا أو لا والأوّل هو الثاني، والثاني لا يخلو إما في كماله الأول اولا والأول هو الثالث، والثاني هو الرابع.
وأما قوله: «وتكون كلية الكل صورة في الأجزاء» معناه أن الأُمور الكثيرة التي ليس لها
1 . المصدر، ص447، ج2.
(71)
جزء صوري حقيقي يقال لكليتها وجمعيتها انها صورة في الأجزاء، ولا شك أن هذا القول قول مجازي تشبيها للاعتبار الذهني للوحدة بالصورة الخارجية التي هي جهة الوحدة1.
اعلم أن المراد من آدم في قوله صلياللهعليهوآله خلق اللّه آدم علي صورته، ونحوه، ليس هو آدم الشخصي بل المراد آدم النوعي. وافاد في ذلك العارف المتأله السيد حيدر الآملي في جامع الأسرار بقوله:
الإنسان مظهر جميع الأسماء الجلالية والجمالية لقوله (تعالي): «وعلم آدم الأسماء كلّها»ولقول النبي صلياللهعليهوآله : «خلق اللّه آدم علي صورته». ومعلوم أن كل من يكون علي صورته، يكون جامعاً لجميع أسمائه وصفاته ـ إلي قوله ـ : والمراد بآدم ليس آدم فقط، بل المراد ـ باتفاق أكثر المفسرين في أكثر مواضع القرآن ـ أولاده، وب·· «تعليم الأسماء» التعليم بالقوة لا بالفعل. ولذلك كل من ظهرت فيه هذه الأسماء بأسرها أو أكثرها بالفعل، كان أكمل من غيره، لأنه لا يكون إلاّ نبياً أو ولياً أو وصياً من اوصياء الأنبياء أو عارفاً كاملاً من تابعيهم. فظهورها بالفعل بحسب الاستعداد، أي بحسب استعداد الشخص وقابليته لها. ويشهد بذلك قوله (جلّ ذكره): «وَلَقَدْ خَلَقْناكُم ثُمَّ صَوّرناكُمْ ثُمَّ قُلنا لِلمَلائكةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْليسَ لَمْ يَكُن مِنَ السّاجِدين»2 لأنه اشارة إلي الجمع لا إلي الواحد، وإنْ رجع بعده إلي الواحد3.
وعليك بعدّة درر ثمينة خرجت من بحر المعارف وصدرت عن خزانة الحكم الإمام الوصي أمير المؤمنين علي عليهالسلام في الحضّ علي معرفة النفس،
1 . المصدر، ص 249، ج2.
2 . الأعراف: 11.
3 . جامع الاسرار، طبع ايران، ص 136 ـ 135.
(72)
نقلها العالم الأوحدي عبدالواحد الآمدي في غرر الحكم ودرر الكلم وهي مايلي:
أعْظَمُ اَلجهْلِ جَهْلُ الإنسان أَمر نَفْسِهِ. أعظَمُ الحِكمةِ مَعْرفَةُ الإنسان نَفْسَهُ، وَوُقوفُه عِندَ قَدْرِه. اَفْضَلُ العَقْلِ مَعْرِفةُ الإنسان نَفْسَهُ، فَمَن عَرَفَ نَفسَهُ عَقَل ومن جَهِلَها ضَلَّ. أفضَلُ اَلمعْرِفَةِ معرفة الإنسان نَفْسَهُ. أكثرُ النّاسِ مَعْرِفَةً لِنَفْسِه أخْوَفُهم لِرَبِّه. العارِفُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها وَنزَّهَها عَنْ كُلِّ ما يُبعِّدُها. الكَيِّسُ مَنْ عَرَفَ نَفْسهُ وَاَخْلَصَ أَعمالَهُ. المَعْرِفَةُ بِالنَّفسِ اَنْفَعُ اَلمعْرِفَتَيْنِ. إِنّ النَّفْسَ لَجَوْهَرةٌ ثَمينةٌ، مَنْ صانَها رَفَعها، وَمَنْ ابتذَلها وَضَعَها. عَجبتُ لَمِن يَنْشُدُ ضالَتَهُ وَقَد أضَلَّ نَفْسَهُ فَلا يَطلُبُها. عَجَبتُ لِمَنْ يَجهَلَ نَفْسَهُ كَيْفَ يَعرفُ ربَّهُ. غايَةُ اَلمعرفةِ أنْ يَعرفَ اَلمرأُ نَفْسَهُ. كَفي بِالمرءِ جَهلاً أَنْ يَجهَلَ نَفسَهُ. كَفي بِالمرءِ مَعْرفَةً أَنْ يَعرفَ نَفسَهُ. كَيفَ يَعرفُ غيرهُ منْ يَجهلُ نَفْسَهُ. لا تَجهلْ نَفسَكَ فانّ الجاهِلَ مَعرفَةَ نَفسِه جاهِلٌ بِكلِّ شيء. مَعرِفَةُ النَّفسِ اَنفَعُ المَعارفِ. مَن جَهِلَ نَفسَهُ أَهمَلَها. مَنْ جَهِل نَفسَهُ كَان بِغيرهُ اَجْهَلَ. مَن عَرَفَ نَفسَهُ تَجرَّدَ. مَن عَرَفَ نَفسَهُجاهَدَها.مَن عَرَفَ نَفسَهُ جَلَّ أمرُه. مَن عَرَفَ نَفسَهُ فقَد انتَهي إلي غاية كُلِّ معرفةٍ وَعلمٍ. مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَهُوَ لِغيرهِ أعرَفُ. مَن لَم يَعْرِفْ نَفسَهُ بَعُدَ عَن سبيل النَجاةِ، وَخَبطَ في الضَّلالِ وَالجهالاتِ. نَالَ الْفَوزَ الاكبَر مَن ظَفَر بِمَعرفةِ النَّفسِ. مَن عَرَفَ نَفسَهُ عَرفَ رَبّهُ.
وهم ورجم: قال الفاضل الشيخ سيد علي الطوبجي السيوطي في مقدمته علي السعادة لابن مسكويه ما هذا لفظه:
فالنبي صلياللهعليهوآله وهو القول المعمول
(73)
عليه أنه لم يخرج من الدنيا حتي أطلعه اللّه علي ما كان وعلي ما يكون مما يناسب عقول البشر. ولقد أخطأ من قال مفسراً لكلام أبي بكر الرازي في قوله: «من عرف نفسه عرف ربه» أنت لا تعرف نفسك فلا تطمع في معرفة كنه ربك فقد علق مستحيلاً علي مستحيل.
ثم قال في تعليقة منه علي قوله: «مفسراً لكلام أبي بكر الرازي» ما هذا لفظه:
قد اشتهر عند المؤلفين وأرباب الحواشي والصوفية بأنه حديث؛ ولكن ليس بحديث بل إنما هو من كلام أبي بكر الرازي كما في الدرر المنتثرة للسيوطي والفتاوي لابن حجر.1
وأنا أقول: يعني بأبي بكر الرازي هذا أبازكريا يحيي بن معاذ الواعظ. وفي وفيات الأعيان لابن خلكان: أبو زكريا يحيي بن معاذ الرازي الواعظ أحد رجال الطريقة. ذكره أبو القاسم القشيري في الرسالة، وعدّه من جملة المشايخ. وقال في حقه: «نسيج وحده في وقته، له لسان في الرجاء خصوصاً، وكلام في المعرفة». ثم في الوفيات بعد تاريخ حياته ونقل طائفة من كلماته في المعرفة قال: «وله في هذا الباب كل كلام مليح». وتوفي يوم الإثنين لست عشرة ليلة خلت من جمادي الأُولي سنة ثمان وخمسين ومائتين. وما نقل ابن خلكان هذا الكلام أعني حديث (من عرف...) عنه، مع انه من غرر الكلمات القصار في المعرفة.
وإنما قلنا إنّ الرازي هذا هو يحيي بن معاذ لما قاله علي بن سلطان محمد القاريء، المشهور بالملاّ علي القاري في كتابه الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة المعروف بالموضوعات الكبري وهذا لفظه فيه:
حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه، قال ابن تيميّة: موضوع. وقال السمعاني: إنه
1 . كتاب السعادة لابن مسكويه بمقدمة الطوبجي، طبع مصر لسنة 1346ه··.ق،ص13.
(74)
لا يعرف مرفوعاً، وإنما يحكي عن يحيي بن معاذ الرازي من قوله. وقال النووي: إنه ليس بثابت، يعني عن النبي (عليه الصلوة والسلام)، وإلاّ فمعناه ثابت. فقد قيل: من عرف نفسه بالجهل فقد عرف ربه بالعلم. ومن عرف نفسه بالفناء فقد عرف ربّه بالبقاء. ومن عرف نفسه بالعجز والضعف فقد عرف ربه بالقدرة والقوّة. وهو مستفاد من قوله تعالي «ومَنْ يَرغَبُ عَنْ مِلَّةِ اِبراهيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ»أي جهلها حيث لم يعرف ربّها1.
وقال القاري المذكور في كتابه الآخر الموسوم بالمصنوع في معرفة الحديث الموضوع المعروف بالموضوعات الصغري:
قال السيوطي في ذيل الموضوعات2: «فصل في أحاديث ذكر النووي في فتاويه، أو في غيرها أنها باطلة». سُئل عن حديث من عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه كلّ لسانه، هل هذا الحديث ثابت؟ أجاب: ليس بثابت3.
ثم ان القشيري ذكر في الرسالة أبا زكريا يحيي بن معاذ الرازي الواعظ ـ كما قاله ابن خلكان ـ ونقل بعض كلماته، ولم ينقل حديث «من عرف» منه. وفي الرسالة القشيرية أيضاً أن يحيي بن معاذ مات بنيسابور سنة ثمان وخمسين ومائتين4 (ص16، ط مصر). وقد دريت آنفا أن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ مات سنة خمس وخمسين ومائتين معاصراً ليحيي بن معاذ ومات قبله وقد نقل مائة كلمة من كلام أمير المؤمنين علي عليهالسلام وسمّاها مطلوب كل طالب من كلام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب، والكلمة السادسة منها قوله عليهالسلام : «من عرف نفسه فقد
1 . الموضوعات الكبري، الحديث 506، طبع بيروت،ص351،352، طبع دهلي، ص72.
2 . الموضوعات الصغري، تذييلة السيوطي، ص203.
3 . الموضوعات الصغري، طبع بيروت، ص37.
4 . الرسالة القشيرية، طبع مصر، ص16.
(75)
عرف ربه»، فكيف يصحّ اسناده إلي يحيي بن معاذ وإن كنا لا ننكر أن له كلمات طريفة. وإنما تفوّه هو بحديث «من عرف» وأسنده الناس إليه بأن قائله هو يحيي بن معاذ؛ نظير ما أسند الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبداللّه الاصفهاني المختار الثالث من كتب أمير المؤمنين علي عليهالسلام ورسائله من نهج البلاغة إلي الفضيل بن عياض علي التفصيل الذي ذكرناه في شرحنا علي نهج البلاغة1 علي أن كلمات الوصي الأُخري في معرفة النفس، وكلمات الرازي فيما نقله القوم شاهدان علي أن الحديث صدر من بيت الوحي، فتبصّر.
وممّا هو جدير بالنقل هيهنا تعليقتان:
إحداهما ما أفاده العالم الجليل السيد محمد علي القاضي الطباطبائي في تعليقة منه علي الفردوس الأعلي2 للآية الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء من انّ:
المعروف في الألسن والمشهور في الكتب أنّ هذه الكلمة النيّرة صادرة عن صاحب الرسالة المقدسة صلياللهعليهوآله ولكن نقل العلاّمة الشيخ عبدالهادي نجا الأبياري في كتابه باب الفتوح لمعرفة أحوال الروح، عن القاضي الخفاجي أنه قال ـ عند استشهاد القاضي البيضاوي في كلامه بقوله عليهالسلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» - إنه ليس بحديث بل هو من كلام أبي بكر الرازي كما ذكره الحفاظ، وبعض الجهلة يظنه حديثاً كما يقع في بعض الموضوعات.3
وقال العلامة السيد عبداللّه شبر (قدس سرّه) في كتابه مصابيح الأنوار: الحديث الثلاثون، ما رويناه عن جملة من علمائنا الأعلام وفضلائنا الكرام، واشتهر بين الخاصّ
1 . تكملة منهاج البراعة، الطبع الاوّل، ص107 - 102.
2 . الفردوس الأعلي بتعليقات القاضي الطباطبايي، طبع مصر الاوّل لسنة 1304 ه·· ق، ص 8.
3 . مصابيح الانوار، طبع بغداد، ج1، ص204.
(76)
والعام من قول النبي صلياللهعليهوآله من عرف نفسه فقد عرف ربّه.
وممّا هو جدير بالذكر أن هذه الكلمة لم يذكرها القاضي القضاعي في كتابه الشهاب من كلمات رسول اللّه صلياللهعليهوآله بل هذه الكلمة المباركة هي الكلمة السابعة من مائة كلمة التي أخرجها واختارها كبير أئمة الأدب أبو عثمان الجاحظ من كلام أمير المؤمنين عليهالسلام . قال الجاحظ: «إن لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مائة كلمة كل كلمة منها تفي بألف كلمة من محاسن كلام العرب» انظر مستدرك نهج البلاغة1 للعلامة الكبير الشيخ الهادي آل كاشف الغطاء قدسسره وانظر أيضاً إلي هذه الكلمة الشريفة ص90 من ذلك الكتاب. فظهر ممّا ذكرنا أن نسبتها إلي الرازي كذب محض، وحديث خرافة أصلاً وأساساً. انتهي ما أفاده القاضي الطباطبائي في التعليقة.
تنبيه: الحديث الشريف أعني: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» كما نقلناه آنفاً هو الكلمة السادسة من مطلوب كل طالب كما في المطبوع منه بتصحيح المحدث الارموي (ره) ولكن في التعليقة المذكورة أنها الكلمة السابعة منه. ولا يخفي علي أرباب الفضل والخبرة أنه قلّما يتفق سنوح نحو هذا التقديم والتأخير في ترتيب الكلمات في المخطوطات.
وثانيتهما: تعليقة علي رسالتين في الحكمة المتعالية والفكر الروحي تأليف حسن بن حمزة بن محمد الشيرازي المعروف بالشَّرَفِ البَلاسي من أكابر عرفاء القرن السابع الهجري، وقد حققهما وعلّق عليهما وصدّرهما بمقدمةٍ الدكتور صالح عضَيْمة:
أنّ بعضهم ينسب هذا الحديث يعني به الحديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» للرسول صلياللهعليهوآله وينسبه آخرون للامام علي عليهالسلام ، فمن الذي
1 . ط نجف، ص47.
(77)
نسبوه للإمام علي، غير المصنف، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1، وكذلك الآمدي، وانظر جامع الأخبار2 قال فيه ابن تيميّة: «إنه موضوع» وقال النووي: «قبله ليس بثابت». وقال ابوالمظفر بن السمعاني في القواطع: «إنه لا يُعرف مرفوعاً»، وإنما يحكي عن يحيي بن معاذ الرازي يعني من قوله. وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي أنّه ليس بثابت، قال: لكنّ كتب الصوفية مشحونة به، يسوقونه مساق الحديث. وللحافظ السيوطي فيه تأليف لطيف سمّاه القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربّه.وقد قال النجم: قلت: وقع في أدب الدين والدنيا للماوردي، عن عائشة، سئل صلياللهعليهوآله من أعرف الناس بربه؟ قال: «أعرفهم بنفسه». انظر كشف الخفاء.3 نقلت هذه الحاشية من المعجم الصوفي للدكتورة سعاد الحكيم.4
أقول: وسيأتي حديث أدب الدين والدنيا للماوردي عن أمالي علم الهدي أيضاً بعيد هذا. وأما القول الأشبه تأليف السيوطي فهو من جملة الرسائل الموجودة في الحاوي للفتاوي للسيوطي5. ثم إن غرض السيوطي في تأليف القول الأشبه هو نقل الوجوه التي فسر حديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» بها من المشايخ. وقال في صدر الرسالة بعد التسمية والتحميد ما هذا لفظه:
وبعد فقد كثر السؤال عن معني الحديث الذي اشتهر علي الألسنة «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وربما فهم منه معني لا صحة له، وربما نسب إلي قوم أكابر، فرقمت في هذه الكراسة ما يبيّن الحال، ويزيل
1 . شرح نهج البلاغة، طبع القاهرة لسنة 1929م، ص547،ج4.
2 . جامع الاخبار، الفصل الاوّل، ص5.
3 . ص 262، حديث رقم 2532.
4 . ص 1261 (ص 114 ط باريس 1306 ه·· ).
5 . الحاوي للفتاوي، طبع مصر، ج2، ص 412 - 417.
(78)
الإشكال، وفيه مقالان:
المقال الأول أن هذا الحديث ليس بصحيح، وقد سئل عنه النووي في فتاويه فقال: «إنه ليس بثابت». وقال ابن تيميّة: «موضوع». وقال الزركشي في الأحاديث المشتهرة: «ذكر ابن السمعاني أنه من كلام يحيي بن مُعاذ الرازي».
المقال الثاني في معناه الخ.
فذكر عدة وجوه من معاني الحديث من النووي والشيخ تاج الدين بن عطاء والشيخ عزالدين، والقونوي وابوطالب المكي، واحتمل وجهاً آخر هو نفسه بأنه تعليق المستحيل علي المستحيل، وختم الرسالة بقوله: «وقد تحصّل ممّا سقناه في معني هذا الأثر أقوال. واللّه أعلم».
ثمّ إن العَجْلوني (اسماعيل بن محمد العجلوني الجراحيّ المتوفي 1162 ه··.ق) أتي في كتابه «كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث علي السنة الناس» بنحو ما في الكتب المذكورة ففيه: «قال أبو المظفر بن السمعاني في القواطع إنه لا يعرف مرفوعاً» إلي قوله:
وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي إنه ليس بثابت، قال: «لكن كتب الصوفية مشحونة به، يسوقونه مساق الحديث كالشيخ محيي الدين بن عربي وغيره»، قال وذكر لنا شيخنا الشيخ حجازي الواعظ شارح الجامع الصغير للسيوطي بأن الشيخ محيي الدين بن عربي معدود من الحفاظ. وذكر بعض الأصحاب أن الشيخ محيي الدين قال: «هذا الحديث وإن لم يصحّ من طريق الرواية فقد صحّ عندنا من طريق الكشف»1؛ الخ.
وفي باب معرفة النفس من الجامع المسمّي بفصل الخطاب للكرماني:
قال النبي صلياللهعليهوآله : «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه». وقال علي عليهالسلام
1 . كشف الخفاء ومزيل الالباس، طبع بيروت، ج2، ص262.
(79)
«من عرف نفسه عرف ربه». ـ ثم قال الكرماني بعد نقل الحديثين ما هذا لفظه: ـ أقول: أخرجت هذين الحديثين لأن مشايخنا رووهما ولم ينكروهما، ومفادهما مؤيد بالكتاب والسنة1.
وقد بالغ سفراء الحق وأئمة الخلق في تحريض الناس علي معرفة النفس بألسنة تأكيد وتشديد، مثل التحريض علي معرفة اللّه (سبحانه). وقد نقلنا شرذمة منها، وهي أربعون حديثاً في النكتة الأخيرة من كتابنا هزار و يك نكته.
فمن تلك الروايات ما أتي بها علم الهدي الشريف المرتضي في أماليه المعروف بالغرر والدرر:
أن بعض أزواج النبي صلياللهعليهوآله سألته؛ متي يعرف الإنسان ربه؟ فقال: إذا عرف نفسه2.
ومنها ما في أماليه أيضاً أنه صلياللهعليهوآله قال: «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه»3 ومنها ما نقلناها عن الغرر والدرر للآمدي عن الوصي أمير المؤمنين علي عليهالسلام : «عجبت لمن ينشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها».
ومنها ما في غرر الآمدي أيضاً عنه (عليه الصلوة والسلام): «لا تجهل نفسك فإنّ الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء».
ومنها ما في توحيد الصدوق بإسناده إلي إمام الملك والملكوت جعفر الصادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام قال: قال أمير المؤمنين عليهالسلام :
إن للجسم ستّةَ أحوالٍ: الصحة، والمرض، والموت، والحياة، والنوم، واليقظة. وكذلك الروح، فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكّها، وصحتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها4.
وفي آداب أفلاطون الإلهي وحكمه ومواعظه من نزهة الأرواح للشهرزوري
1 . فصل الخطاب للكرماني، الطبع الثاني، ص154.
2 . الغرر والدرر للشريف المرتضي، طبع مصر، ج1، ص 274.
3 . المصدر، ج2، ص329.
4 . البحار، الطبع الاوّل، ج14، ص398.
(80)
أن أفلاطون قال:
إنّ حياة النفس وقوامها لأعمالهاالمحصنة لها من الآفات حتي لا يدنو منها شيء يميتها، فيكون ذلك قتلاً للنفس فانها إن لم يقتلها ذلك لم يقدر أحد علي قتلها، لأنها غالبة (عالية ـ خ) علي الجسد، مرتفعة عنه، وممتنعة بلطفها من أن ينظر إليها الموت الناظر إلي الجسد، فهو لا يراها وهي تراه بفضل لطفها عليه1.
وقال أفلاطون:
للنفس صحة، وسقم، وحياة، وموت، فصحّتها الحكمة، وسقمها الجهل، حياتها بأن تعرف خالقها وتتقرب إليه بالبرّ، وموتها بأن تجهل خالقها، وتتباعد منه بالفجور2.
واعلم أن معرفة النفس الإنسانية مبتنية علي أُصول، وتلك الأُصول هي عيون مسائل معرفة النفس. وقد عملنا في علم النفس كتاباً موسوماً ب·· دروس معرفت نفس؛ وقد طبع من تلك الدروس مائة وخمسون درساً ولم يتم الكتاب بعد؛ ونسأل اللّه (سبحانه) التوفيق لإِتمامه إنّه وليّ التوفيق.
وإنما يتم البحث عن النفس باتمام البحث عن تلك الأُصول العيون وإن كان الكلام في النفس من جهة أُخري لا يتم ولا ينتهي ولا نفاد لكلماتها النورية ومقاماتها العروجيّة ودرجاتها الشهودية؛ ولا بأس بأن نشير إليها لعلّ من أخذ التوفيق بيده غاص في بحار معارفها لاقتراف لئالي حقائقها، واقتناء درر معارفها.
ثم إن هذه الصحيفة المكرّمة مُهِّدت لأهل التحقيق في معرفة النفس لأنا قد عيّنا في كل عين مصادر البحث والتنقيب، ومآخذ الفحص والتحقيق مع إشارات منّا إلي كنوز دقائق ورموز لطائف فيها، علي ما تيسّر لنا في أمد سنين من تدريسنا الصحف العقلية والعرفانية كالشفاء والإشارات والأسفار ومصباح الأنس وشرح القيصري
1 . نزهة الارواح، ج1، ص180.
2 . افلاطون في الاسلام، عبدالرحمن البدوي، ص273.
(81)
لفصوص الحكم وغرر الفرائد في الحكمة المنظومة، واللآلي المنتظمة، والجوهر النضيد، وتمهيد القواعد في شرح قواعد التوحيد، وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، وطهارةالأعراق لابن مسكوية، والفصوص للفارابي، وغيرها من الزّبر الكريمة المتداولة للتعليم والتعلم، من ضبطها و جمعها بقدر الوسع حتي تكون تذكرة لنفسي، وكالفهرس لتحقيقنا وتحريرنا في معرفة النفس، إن ساعدنا التوفيق.
علي أنا نهدي إلي القاريء الكريم في كلّ عين ما حصّلنا في تلك المسائل المبحوث عنها من الأُصول الإِيقانية والأمهات البرهانية المستفادة من فهم الخطاب المحمدي صلياللهعليهوآله والمستفاضة من أُصول الجوامع الروائية الصادرة عن بيت العصمة والوحي ممّا أدّي إليها نظرنا. والمرجوّ من اللّه(سبحانه) أن تقع موقع الإفادة والاستفادة، وتنالها الأيادي وأنالتها في كل دورة وكورة فإنّ اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وتلك العيون وإنْ كان بعضها من شعب بعض ويصح بحث تلك الشعب في عين واحدة، ولكنّا جعلناها عيونا متمايزة لتفصيل المباحث وتنقيحها.
والعيون التي حرّرنا تحقيقها في سائر مصنّفاتنا، ربما أرجعنا القارئ الكريم إلي مواضعها لما رأينا من عدم العائدة في الإِعادة. ولا نريد من ذلك إلا تسهيل الخطب للمتتبّع لا غير، نعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
ثم إنّ معرفة النفس ممّا لا يمكن الوصول إليها إلاّ بمكاشفات باطنة، ومشاهدات سريّة لا تحصل إلاّ برياضات ومجاهدات في خلوات مع توحش شديد عن صحبة الخلق وانقطاع عن أعراض الدنيا وشهواتها الباطلة وترفعاتها الوهمية وأمانيها الكاذبة؛ ولا يكفي فيها حفظ القواعد البحثية، وأحكام المفهومات الذاتية والعرضية1.
ومن الكلمات الرفيعة في ذلك ما أفاده صائن الدين علي بن التركة في تمهيد القواعد من أنّ:
1 . الأسفار، الطبع الاوَّل، ج4، ص124.
(82)
من الأشياء الخفية ما لا يصل إليه العقل بذاته بل إنما يصل إليه ويدركه باستعانة قوّة أُخري هي أشرف منه وباستعانة نور أضوأ وأتم منه مقتبساً من مشكوة الزجاجة الإِنسانية التي فيها المصباح1.
وتلك المكاشفات والمشاهدات، هي في الحقيقة تخطّي النفس إلي عالم المفارقات، وهو يحصل للكامل في الحكمتين العلمية والعملية، أي لمن صار عقله النظري وقوته العلامة كالعمّالة بالفعل، وهوءلاء ـ كما قال الوصي عليهالسلام لتلميذه كميل الكامل النخعي ـ : «أُولئكَ وَاللّهِ الأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالأَعظَمونَ عِنْدَ اللّهِ قَدْراً». فتدبر قوله (سبحانه): «كَلاّ إنّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عليين، وَما أَدريكَ ما عِليُّونَ، كتابٌ مرقومٌ يشهدُهُ المقرَّبونَ»2.
قال رسول اللّه صلياللهعليهوآله : «مَنْ أَخْلَصَ لِلّه أَربَعينَ صَباحاً ظَهَرتْ يَنابيعُ الحِكمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلي لِسانِه».
وقال الإِمام باقر علوم الأولين والآخرين عليهالسلام :
ما أَخلَصَ العَبْدُ الإِيمانَ بِاللّهِ (عزّ وجلّ) أربعينَ يَوماً، أو قال: ما أجمل عبد ذكر اللّه (عزّوجلّ) أربعين يوماً، إلاّ زهَّدهُ اللّهُ (عزّوجلّ) في الدنيا، وَبَصَّرَهُ داءَها ودواءها، فأَثْبَتَ الحِكمَة في قَلبِهِ وأَنْطَقَ بِهِ لِسانَهُ.
وللأربعينات تأثير غريب في النفوس المستعدّة. ومن جمع الرياضة العلمية مع العملية فقد حاز المنقبتين، ومن أدرك الحقائق بنور البرهان وضياء الكشف والعيان فقد فاز بالحسنيين.
وقد قال صاحب الفتوحات المكية في آخر الباب الثاني عشر منه: نحن زدنا مع الإِيمان بالأخبار الكشف3.
وقال صاحب الأسفار في الفصل السادس عشر من الموقف الثامن من الهياته: نحن بحمداللّه عرفنا ذلك
1 . تمهيد القواعد، الطبع الاوّل، الفصل 28، ص162.
2 . المطففّين: 18، 19، 20 و21.
3 . الفتوحات المكية بتعليقات عثمان يحيي، ج2، ص 345.
(83)
بالبرهان والإيمان جميعاً (ج3 ط1 ص139).
والمحقق الطوسي في شرحه علي تاسع النمط العاشر من الإشارات فسّر الحكمة المتعالية بأنّ حكمة المشائين حكمة بحثيّة صرفة، والأحكام التي تتم مع البحث والنظر بالكشف والذوق فالحكمة المشتملة عليها متعالية بالقياس إلي الأُولي.
والذوق هذا هو اصطلاح عرفاني أدرجه الطوسي في كلامه، وقد فسره القيصري في شرحه علي الفص الهودي من فصوص الحكم1 بقوله:
المراد بالذوق ما يجده العالم علي سبيل الوجدان والكشف لا البرهان والكسب، ولا علي طريق الأخذ بالإيمان والتقليد فإن كلاً منهما وإن كان معتبراً بحسب مرتبته لكنه لا يلحق بمرتبة الكشفية إذ ليس الخبر كالعيان.
والغرض أن الإنسان ما لم يذق المعاني بالوجدان، ولم يعتل إلي ذروة الحكمة المتعالية بنور البرهان والعرفان لم يرزق فهم معرفة النفس وأمثالها من المعارف الحقة الالهية، والبرهان ما يعطيه العقل المنوّر والشرع المطهّر من الأدلة. وأمّا المتقشف المعتكف في عتب الظواهر، فهو بمعزل عن حقائقها بمراحل. وكما قلت في رسالتي المسماة ب·· إلهي نامه بالفارسية: «إلهي جان بهلب رسيد تا جام بهلب رسيد».
فيجب الفرق بين المعرفة الفكرية وبين المعرفة الشهودية الذوقية، فإنّ الأُولي قنطرة إلي الثانية. والنظر الفكري محجوب بالتقييد، والذوق والشهود يقتضي اتصاف الذائق بما يذوقه حالاً بخلاف العلم التصوري، فإنه بمجرد الاطلاع علي الشيء، والمدرك لا يدرك غيره بالذوق إلا بحسب ما فيه منه. وممّا أبانه الشيخ العارف العربي في الشعيبي من فصوص الحكم قوله:
ما عثر أحد من الحكماء والعلماء علي معرفة النفس وحقيقتها إلاّ إلالهيون من الرسل والأكابر من الصوفية،
1 . فصوص الحكم، الطبع الاوّل، ص245.
(84)
وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها فما منهم من عثر علي حقيقتها، ولا يُعطيها النظر الفكري أبداً. فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذاورم ونفخ في غير ضرم. لا جرم أنهم من «الذين ضلّ سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً» فمن طلب الأمر من غير طريقِهِ فما ظفر بتحقيقه. انتهي.
وجملة الأمر أن معرفة النفس كمعرفة الرب فكرية وشهودية ذوقية، والنظر الفكري رؤية عن بعد «أُولئكَ يُنادونَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ»1 والشهودية الذوقية هو الوجدان والكشف فإن اجتمع الوصول عن برهان وشهود فهو الكمال والحكمة المتعالية.
ولمّا عرفت معاني الحكمة والحكمة المتعالية، والعلم الشهودي الذوقي والنظر الفكري المعبر بالعقلي أي البرهاني والاستدلالي فاعلم أنّ الروايات كأنها بالنسبة إلي القرآن الكريم مرتبة نازلة منها، وبعبارة أُخري القرآن بحرٌ وهي سواحله أو جداوله، أو أنه روح وهي مجاليه ومظاهره، وقياسها إليه قياس البدن إلي نفسه مثلاً. وكثيرٌ من الروايات التي تفسّر تأويلاته فالتوغّل فيها يحكم بأن تلك التأويلات تفاسير أنفسية له، ومن هنا تنتقل إلي أن القرآن والعرفان والبرهان لا فرقان بينها إلاّ أن الحقائق النورية ذات مراتب والتعبيرات بالإِجمال والتفصيل ذات وجوه نظير ما أفاده بعض مشايخنا في تسمية صدر المتألهين كتابه الكبير تارة ب·· الحكمة المتعالية، وأُخري ب·· الأسفار الأربعة من أن الأولي في مقامه الجمعي، والثانية في مقامه الفرقي. وقد أشبعنا الكلام في ذلك في سائر مصنفاتنا واللّه (سبحانه) هو الهادي الفياض علي الإطلاق.
وماتري في الصحف العرفانية نظماً و نثراً في مذمّة العقل فالمراد من العقل النظر الفكري والجمود عليه بلا ارتقاء
1 . فصِّلت: 45.
(85)
إلي مراتب أهل الشهود والذوق، فتبصر. وإنْ شئت تفصيل البحث عن ذلك فراجع كتابنا نثر الدّراري علي نظم اللآلي واللّه (سبحانه) ولي التوفيق.
ثم قد صدرت من قلم هذا الفقير إلي اللّه الغني المغني في تفاريق أثناء تصنيف عيون مسائل النفس وشرحها سرح العيون، قصيدة عائرة تائية مسمّاة ب·· «ينبوع الحياة» تنبئ عن فقري وفاقتي وذلّي ومسكنتي، وتشير إلي مافي صحيفة الإنسان من تلك العيون، صدّرتها بها لعلّها براعة استهلال لما نحن بصددها، والمرجوّ أن تقع موقع قبول أُولي النهي، وينفعنا بها من له الآخرة والأُولي، وهي مايلي:
ينبوع الحياة
بَدأتُ بِبِسْمِ اللّهِ عينِ الْحقيقةِ نَطَقْتُ بِهِ في نَشْئةٍ بَعْدَ نَشْئةٍ
شَهِدْتُ مُحَيّاهُ بِعَيْنِ شُهُودِهِ صَباحاً مَساءً كَرَّةً غِبَّ كرَّةٍ
أُصَلّي علي خَيْرِ الأنام مُحَمِّدٍ و عِتْرَتِهِ الاْطهارِ هُمْ خَيْرُ عِتْرَةٍ
ولَسْتُ أري غيَر النَّبيِّ وآلِهِ اليه تعالي شأنُهُ مِن وسيلةٍ
ومِنْ ثَدْيِ أُمي ـ قَدَّسَ اللّهُ سِرِّهاـ شَرِبتُ حُمَيّا حُبِّهِمْ بَدْءَرَضْعَتي
وقُرْبُهُمُو في مَتْجَري لبِضاعتي محَبّتُهم في محشري لَشفيعَتي
بُيُوتهموُ كَهْفي وَها أنا كَلْبُهُمُ بَسَطْتُ ذِراعَيَّ إليهِ بِعَقْوَةٍ
وَوَحْدَةُ صُنْعِ العالَمينَ لَحُجَّةٌ عَلَي الواحِدِ الحقِّ الْحقيقِ بِوَحْدَةٍ
عَلي وَحْدَةِ التَّدبيرِ غير الرَّويَّـةِ علي وَحْدَةِ التقديرِ عين الرَّويّة
فَتوحيدُهُ الحقُّ الحقيقيُّ ناطقٌ بِوَحْدتِه الشخصيَّةِ الصَّمَديَّةِ
بوحدتِهِ الْقُدسيَّةِ الأَزَلِيَّةِ بوَحْدَتِهِ الْجَمعيَّةِ الأَوليَّةِ
بِوَحْدتِهِ في حَضْرةٍ باطنيَّةٍ بِوَحْدَتِهِ الْكَوْنيَّة الْمظْهَرِيَّةِ
تَجَلي عَلَي الآفاق والأنْفُسِ معاً فَلَيْسَتْ سِوي آياتِهِ الْمُسْتَنيرَةِ
وَتَوْحيدُهُ أفْني الذَّوات بِرأسِها وَفي الْمَحْقِ طَمْسٌ ثُمَّ مَحْوٌ بِرُتْبَةٍ
إذا لَمْ يكُنْ غيرُ الوجودِ فَمَنْ سواه فليس سِوي نورِ الوجود ببُقعَةٍ
وقد ساوَقَ الحقُّ الوجودَ تصادقاً وساوَي الوجودُ الواحِدَفي البديئَةِ
وقد عبّروا عنه بعقلٍ ووحدةٍ وقد أفصحوُا عَنْه بعشقٍ ونقطةٍ
وللنّاسِ فيما يعشقونَ مذاهبُ خليقتهم تحكي اختلافَ السَّليقةِ
وما زارتِ العينان غير رُوائِهِ أريكته كانت سويداءَ مُقلتي
وما لجمود العين حقّ الزيارةِ ويا صاحِ طَهِّرها بإجراءِ دَمعةٍ
ومَن هو اَوّاهٌ مُنيبٌ فإنَّهُ خليلُ الإِلهِ صادقُ الودِّ خُلَّتي
وبالذَّوقِ إن شاهَدْتَهُ كنتَ صادقاً وكَمْ ضَلَّ مَنْ ظَنَّ الوصولَ بِفكْرةٍ
وأنّي لكَ الاْعرابُ عنوصفِ ذاتِهِ وَلمّا تذُقْ مِنْ كَأسِهِ نَحْو جُرْعَةٍ
وَمَن لم يَذُق ما ذاقَهُ الْعاشِق الوفيّ فمِمَّنْ تَرَدّي في هَواهُ بِسَقْطَةٍ
وَلايُوصفُ هذاالْوصولُبألْسُنٍ وَقد أخرسَتْ عنوصفِ ذاك وكَلَّتِ
قدِ اضْطربَ العقلُ مِن إنباءِ سِرّهِ وقد نَطَق الْقلبُ بِعَجْزٍوَذِلَّةٍ
وَما الْقلبُ إلاّ بالتَّجلّي تَقَلَّبُ هَلِ الْعقلُ إلاّ في اعْتِقالٍ بِعُلْقَةٍ
وفي الْقلبِ طوراً بعد طور بوارِقُ تَلوُحُ ضياءً فوقَ يُوحَ المضيئةِ
ويتَّسعُ بالعلم مِن صُنع ربِّهِ فليسَ وعاءً مثل بيتٍ وصُرَّةٍ
وقد وسع الحقَّ فما ضاقَ عن سواه فلا يغفل عن حضرة عندَ حضرةٍ
واوعيةٌ تلك القلوب فخيرها لقلب هو أوعي القلوب المنيرة
(86)
وَقَدْ ثار قَلْبي مِن خفايا سريرتي وَقَدْ طَار عَقْلي مِن خَبايا طَوِيَّتي
وانّي لك الْخُبْرُ بحالي وأنّما تَري جُدَّتي لَسْتَ تَري ما بلُجَّتي
وكيفَ أثيرُ ما بسريّ فإنَّما دَفين إلهي ذمّتي أو مذمّتي
ويا حَبَّذا نار الْمَحَبَّةِ أحْرَقَتْ أنانِيَّتي مِنْ جَذْبَةٍ بعدَ جَذْبَةٍ
وَقَدْأضْرَمَتْنارُ الصَّبابَةِ في الصِّبي هَدايا الْجُنُونِ بَيْنَ قَوْمي وصُبَّتي
صبابة من قد كانَ سِرّي سَريرَهُ فصاحَ بِسّرِي صَيْحَةً بَعْدَ صَيْحَةٍ
وما ذقتُ في دهري مِن أنواع لذّةٍ فلا تعدِلُ مِعشارَ أوقاتِ خَلوتي
مضيالليلُفيالنّجويوشكوي غريبهِ وكان الصَّباحُ لُمْعَةً فوقَ لُمْعَةٍ
وَفي لُجَّةِ الليل الذكاءُ تَلألأتْ وقد جرَتِ الأنهارُ مِن قلبِ صَخرةٍ
وقد نوَّرَ الرُّوحَ أنينُ لَيالِيا وقد طَهَّر السرَّ دُمُوعُ كريمَتي
مُداوِيالكُلومِ كانَ ذاك الأنينُ لي أنيناً لَقَدْ أنَّ الطُّيوُرُ بأنَّتي
ونِعْم الأنيُن كانَ في الدَّهر مونسي فصرتُ من أشباحِ الأُناس بخيفَةٍ
أناسٌ كنسناسٍ وحوشٌ بهائِمُ أضلُّ مِنَ الأنعامِ دونَ الْبهيمةِ
ولو كُشِفَ عنك الغِطاءُ لَتُبْصِرُ سِباعاً ذِئاباً أو ضِباعاً بِغَيْضَةٍ
وأُفٍّ لدهرٍ ماتري فيه آنِساً ولم ألف في دهري اليفاً لِعشرةٍ
وياحسرتي ليس لنا صوبَ مَخْلصٍ سوي أن ندينَ الحق دينَ التّقيَّةِ
تركتُ سواهُ لُقْيَةً من لِقائِهِ وقد أكرَمَ الْمعشوقُ نُجْحَ عَزيمتي
هداني إلي وادِي الْولاية بعدَما رَماني عن أوطاني وسُكّان بَلْدَتي
يُضِلّ ويهدي من يشاء بملكِهِ وما اسمٌ من الأسماء قطُّ بعطلةٍ
وليس بجبرٍ أو بتفويضٍ اِنّ ذا علي وفقِ الاَعيان الثوابتِ ثبِّتِ
ولمّا رءاني ليس لي مونسٌ سِواه تَرَحَّمَ بي جاء أنيساً لِغُرْبتي
تركتُ سِواهُ في هواهُ بِلُطفهِ وفي اَلكسْرِجُبرانٌ وفيالْجبر لَذَّتي
إذا كانتِ النفسُ سراحاً من الرِّدي ففي صُقعِها نارُ الْهوي قَدْ أُنيرَتِ
بِسرِّ الحضور نورُ الأنوارِ كامِنٌ وحولَ الْموافاةِ بدائِعُ حكْمَةٍ
و طُوبي لِمَنْ وافي الحضورُ وفاتَهُ وليس يُوازيهِ الْوفاةُ بِغَيْبَةٍ
ولَمّا بَدَتْ أنوارُ طوباه في حماه فقد طارتِ النفسُ إليه بسرعُةٍ
وما الكسبُ إلاّ قطرةٌ بعدَ قطرةٍ وما الفَضْلُ إلاّ سيبُ بَحْرٍ بِنحْلَةٍ
فقد قادَني لطفُ الإِله إلي الْحمي علي صِغري حمداً له مِنْ مَنيحَةٍ
مطايا عطاياه نفوسٌ تطهَّرتْ مِن أدناسِ اَلأرجاسِ بوهبٍ وهمَّةٍ
إذا لم يك السِرُّ نقيّاً من الشقاء فما لِلشَّقيّ مِن ثيابٍ نقيَّةٍ
يُوَسَّعُ رزقُ الْعبدِ ما كان طاهراً بذا جاء نصٌّ مِن نصوصٍ صحيحةٍ
تَجَنَّبْ عَنْ أرجاس الهواجسِ كلِّها توَكَّل علي مَن ذاتُه الكُلَّ عَمَّتِ
و من عاش في الأَتُّونِ طُولَ حياتِهِ فهل يُدرِكُ الْعيشَ بِساحةِ رَوْضُةٍ
وما لمْ يَكُ المطلوُبُ لِلطّالبِ بَدي فأين إلي الْمطلوبِ كان بنجْعَةٍ
ومَن لم يكُن وجهُ الحبيب تجاهَهُ فلَيْسَ وجيهاً عِندَ أهلِ الْمحبَّةِ
وهَل وِجْهةٌ في غيرِ عزِّ تجاهِهِ وهل عِزةٌ في غير قُربِ المودَّةِ
وبالحُبِّ الأعيانُ اْنجَلَتْ في شجونها شُجونٌ تراها غَمْرَةً إثْرَ غمْرَةٍ
وفي سِرّ غيبِ الذاتِ الأعيانُ غابتِ قد اِرْتَجَفَت بالعشقِ أنحاءَ رَجْفَةٍ
ولولا بُروُقُ الحُبِّ ما صاح صائحٌ ولا حبَّةٌ كانتْ تَلوُحُ بِمَنبَتٍ
ولولا شرُوُقُ العشقِ ما لاحَ كوكبٌ وما الفُلْكُ تَجري أو تدور كفَلكة
ولمّا تركتُ الخلق طُرّاً وَجَدْتُهُ بدي الشمسُ والخُلقُ نظيرُ الأشِعَّةِ
لَقَد سُرَّ سِرَي مِنْ سَنا وجهِهِ السَّنيّ عَلي مابدي لي فيرُقادي ويَقْظَتي
وإنّ مِياهَ الأبْحُرِ لوْ تَراكَمَتْ لَما هي مِمّا تُطْفِيءُ حَرَّ لَوْعَتي
ولولا انكِسارُ القلبِ ما يعْبأُ بِهِ وبِالإِنكسارِ كان مِن خيِر عَيْبَةٍ
لَنا ما رُزِقْنا مِن قُلوُبٍ كَسيَرةٍ لَكُم ما رُزِقتُم مِنْ عِقارٍ وضَيعةٍ
وكيفَ أبوحُ ما بِسرّي وأنّما لسانُ الحروفِ الراقماتِ بلُكنةٍ
وما تنفع أسماءُ الأسماءِ وحْدَها إذا لم تكُن أسرارُالأسماءِ مُكنتي
إذا ما أتيتَ راحماً لِزيارتي تَشَمّ نسيمَ الحبِّ مِن رَوضِ تُربَتي
(87)
وفي الصَّمتِ نُطقيإنَّ ذامن عجائب وفي غضِّ عيني رُؤيتي في رَويَّتي
وفي الذِّكر اُنسي ثمّ في الأنسِ ذِكْرُهُ تسلْسلَ ذاك الدَّورُ يَوْمي وَلَيلَتي
ولستُ أري الإنسان غير دعائه جناب الإِلهِ لحظةً لِفتَ لحظةٍ
تُصلّي له سُبحانهُ لَستَ شاعِراً كما أنّ الأشباحَ والأرواحَ صلَّتِ
يُميتُ ويُحيي كلَّ آنٍ نُفوسنا كذاك إليهِ نرجِعُ كلَّ لمحةٍ
تجدّدُ أمثالِ العوالِمِ كُلِّها عَلي هيأةٍ موزونةٍ مستديمةٍ
تجدّدُ الأمثالِ علي حفظ نظمها بَدائعُ صُنعِ اللّهِ في كلَّ بِدْعةٍ
مَتي غابَ حتّي أطْلُبَ الْهادي إليه وَما الهادي إلاّ جِلوَةٌ منه جَلَّتِ
خِفاهُ ظهورٌ في الظهور خفائُهُ وفي قربهِ بُعدٌ وفي البُعدِ قُربَتي
ومِن دَأبِهِ أن يَظهَرَ ثم يختفي وفي القبضِ والبَسْطِ مُفادُ عقيدَتي
وفي القبضِ بسطٌ ثمّ في البسطِ قبضُهُ وما البسطُ والقبضُ سوي بسطِ قَبضَةٍ
قضاءٌ وقرآنٌ وقبضٌ تَرادَفت ففِي الْقَدَرِ الفْرقانِ أنحاءُ بَسْطةٍ
ففي الروح قبضٌ ثمّ في القلبِ بسطُهُ وما بِالتّجافي صورةٌ مّا تَسرَّتِ
يُمثِّلُها صُقعُ خيالِكَبعد ذا يُجَسِّمُها في الطبع طابعُ هيئةٍ
وما هو قرآنٌ فَجمعٌ وَباطنٌ وما الجَمعُ إلاّ الحكمُ فيه برُمَّةٍ
وما هو فرقانٌ فشرحٌ وظاهرٌ وما هو تفصيلٌ فَمرْهونُكثرةٍ
ومن كان عن روح الكتاب بِمَعْزِلٍ فما انْتفع مَن شَدِّ حرفٍ ومَدَّةٍ
هو الصَّمدُ الحقُّ أيِ الكلُّ وحدَهُ هو الأوّلُ في آخِرِ الآخريَّةِ
هو الصمدُ الحقُّ فلا ثانيَ لهُ فمَا الشبهةُ تُروي عَنِ ابْنِ كُموُنَةِ
ومعناهُ لا جَوْفَ لهُ فَهْوَ مُصْمَتٌ كما فُسِّر مِنْ أهلِ بيتِ النبوّةِ
فما ذرّةٌ إلاّ حياةٌ تَجسَّمَت وسائرُ الأوصافِ كذاك بِجَمَّةٍ
فصارَ السِّوي غيرَ السِّوي غيرَ أنَّهُ شئونٌ وآياتٌ لِذاتٍ فريدَةٍ
فَمَنْ هو مَعلولٌ ومَن هو علةٌ لَدَي الصّمدِ الحقّ الوحيدِ بِسَطْوةٍ
وقد كانتِ الدنيا غَروراً لأهلها لِما أنّها تَغتالُهُم أيَّ غيْلَةٍ
فتُوهِمُهُم أنّ السَّمواتِ وَالثَّري وما فيهما في الكونِ ممّا استقلّتِ
إذا جاءَهُم كشفُ الغِطاءِ فأنّما عِياناً رَأَوا قد كانوا فيه بغفلةٍ
متي طَلَعَتْ شمسُ الحقيقةِ تفضحُ خفافيشُ ما في ظلمة الليلِ خَفَّتِ
وهل أنت إلاَّالرّوحُ والجسمُ والقُوي وهل أنت إلاّ وحدةٌ في الكثيرةِ
فما أنتَ إلاّ واحدٌ ذو مراتب تري ذاتَكَ مرآتَهُ قد تَجلَّتِ
ولا بدّ من فرقٍ كشيءٍ وفَيْئِهِ وليس كمَيْزِ الشيءِ والشيءِ فاثْبُتِ
هوالصَّمدُ الحقُّ كذاكِ كتابُه وذاالحكمُ فاقَ الشمس عندَ الظهيرةِ
كذاك النبيُّ الخاتمُ في النبوّةِ هو الصمدُ هل كنتَ من أهل دُرْبَةٍ
محمدٌ المبعوثُ ختمُ النبوَّةِ كذاك كتابُ اللّهِ من غير لُبْسَةٍ
هو المعجزُ الباقيُ من دينِ أحمد هو نورُهُ المُنجيُ مِن كلِّ نِقْمَةٍ
والإِعجازُ بالأسلوب أو بالفصاحةِ أو الأمرُ في ذاك عَلي نحوِ صَرْفةٍ
ومعجزهُ الباقيُ من فِعْلِهِ تَري بِيَثربَ مِن تعيينهِ سمتَ قبلةٍ
بِلا شاخصٍ أو جَدْوَلٍ من جداول بلا رُبعٍ اُسطرلابٍ أو أيِّ صَنعةٍ
ولكن بِنور اللّهِ مِن يثربَ رأي مَعَ البُعدِ بيتَ اللّهِ يا حُسْنَ رُؤْيةٍ
فقامَ إلي الْميزابِ من أمر ربِّه تعيَّنَ سمتُ القبلةِ في مدينةٍ
إلي الآنَ هذا المعجزُ كان باقياً وفي الْخَوْضِ فيهِ ما لَنا مِن وَجيزَةٍ
فليس نبيٌّ بَعْدَهُ فَمَنَ ادَّعي هُوَ الْمُتَنَبّيُ بِلا طَمثِ ريبَةٍ
علي قَدْرِ وُسْعي كانَ قرآنُهُمعي فلا خوفَ من شرِّ النفوسِ الشريرَةِ
إذا كان بيتٌ أصفَرَ من كتابِهِ فليس بِبَيْتٍ بل وجارُ ضُبُوعةٍ
ويا مَن أراد الإِعتلاءَ إلي الْعُلي فطُوبي لِذاتٍ وَهْي ذاتُ عُلِيَّةٍ
فلو لم يكن فينَا القبولُ إلي الْعُلي لَما كانَ قرآنُ الرسولِ بقُدْوَةٍ
وحيثُ بَدا فينا العروجُ إلي الذُّري لَنا في رسولِ اللّهِ تحثيثُ أُسْوَةٍ
تَفَقَّهْ بِما قد فُصِّل في النبوّةِ عليك بما أُهْديك من غيرِ مُهلةٍ
نبوّةُ من كانَ مِن اللّهِ مُرْسلاً هي الخاصّةُ المقرونةُ بالشريعةِ
(88)
وأخري لمن كانَ مِن أهلِ الْولايةِ هي العامَّةُ في كلِّ عصرٍ ودَوْرَةٍ
وقد ختم الأُولي ظهوراً بأحمد محمدٍ الْمحمودِ مِن ربّ العِزّةِ
وأما بُطوناً فهو عينُ النبوّةِ به يستنيرُ أُمّةٌ بعدَ أُمَّةٍ
وكلُّ نبيٍّ كانَ من قبلُ يَسْتَضي بِمِشكاةِ عَيْنِ الرَّحمةِ الأحمديَّةِ
فَمَنْ أعْرضَ عن منطق الوحي الأحمدي فمُنْسلِخٌ عن فطرةٍ بَشَريْةٍ
ومَن آمَنَ في غُرِّ نورِ الوَلايَةِ فقَدْ خُلِّصَ مِنْ ظُلمةٍ مُدْلَهِمَّةٍ
ومَنْ لم يكنُ من حظِّ عِرْفانِهِ احْتَظي فَمِمّا اسْتَلَذَّ مِن أَفانين حَظْوةٍ
ومَنْ لم يكنُ من ضَوْءِ برهانِهِ اهْتَدي فَلَنْ يُهْتَدي قطُّ بِقَطْعٍ وَبَتَّةٍ
ومَن أظلمُ مِمَّنْ عَلَي اللّه يَفْتَري ومِمَّنْ رسولَ اللّهِ آذي بِفِريَةٍ
بأنَّ رسُولَ اللّهِ مِنْ بينِ أمَّتِه قَدِ ارْتَحَلَ مِنْ غير نصِّ وَصيّةٍ
ولو لم يكن غير الغدير لقد كَفي لِمُسْترشِدٍ وَهْوَ مِنْ أهلِ الْحَميَّةِ
فكيفَ نُصُوصُ الْفِرقَتَين تواتَرتْ بِمِثْل الْغَديرِ في جَديرِ الخليفَةِ
ألا وعليٌّ كان يُعرف باَلْوَصيّ بأخبارنَا الْموْثُوقَةِ الْمستَفيضةِ
وأنت تري بينَ سنامِ الصَّحابةِ هو وَحدهُ كانَ بِهذِي الْخصيصةِ
عَلي ما هوَ الْمعموُلُ بينَ الجماعةِ فَحاشايَ عن بحثٍ عن الأفضلِيَّةِ
لأنّ الْقياس صحَّ في ما تجانَسَت وأيُّ جناسٍ بينَ نورٍ وظلْمةٍ
ومَنْ هُمُو أعرابٌ منالنّاس والوصيّ فيرتَجزُ في الفضلِ عندَ السّقيفةِ
إذا كانَ جمعٌ كلهم أهلُ العصمةِ لَصَحَّ الحِوارُ عند ذا بِالْفضيلةِ
فَيوزَنُ اُولوا العزَمِ والمرتضي علي بأنّهُمُوا من كانَ أولي بِخِلَّةٍ
وَأدَّ بَنَا الْقُرآنُ في الأفضليَّةِ ففي الرُّسُل أوفي النبيَّيَن حُجّتي
عليٌّ إمامُ الكلِّ بعدَ نبيِّنا عَليَ الكلَّ في كلّ صفاتٍ سنيَّةٍ
ومَنْ أَظْلَمُ يا قوْمِ مِمَّنْ قَدِ ادَّعي إمامةَ دينِ اللّه مِنْ غيرِ عِصْمةٍ
ومَنْ كانَ في الأمسِ علي الظلمِ نَالَه مِنَ اليومِ عهدُ اللّهِ يا مِن ظَليمَةٍ
وَلابدَّ لِلإِسْم الإِلهِ مِنَ الَّذي نُسمِّيه كوناً جامعاً في الرَّقيمَةِ
هو القطبُ بالإِطلاقِ في كلِّ عالمٍ هُوَ الشمسُ في الآفاقِ عندَ البصيرةِ
وجودُهُ لطفٌ في نظام الْعوالِم ولَنْ تَخْلُوَ الأرضُ مِنْ أنوارِ حُجَّةٍ
بذا حَكَمَ العقلُ بِبُرهانِهِ السِّنيّ وألسِنةُ النَّقلِ عَلي ذاكَ دَلَّتِ
ألا إنَّه ـ والعصرِ ـ مِنْصُلْبِالْعسكريّ سَليلُ رسولِاللّهِ وابْنُ الأئمَّةِ
م ح م د المهديُّ بالحقِّ قائِمٌ بِذاكَ اعْتقادي مِنْ عُلُوقٍ نفيسَةٍ
بِذاكَ اعْتقاديعن صميمِ معارفي معارِفِ ما في لُجَّتي وسفينَتي
عليكَ بِدُرْجِ الدُرِّ نَهجِ الولايَةِ لِما فيهِ مِنْ أسرارِهِ الْمُسْتَسِرَّةِ
بذاك اعْتِقادي مِنْ صفايا أدلَّتي بِلا دخلِ تقليدٍ ورسمٍ وسُنَّةٍ
وأشهدُ باللّهِ علي ما عقيدَتي بِلا ريبِ وسواسٍ بلا شوبِ شُبْهَةٍ
بذاك اعْتِقادي مِنْعَطايا جنابِهِ وخيرُ العطايا للنُّفوسِ السَّعيدةِ
علي ما هَدانا اللّهُ جَلَّ جَلالُهُ لَهُ الحمدُ ثمَّ الحمدُ مِن غيرِ فترةٍ
تَصَفّحتَ أوْراقَ الصَّحائِفِ كلَها فَلَمْ أرَ فيها غيرَ ما في صَحيفَتي
اَمِن مثلها نورٌ بسيطٌ تَوَحَّدَتْ بشيءٍ إذا قد واجَهَتْهُ لبُغْيَةٍ
تَجَرُّدُها مِمّا هِيَ لِلطَّبيعةِ يُفيدُ بَقاءَ النَّفْسِ لِلأَبَديَّةِ
يُحِبُّ الْبَقاءَ كلُّ شيءٍ بِسوسِهِ فأصلُ الْبَقاءِ ثابتٌ بالْبَديهةِ
كذاك مَقامُ فوقِ ذاك التَّجرُّدِ لها ثابتٌ أيضاً بحكم الأدِلَّةِ
وما أخْبَرَ الكشفُ الأتمُّ الْمُحمّدي بيانٌ لِما في النفس في كلِّ سُورَةٍ
علي صورةِ الرّحمنِ جلّ جلالُه بَدي هذا الإنسان من أمشاج نطفةٍ
وسبحانَ ربّي ما أعزَّ عوالمي وأعظم شأني في مكامِن بُنْيَتي
وما آيةٌ في الكونِ مِنّي باَكبرا ونفسي كتابٌ قَد حوي كلَّ كِلْمَةٍ
ولولم يكُ الإنسان مَن كانَ حاملاً آمانتَهُ مِن حيِن عرضِ الوَديعةِ
ومحمول الإنسان هو العرش قد بدي أي المُلكُ ممّا اختاره ابن مسرَّةٍ
ففي الدهرِ مَن مثلي وكنتُ مثالَه وما تعدِلُ جنّاتُ غيري بِبَهْجتي
وماءٌ مهينٌ دافقٌ صارَ عالماً كبيراً يُوازي الكلَّ مِنْ غيرِ قِلَّةٍ
(89)
فما هو الإنسان جميعُ العَوالِمِ وما هو الإنسان سُلالةُ طينَةٍ
وما هو الإنسان والأسماء أنّما هي الدُّررُ وهو لها نحو حُقَّةٍ
عجائبُ صنع النفسِ يا قومِ ماهيه وما يعدلُ صنعٌ بتلك الصنيعةِ
ولِلنَّفسِ إنشاء الذواتِ علي الولاء وإرسالها في ما تشاء بمُنَّةٍ
وتلك الذواتُ قد تكون بسيطةً مُفارقةً نحو العقول المُفيضةِ
كذا قد تكون ما تلينا من الَّتي قد اغتمرتْ في مَدَّةٍ ذاتِ مُدَّةٍ
ويا معشرَ الأحباب مَن كان فيكمُوُ يُعرِّفني نفسي فَيَسْكُن ثَوْرتي
ويا أُمَّة الأملاكِ في الأرضِ والسما وهل واحدٌ منكم يجيبُ بسُؤْلَتي
ويا مالك الأملاكِ في الأرض والسما ويا مَن يُناديهِ صُراخي وضجَّتي
ويا مَن أَحبَّ خِلْقَتي نِعْمَ ما أحبّ ويا مَن كساني خِلعَةً بعدَ خِلعَةٍ
ويا مَن إليه الكلُّ يأوي ويلتجي إليك الْتجأْتُ في رَخائي وشِدَّتي
ويا لهفَ نفسي لستُ أعلمُ ما أنا ولستُ فهمتُ مُصْحَفيِ مِنْ قريحتي
تَحَيَّرتُ في أطْوارِ نفسي عَلَي الْولاء تَرَوحُ وتَغدُو في حضيضٍ وذُرْوَةٍ
تَجَلّي لَها أسماءُ يَوْمِ الْقِيامَةِ وقد بَهرَتْ مِن غيْب ذاتِ الْهُوِيَّةِ
وقد تهبِطُ مِنْها إلي الدَّرْك اْلأسفَلِ إذَا الْتَفَتَتْ نَحْوَ الحظُوظِ الْخسيسةِ
وقد مَلأتْ أقطارَ الأفاق كلّها مَلائكةُ اللّهِ والاْقطارُ أطَّتِ
مَلائكةُ اللّهِ قُوي كلِّ عالمٍ قدِ اشْتُقُّوا مِن مُلكٍ كما من أُلوُكَةٍ
وما مَلَكٌ إلاّ وفينا مِثالُه حقيقةُ شيءٍ تعرفُ في الرَّقيقَةِ
ومعرفةُ الإنسان نفسَهُ أنّما هي الحدُّ الأعلي للعلوم الرئيسةِ
والإنسان يزدانُ بأنوار علمه وأنّي له الأعراضُ كانت بزينةٍ
وصالحة الأعمالِ بَعدَ علومِهِ تريها له أيضاً من أنوارِ حليةٍ
جناحا العروج نحو أوجْ المعارِجِ هما العملُ والعلمُ يا أهل نُهيةٍ
ولا ينتهي قطُّ كمالُ الولاية فلا تُوصَفُ النَّفْسُ بحدٍ ووَقْفَةٍ
ومِن جوهرِ النّفسِ إذا كان كاملاً بَدي مُعجزاتٌ مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ
تَريبشراًيمشي فيالأَسواققد عَلي سَنا سِرّهِ آفاقَ ما في الْخَليقَةِ
وجسمٌ يدورُ حولَ نفسٍ ونفسُهُ إلي العقلِ تَنْحوُ رِفْعَةً فوقَ رِفعةٍ
وللعقلِ إقبالٌ إلي ذُروةِ الْعُلي يُعاوِقُهُ الطبعُ بأنواعِ حيلةٍ
فكيف لنا يُرجي العروجُ إلي الذُّري فإنَّهُ لِلنَّفْس اَلَّتي لا طمْأنَّتِ
فإن مَلَّتِ الأرواحُ مِن سوءِ دهرها ففي جنَّةِ الأسفار كانتْ بِنُزْهَةٍ
ومن كانَ يرجُو الاعتلاءَ فأنَّما يُهَيِّيءُ أسباب الْوغي مِنْ سريَّةٍ
ومن سافَرَ صِدْقاً فلا يستريحُ مِن تَوَخّ مِنَ الْقيّومِ طيِّ الطَّريقَةِ
تري آدمَ الْبَرْنامَجَ الْجامعَ الذي حواه نُعُوتُ اَلحضْرةِ الأحَدِيَّةِ
فلابدّ مِنْ بَرنامجٍ في أُمورِهِ وفي عملِ البرنامَج من صَريمةٍ
وإيّاك والفنّ الذي ليس نافعاً عليك بإدراكِ العلوم الرفيعةِ
والعرفانُ باللّه هو العلم وَحْدَهُ فَطوبي لِمَن نال بتلك العَطيَّةِ
وعُلمك صيدٌ قيِّدِ الصَّيدَ يا فتي وقيدُك إياهُ تراهُ بِكِتْبَةٍ
ويا أيها الإنسان إنّكَ كادحٌ إلي ربِّك كَدْحاً فَتَسْعي لِلُقْيَةٍ
إذا تتجافي النَّفْسُ منْ عرْصةِ الْفَنا فقد شَهِدَتْ عينَ البقاءِ بلحظةٍ
أما سَيرُها مِنْ هذه العَرْصةِ إلي فِناء الْبقاءِ ليس إلاّ بخَطْوَةٍ
إذا وصَلَ النَّفْسُ إلي دارِ قُدْسِها إلي الْمَوْطِنِ الأصليّ مِنْ دار كُرْبةٍ
تَحوَّلَتِ النَّفسُ مِنَ النَّقْصِ قَدْ فَنَتْ إلي عَقْلِها فاسْتخْلَصَتْ مِن نَقيصَةٍ
فَما الْوصلُ إلاّ الإِتحادُ بغايَةٍ وياصَحْبِ ما في النَّفس من حُسن سيرَةٍ
وأمرُ فَناءِ النَّفسِ في العقل طالَما يَدُورُ علي الأعْصار بين الأجلَّةِ
وهذا الفناء ليس في الكلِّ واحداً لهُ درجاتٌ فوقَ عدٍّ وحِسْبَةٍ
فَمِن نقصها الذّاتِّي كانَتْ تبَدَّلَتْ كَمالاً بسرِّ الْحركةِ الجوهريَّةِ
مَتي واجَهَ أنْوارُ غُرِّ الْمعارفِ عَرَفْتُ بأنّي لستُ مِن ذي الْقبيلةِ
وَلمّا رأيتُ العاشق الحقَّ قد دَرَيْت معاني الوَقارِ والرضا والسَّكينةِ
وبالْعملِ وَالعلمِ نَحْنُ صنيعُنا فإنَّهما نفسُ الْجزاءِ أحبَّتي
(90)
لِذا كانتِ الآلامُ يوْمَ القيامَةِ لَمِن كانَ في الدُّنيا أليفَ الطَّبيعةِ
وَمَنْ كانَ مأنوساً بِحكم مثالِهِ ففِي الجنّةِ الصغري له حظُّ نعمةٍ
ومن فازَ بالقربِ إلي الحقِّ حقَّهُ يُشاهِدُ وجهُ اللّهِ في كلِّ وِجْهةٍ
تَوَغَّلَ في الْعقْلِ وَأدْبَرَ عَنْ سِواه ففي الجنّةِ الْكبري لَهُ أيُّ مُلْكَةٍ
هِيَ جنَّةُ الّذاتِ الَّتي قَدْ أضافَها إلي ذاتِهِ النُّوريَّةِ السَّرْمديَّةِ
وطافَ عَلَي اَلمعْشُوقِ لَمْ يَدْر غَيْرَهُ تَطوفُ عليهِ الحورُ طائِفَ كعبةِ
ويوم الحصادِ تَحْصُدُ ما زَرَعْتَهُ ففي هذه الأيّامِ هل زَرْعُ زُرْعَةٍ
فَلستَ سِوي أعمالِكَ الأخرويَّةِ ولستَ سوي أفعالِك الدُّنْيويَّةِ
والاَعمال إما الكسب بالصدق والصفا أوالاكتساب باحتيالٍ وخُدعةٍ
لذا جاء في فصل الخطاب المحمّدي لَها وعليها في مجازاة صفقةٍ
فجنّتك والنّار فيك وتزعم بأنهما في حيّزٍ ما بفجوةٍ
وللجنّة والنّارِ فينا مظاهرُ والآفاق مثلُ الأنفسِ بالسّويّةِ
وعاملُ فعلٍ كانَ نفسَ جزائِهِ ألا ملكاتٌ عُجِّنت بالسَّريرةِ
إذا فُتِحَتْ عَيْناهُ في صُقع ذاتِهِ فإمّا وجوُهٌ من وجوهٍ دميمةٍ
وإمّا وجوهٌ مِن حسانٍ كَريمَةٍ لئن كانتِ الأفعالُ من حسنِ شيمةٍ
سرائرُها تُبلي لَهُ الْوَيلُ لَوْ رأي سَريرَتَهُ مشحُونةً بالرَّذيلَةِ
وأنتَ تَريَ الآناسَ في السوق قد بَدي تجسّمُ أعمالٍ فهذا كحيَّةٍ
وهذا كخنزير وذاك كثعلبٍ وذا سبعٌ ينحو افتراسَ الفريسةِ
وشِرذِمة كانت من اهل السعادةِ يميل إليه الطبع من غير وحشةٍ
وحشرهُمُ يوم النشور كنشرِهِمِ هنا في جماعاتٍ وسوقٍ وسكَّةٍ
واكثر الأعمال سراب وأنّما لَقَد حَسِبَ الظمانُ ماءً بقيعةٍ
تجسّمُ الأعمالِ مِنَ الدّينِ الأحمدي تمثّلُ الأعمالِ بِهاتي الوَتيرَةِ
وَلَسْتَ سِوَي الدّينِ الذي كُنْتَ تَعْملُ تمَثُّل الإِيمانِ بصوُرَةِ سِدْرةٍ
وأخلاقُكَ الأَنهارُ الأربعةُ جَرَتْ وطوُبي مِثالُ النَّفسِ طابَتْ بِطيبةٍ
ومَن عامَلَ الْخَلقَ بأخْلاقِ سوُئه ففي قبرهِ كانَ لهُ سوءُ ضَغْطَةٍ
إذا كنتَ في برنامَجٍ في التَّمثُّلِ نَجَحْتَ بِه في ذاتِك بعد صَفْوةٍ
تَنَوَّرتُ مِن نورِ الجمالِ المحمّدي بتطهيرِ ذاتي مِن صَبوحٍ بِشَربَةٍ
سَمِعتُ بآذاني فصول أذانِهِ فيا لذَّةً قد أقبلَتْ صوبَ مُهْجَتي
بكيتُ بكاءً عالياً حينما قضي حبيبُ إلهِ الْعالمينَ لِصُحْبَتي
ويا حُسْنَ صَوْتٍ لستُ أقدِرُ وصفَه علي صوتَ داودَ بأحسَن لَهْجَةٍ
وكم نِلت مِن امثالِ هذا التمثلِ تمثل عذبٍ يا لها مِن عذوبةٍ
تجسُّمُ الأعمالِ بمَعني التمثُّلِ تمثلها كان تصوُّرَ صورةٍ
فجسمٌ هنا ليس بمعناه العنصريّ بلِ الجسمُ دهريٌّ فخُذْهُ كدُرَّةٍ
رموزُ كنوزٍ كلُّ ما في الشريعةِ فلابدَّ فيها من علومٍ غزيرَةٍ
ولابدّ فيها من صفاءِ السَّريرةِ ومقعد صدقِ عند ربّ البريَّة
تصورُّها كانَ تحقُّقَها الذي لقد نَشَأ مِنْ صُقْعِ نفسٍ كَنَبْتةٍ
وهذا النباتُ كانتِ النفسُ مَنْبَتَه وبذرُهُ خُلْقُ النَّفسِ تمثال حبَّةٍ
فَما تَنْبتُ مِن أرض نفسكَ أنّما حُبُوبٌ وإن قُلْتَ لبوبٌ لَصَحَّتِ
وتلكَ اللبوبُ عندَ اهلِ البصيرةِ تُشَخِّص الأبْدانَ مِنَ الْبرزخيَّةِ
كما أنَّ نورَ الْعلمِ في النفس أنّما مُشخِّص الأرواحِ بِلا شوبِ مْريَةٍ
مَعادُك جسمانِيٌّ إن كنتَ فاحِصاً كما كان روحانياً أيضاً بِجُمْلةٍ
وأنت بذاك الجسمِ والروح تُحشَرُ كما كنْتَهُ في النَّشأةِ الْعنْصُريَّةِ
والأبدانُ للإِنسانِ طُولاً تفاوتَت كمالاً ونقصاً عَرْصَةً فوْقَ عرصَةٍ
فإياك والظنَّ بأبدانهِ علي تَكوّنِها ممتازةً مَيْزَ عُزْلة
وتنتشأُ الأبدان مِن صُقع نفسِها تقُوم بها نحوَ ظِلالَ المِظَلَّةِ
ولا تلك الأرواحُ عَن أبدانها خَلَتْ ولا كانتِ الأبدانُ عنها تَخَلَّتِ
تمايز الأرواحِ والأبدان طالَما تَقَلْقَلَتِ الأفواهُ فيه بِهَفْوَةٍ
وقد نطق الوحيُ بالأولي والآخرةِ فأحكامُ الأولي غيرُ ما في الأخيرة
(91)
والآخرة الدنيا علي ما زعمتَها فما الفرق في البيِن من الأرجحيّةِ
فإن كانت الأُخري فليست بهذه فكُن مِن فريقٍ قائلينَ بفرقةٍ
وإن شئتَ قلتَ النفس في الدار هذه هي لِلهيولي صورةٌ فاسْتقرَّتِ
ولكنّها في الدّار الأُخري بِعكس ذا تَريها هَيولَي الصُّور المستمرَّةِ
ولذّاتُها كانتْ هنا مِنْ مقولةٍ وفي دارها الأخريتري مِنْ مَقُولةٍ
ففي دارها الأُولَي انْفعالٌ لِضَعْفِها وأما في الأُخري فَهيَ فِعْلٌ لقوَّة
علي ذلك الْفِعلُ نصوصٌ تظافَرَت ونُنشِئكم في منطقِ الْوحي عُرْوتي
خوارِقُ عاداتٍ كذا مُعجزاتُها هي أنما مِنْ فِعْلِ نَفسٍ مَنيعَةٍ
عليك بما في الباب من باب العلم جا بقلعهِ بابَ خَيْبَرَ دونَ طَرْفَةٍ
فَقلْعُهُ ثم قَذْفُه خَلْف ظَهْرهِ لَما كان ذامن قوّةٍ جَسَديةٍ
لَما كان عضوٌ بالغذاء تحرّكا لَما كان الأعضاءُ بذاك أحسَّتِ
ولكن بتاييد قُوي ملكوتِهِ ونفسٍ بنور ربّها مستضيئةٍ
كذلك الآلامُ هناك وهيهنا علي نحو ما قلنا من إسناد لَذَّةٍ
وقد فَسَّرَ القبرَ لسان الشريعَةِ بأخبارهِ الموصوفةِ بِالوثيقةِ
فَمقبورٌ إمّا في الخصال الحميدةِ ومدفونٌ إمّا في الصفات الذَّميمةِ
حقيقتُه ما ليس عَنّا بخارجٍ وخارجُه عنّا يُسمّي بحُفْرَةٍ
والأوّل ما واري حقيقةَ ذاتِنا ومَا الْحفرةُ إلاّ الْوِعاءٌ لِميِّتٍ
وهذا وذاك بالتشابُهِ هيهنا كأفراد نوعٍ باختلافٍ وشِركةٍ
وكم من أمورٍ هاهنا قد تشابَهَت تَشَعَّبَتْ عندَ الحشر أنحاءَ شعبةٍ
فَالإنسان نوعٌ ذو مصاديقَ هيهنا بأصنافها من أيّ خُلقٍ وخِلْقةٍ
وفيالنَّشاة الأُخري هو الجنسقد بَدا بأنواع أوصافٍ به لا سْتجنَّتِ
فما أنتَ إلاّ نفسُ أفعالِك الّتي فعلتَ بطوعٍ واختيارٍ ورَغبةٍ
قيامتُنا قد قامتِ الآن فابْصرا وأنواعها الكلّية خذ بخمسةٍ
كنونٍ وقلبٍ ثم عرشٍ وحضْرَةٍ وحمدٍ وأقسامِ نكاحٍ بِنَوْبَةٍ
هي سبعةٌ سبعُ سماواتِك الْعُلي مِنَ الأرضِ فاقْرأ مِثلهنّ بسبعةٍ
هي الكليّاتُ تحتوي جزئياتِها علي كثرةٍ من غير حصرٍ وعَيْقةٍ
وتلك الأُصول فوق ما هو رائجٌ عَلي نحوِهِ في الحكمةِ الْفلسفيةِ
وفلسفةٌ ذات مراتبَ عندنا وسَفسافُها قد عُدّ من سَفْسَطيَّةٍ
ففلسفةٌ أنوارُها مَشرقيةٌ وقد نالَها مَنْ كانَ مِن مَشرقيةٍ
فإن كان فيها كاملاً ومُكَمِّلاً فذاك إمام الكلِّ في كلِّ كَوْرَةٍ
وفلسفةٌ أُخري هي من ظلالها وذو الظلِّ أصلٌ حاكمٌ في الأظلَّةِ
ويستوحش من لفظها المتقشِّفُ يسوغ له تبديل لفظٍ بلفظةٍ
دليلٍ وبرهانٍ ونورٍ وحجةٍ أو اللفظة الأُخري مِن أيّ قبيلةٍ
والإِنسان مفطور لفهم الحقائق ببرهان لمٍّ أو بإنٍّ بدِقَّةٍ
وطينته قد خُمِّرت بالتعقّلِ فَإمّا بمعلولٍ وإمّا بِعِلَّةٍ
فما خالف البرهانَ إلاّ معاندٌ قد انسلخ بالخُرْقِ عن دين فطرةٍ
ولا يُنكر العلم الشهوديَّ عاقلٌ بل العقل في النيل بِهِ كالذَّريعةِ
وروحك مشتاقٌ اِلي سَيْب رزقِهِ وجسمك مفتاقٌ إلي أكلِ طعمةٍ
فذاك بما مِن سنْخِهِ في اعتلائِهِ وهذا بما مِن جنْسِهِ في غُضوضَةٍ
ولا يشبع ذاك باَنوار رزقِهِ وقد شَبَعَ هذا بِمَرّاتِ لقمةٍ
فذاك وراء الجسم من سُوسه السَّنيّ كبارئِهِ في الحيطَةِ والألُوهةِ
وهل تذكر العهدَ الّذي كنت تغتذي دمَ الطمث من اُنبوبَةٍ بِاسْمِ سُرَّةٍ
فسُرَّتُك كان مَدي أشْهُرٍ فماً كذلك سُرّاتُ كثير الأجنّةِ
وهذا الفمُ المولودُ من أمر ربّه قد انفتح والسرَّةُ منه سُدَّتِ
وفي الجنَّة كان الغذاء لأهلها ببرنامجٍ في بُكرةٍ وعَشيَّةٍ
ودارُ السلامِ الجنّةُ وهي وصفُها وكان سلامُ الجسمِ في حفظِ صحّةٍ
فمن جاوَزَ عن مرّتين غذاؤه قد انجرّ الأمراض إليه بأكْلةٍ
ففي الأثَرمَن جاوز الأكلَ عنهما فهو حرٍ بالمَعْلَفِ والعليقَةِ
(92)
والإِنسانُ قد خُصَّ بأخذِ غذائِهِ من السمعِ فالسمعُ فَمُ الأرْيَحيَّةِ
وعَلَّمَهُ اللّهُ البيانَ بذا الفمِ به صار ذا نطقٍ بإنطاق نيَّةٍ
نَعَم كلَّ شيءٍ أنطقَ اللّه ذو الْعلُي فلا ريب للإِنسان ما مِن مزيَّةٍ
سوي تلك الأفواه فمٌ آخرُ له مسمّيً بقلبٍ يغتذي من حظيرةٍ
حظيرة قدسٍ وهي عين حياتِهِ بل الكلُّ منها كلَّ آنٍ تروَّتِ
وما يُدرِك القلبُ فذاك هو الغِذاء وغيره إعدادٌ بأنحاءِ عُدَّةٍ
وإدراكُ الإنسان جميعَ العوالم دليلٌ عَلي ما فيهما مِنْ نظيرةٍ
ومُدرِك شيء مُغتذيه ومُدرَكه غِذاء لَهُ فاثبُت بتلك الدَّقيقةِ
مُغائِرُ شيءٍ لا يكون غذائَهُ فَبَيْنَ الغِذاء والمغتذي نحو نِسْبَةٍ
وأسرارُ الأفعالِ العِباديةِ لَنا هي كلُّهاالأنوارُ عندَ النتيجةِ
وما أمَرَ المولي به فيه حِكمةٌ تعودُ إلينا من صيامٍ وحَجَّةٍ
وما قَدْرُ الإنسان وما وزنُهُ إذا تانَّفَ كالشيطانِ مِن فِعْل سَجْدةٍ
وما يُعبأ بالمالِ وَالْجاهِ لَوْ خَلَتْ صحيفةُ الأعمالِ من إعمالِ سَبْحةٍ
وَأنتَ تشاءُ اللّهَ ربَّ الْعوالِمِ فَمِنْ سِرِّكَ اطْلُبْ وجهَ تلك الْمشيَّةِ
وطالبُ شيءٍ واجِدُ الشيء مجملاً كحُكْمِ النِّداءِ حُكْمَ أوّل وَهْلَةٍ
فكيفَ تُنادي اللّهَ ما لم تُشاهِدِ شُهودَ العيانِ أو شهوداً بِخُفْيةٍ
هو الصمدُ لا يعزبُ عنه خردلٌ جداولُهُ كالبحرِ أو كالْبُحيْرَةِ
جَداوِلُ أُخري ما تريها كأنْهُرٍ وقد جَرَتْ عن أصلٍ كنَبْتِ فَسيلةٍ
فمِن وَحْدَةِ عين الْهوية إنَّكا بجدولك الحقَّ تُنادي بخُبْرَةٍ
فالإِنسان طبعٌ برزَخٌ ومفارقٌ ويدعو الإِله كالعقول البسيطةِ
بسيطٌ يصيرُ نَفْسَ ما يُقبِلُ إليه قديمٌ حديثٌ ذو سكونٍ وحركةٍ
نباتٌ وحيوانٌ ونطقٌ ومعدِنٌ سماءٌ وأرضٌ جامِعُ كُلِّ جُمْعةِ
إمامٌ مُبينٌ فيهِ إحصاءُ كلِّ شيء كِتابٌ حكيمٌ حائِزٌ كُلَّ حكمةٍ
وَيَرقي إلي أمِّ الكِتاب فيتّحد به ثم تُتلي فيهِ كلُّ قضيَّةٍ
وقد قيلَ فيهِ فوقَ حدِّ التجرُّد ولكنَّهُ تَعْريفُ رَسمٍ بِخَصْلةٍ
مُواصِلةُ الأجسادِ عندَ التَّجاوُرِ فإنَّ النكاحَ جاءَ أعظم وَصْلةٍ
مُواصلةُ الأرواحِ عندَ اتّحادها فَتَنْعَتُها بِالْوصْلَةِ الْمَعْنَويَّةِ
وعندَ اتّجاهِ النفسِ شطْرَ الْمُفارِقِ تَراها فناءً مثلَ بَحْرٍ وَقَطْرَةٍ
وهذَا الْفناءُ ذو مراتبَ لا تُعَدّ علي حَسَبِ أحوال نفسٍ زكيَّةٍ
وعَرضُ الْمِزاجِ الآدميّ لَما يُحَدّ وأعْدَلُهُ كانَ لِنَفْسٍ كريمةٍ
هو المركز فالأقرب منه أعدَلُ مِنَ الأبْعَدِ عن هذه المركزيّةِ
وأسبابُ هذا الإِعتدالِ عديدَةٌ مِن الْفاعلاتِ القابلاتِ العديدةِ
وأحوالُ الآباءِ كذا الأمُّهاتُ مِن أمورٍ لأصل الإِعتدال قَويَّةٍ
كما أنَّ نَفْخَ الرّوحِ في الوالِدَيْنِ قدْ تَلَوَّن أعني نَفْخَةً بعد نَفْخَةٍ
ففي الأب والأُمّ تَلَوُّنُ نفخهِ تعالي كما أنّ المياه استَشَتَّتِ
وما نالَني مِنْ أنْعمُ اللّهِ إنّها قِداسَةُ ما كانَتْ لأمّي الْعقيلةِ
ولِلشيء أنحاءُ الخزائِنِ رُتّبَتْ وأمُّ الكتابِ أصلُها مِن خزينةٍ
وَما هو فوق العقلِ أوّلُ صادرٍ فَقَد صَدَرَ عن مكْمَنِ الأزَليَّةِ
هباءً يُسَمّي الصادِر الأوّل كما يُسمّي عَماءً في الرواياتِ العِدّةِ
وإياك والتسويفَ والسّاعةُ دَنَتْ هُشاشَةُ سوفَ ماتري مِن بقيَّةٍ
وما هذه الدارُ لَنا لِلإِقامةِ وقد كُتِبَتْ في بابِها ادخُلْ لِرحْلَةٍ
وَلا تَصْحَبِ الأشرارَ في أيّ محفلٍ ولا تقْبلِ الأفكارَ من غير نَظْرَةٍ
فلا تَتْرُكِ الأسحارَ إن كنتَ ساهِراً ولا تُهْمِلِ الأذكارَ في أيّ وقْعَةٍ
وإن قيلَ قِدْماً للحروبِ رجالُها كذاك رجالٌ لِلثَّريد وقَصْعَةٍ
ولا تَجْزَعي يا نفسُ مِن عَوْزِ طارفٍ ولا تَفْرحي يا نفس من فوْزِ عيشَةٍ
وما قيمةُ الدّنيا الدَّنيَّةِ إنَّما تري دَيْدَن الدُّنيا أليفاً لِسِفْلَةٍ
ثِقي بالذي إيّاه يقصد مَنْ سواه دَعي ما دَعاه الْغاغةُ مِن دنيّةٍ
وإياك والدّون الذي كان فانياً عليك بما فيهِ ابتغاءُ الأعزّةِ
(93)
ولا يشتكي الْحرُّ مِن أحوال دهرِهِ فإنَّ هَوانَ الدهرِ دونٌ لِشكوةٍ
وليس مناصٌ من أُناسٍ وبأسهِم فلابُدَّ من إغماضِ أوهامِ فِرْقةٍ
ويا قومِ هل من مَخلصٍ يُرتجي لَنا أمِ الحكمُ أن نرضي بتلك الْبليَّةِ
لكَ الْويل والتَّعسُ لإِن كنت جائراً علي أضعفِ المخلوقِ كان كنَمْلةٍ
إذا قيس ذنبٌ مّا إلي ذنْبِ آخر فذا عند هذا مِن ذنوبٍ صغيرةٍ
إذا ما نظرتَ اللّهَ جلّ جلالُهُ تري كلَّ ذنْبٍ من ذنوبٍ كبيرةٍ
ونصبح في أمرٍ ونُمسي بآخر نَروُح ونغدُو في الأماني الرزيّةِ
مضي الأمدُ والوقتُ قد أقبل الأبد علي ما انقضَي الْعمرُ لَقد ضاع ثروتي
واَقبلتِ الأخري فقد حانَ رِحلتي واَدبرتِ الدنيا فقد دانَ ضَجعتي
كرهتُ أُموراً كانت الخيرَ كلَّهُ وأحببتُ الأُخري وَهْيَ عينُ الكريهةِ
تمنيّتُها ثُمَّ توخَّيتُ بعدَ ذا بأنْ لم تكُ تلك الأمانيُّ مُنيتي
وأُمنيَّةٍ فيها الأمانُ بمَعْزلٍ وأُمنيةٍ فيها انْفِعالي وَخفَّتي
وكنتُ ظننتُ ما ظَنَنْتُ وانّها لَما نَفَعَتْ تَاللهِ مثقالَ ذَرَّةٍ
فخلَّيْتُ نفسي عن سوي حُسْنِ ظَنّها بِربّي فَعاشَتْ في سِراح وفُسْحَةٍ
مَواعيدَ عرقوب سمعتَ وشرُّها أمانِيُّ نفسٍ كانَ فيها مَنيَّتي
وقَد نالني رَيبُ الْمَنوُنِ عَلي الولاء وأنقذني الرّحمنُ مِنْ سُوءِ مِيتَتي
ولا اَقدرُ تقرير تلك الْمهالكِ ولا أظُهر ما عند ربّي لَحِسْبَتي
ومشربُ يعقوب النبيّ لموردي اِلي اللّه تشكو البثَّ والحزنَ عفَّتي
ويُخبِرك عنها لساناتُ اَعيُنٍ جبالٍ وأنهارٍ وبحرٍ وأيكةٍ
ولا بأس في ذاك لما قد رأيتُه من اَنَّ سنامَ العلمِ ذاقوا مشقَّتي
وقد شهد التاريخُ صدقاً بمثل ذا علي كلّ من فاق السِّباقَ بسُبقَةٍ
وقد لَدَغَتْني حيَّةٌ في جبالنا وإنّي قتلتُ الحيّةَ سوءَ قَتْلَةٍ
ولَدْغَتُها قد جَبَّلَتْني وشَوَّهَتْ وكنتُ صبيّاً يا لها سوءُ لَدْغَةٍ
لكنتُ مِن إحرارِ لَظي سَمِّ لَدْغِها أموتُ وأحيي بُرْهةً بعدَ بُرْهَةٍ
وربّي الرَّحيمُ قَدْ نجاني مِنَ الأذي وَأدْخَلني في عيشةٍ مْا هنيئةٍ
ولكنَّني صِرْتُ ابْتُلِيتُ بحيَّةٍ هِيَ شَرُّ الْحيّاتِ علي الأرضِ دَبَّتِ
ولو تسأل التِّنّيَن والدُّبَّ في السَّماء لَقالا هَرَبْنا مِن أذيها بِثَمَّةٍ
ألا وَهِيَ ما بين جَنْبيَّ قَدْ أوَتْ ألا وهِيَ أعْدي عَدُوّي لِهَلْكةٍ
ألا وهي بالسوءِ أمارةٌ فقط ألا وهي النَّفسُ الْوَلوعُ لِنِكْبَةٍ
مَضَيْنا وَلَمْ يَحْصُلْ لَنا طولَ دَهرنا سِوي ما دَرَيْنا حِرْفَةً بعدَ حرفةٍ
سوي صَرْفِنا ألْفاظَ بعض الطّوائِفِ سوي نَحْوِنا جمعَ دفاتر عُصْبَةٍ
سوي ما عرفنا مِن حَوامل أنجُمٍ تداويرها والخمسة ذات حيرةٍ
سوي سير فيلٍ وفق لوحٍ مربَّعٍ أو العدلُ من بيتين فيه بحصّةٍ
ولقْطٍ وتكسيرٍ أساسٍ نظيرةٍ ومُستحصَل مَا استُحصِل للصّعوبةِ
ومفتاحِ مِغْلاقٍ لدي ذي الكتابةِ ومُغْنٍ وظِلَّيٍ من الهندسيَّةِ
وآلاتِ أرصادٍ كأنواع حَلْقَةٍ وحُكٍّ وإسكافٍورُبْعٍ ولِبْنَةٍ
سوي نقطة قرن الغزال ونُصرةٍ وذا شكل لحيانٍ وذابيت عقلةٍ
سوي الامتياز بين أصل البراءة وما هو أصل الإِشتغال لِذِمَّةٍ
وهذا فراغٌ ليس حكم التجاوزِ وهذا ورودٌ ليس حكم الحكومةِ
وكان الهيولي قوةً محضة فقط وبالصورةِ الفعلُ بَدي بالضّرورةِ
مضي العمر فيها ليت شعري بما مضي يُوازي بوزنِ ساعةِ أو سُوَيعةٍ
لقد صار علمي عائِقي عن مشاهدي كَسَجْفٍ ثَخينٍ حال بيني وشَأْوَتي
وما العلم حوز الاصطلاحات يا فتي بل العلمُ نورٌ في حصونٍ أمينَةٍ
وان لم تك النفس سراحاً فما لها إلي منزل الإِحسان من نيل زُلْفةٍ
ومَن دَقّ باب التوبة والإِنابة بصدقٍ وإخلاص فرُدّ بخَيْبَةٍ
وهل جاز الاستغفار أم ليس جائزاً لمن لم يكن في غير إثمٍ وحَوْبَةٍ
ومن هو قد رُدَّ إلي أرذلِ العُمرُ فإنْ لَمْ يَتُبْ فليفعلن غير توبةٍ
وفضلُ إلهِ العالمين هوالرجاء وما هوفي التصنيف والعبقريّةِ
(94)
سُروري بأنّ الراحم هو مالكي وإلاّ فإنّ العبدَ في نارِ حَسْرَةٍ
ولا يصف مِعشارَ معشارِ رحمتهِ لسانُ الْوَري لو كانَ ضِعْفَ الْمَجرّةِ
إلهي ومن أرجو وليس لي الرجاء سَوي حبِّك المكنونِ في حُسنِ صيغتي
قَصيدتي يَنْبوُعُ الحياةِ المُريحةِ لَعائِرةٌ دهرَ الدّهورِ قصيدتي
بِما عانَ ينبوعُ الحياةِ فَقد جَري عَلي إثره الأنهارُ الأربعةُ الَّتي
بها وَعَدَ الرحمنُ أهلَ تقاتِهِ وبيّن الأنهارَ بتمثيلِ جنّةٍ
إلهي وحيث إنّما أنت مُنطقي نطقتُ بها من غير ضغطٍ وكُلفةٍ
لك الحمدُ مادار الجديدانِ خِلْفةً لك الشكرُ ما جاء الأصيلُ ببُكرَةٍ
وأفرِغ علينا الصبر عن كل مِحْنَةٍ وتوفيقَ شكرٍ عند اقبالِ مِنْحَةٍ
ويا محسنُ أحسِن إلي عبدك الحسن ومَن هو يدعوك بأنحاءِ دعوةٍ